البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

تعالى : (إِنْ [تَرَكَ] (١) خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (البقرة : ١٨٠) ثم [قال] (٢) بعد ذلك : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النساء : ١١) ، وقال : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (النساء : ١١) قالوا : فهذه ناسخة للأولى ، ولا يجوز أن يكون لهما الوصية والميراث.

وقيل : بل ذلك جائز ، وليس فيهما ناسخ ولا منسوخ ، وإنما نسخ الوصية للوارث بقوله عليه‌السلام : «لا وصيّة لوارث (٣)». وقيل : ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة.

__________________

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) ساقط من المخطوطة.

(٣) هذا الحديث يروى من ثمان طرق (الأولى) عن أبي أمامة الباهلي رضي‌الله‌عنه ، أخرجها أبو داود الطيالسي في المسند ص ١٥٤ ، الحديث (١١٢٧) ، وأخرجها عبد الرزاق في المصنف ٩ / ٤٨ ـ ٤٩ كتاب الولاء ، باب تولّي غير مواليه ، الحديث (١٦٣٠٨) ... ، وأخرجها سعيد بن منصور في السنن ١ / ١٢٥ كتاب الوصايا ، باب لا وصية لوارث الحديث (٤٢٧) ، وأخرجها أحمد في المسند ٥ / ٢٦٧ ، وأخرجها أبو داود في السنن ٣ / ٨٢٤ كتاب البيوع (١٧) ، باب في تضمين العارية (٩٠) ، الحديث (٣٥٦٥) ، وأخرجها الترمذي في السنن ٤ / ٤٣٣ كتاب الوصايا (٣١) ، باب ما جاء لا وصية لوارث (٥) ، الحديث (٢١٢٠) ، وأخرجها ابن ماجة في السنن ٢ / ٩٠٥ كتاب الوصايا (٢٢) ، باب لا وصية لوارث (٦) ، الحديث (٢٧١٣) ، وأخرجها الطبراني في المعجم الكبير ٨ / ١٥٩ ـ ١٦٠ الحديث (٧٦١٥) ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦٤ من طريق أبي داود السجستاني ، كتاب الوصايا ، باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين الوارثين.

(الثانية) : عن عمرو بن خارجة رضي‌الله‌عنه ، أخرجها أبو داود الطيالسي في المسند ص : ١٦٨ الحديث (١٣١٧) ، وأخرجها عبد الرزاق في المصنف ٩ / ٤٧ ـ ٤٨ كتاب الولاء ، باب تولّي غير مواليه ، الحديث (١٦٣٠٦) ، وأخرجها سعيد بن منصور في السنن ١ / ١٢٦ كتاب الوصايا ، باب لا وصية لوارث الحديث (٤٢٨) ، وأخرجها أحمد في المسند ٤ / ١٨٧ ، وأخرجها الدارمي في السنن ٢ / ٤١٩ كتاب الوصايا ، باب الوصية للوارث ، وأخرجها ابن ماجة في السنن ٢ / ٩٠٥ كتاب الوصايا (٢٢) باب لا وصية لوارث (٦) ، الحديث (٢٧١٢) ، وأخرجها الترمذي في السنن ٤ / ٤٣٤ كتاب الوصايا (٣١) ، باب ما جاء لا وصية لوارث (٥) ، الحديث (٢١٢١) ، وأخرجها النسائي في المجتبى من السنن ٦ / ٢٤٧ كتاب الوصايا (٣٠) باب إبطال الوصية للوارث (٥) ، الحديث (٣٦٤١) ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦٤ كتاب الوصايا باب نسخ الوصية للوالدين ...

(الثالثة) : عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، أخرجها أبو داود في المراسيل ص ١٦٨ ، كتاب ما جاء في الوصايا ، الحديث (٣١٤) ، وأخرجها ابن عدي في الكامل ٤ / ١٥٧٠ ضمن ترجمة عبد الله بن محمد بن ربيعة المصيصي ، وأخرجها الدار قطني في السنن ٤ / ٩٨ كتاب الفرائض ، الحديث (٩٢) ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦٣ كتاب الوصايا ، باب نسخ الوصية للوالدين ...

١٦١

ويجوز نسخ الناسخ فيصير الناسخ منسوخا ، وذلك كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون : ٦) ، نسخها بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (التوبة : ٥) ، ثم نسخ [هذه أيضا] (١) بقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (٢) [عَنْ يَدٍ (التوبة : ٢٩). وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (البقرة : ١٠٩) وناسخه قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (التوبة : ٥) ثم نسخها : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)] (٢) (التوبة : ٢٩).

مسألة لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب ، قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (البقرة : ١٠٦) وقال : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) (النحل : ١٠١) وكذلك نسخ السنة بالكتاب كالقصّة في صوم عاشوراء برمضان وغيره.

واختلف في نسخ الكتاب بالسنة ، قال [٧٩ / ب] ابن عطية (٣) : «حذّاق الأئمّة على

__________________

(الرابعة) : عن أنس رضي‌الله‌عنه أخرجها ابن ماجة في السنن ٢ / ٩٠٦ كتاب الوصايا (٢٢) ، باب لا وصية لوارث (٥) ، الحديث (٢٧١٤) وأخرجها ابن عدي في الكامل ٤ / ١٥٧٥ ضمن ترجمة عبد الله بن شبيب بن خالد ، وأخرجها الدار قطني في السنن ٤ / ٧٠ كتاب الفرائض والسير ، الحديث (٨) ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦٤ من طريق الدار قطني كتاب الوصايا ، باب نسخ الوصية للوالدين ...

