البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

النحاس (١) ، فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ، وعلى سننهما مكّي (٢). والمهدوي (٣) حسن التأليف ، وكذلك من تبعهم كابن عطية (٤) ، وكلهم متقن مأجور ، فجزاهم الله خيرا.

(تنبيه) يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ، ويحكيه المصنّفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ ، ويظنّ من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا ، وليس كذلك ، بل يكون كلّ واحد منهم ذكر معنى ظهر (٥) من الآية ، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل ، أو لكونه أليق بحال السائل. وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره ، والآخر بمقصوده وثمرته ، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا ، والمراد الجميع ، فليتفطّن لذلك ؛ ولا يفهم من اختلاف العبارات ، اختلاف [١٠٢ / أ] المرادات ، كما قيل :

__________________

أول ١ / ١٧٩ ، ثان ١ / ٥٤ ، المتحف البريطاني (٧ / ١٣٨or.st.Browne قطعه منه) وتشستربتي : ٢٣٨٨٩ ، وحسن حسني : ٤٠ ، والظاهرية ٦٦ / ١٠. (تاريخ التراث : ١ / ٧٦).

(١) هو أحمد بن محمد أبو جعفر النحاس تقدم في ١ / ٣٥٦ ، وله كتابان في القرآن الكريم أحدهما : «إعراب القرآن» والثاني : «معاني القرآن» الأول طبع بتحقيق الدكتور زهير غازي زاهد بمط. العاني بغداد عام ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٧ م ، وأعادت طبعه عالم الكتب ببيروت عام ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م وعنه قال حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٤٦٠ «تفسير النحاس» قصد فيه «الإعراب» لكن ذكر القراءات التي يحتاج أن يبيّن إعرابها ، والعلل فيها وما يحتاج فيه من المعاني» ا ه وأما كتابه الآخر فهو «معاني القرآن» مخطوط يوجد الجزء الأول من هذا الكتاب في دار الكتب المصرية : ٣٨٥ تفسير. يبدأ بعد المقدمة بفاتحة الكتاب وينتهي بآخر سورة مريم خطها قديم وعدد أوراقها ٢٣٣ ق في بعضها خروم وترفيعات ، ومنه نسخة مصورة أخرى في الدار رقمها ٢٥٥٠٢ ب ، ومنه نسخة أخرى مصورة في معهد المخطوطات للجامعة العربية بالقاهرة رقم ١٩ وذكره ابن خير في فهرسته : ٦٥ باسم «العالم والمتعلم في معاني القرآن» وذكر ياقوت في معجم الأدباء ٤ / ٢٢٨ باسم «معاني القرآن» ووهم بروكلمان بأن جعل للنحاس كتاب «الجنى الداني في حروف المعاني» في تاريخ الأدب العربي» ٢ / ٢٧٦ وتبعه كوركيس عواد وعبد الحفيظ منصور والصواب أنه للحسن بن قاسم المرادي المتوفى ٧٤٩ ه‍. انظر مقدمة إعراب القرآن للزاهد ١ / ٢٨.

(٢) هو مكي بن أبي طالب حموش القيسي الأندلسي تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٨ ، وتفسيره «الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكام وجمل من فنون علومه» يقوم بتحقيقه الأستاذ أحمد حسن فرحات في الكويت (أخبار التراث ٤ / ٢٤).

(٣) هو أحمد بن عمار أبو العباس تقدم التعريف به في ١ / ٤٨٨ ، و «تفسيره» مخطوط يوجد منه نسخة محفوظة بالمكتبة الظاهرية ٥٠٤ ، ونسخة ميكروفيلمية بمركز البحث العلمي وإحياء التراث بمكة ١٥٠ (معجم مصنفات القرآن ٢ / ٢٠٢).

(٤) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي تقدم التعريف به وبكتابه «المحرر الوجيز» في ١ / ١٠١.

(٥) في المخطوطة (ويظهر).

٣٠١

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

هذا كلّه حيث أمكن الجمع ، فأما إذا لم يمكن الجمع ، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة ، وإلا فالصحيح المقدّم ، وكثيرا ما يذكر المفسّرون شيئا في الآية على جهة التمثيل لما دخل في الآية ، فيظن بعض الناس أنه قصر الآية على ذلك ولقد بلغني عن شخص أنه أنكر على الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله في قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (البقرة : ١٠٦) : «ما ذهب الله بوليّ إلاّ أتى بخير منه أو مثله».

* (الثالث) : الأخذ بمطلق اللغة فإن القرآن نزل (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء : ١٩٥) وقد ذكره جماعة ، ونصّ عليه أحمد بن حنبل في مواضع ، لكن نقل الفضل بن زياد عنه ـ وقد سئل عن القرآن ـ تمثّل له رجل ببيت من الشعر ، فقال : ما يعجبني. فقيل : ظاهره المنع ، ولهذا قال بعضهم : في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد وقيل : الكراهة تحمل على من يصرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة ، يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا يوجد غالبا إلاّ في الشعر ونحوه ، ويكون المتبادر خلافها.

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال : «لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسّر كتاب الله إلا جعلته نكالا (١)».

(الرابع) التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع. وهذا هو الذي دعا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس في قوله : «اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل» (٢).

وروى البخاريّ [رحمه‌الله] (٣) في كتاب الجهاد في صحيحه عن عليّ : هل خصّكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة ، أو فهم يؤتاه الرجل (٤).

__________________

(١) ذكره السيوطي في الإتقان ٤ / ١٨٢.

(٢) الحديث أخرجه بلفظه أحمد في المسند ١ / ٢٦٦ ، وهو عند الشيخان بلفظ مقارب ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٦٩ ، كتاب العلم (٣) ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم علمه الكتاب» (١٧) ، الحديث (٧٥). ومسلم في الصحيح ٤ / ١٩٢٧ ، كتاب فضائل الصحابة (٤٤) ، باب فضائل عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما (٣٠) الحديث (١٣٨ / ٣٤٧٧).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢٠٤ ، كتاب العلم (٣) ، باب كتابة العلم (٣٩) ، الحديث

٣٠٢

وعلى (١) هذا قال بعض أهل الذوق : للقرآن نزول (٢) وتنزّل ، فالنزول قد مضى ، والتنزل باق إلى قيام الساعة. ومن هاهنا (٣) اختلف الصحابة في معنى الآية ، فأخذ كلّ واحد برأيه على منتهى (٤) نظره في المقتضى.

ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء : ٣٦) وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٦٩) وقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل ؛ ٤٤) [فأضاف البيان إليهم] (٥) وعليه حملوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (٦) ، رواه البيهقي من طرق ، من حديث ابن عباس. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (٧) أخرجه أبو داود والترمذيّ والنسائيّ ، وقال : غريب ، من حديث ابن جندب.

وقال البيهقي في «شعب الإيمان» : هذا إن صح ، فإنما أراد ـ والله أعلم ـ الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه ، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل ، وكذلك لا يجوز

__________________

(١١١) ، عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي : هل عندكم كتاب؟ قال : لا ، إلاّ كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ، قال : قلت فما هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير. ولا يقتل مسلم بكافر».

(١) في المخطوطة (وعن).

(٢) في المخطوطة (نزل).

(٣) في المخطوطة (هذه).

(٤) في المطبوعة (مقتضى).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١٠ / ٥١٢ كتاب فضائل القرآن باب من كره أن يفسر القرآن (١٧٨٦) ، حديث (١٠١٥٠). وأخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٣٣ و ٢٦٩ والترمذي في السنن ٥ / ١٩٩ ، كتاب تفسير القرآن (٤٨) ، باب ما جاء في الذي يفسّر القرآن برأيه (١) ، الحديث (٢٩٥٠) ، وأخرجه الطبري في التفسير ١ / ٢٧.

(٧) الحديث أخرجه أبو داود في السنن ٤ / ٦٣ ، كتاب العلم (١٩) ، باب الكلام في كتاب الله بغير علم (٥) ، الحديث (٣٦٥٢) ، والترمذي في السنن (بتحقيق عبد الرحمن عثمان) ٤ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، كتاب تفسير القرآن ، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (١) ، الحديث (٤٠٢٤) ، وقال الترمذي (هذا حديث غريب) ، ولم يرد قول الترمذي في «السنن» (نسخة أحمد شاكر) ٥ / ٢٠٠ وجعله الزركشي من قول النسائي ، وعزاه المزي في «تحفة الأشراف» ٢ / ٤٤٤ للنسائي في فضائل القرآن (السنن الكبرى) ، الحديث (٣٢٦٢) ، وأخرجه الطبري في «التفسير» ١ / ٢٧ ضمن المقدمة ، وقول الزركشي (من حديث ابن جندب) صوابه (من حديث جندب) وهو ابن عبد الله البجلي.

٣٠٣

تفسير القرآن به. وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز ، وهذا معنى قول الصّديق : «أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي (١)!».

وقال في «المدخل» : في هذا الحديث نظر ، وإن صحّ فإنما أراد ـ والله أعلم ـ : فقد أخطأ الطريق ، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة ، وفي معرفة ناسخه ومنسوخه ، وسبب نزوله ، وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة ؛ الذين شاهدوا تنزيله ، وأدّوا إلينا من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يكون تبيانا لكتاب الله ، قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤). فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ، ففيه كفاية عن ذكره من بعده ، وما لم يرد عنه بيان (٢) ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ، ليستدلّوا بما ورد بيانه على ما لم يرد (٣). ـ قال ـ وقد يكون [١٠٢ / ب] المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه ، فتكون موافقته للصواب ـ وإن وافقه من حيث لا يعرفه ـ غير محمودة.

وقال الإمام أبو الحسن الماورديّ (٤) في «نكته» : قد حمل بعض المتورّعة هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده. ولو صحبتها (٥) الشواهد ، ولم يعارض شواهدها نصّ صريح. وهذا عدول عما تعبّدنا بمعرفته (٦) من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه ، كما قال تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء : ٨٣).

ولو صحّ ما ذهب إليه لم يعلم شيء [إلا] (٧) بالاستنباط ، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا ، وإن صح الحديث فتأويله أنّ من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه

__________________

(١) تقدم تخريجه في ١ / ٣٩٩.

(٢) في المخطوطة (بيانه).

(٣) في المخطوطة (من يرد).

(٤) الماوردي تقدم ذكره في ١ / ٢٧٤ ، وكتابه «النكت» طبع في الكويت بتحقيق خضر محمد خضر نشر وزارة الأوقاف عام ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ، وحققه محمد بن عبد الرحمن الشائع كرسالة دكتوراه في الرياض بجامعة محمد بن سعود (أخبار التراث العربي ٢ / ٩ و ٧ / ٢٦ و ٨ / ٣٠).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (توضيحها).

(٦) في المطبوعة (من معرفته).

(٧) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة وما أثبتناه من الإتقان ٤ / ١٨٣.