(الخامسة) : عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما ، أخرجها ابن عدي في الكامل ٢ / ٨١٦ ـ ٨١٧ ضمن ترجمة حبيب بن أبي قريبة المعلم ، وأخرجها الدار قطني في السنن ٤ / ٩٨ كتاب الفرائض ... ، الحديث (٩٣).

(السادسة) : عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما ، أخرجها ابن عدي في الكامل ١ / ٢٠٢ ضمن ترجمة أحمد بن محمد بن صاعد ، وأخرجها الدار قطني في السنن ٤ / ٩٧ كتاب الفرائض ، الحديث (٩٠).

(السابعة) : عن معقل بن يسار رضي‌الله‌عنه ، أخرجها ابن عدي في الكامل ٥ / ١٨٥٣ ضمن ترجمة علي بن الحسن بن يعمر.

(الثامنة) : عن علي رضي‌الله‌عنه ، أخرجها الدار قطني في السنن ٤ / ٩٧ كتاب الفرائض ، الحديث (٩١) وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦٧ كتاب الوصايا ، باب تبدية الدين على الوصية.

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) انظر المحرر الوجيز لابن عطية ١ / ٣٧٩ في الكلام على قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [٢ ـ البقرة : ١٠٦].

١٦٢

الجواز ، وذلك موجود في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصيّة لوارث (١)» ، وأبى الشافعيّ (٢) ذلك ؛ والحجة عليه من قوله في إسقاط الجلد في حدّ الزنا عن الثّيب الذي يرجم ، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

قلنا : أما آية الوصية فقد ذكرنا أنّ ناسخها القرآن ، وأما ما نقله عن الشافعي فقد اشتهر ذلك لظاهر لفظ ذكره في «الرسالة (٣)» ، وإنما مراد الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له ، وهذا تعظيم لقدر الوجهين وإبانة تعاضدهما وتوافقهما ؛ وكل من تكلم على هذه المسألة لم يفهم مراده.

وأما النسخ بالآية فليس بنسخ بل تخصيص ، [ثم] (٤) إنه ثابت بالقرآن نسخت تلاوته ، وهو : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما (٥)».

__________________

(١) تقدم تخريج الحديث.

(٢) انظر الرسالة للشافعي ص ١٠٦ باب ابتداء الناسخ والمنسوخ ، المسألة (٣١٤).

(٣) انظر الرسالة ص ١٠٦.

(٤) ساقط من المخطوطة.

(٥) هذا الحديث مخرج ، من أربعة طرق (الأولى) عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، أخرجها مالك في الموطأ ٢ / ٨٢٤ كتاب الحدود (٤١) ، باب ما جاء في الرجم (١) ، الحديث (١٠) ، وأخرجها ابن ماجة في السنن ٢ / ٨٥٣ ـ ٨٥٤ كتاب الحدود (٢٠) ، باب الرجم (٩) ، الحديث (٢٥٥٣) ، وأخرجها النسائي ، ذكره المزي في تحفة الأشراف ٨ / ٤٨ ـ ٤٩ الحديث (١٠٥٠٨) وعزاه للسنن الكبرى ، كتاب الرجم وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢١١ كتاب الحدود باب ما يستدل به على أن السبيل هو جلد الزانيين ورجم الثيب.

(الثانية) : عن أبيّ بن كعب رضي‌الله‌عنه أخرجها عبد الرزاق في المصنّف ٧ / ٣٢٩ باب الرجم ... ، الحديث (١٣٣٦٣) وأخرجها أحمد في المسند ٥ / ١٣٢ ، وأخرجها النسائي ، ذكره المزي في تحفة الأشراف ١ / ١٦ الحديث (٢٢) وعزاه للسنن الكبرى كتاب الرجم وأخرجها ابن حبان ، ذكرها ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٦ / ٣٠٢ كتاب الحدود ، باب الزنا وحده ، الحديث (٤٤١٢) ، وأخرجها الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٥٩ كتاب الحدود ، باب من كفر بالرجم ... ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢١١ كتاب الحدود باب ما يستدل به ...

(الثالثة) : عن زيد بن ثابت رضي‌الله‌عنه ، أخرجها أحمد في المسند ٥ / ١٨٣ ، وأخرجها الدارمي في السنن ٢ / ١٧٩ كتاب الحدود ، وأخرجها النسائي وذكرها المزي في تحفة الأشراف ٣ / ٢٢٥ الحديث (٣٧٣٧) وعزاه للكبرى ، وأخرجها أبو يعلى الموصلي ، ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النور ٣ / ٢٧١ الآية الثانية وعزاها لأبي يعلى ، باب في حد المحصنين بالزنا ، وأخرجها الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٦٠ كتاب

١٦٣

فصل الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي. وزاد بعضهم الأخبار ، وأطلق ، وقيّدها آخرون بالتالي يراد بها الأمر والنهي.

تنبيهات

([التنبيه] (١) الأول) اعلم أن سور القرآن العظيم [تنقسم] (٢) بحسب ما دخله [من] (٣) النسخ وما لم يدخل إلى أقسام (٤) :

* أحدها ما ليس فيه ناسخ ولا منسوخ ، وهي ثلاث وأربعون سورة : وهي الفاتحة ، ثم يوسف ، ثم يس (٥) ، ثم الحجرات ، ثم الرحمن ، ثم الحديد ، ثم الصف ، ثم الجمعة ، ثم التحريم ، ثم الملك ، ثم الحاقة ، ثم نوح ، ثم الجن ، ثم المرسلات ، ثم النبأ ، ثم النازعات ، ثم الانفطار ، ثم المطففين ، ثم الانشقاق ، ثم البروج ، ثم الفجر ، ثم البلد ، ثم الشمس ، ثم الليل ، ثم الضحى ، ثم ألم نشرح (٦) ، ثم القلم ، [ثم القدر] (٧) ، ثم الانفكاك (٨) ، ثم الزلزلة ، ثم العاديات ، ثم القارعة ، ثم ألهاكم ، ثم الهمزة ، ثم الفيل ، ثم قريش ، ثم الدّين (٩) ، ثم الكوثر ، ثم النصر ، ثم تبّت [يدا] (١٠) ، ثم الإخلاص ، ثم المعوذتين.

__________________

الحدود ، باب حد الساحر ضربة بالسيف ، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢١١ كتاب الحدود ، باب ما يستدل به على ...

(الرابعة) : عن أبي أمامة عن خالته العجماء رضي‌الله‌عنها ، أخرجها الطبراني في المعجم الكبير ٢٤ / ٣٥٠ الحديث (٨٦٧) وذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ / ٢٦٥ كتاب الحدود ، باب نزول الحدود وما كان قبل ذلك ، وقال : (ورجاله رجال الصحيح) ، وأخرجها الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٥٩ كتاب الحدود.

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين زيادة من كتاب هبة الله ص ٢٢ يقتضيها النص ، وليست في المخطوطة.

(٣) ساقط من المطبوعة.

(٤) انظر الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عزوجل لهبة الله بن سلامة ص ٢٢ ـ ٢٥.

(٥) تحرفت في المخطوط إلى : (يونس).

(٦) في المطبوعة (الانشراح).

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة وهي زيادة من كتاب هبة الله.

(٨) أي سورة البينة.

(٩) أي سورة الماعون.

(١٠) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١٦٤

وهذه السور تنقسم إلى ما ليس فيه أمر ولا نهي وإلى ما فيه نهي لا أمر (١).

* والثاني : ما فيه ناسخ وليس فيه منسوخ ، وهي ست سور : الفتح ، والحشر ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والأعلى.

* الثالث : ما فيه منسوخ وليس فيه ناسخ ، وهو أربعون : الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، والرعد ، والحجر ، والنحل ، وبنو إسرائيل ، والكهف ، وطه ، والمؤمنون ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والمضاجع (٢) ، والملائكة (٣) ، والصافات ، وص ، والزمر ، والمصابيح (٤) ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، وسورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والباسقات (٥) ، والنجم ، والقمر ، والامتحان (٦) ، والمعارج ، والمدثّر ، والقيامة ، والإنسان ، وعبس ، والطارق ، والغاشية ، والتين ، والكافرون.

* الرابع : ما اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ ، وهي إحدى وثلاثون سورة : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأعراف (٧) ، والأنفال ، والتوبة ، وإبراهيم ، والنحل (٧) ، وبنو إسرائيل (٧) ، ومريم ، وطه (٧) ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون (٧) ، والنور ، والفرقان ، والشعراء ، والأحزاب ، وسبأ ، والمؤمن ، والشورى ، والقتال ، والذاريات ، والطور ، والواقعة ، والمجادلة ، والممتحنة (٧) ، والمزمل ، والمدثر (٧) ، والتكوير ، والعصر.

ومن غريب هذا النوع آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ ، قيل ولا نظير لها في القرآن ، وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [إِلَى اللهِ

__________________

(١) قال هبة الله في الناسخ والمنسوخ ص ٢٣ : (فهذه ثلاث وأربعون سورة لم يدخلها ناسخ ولا منسوخ ، منها سور ليس فيها أمر ولا نهي ، ومنها سور فيها نهي وليس فيها أمر ، ومنها سور فيها أمر وليس فيها نهي).

(٢) أي سورة السجدة.

(٣) أي سورة فاطر.

(٤) أي سورة فصلت.

(٥) أي سورة ق.

(٦) هي سورة الممتحنة ، وقد تصحفت في المطبوعة والمخطوطة إلى (الرحمن) والصواب ما أثبتناه كما جاء في كتاب هبة الله ص ٢٤ ، أما سورة الرحمن فقد تقدم ذكرها في القسم الأول وهو ما ليس فيه ناسخ ولا منسوخ ، فلا يصح تكرارها هنا فيما فيه منسوخ كما لم يذكرها أحد ممن كتب في الناسخ والمنسوخ في هذا الموضع.