٣٠٤

وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق ، وإصابته اتفاق ، إذ الغرض أنه مجرّد رأي لا شاهد (١) له ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «القرآن ذلول ذو وجوه [محتملة] (٢) فاحملوه على أحسن وجوهه» (٣). (٤) [وقوله «ذلول» يحتمل وجهين : أحدهما أنه مطيع لحامليه ، ينطق بألسنتهم. الثاني أنه موضّح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين] (٤). وقوله : «ذو وجوه» يحتمل معنيين : أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل ، والثاني أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي ، والترغيب والترهيب ، والتحليل والتحريم. وقوله : «فاحملوه على أحسن وجوهه» يحتمل أيضا وجهين : (أحدهما) الحمل على أحسن معانيه.

(والثاني) أحسن ما فيه من العزائم دون الرّخص ، والعفو دون الانتقام ؛ وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله».

وقال أبو الليث : النهي إنما انصرف إلى المتشابه (٥) منه ؛ لا إلى جميعه ؛ كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (آل عمران : ٧) لأن القرآن إنما نزل حجّة على الخلق ؛ فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجّة بالغة ؛ فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسّره ، وأما من كان من المكلّفين ولم يعرف وجوه اللغة ، فلا يجوز أن يفسّره إلا بمقدار ما سمع ، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير ، فلا بأس [به] (٥) ولو أنه يعلم التفسير ، فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به. ولو قال : المراد من الآية كذا من غير أن يسمع (٦) منه شيئا فلا يحلّ ، وهو الذي نهى عنه. انتهى.

وقال الراغب (٧) في مقدمة «تفسيره» : اختلف الناس في تفسير القرآن : هل يجوز

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (الإشهاد).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) الحديث أخرجه الدار قطني في السنن ٤ / ١٤٤ ، في النوادر والأحاديث المتفرقة ، الحديث (٨). وذكره السيوطي في الإتقان ٤ / ١٨٤ وقال : «أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس» وليس في «الحلية».

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (المشابهة).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المطبوعة : (سمع).

(٨) تقدمت ترجمة الراغب الأصفهاني في ١ / ٢١٨ ، وتقدم التعريف بالكتاب ٢ / ٢٠٣.

٣٠٥

لكل ذي علم الخوض فيه؟ فمنهم من بالغ ومنع الكلام ـ ولو تفنن الناظر في العلوم ، واتسع باعه في المعارف ـ إلا بتوقيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عمن شاهد التنزيل (١) من الصحابة أو من أخذ منهم من التابعين ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فقد أخطأ» (٢) ، وفي رواية : «من قال في القرآن برأيه فقد كفر». وقيل : إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره ؛ (٣) والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض (٣) ، واحتجوا بقوله تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (ص : ٢٩).

وقد روى عبد الرزاق في «تفسيره» (٤) : حدثنا الثوري عن ابن عباس ، «أنه قسّم التفسير إلى أربعة أقسام : قسم تعرفه العرب في كلامها ، وقسم لا يعذر أحد بجهالته ، يقول من الحلال والحرام ، وقسم يعلمه العلماء خاصة ، وقسم لا يعلمه إلا الله ، ومن ادّعى علمه فهو كاذب» (٥). وهذا تقسيم صحيح.

* فأما الذي تعرفه العرب ، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم ، وذلك شأن اللغة والإعراب. فأما اللغة فعلى المفسّر معرفة معانيها ، ومسمّيات أسمائها ، ولا يلزم ذلك القارئ. (٦) ثم إن كان ما تتضمنه (٦) ألفاظها يوجب العمل دون العلم ، كفى فيه خبر الواحد [١٠٣ / أ] والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين ؛ وإن كان مما يوجب العلم [دون العمل] (٧) لم يكف ذلك ، بل لا بدّ أن يستفيض ذلك اللفظ ، وتكثر شواهده من الشعر.

وأما الإعراب ؛ فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسّر والقارئ تعلّمه ، ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم ، وليسلم القارئ من اللّحن ، وإن لم يكن محيلا للمعنى

__________________

(١) في المخطوطة (التفسير).

(٢) الحديث تقدم في ٢ / ٣٠٣.

(٣) العبارة في المخطوطة (وإلا فلا الأدباء فوضى في معرفته الأعراض).

(٤) تقدم التعريف بالكتاب في ٢ / ٢٩٨.

(٥) قول ابن عباس أخرجه الطبري في التفسير ١ / ٢٦. وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٧ وعزاه لابن المنذر.

(٦) العبارة في المخطوطة (فإن كان مما يتضمن).

(٧) ساقطة من المطبوعة.

٣٠٦

وجب تعلّمه على القارئ ليسلم من اللّحن ، ولا يجب على المفسر ليتوصل (١) إلى المقصود دونه ؛ على أن جهله نقص في حق الجميع.

إذا تقرر ذلك ؛ فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسّر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب ، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ، ولا يكفي في حقه تعلّم اليسير (٢) منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين.

* (الثاني) : ما لا يعذر واحد بجهله ، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمّنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد ؛ وكلّ لفظ أفاد معنى واحدا جليّا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى. فهذا القسم لا يختلف حكمه ، ولا يلتبس تأويله ، إذ كلّ أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ) (محمد : ١٩) (٣) [وأنه لا شريك له في إلهيّته ، وإن لم يعلم أن «لا» موضوعة في اللغة للنفي ، و «إلا» للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة : ٤٣) ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود ، وإن لم يعلم أن صيغة «أفعل» مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا ، فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدّعي الجهل بمعاني ألفاظه ، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة] (٣).