(٧) كذا في الأصل وقد سبق ذكر هذه السورة في القسم السابق ، ما فيه منسوخ وليس فيه ناسخ فتأمل.

١٦٥

مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً]) (١) (المائدة : ١٠٥) ، يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا ناسخ لقوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ذكره ابن العربي في «أحكامه» (٢).

التنبيه الثاني النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب :

* الأول : ما نسخ تلاوته بقي حكمه فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ، كما روي أنه كان يقال في سورة النور : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله (٣)» ، ولهذا قال عمر : «لو لا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها بيدي». رواه البخاري في صحيحه معلّقا (٤).

وأخرج ابن حبّان في «صحيحه» عن أبيّ بن كعب [٨٠ / أ] قال : «كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة (٥) ، فكان فيها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما (٦)».

وفي هذا سؤالان : الأول : ما الفائدة في ذكر الشيخ والشيخة؟ وهلاّ قال : المحصن والمحصنة؟.

وأجاب ابن الحاجب في «أماليه (٧)» عن هذا بأنّه من البديع في المبالغة ؛ وهو أن يعبّر عن الجنس في باب الذم بالأنقص فالأنقص ، وفي باب المدح بالأكثر والأعلى ، فيقال : لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده ، والمراد : (٨) [يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى ما] (٨) يسرق. وقد يبالغ [فيه] (٩) فيذكر ما لا تقطع به ؛ كما جاء في الحديث : «لعن [الله] (١٠)

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٢) انظر أحكام القرآن ٢ / ٧٠٩ تفسير سورة المائدة.

(٣) تقدم تخريج الحديث ص ١٦٣.

(٤) أخرجه البخاري تعليقا في الصحيح ١٣ / ١٥٨ كتاب الأحكام (٩٣) باب الشهادة تكون عند الحاكم ... (٢١) ، ووصله مالك في الموطإ ٢ / ٨٢٤ كتاب الحدود (٤١) ، باب ما جاء في الرجم (١) ، الحديث (١٠).

(٥) تصحفت في المطبوعة إلى (النور) والتصويب من المخطوط وكذا من المصادر التي خرجت الحديث.

(٦) تقدم تخريجه ص ١٦٣.

(٧) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر ، أبو عمرو ابن الحاجب تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦ ، وكتابه «الأمالي» تقدم الكلام عنه في ١ / ٥١١.

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) ساقط من المطبوعة.

(١٠) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

١٦٦

السارق يسرق البيضة فتقطع يده» (١) وقد علم أنه لا تقطع في البيضة ، وتأويل من أوّله ببيضة الحرب تأباه الفصاحة (٢).

الثاني : أنّ ظاهر قوله : «لو لا أن يقول الناس ...» الخ أن كتابتها جائزة ، وإنما منعه قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة ، لأنّ هذا شأن المكتوب. وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي‌الله‌عنه ولم يعرّج على مقال الناس ؛ لأن مقال الناس لا يصلح مانعا.

وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة ، ولعلّه كان يعتقد أنه خبر واحد ، والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم ، ومن هنا أنكر ابن ظفر في «الينبوع» (٣) عدّ هذا مما نسخ تلاوته ، قال : لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن. قال : وإنما هذا من المنسأ لا (٤) النسخ ، وهما (٥) يلتبسان ، والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه ويثبت غيره (٦) ، وكذا قاله غيره (٧) في القراءات الشاذة ، كإيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين ونحوه أنها كانت قرآنا فنسخت تلاوتها : لكن في العمل بها الخلاف المشهور في القراءة الشاذة.

__________________

(١) الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٢ / ٨١ كتاب الحدود (٨٦) ، باب السارق حين يسرق (٦) ، الحديث (٦٧٨٣) ، وفيه : (قال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد) وسيأتي رد هذا القول في سياق الكلام الذي نقله الزركشي عن ابن الحاجب ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٣١٤ كتاب الحدود (٢٩) ، باب حد السرقة ونصابها (١) ، الحديث (٧ / ١٦٨٧).

(٢) وقد نقل ابن حجر العسقلاني أقوال العلماء في توجيه قول الأعمش «بيضة الحرب» ، فمنهم من قبل قول الأعمش ومنهم من رده قال (قال بعضهم : البيضة في اللغة تستعمل في المبالغة في المدح وفي المبالغة في الذم ... ، فلما كانت تستعمل في كل من الأمرين حسن التمثيل بها ، كأنه قال : يسرق الجليل والحقير فيقطع ، فرب أنه عذر بالجليل فلا عذر له بالحقير) انظر فتح الباري ١٢ / ٨٣.

(٣) هو محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر أبو عبد الله الصقلي ، أحد الفضلاء مغربي النشأة نزيل حماة ، ولد بصقلية وقدم إلى مصر ، وتنقل في البلاد ، له الكثير من المصنفات. ت ٥٦٨ ه‍ (إنباه الرواة ٣ / ٧٤). وكتابه : ينبوع الحياة» مخطوط في دار الكتب برقم (٣١٠) ، وفي معهد المخطوطات برقم (٢٩٤ ـ ٢٩٥ ـ ٢٩٦) ، (معجم الدراسات القرآنية ص ٣٥٤).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (لأن).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (وهذا).