* (الثالث) : [ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى] (٤) فهو ما يجري مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام ، وتفسير الروح ، والحروف المقطعة. وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق ، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ، ولا طريق إلى ذلك الا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه : إما نص من التنزيل ، أو بيان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إجماع الأمة على تأويله ؛ فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه.

* و (الرابع) : ما يرجع إلى اجتهاد (٥) العلماء ، وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل ؛

__________________

(١) في المخطوطة (للتوصل).

(٢) في المخطوطة (البشر).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) هذه العبارة ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (لاجتهاد).

٣٠٧

وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول [إليه] (١) فالمفسّر ناقل ، والمؤوّل مستنبط ، وذلك استنباط الأحكام ، وبيان المجمل ، وتخصيص العموم. وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه ، على ما تقدم بيانه. وكل لفظ احتمل معنيين ، فهو قسمان :

(أحدهما) : [أن يكون] (٢) أحدهما أظهر من الآخر ، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفيّ دون الجليّ فيحمل عليه. (الثاني) : أن يكونا جليّين والاستعمال فيهما حقيقة. وهذا على ضربين :

(أحدهما) : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما ، فيدور اللفظ بين معنيين ؛ هو في أحدهما حقيقة لغوية ، [وهو] (٣) في الآخر حقيقة شرعية ، فالشرعية أولى إلا أن تدلّ قرينته على إرادة اللغوية ، نحو قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة : ١٠٣) وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية ، فالعرفية أولى لجريانها (٤) على اللغة ، ولو دار بين الشرعية والعرفية ، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم. (الضرب الثاني) : لا تختلف أصل الحقيقة ، بل كلا المعنيين استعمل فيهما ، في اللغة أو في الشرع أو العرف على حدّ سواء. وهذا أيضا على ضربين :

(أحدهما) أن يتنافيا اجتماعا ، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد ، كالقرء ؛ حقيقة في الحيض والطهر ، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ؛ فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه ، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدّى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه ؛ لأنه نتيجة اجتهاده ، وما كلف به ، فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم ، فمنهم من قال : يخيّر في الحمل على أيّهما شاء ، ومنهم [١٠٣ / ب] من قال : يأخذ بأعظمهما (٥) حكما. ولا يبعد اطراد وجه ثالث ، [وهو] (٦) أن يأخذ بالأخفّ. كاختلاف جواب المفتين.

([الضرب] (٦) الثاني) ألاّ يتنافيا اجتماعا ، فيجب الحمل عليهما عند المحقّقين ،

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المطبوعة : (لطريانها).

(٥) في المخطوطة : (بأغلظها).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

٣٠٨

ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة ، وأحفظ في حق المكلّف ؛ إلاّ أن يدلّ دليل على إرادة أحدهما. وهذا أيضا ضربان :

(أحدهما) : أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر ، فيتعيّن (١) المدلول عليه للإرادة. (الثاني) ألاّ يقتضي بطلانه. وهذا اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ، ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر ، بل يجوز أن يكون مرادا أيضا ، وإن لم يدلّ عليه دليل من خارج لأنّ موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه ، وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج ومنهم من قال : ما ترجّح بدليل من خارج أثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر. فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل ، والله أعلم.

إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» (٢) على قسمين من هذه الأربعة :

(أحدهما) : تفسير اللفظ لاحتياج المفسّر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب. (الثاني) : حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم : علم العربية واللغة والتبحّر فيهما ، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي ، والخبر ، والمجمل والمبين ، والعموم والخصوص ، والظاهر والمضمر ، والمحكم والمتشابه والمؤوّل ، والحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية ، والمطلق والمقيّد. ومن علوم (٣) الفروع ما يدرك به استنباطا ، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ؛ ومع ذلك فهو على خطر ، فعليه أن يقول : يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به ، فأدّى اجتهاده إليه ، فيحرم خلافه (٤) مع تجويز خلافه عند الله.

فإن قيل : فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ، ولكل حدّ مطلع» (٥) ، فما معنى ذلك؟

قلت : أما قوله : «ظهر وبطن» ففي تأويله أربعة أقوال : (أحدها) ـ وهو قول الحسن ـ

__________________

(١) في المخطوطة (فينبغي).

(٢) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في التفسير ١ / ٢٧ ، وراجع ٢ / ٣٠٣ من هذا الكتاب.

(٣) في المخطوطة (علم).

(٤) عبارة المخطوطة (فيخرج الخلاف).

(٥) الحديث تقدم في ٢ / ١٤٨.

٣٠٩

إنّك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها. (الثاني) ـ قول أبي عبيد (١) ـ إنّ القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها عظة للآخرين. (الثالث) ـ قول ابن مسعود رضي‌الله‌عنه ـ «إنه ما من آية إلا عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها» (٢). (الرابع) ـ قاله بعض المتأخرين ـ إن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها. وقول أبي عبيد (١) أقربها.

وأما قوله : «ولكل حرف حدّ» ، ففيه تأويلان : (أحدهما) : لكل حرف منتهى فيما أراد الله من معناه. (الثاني) : معناه أن لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب.

وأما قوله : «ولكل حدّ مطلع» ففيه قولان : (أحدهما) : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته ، ويوقف على المراد به. (والثاني) : لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب [مطّلع] (٣) يطلع عليه في الآخرة ، ويراه عند المجازاة.

وقال بعضهم : منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار ، وذلك آجال (٤) حادثة في أوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم وما أشبه ذلك لقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف : ١٨٧) ومنه ما يعلم تأويله كلّ ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن ؛ وذلك إبانة غرائبه ، ومعرفة [١٠٤ / أ] المسميات (٥) بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها ، أو الموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها ، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم ، (٦) وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا (٦) يتلو : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة : ١١ و ١٢) لم يجهل أنّ معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (أبي عبيدة) والتصويب من الإتقان ٤ / ١٩٦.

(٢) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ق ٨ / ب (مخطوطة توبنجن) باب فضل علم القرآن والسعي في طلبه وذكره السيوطي في الإتقان ٤ / ١٩٦ وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (آجاله).

(٥) في المخطوطة (المسماة).

(٦) العبارة في المخطوطة (وذلك كسامع منه وذلك ما منع منه من هذا القرآن ما منع منه لو سمع تاليا.

٣١٠

مضرة (١) ، وأن الصّلاح (٢) مما ينبغي فعله [مما هو] (٣) منفعة ، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا ، والمعاني التي جعلها [الله] (٤) إصلاحا. فأما (٥) تعليم التفسير ونقله عمّن قوله حجّة ففيه ثواب وأجر عظيم ؛ كتعليم الأحكام من الحلال والحرام.

تنبيه فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن ، فقيل ليس تفسيرا ، وإنما هي معان [ومواجيد] (٦) يجدونها (٧) عند التلاوة ، كقول بعضهم في : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (التوبة : ١٢٣) إن المراد النفس ، فأمرنا بقتال من يلينا ، لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.

قال ابن الصلاح (٨) في «فتاويه» : «وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحديّ (٩) أنه صنف أبو عبد الرحمن السلمي (١٠) «حقائق التفسير» فإن كان اعتقد أنّ ذلك تفسير فقد كفر.

قال : وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن ، فإن النظير

__________________

(١) في المخطوطة (مقره).

(٢) في المخطوطة (الإصلاح).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (ما يعلمهم).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (يحدثها).

(٨) تقدمت ترجمته في ١ / ٢٨٦ ، وكتابه «فتاوى ومسائل ابن الصلاح» طبع في بيروت بدار المعرفة عام ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م بتحقيق د. عبد المعطي أمين القلعجي ، ومعه «أدب المفتي والمستفتي» له ، وانظر قوله في الكتاب ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٩) تقدمت ترجمته في ١ / ١٠٥.

(١٠) تقدمت ترجمته في ١ / ٣٣١ ، وكتابه «حقائق التفسير» حققه سلمان ناصيف جاسم التكريتي كرسالة ماجستير بجامعة القاهرة عام ١٣٩٦ ه‍ / ١٩٧٥ م في (١٦١٣) ص ـ (ذخائر التراث العربي ١ / ٥٧٦).

٣١١

يذكر (١) بالنظير ، فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة ، فكأنه قال : أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك ، لما فيه من الإبهام والالتباس» انتهى.

فصل

حكى الشيخ أبو حيان (٢) عن بعض من عاصره أنّ [طالب] (٣) علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه ، بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم ، وأنّ فهم الآيات يتوقف على ذلك ، ثم بالغ الشيخ في رده لأثر عليّ (٤) السابق.

والحق أن علم التفسير ، منه ما يتوقف على النقل ، كسبب النزول ، والنسخ ، وتعيين المبهم ، وتبيين المجمل. ومنه ما لا يتوقف ، ويكفي في تحصيله التفقّه على الوجه المعتبر.

وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير (٥) والتأويل التمييز (٦) بين المنقول والمستنبط ، ليحمل على الاعتماد في المنقول ، وعلى النظر في المستنبط ، تجويزا له وازديادا ، وهذا من الفروع في الدين.

تنخيل لما سبق

واعلم أن القرآن قسمان : أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمّن يعتبر تفسيره ، وقسم لم يرد.

والأول ثلاثة أنواع : إما أن يرد التفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن الصحابة أو عن رءوس التابعين ؛ فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسره من حيث [اللغة] (٧) فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم ، وإن فسره بما شاهده من الأسباب

__________________

(١) في المخطوطة (يدرك).

(٢) في مقدمة تفسيره البحر المحيط ١ / ٥ ، مع تصرف في النقل.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) تقدم في ٢ / ٣٠٢.

(٥) في المخطوطة (التفصيل).

(٦) في المخطوطة (والتمييز).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

٣١٢

والقرائن فلا شك فيه ؛ وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة ، فإن (١) أمكن الجمع فذاك ، وإن تعذّر قدّم ابن عباس ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشره بذلك حيث قال : «اللهم علّمه التأويل» (٢) وقد رجح الشافعيّ قول زيد في الفرائض ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفرضكم زيد» (٣) فإن تعذّر الجمع جاز للمقلّد أن يأخذ بأيّها [شاء] (٤) و [أما] (٤) الثالث وهم رءوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إلى أحد من الصحابة ، [رضي‌الله‌عنهم] (٤) فحيث جاز التقليد فيما سبق ، فكذا هنا ، وإلاّ وجب [١٠٤ / ب] الاجتهاد.

الثاني ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين ، وهو قليل ، وطريق التوصّل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب (٥) السياق ، وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب «المفردات» (٦) فيذكر قيدا زائدا (٧) على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ ، لأنه اقتنصه من السياق.

فصل

الذي يجب على المفسّر البداءة به العلوم (٨) اللفظية ، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة ، فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن

__________________

(١) في المخطوطة (حتى).

(٢) الحديث تقدم تخريجه في ٢ / ٣٠٢.