(٦) في المطبوعة (ويثبت أيضا).

(٧) في المطبوعة (وكذا قاله في غيره).

١٦٧

و (١) منهم من أجاب عن ذلك بأن هذا كان مستفيضا عندهم وأنّه كان متلوّا من القرآن (١) فأثبتنا الحكم بالاستفاضة ، [وتلاوته غير ثابتة بالاستفاضة] (٢). ومن هذا الضرب ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي موسى الأشعري إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبّهها في الطول [والشدة] (٢) ببراءة فأنسيتها ، غير أني أحفظ منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ؛ وكنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات (٣) فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (٤).

وذكر الإمام المحدّث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي (٥) في كتابه «الناسخ والمنسوخ» : ممّا رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب (٦) حفظه سورتا (٦) القنوت في الوتر ، قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنّهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب ، وأنّه ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه أقرأه إياهما ، وتسمى سورتي الخلع والحفد.

هنا سؤال ، وهو أن يقال : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاّ تثبّت (٧) التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب «الفنون» (٨)» فقال : «إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير

__________________

(١) اضطربت عبارة المخطوطة كالتالي : (ومنهم من أجاب عن ذلك بأنه كان هذا مستفيضا عنده أنه كان مكتوبا من القرآن).

(٢) ساقط من المخطوطة.

(٣) قال القاري في مرقاة المفاتيح ٢ / ٥٩٨ : (المسبّحات ـ بكسر الباء ـ نسبة مجازية ، وهي السور التي في أوائلها (سبحان) أو (سبح) بالماضي ، أو (يسبح) أو (سبح) بالأمر ، وهي سبعة : سبحان الذي أسرى ، والحديد ، والحشر ، والصف ، والجمعة ، والتغابن ، والأعلى).

(٤) أخرجه مسلم في الصحيح ٢ / ٧٢٦ كتاب الزكاة (١٢) ، باب لو أن لابن آدم ... (٣٩) ، الحديث (١١٩ / ١٠٥٠) ، وفي عبارة المخطوطة تحريف للكلمات الأخيرة من الحديث وهي (فقلت شهادة في أعناقهم يسألون) والصواب ما أثبتناه كما في المطبوعة ومسلم.

(٥) هو أحمد بن جعفر بن محمد بن المنادي ، مقرئ جليل غاية في الإتقان ، فصيح اللسان عالم بالآثار ، نهاية في علم العربية ، صاحب سنّة ، ثقة مأمون ، أخذ القراءة عرضا وروى الحروف سماعا عن الحسن بن العباس ، وحدث عنه جماعة : ت ٣٣٦ ه‍ (سير أعلام النبلاء ١٥ / ٣٦١) ، وقد تقدم ذكر كتابه ضمن المؤلفات المستدركة في الناسخ والمنسوخ.

(٦) عبارة المخطوطة : (ضبطه سورتي).

(٧) في المطبوعة (ابقيت).

(٨) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي ، صاحب : فنون الأفنان انظر قوله في كتابه «نواسخ القرآن» ص ٩٠.

١٦٨

استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحي».

الضرب الثاني : ما نسخ حكمه وبقي تلاوته ، وهو في ثلاث وستين سورة ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ...) الآية (البقرة : ٢٣٤) ، فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمت التربّص بعد انقضاء العدّة حولا كاملا ، ونفقتها في مال الزوج ، ولا ميراث لها ، وهذا معنى قوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [غَيْرَ إِخْراجٍ]) (١) ... (البقرة : ٢٤٠) الآية ، فنسخ الله ذلك بقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة : ٢٣٤) ، وهذا الناسخ مقدم في النظم (٢) على المنسوخ.

[٨٠ / ب] قال القاضي أبو المعالي (٣) : «وليس في القرآن ناسخ تقدم على المنسوخ ، إلا في موضعين ، هذا أحدهما ، والثاني قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ...) الآية ، (الأحزاب : ٥٠) فإنها ناسخة لقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) (الأحزاب : ٥٢)» قلت : وذكر بعضهم موضعا آخر ، وهو قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) (البقرة : ١٤٢) هي متقدمة في التلاوة ، ولكنها منسوخة بقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (البقرة : ١٤٤).

وقيل : في تقديم الناسخة فائدة ، وهي أن تعتقد حكم المنسوخة قبل العلم بنسخها.

ويجيء موضع رابع وهو آية الحشر في قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...) (الآية : ٧) فإنه لم يذكر فيها شيء للغانمين ، ورأى الشافعي أنها منسوخة بآية الأنفال وهي قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (الآية : ٤١).

واعلم أن هذا الضرب ينقسم إلى ما يحرم العمل به ولا يمتنع كقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (الأنفال : ٦٥) ثم نسخ الوجوب.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوط (النظر).

(٣) هو عزيزي بن عبد الملك القاضي المعروف بشيذلة صاحب كتاب «البرهان في مشكلات القرآن» تقدم ذكره في ١ / ١١٢.

١٦٩

ومنه قوله [تعالى] : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة : ١٩٠) قيل : منسوخ بقوله [تعالى](فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (البقرة : ١٩٤).

وقوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (الأحقاف : ٩) نسختها آيات القيامة والكتاب والحساب.

وهنا سؤال ، وهو أن يسأل : ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟

والجواب من وجهين : أحدهما أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه ، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.

وثانيهما : أن النّسخ غالبا يكون للتخفيف ، فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة ، وأما حكمة النّسخ قبل العمل ، كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان [به] (١) وعلى نية طاعة الأمر.

الثالث : نسخهما جميعا ، فلا تجوز قراءته ولا العمل به ، كآية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس (٢) ؛ قالت عائشة : «كان مما أنزل عشر رضعات معلومات ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مما يقرأ من القرآن». رواه مسلم (٣) وقد تكلموا في قولها : «وهي مما يقرأ» فإنّ ظاهره بقاء التلاوة ؛ وليس كذلك ، فمنهم من أجاب بأنّ المراد قارب الوفاة ، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كلّ الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتوفي وبعض الناس يقرؤها (٤).

وقال أبو موسى الأشعريّ : نزلت ثم رفعت.

وجعل الواحدي (٥) من هذا ما روي عن أبي بكر رضي‌الله‌عنه قال : كنا نقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ، وفيه نظر.

__________________

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) تحرفت العبارة في المخطوطة إلى : (فنسخت بعشرين رضعة).

(٣) صحيح مسلم ٢ / ١٠٧٥ كتاب الرضاع (١٧) ، باب التحريم بخمس رضعات (٦) ، الحديث (٢٤ / ١٤٥٢).

(٤) عبارة الزركشي منقولة من شرح صحيح مسلم للنووي ١٠ / ٢٩.

(٥) الواحدي هو علي بن أحمد بن محمد تقدم ذكره في ١ / ١٠٥.

١٧٠

وحكى القاضي أبو بكر (١) في «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم ، لأنّ الأخبار ، فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.

وقال أبو بكر الرازيّ (٢) : نسخ الرّسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف ، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (الأعلى : ١٨ و ١٩) ، ولا يعرف اليوم منها [شيء] (٣). ثم لا يخلو ذلك من أن يكون (٤) [في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا توفّي لا يكون] (٤) متلوا في القرآن ؛ أو يموت وهو متلوّ موجود في الرسم ، ثم ينسيه الله [تعالى] ويرفعه من أذهانهم ، وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فائدة) قال ابن العربي (٥) : قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (التوبة : ٥) ناسخة لمائة وأربع عشرة آية ، ثم صار آخرها ناسخا لأولها ، وهي قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة : ٥).

[٨١ / أ] قالوا : (٦) وليس في القرآن آية من المنسوخ (٦) ثبت حكمها ست عشرة سنة إلا قوله [تعالى] في الأحقاف : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (الآية : ٩) وناسخها أول سورة الفتح (٧).

__________________

(١) هو محمد بن الطيب الباقلاني تقدم ذكره في ١ / ١١٧ ، وتقدم التعريف بكتابه الانتصار في ١ / ٢٧٨.

(٢) هو أحمد بن علي المعروف بالجصاص تقدم ذكره في ٢ / ١٢٦ وانظر قوله في كتابه : أحكام القرآن ١ / ٥٩ عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) من سورة البقرة.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) ساقط من المخطوطة.

(٥) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري تقدم ذكره في ١ / ١٠٩ ، وقوله مأخوذ من كتاب هبة الله بن سلامة الناسخ والمنسوخ ص ٩٨ ـ ٩٩ ...

(٦) عبارة المخطوطة : (فليس في كتاب الله من المنسوخ ...).

(٧) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ...) ، وهذا النص نقله الزركشي بتصرف عن كتاب الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة ص ١٦٠ ـ ١٦١.

١٧١

قال ابن العربي (١) : ومن أغرب آية في النسخ قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (الأعراف : ١٩٩) ، أولها وآخرها منسوخان ، ووسطها محكم.

وقسمه الواحدي (٢) أيضا إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات ، وإلى نسخ ما هو ثابت (٣) [التلاوة بما ليس بثابت التلاوة كنسخ الجلد في حق المحصنين بالرجم ، والرجم غير] (٣) متلوّ الآن ، وإن (٤) كان يتلى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالحكم ثبت والقراءة لا تثبت ، كما يجوز أن تثبت التلاوة في بعض ولا يثبت الحكم. وإذا جاز أن يكون قرآن (٥) [ولا يعمل به جاز أن يكون قرآن] (٥) يعمل به ولا يتلى ؛ وذلك أن الله عزوجل أعلم بمصالحنا ، وقد يجوز أن يعلم من مصلحتنا تعلق العمل بهذا الوجه.

(التنبيه الثالث) قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب :

الأول : نسخ المأمور [به] (٦) قبل امتثاله ، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة ، كأمر الخليل بذبح ولده. وكقوله تعالى : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (المجادلة : ١٢) ثم نسخه سبحانه [بقوله] (٧) : (أَأَشْفَقْتُمْ ...) الآية (المجادلة : ١٣).