(٣) الحديث أخرجه بلفظ «... وأفرضهم زيد ...» أحمد في المسند ٣ / ٢٨١ ، وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٦٦٥ ، كتاب المناقب (٥٠) ، باب مناقب معاذ بن جبل ... (٣٣) ، الحديث (٣٧٩١) وقال : «حديث حسن صحيح» ، وأخرجه ابن ماجة في السنن ١ / ٥٥ ، المقدمة ، باب فضائل خباب ، الحديث (١٥٤) ، وأخرجه ابن حبان ، ذكره ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩ / ١٣١ ، كتاب إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مناقب الصحابة رجالها ونسائهم ، ذكر البيان بأن معاذ بن جبل كان من أعلم الصحابة في الحلال والحرام. الحديث (٧٠٨٧) وفي ١ / ١٣٦ الحديث (٧٠٩٣) وفي ١ / ١٨٧ ، الحديث (٧٢٠٨) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٢٢ ، كتاب معرفة الصحابة باب أفرض الناس زيد ... ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وأخرجه البغوي بإسناده في شرح السنة ١٤ / ١٣١ ، الحديث (٣٩٣٠).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (من حيث).

(٦) تقدم التعريف به في ١ / ٣٩٤.

(٧) في المخطوطة (زيد).

(٨) في المخطوطة (لعموم).

٣١٣

يريد أن يدرك معانيه ؛ وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه (١).

قالوا : وليس ذلك في علم القرآن فقط ؛ بل هو نافع في كلّ علم من علوم الشرع وغيره ؛ وهو كما قالوا : إنّ المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته ، لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهنيّ والخارجيّ ، فنقول : النظر في التفسير هو بحسب [أفراد] (٢) الألفاظ وتراكيبها.

أمّا بحسب الأفراد فمن وجوه ثلاثة : من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بإزائها ، وهو يتعلّق بعلم اللغة (٣). ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدّالة على المعاني المختلفة ، وهو من علم التصريف.

ومن جهة ردّ الفروع المأخوذة من الأصول إليها ، وهو من [علم] (٢) الاشتقاق.

وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة : (الأول) : باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدّية أصل المعنى ، وهو ما دلّ عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلّق بعلم النحو. (الثاني) : باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى ؛ أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء ، وهو الذي يتكفل بإبراز محاسنه علم المعاني. (الثالث) : باعتبار [طرق] (٤) تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها ، وباعتبار الحقيقة والمجاز (٥) ، والاستعارة والكناية والتشبيه ؛ وهو ما يتعلق بعلم البيان. (والرابع) : باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله ، وهو يتعلق بعلم البديع.

فصل (٦)

وقد سبق لنا في باب الإعجاز أنّ إعجاز القرآن لاشتماله على تفرد (٧) الألفاظ التي يتركب منها الكلام ، مع ما تضمنه من المعاني ، مع ملاءمته (٨) التي هي نظوم تأليفه (٩).

__________________

(١) من كلام الراغب الأصفهاني في مقدمة كتابه «المفردات».

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (العربية).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (ومجازها).

(٦) في المطبوعة (مسألة).

(٧) في المخطوطة (معرفة).

(٨) في المخطوطة (بلاغته).

(٩) في المخطوطة (تأليف).

٣١٤

فأما الأول : وهو معرفة الألفاظ ، فهو أمر نقلي يؤخذ عن أرباب التفسير ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقرأ قوله تعالى : (فاكِهَةً وَأَبًّا) (عبس : ٣١) فلا يعرفه ، فيراجع نفسه ويقول : ما الأبّ؟ ويقول : إنّ هذا منك تكلّف (١). وكان ابن عبّاس ـ وهو ترجمان القرآن ـ يقول : «لا أعرف (حَناناً) (مريم : ١٣) ولا (غِسْلِينٍ) (الحاقة : ٣٦) ولا (الرَّقِيمِ) (الكهف : ٩)» (٢).

وأما المعاني التي تحتملها الألفاظ ، (٣) [فالأمر في معاناتها أشدّ لأنها نتائج العقول.

وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر ؛ لأنها لجام الألفاظ] (٣) وزمام (٤) المعاني ، وبه يتصل أجزاء (٥) الكلام ، ويتّسم بعضه ببعض ، فتقوم له صورة في النفس يتشكّل بها البيان ، فليس المفرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا لهذا الشأن ، ولا كلّ من أوتي (٦) خطاب بديهة ناهضا بحمله (٦) ما لم يجمع إليها سائر الشروط.

(مسألة) قيل : أحسن طريق التفسير أن يفسّر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان فقد فصّل (٧) في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر ؛ فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة ، فإنها شارحة للقرآن ، وموضّحة له ، قال [الله] (٨) تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل : ٦٤) ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (٩) يعني السنة ؛ فإن لم [١٠٥ / أ] يوجد في السنة

__________________

(١) تقدم تخريجه في ١ / ٣٩٩.

(٢) أخرجه عبد الرزاق في التفسير ١ / ٧١٤ (رسالة دكتوراه في جامعة الأزهر) في سورة الكهف الآية (٩) الحديث (١٦٥٥) ، ... عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «كل القرآن أعلمه إلا أربعا (غسلين) و (حنانا) و (الأواه) و (الرقيم)». وأخرجه عبد بن حميد (ذكره السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٨٥).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (وزمان).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (آخر).

(٦) كذا العبارة في المطبوعة ، وهي في المخطوطة : (خطابا يهديه ناهضا لحمله).

(٧) في المخطوطة (فسّر).