الثاني : ويسمى نسخا تجوّزا ، وهو ما أوجبه (٨) الله على من قبلنا كحتم القصاص ولذلك قال عقب تشريع الدّية : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) (البقرة : ١٧٨) وكذلك ما أمرنا الله به أمرا إجماليّا (٩) ثم نسخ ، كنسخه التوجّه إلى [بيت الله] (١٠) المقدّس بالكعبة (١١) ، فإنّ ذلك كان واجبا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله ، وكنسخ صوم [يوم] (١٢) عاشوراء برمضان.

__________________

(١) هذا القول لهبة الله بن سلامة في الناسخ والمنسوخ ص ٩٠ ـ ٩١.

(٢) هو علي بن أحمد بن محمد النيسابوري ، تقدم في ١ / ١٠٥.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) في المطبوعة (وإنه).

(٥) ساقط من المخطوطة.

(٦) ساقط من المخطوطة.

(٧) ساقط من المخطوطة.

(٨) تحرّفت في المخطوطة إلى (أوجا).

(٩) تحرفت في المخطوطة إلى (جملا).

(١٠) ساقط من المخطوطة.

(١١) إشارة إلى قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) الآية (١٤٤) من سورة البقرة.

(١٢) ساقط من المخطوطة.

١٧٢

الثالث : ما أمر به لسبب [ثم] (١) يزول السبب ؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله (٢) ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء ؛ كما قال تعالى : أو ننسأها (٣) (البقرة : ١٠٦) فالمنسأ هو الأمر بالقتال ، إلى (٤) أن يقوى المسلمون ، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

وبهذا التحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنّها منسوخة بآية السيف ، وليست كذلك بل هي من المنسأ (٥) ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم ، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا. وإلى هذا أشار الشافعيّ في «الرسالة (٦)» إلى النهي عن ادّخار لحوم (٧) الأضاحي من أجل الدافّة (٨) ، ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله منسوخا ، بل من باب زوال الحكم لزوال علّته ؛ حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.

ومن هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) (المائدة : ١٠٥) الآية ، كان ذلك في ابتداء الأمر ، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود [غريبا] كما بدأ (٩)» عاد الحكم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا رأيت هوى متبعا وشحّا مطاعا

__________________

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ...) الآية (١٤) من سورة الجاثية.

(٣) قرأها أبو عمرو وابن كثير أو ننسأها ـ بالهمز مع فتح النون والسين ـ والباقون بغير همز مع ضم النون وكسر السين (الداني التيسير في القراءات السبع ص ٧٦).

(٤) في المخطوطة : (إلا).

(٥) في المخطوطة (بل هي منسية).

(٦) انظر الرسالة ص ٢٣٥ ، المسألة ٦٥٨.

(٧) في المخطوطة (لحم).

(٨) الدافّة : القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد (النهاية ـ دفف).

(٩) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ١٣٠ من رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، في كتاب الإيمان (١) ، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (٦٥) ، الحديث (٢٣٢ / ١٤٥) ، وما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٧٣

وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك (١)».

وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة ، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة ؛ فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره ، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفّار بالإسلام أو بأداء الجزية (٢) ـ إن كانوا أهل كتاب ـ أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.

ويعود هذان الحكمان ـ أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة ـ بعود سببهما ، وليس حكم المسايفة [٨١ / ب] ناسخا لحكم المسالمة ، بل كلّ منهما يجب امتثاله في وقته.

(فائدة) قيل في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (البقرة : ١٠٦) ولم يقل «من القرآن» ؛ لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب ، وليس يأتي بعده ناسخ له ، وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل ؛ بين الله ناسخه عند منسوخه ، كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ، والعدّة والفرار في الجهاد ونحوه ؛ وأما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ ، ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل ، كالسبيل في حق الآتية بالفاحشة ، فبيّنته السنّة ، وكلّ ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان [لحكم] (٣) القرآن ، وقال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) (النحل : ٤٤) ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن ٤ / ٥١٢ من رواية أبي ثعلبة الخشني رضي‌الله‌عنه في كتاب الملاحم (٣١) ، باب الأمر والنهي (١٧) ، الحديث (٤٣٤١) ، وابن ماجة في السنن ٢ / ١٣٣٠ ـ ١٣٣١ كتاب الفتن (٣٦) ، باب قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢١) الحديث (٤٠٤١) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٢٥٧ كتاب تفسير القرآن (٤٨) ، باب ومن سورة المائدة (٦) ، الحديث (٣٠٥٨) ، وأخرجه الطبري في التفسير ٧ / ٦٣ تفسير سورة المائدة ، وأخرجه ابن حبان ، ذكره ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ١ / ٣٠١ كتاب البر والإحسان ، ذكر إعطاء الله جل وعلا العامل بطاعة الله ورسوله في آخر الزمان أجر خمسين ... ، الحديث (٣٨٦) ، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٢٢ / ٢٢٠ الحديث (٥٨٧) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٢٢ كتاب الرقاق ، باب أشقى الأشقياء ... ، وقال : (صحيح الإسناد) ، ووافقه الذهبي ، وأخرجه البغوي في شرح السنة ١٤ / ٣٤٧ كتاب الرقاق ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الحديث (٤١٥٦) وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٣٣٩ تفسير سورة المائدة ، وعزاه أيضا للبغوي في معجمه ، ولابن المنذر ، ولابن أبي حاتم ولأبي الشيخ ، ولابن مردويه ، وللبيهقي في شعب الإيمان.