(٨) لفظ الجلالة ليس في المطبوعة.

(٩) من حديث للمقدام بن معد يكرب رضي‌الله‌عنه ، أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٣٠ ـ ١٣١. والدارمي

٣١٥

يرجع إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك ، لما شاهدوه من القرائن ، ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب ، فإن لم يوجد (١) [ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط بالشرط السابق.

(مسألة) ويجب أن يتحرّى في التفسير مطابقة] (١) المفسّر ، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسّر (٢) عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسّر ، أو أن يكون في ذلك [المعنى] (١) زيادة لا تليق بالغرض ، أو أن يكون في المفسّر زيغ عن المعنى المفسّر (٣) وعدول عن طريقة (٣) ، حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه ، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي ، ومراعاة التأليف ، وأن يوافي (٤) بين المفردات وتلميح (٥) الوقائع ، فعند ذلك تتفجّر له ينابيع الفوائد.

ومن شواهد الإعراب قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (البقرة : ٣٧) ولو لا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول [به] (٦).

ومن شواهد النظم قوله تعالى : (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ) (الطلاق : ٤) فإنها منتظمة مع ما قبلها منقطعة عما بعدها.

وقد يظهر الارتباط ، وقد يشكل أمره ؛ فمن الظاهر قوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (يونس : ٣٤) ووجه ظهوره ، أنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد ، فتعين أن يكون قوله : (قُلِ اللهُ) جواب

__________________

في السنن ١ / ١١٤ ، المقدمة ، باب السنة قاضية على كتاب الله ، وأبو داود في السنن ٥ / ١٠ ـ ١٢ ، كتاب السنة (٣٤) ، باب لزوم السنة (٦) ، الحديث (٤٦٠٤). والترمذي في السنن ٥ / ٣٨ ، كتاب العلم (٤٢) ، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٠) ، الحديث (٢٦٦٤) ، وقال : «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه». وابن ماجة في السنن ١ / ٦ ، المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) الحديث (١٢).

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (التفسير).

(٣) عبارة المخطوطة (وعدوله عن الطريق).

(٤) في المخطوطة (يواطئ).

(٥) في المخطوطة (وتلمح).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

٣١٦

سؤال ؛ كأنّهم لما سألوا ، سمعوا ما قبله من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو : (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أجابهم بقوله : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، فترك ذكر السؤال.

ونظيره : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) (يونس : ٣٥).

(مسألة) (١) [في النهي عن ذكر لفظ الحكاية عن الله تعالى ووجوب تجنب إطلاق الزائد على بعض الحروف الواردة في القرآن] (١).

وكثيرا ما يقع في كتب التفسير «حكى الله تعالى» و [هذا] (٢) ينبغي تجنّبه.

قال الإمام أبو نصر القشيري (٣) في كتابه «المرشد» : قال معظم أئمتنا : لا يقال : «كلام الله يحكى» ، ولا يقال : «حكى الله» لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء ، وليس بكلامه مثل. وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار ، وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف ، ك «ما» (٤) في نحو : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) (آل عمران : ١٥٩) والكاف في نحو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) ونحوه. والذي عليه المحققون تجنّب هذا اللفظ في القرآن ، إذ (٥) الزائد ما لا معنى له ، وكلام الله منزّه عن ذلك.

وممن نص على منع ذلك من (٦) المتقدمين الإمام داود الظاهري (٧) ، فذكر أبو عبد الله

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) هو عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن أبو نصر القشيري تقدمت ترجمته في ٢ / ٢٤٨.

(٤) كذا في المطبوعة وفي المخطوطة (كالباء) وهو تحريف ، والصحيح «ما» لأنها تزاد بعد خمسة أحرف من حروف الجر وهي «من» و «عن» و «الكاف» و «ربّ» و «الباء» كما ذكره المصنف في ٣ / ١٥٣ في زيادة «ما».

(٥) في المخطوطة (لأن).

(٦) في المخطوطة (في).

(٧) هو داود بن علي بن خلف ، أبو سليمان البغدادي ، إمام أهل الظاهر. ولد سنة ٢٠٠ ه‍. كان أحد أئمة المسلمين وهداتهم ، سمع من أبي ثور ، وإسحاق بن راهويه ، ومسدد وغيرهم ، وجالس الأئمة ، وصنف الكتب. كان إماما ورعا ناسكا زاهدا. روى عنه ابنه محمد ، وزكريا الساجي ، ويوسف بن يعقوب الداودي وغيرهم وصنف في «فضائل الشافعي» ت ٢٧٠ ه‍ (السبكي ، طبقات الشافعية ٢ / ٤٢).

٣١٧

أحمد بن يحيى بن سعيد الدّاودي في الكتاب «المرشد» له في أصول الفقه على مذهب داود [الظاهريّ : و] (١) روى بعض أصحابنا عن أبي سليمان (٢) أنه كان يقول : «ليس في القرآن صلة بوجه». وذكر أبو [بكر] (٣) محمد بن داود وغيره من أصحابنا مثل ذلك ، والذي عليه أكثر النحويين خلاف هذا ، ثم حكى عن أبي داود مثله ، يزعم الصّلة فيها ، كقوله تعالى : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) (البقرة : ٢٦) وقال : إنّ «ما» هاهنا للتعليل ، مثل : «أحبب حبيبك هونا ما» (٤).

فصل

التأويل ينقسم إلى منقاد ومستكره :

* (فالأول) ما لا تعرض فيه بشاعة أو استقباح ، وقد يقع فيه الخلاف بين الأئمة : إما لاشتراك في اللفظ ، نحو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) هل هو من بصر العين أو القلب؟ وإمّا لأمر راجع إلى النظم (٥) [كقوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا) (النور : ٥) هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف وحده أو عائد إلى الجميع؟ وإمّا لغموض المعنى ووجازة النظم] (٥) كقوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : ٢٢٧). وإمّا لغير ذلك.

* (وأمّا المستكره) فما يستبشع إذا عرض على الحجة ، وذلك على أربعة أوجه :

(الأول) : أن يكون لفظا عامّا ، فيختصّ ببعض ما يدخل تحته ، كقوله [تعالى] (٦) : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (التحريم : ٤) فحمله بعضهم على عليّ رضي‌الله‌عنه فقط. (والثاني) : أن يلفّق (٧) بين اثنين ؛ كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله [١٠٥ / ب] : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) (فاطر : ٢٤) مع قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (الأنعام : ٣٨) إنهم مكلّفون كما نحن. (الثالث) : ما

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) يعني به داود الظاهري وكنيته أبو سليمان.

(٣) ساقطة من المطبوعة ، وهو محمد بن داود ، أبو بكر الظاهري ابن صاحب المذهب تقدم ذكره في ١ / ٤٨٥.

(٤) قطعة من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٣٦٠ ، كتاب البر والصلة (٢٨) ، باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض (٦٠) ، الحديث (١٩٩٧) ، وانظر كتاب فيض القدير ١ / ١٧٦ ، الحديث (٢٢٣).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (يتفق).

٣١٨

استعير فيه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ [عَنْ ساقٍ]) (١) (القلم : ٤٢) في حمله على حقيقته. (الرابع) : ما أشعر به باشتقاق بعيد ، كما قال بعض الباطنية في البقرة : إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم ، وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث والتنقيب (٢).

والأول أكثر ما يروج على المتفقهة الذين لم يتبحّروا (٣) في معرفة الأصول ، والثاني على المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم ، والثالث على صاحب الحديث الذي لم (٤) يتهذب في شرائط قبول الأخبار ، والرابع على الأديب الذي لم (٤) يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات.

(فائدة) روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) (الإسراء : ٥١) فقال : الموت (٥). قال السهيليّ (٦) : «وهو تفسير يحتاج لتفسير». ورأيت لبعض المتأخّرين أن مراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شيء ، كما جاء أنه يذبح على الصراط ، فكأنّ المعنى : لو كنتم حجارة أو حديدا لبادر إليكم الموت ، ولو (٧) [كنتم الموت الذي يكبر في صدوركم فلا بدّ لكم من الموت. والله أعلم بتأويل ذلك.

قال : وبقي في نفسي من تأويل هذه الآية] (٧) شيء حتى يكمل الله نعمته في فهمها.

فصل

أصل الوقوف على معاني القرآن التدبّر والتفكر ، واعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ، ولا (٨) يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (والتفسير).

(٣) في المخطوطة (يتحروا).

(٤) في المخطوطة (لا).

(٥) أخرجه الطبري في التفسير ١٥ / ٦٨ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٦٢ ، كتاب التفسير تفسير سورة بني إسرائيل ، وقال : على شرط مسلم ووافقه الذهبي». وأخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد (ذكره السيوطى في الدر المنثور ٤ / ١٨٧).

(٦) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي تقدم ذكره في ١ / ٢٤٢.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (لا) ، والعبارة اضطربت في المخطوطة.

٣١٩

ذنب ، أو في قلبه كبر أو هوى ، أو حبّ الدنيا ، أو يكون غير متحقق الإيمان (١) ، أو ضعيف التحقيق ، أو معتمدا على قول مفسّر ليس عنده إلا علم بظاهر ، أو يكون راجعا إلى معقوله (٢) ؛ وهذه كلّها حجب وموانع ، وبعضها آكد من بعض ؛ [بل] (٣) إذا كان العبد مصغيا إلى كلام ربّه ، ملقى السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه ، ناظرا إلى قدرته ، تاركا للمعهود من علمه ومعقوله ، متبرئا من حوله وقوته ، معظّما للمتكلّم ، مفتقرا إلى التفهّم ، بحال مستقيم ، وقلب سليم ، وقوة علم ، وتمكّن سمع لفهم الخطاب ، وشهادة غيب الجواب ، بدعاء وتضرع ، وابتئاس (٤) وتمسكن ، وانتظار للفتح عليه من عند الفتاح العليم.

وليستعن (٥) على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام (٦) وشهادة وصف المتكلم ؛ من الوعد بالتشويق ، والوعيد بالتخويف ، والإنذار بالتشديد ؛ فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن ؛ وفي مثل هذا قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (البقرة : ١٢١). وهذا هو الراسخ في العلم ؛ جعلنا الله [وإياكم] (٧) من هذا الصنف : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب : ٤).

فصل

وفي القرآن علم الأولين والآخرين ، وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهّمه الله [تعالى] (٨) ، حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في سورة المنافقين : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) (الآية : ١١) فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده. وقوله تعالى مخبرا عن عيسى : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) (مريم : ٣٠) إلى قوله : (أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم : ٣٣) ثلاث وثلاثون كلمة ، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

وقد استنبط الناس زلزلة عام اثنين وسبعمائة من قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)

__________________

(١) في المخطوطة (بالإيمان).

(٢) في المخطوطة (منقوله).

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (يأس).

(٥) في المخطوطة (وأن يستعن).

(٦) في المخطوطة (الكلمة).

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) ليست في المخطوطة.

٣٢٠