(٢) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (بدار الحرب).

(٣) ساقط من المخطوطة.

١٧٤

وأما بالقرآن على ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ ؛ وإنما هو نسأ وتأخير ، أو مجمل أخّر بيانه لوقت الحاجة ، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره ؛ أو مخصوص من عموم ، أو حكم عام لخاصّ أو لمداخلة معنى في معنى. وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا وليس به ، وأنه الكتاب المهيمن على غيره ، وهو في نفسه متعاضد ، وقد تولى الله حفظه فقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر : ٩).

١٧٥

النوع الخامس والثلاثون (١)

معرفة موهم المختلف

وهو ما يوهم التعارض بين آياته (٢) ، وكلام الله جلّ جلاله منزّه عن الاختلاف ؛ كما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) ، ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به ، فاحتيج لإزالته ، كما صنّف في «مختلف الحديث» وبيان الجمع بينهما ، وقد رأيت لقطرب (٣) فيه تصنيفا حسنا ، جمعه على السور. وقد تكلّم فيه الصدر الأول ، ابن عباس (٤) وغيره.

وقال الإمام : وقد وفّق الحسن البصريّ بين قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (البقرة : ٥١) ، (٥) [وقوله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً] (٥) وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)

__________________

(١) للتوسع في النوع انظر : تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، باب التناقض والاختلاف ص ٦٥ ، وكشف الظنون لحاجي خليفة ٢ / ١٦٩٥ علم مشكل القرآن ، و ١ / ٧٥٧ علم دفع مطاعن القرآن ومفتاح السعادة لطاش كبري زادة ٢ / ٤٠٧ علم معرفة مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض. أبجد العلوم للقنوجي ٢ / ٥١١ علم معرفة مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض.

(٢) في المخطوطة (آية).

(٣) هو محمد بن المستنير ، أبو علي النحوي المعروف ب : قطرب. لازم سيبويه وكان يدلج إليه ، فإذا خرج رآه على بابه. وأخذ عن عيسى بن عمرو كان يرى رأي المعتزلة النظّامية واتصل بأبي دلف العجلي وأدّب ولده. وله من التصانيف* «الرد على الملحدين في متشابه القرآن» ت ٢٠٦ ه‍ (معجم الأدباء ١٩ / ٥٣) ، وكتابه «الرد على الملحدين ...» ذكره ابن النديم في الفهرست ص ٤١ في الكتب المؤلفة في معاني شتى من القرآن ، فقال : (كتاب قطرب فيما سأل عنه الملحدون من آي القرآن) ، وذكره القفطي في إنباه الرواة ٣ / ٢٢٠ ضمن ترجمته.

(٤) وذلك ما جاء في صحيح البخاري ٨ / ٥٥٥ كتاب التفسير (٦٥) ، باب سورة حم السجدة (٤١) وفيه : (قال المنهال عن سعيد قال ، قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ...) وذكر الحديث إلى أن قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : (فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله).

(٥) ساقط من المخطوطة.

١٧٦

(الأعراف : ١٤٢) ، بأن قال : «ليس المراد في آية الأعراف على ظاهره ؛ من أنّ الوعد كان ثلاثين ليلة ، ثم بعد ذلك وعده بعشر ؛ لكنّه وعده أربعين ليلة جميعا (١). انتهى.

وقيل : تجري آية الأعراف على ظاهره من أنّ الوعد كان ثلاثين ، ثم أتم بالعشر ، فاستقرت الأربعون ، ثم أخبر في آية البقرة بما استقر.

وذكره الخطابيّ (٢) قال : «وسمعت ابن أبي هريرة (٣) يحكي عن أبي العباس بن سريج (٤) قال : سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (البلد : ١) ، فأخبر أنّه لا يقسم بهذا ، ثم أقسم به في قوله : ([وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ]) (٥) * وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (التين : ١ ، ٢ ، ٣) فقال ابن سريج : [أيّ] (٦) الأمرين أحبّ إليك؟ أجيبك ثم أقطعك ، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال : بل اقطعني ثم أجبني ، فقال [له] (٧) : اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضرة رجال ، وبين ظهراني قوم ، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا ، وعليه مطعنا ، [فلو] (٨) كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به وأسرعوا بالردّ عليه ؛ ولكنّ القوم علموا وجهلت ، فلم ينكروا منه ما أنكرت ، ثم قال له : إنّ العرب قد تدخل «لا» في أثناء كلامها وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتا (٩). والقاعدة في هذا وأشباهه أنّ الألفاظ إذا اختلفت وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك اختلافا.

(فائدة) سئل الغزالي عن [معنى] (١٠) قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) ، فأجاب [رضي‌الله‌عنه] بما صورته : الاختلاف لفظ مشترك بين معان ، وليس المراد نفي اختلاف [الناس فيه ، بل نفي الاختلاف] (١٠) عن

__________________

(١) قول الحسن البصري ذكره الفخر الرازي في التفسير ٣ / ٧٤ ضمن تفسير سورة البقرة.

(٢) هو حمد بن محمد أبو سليمان تقدم التعريف به في ١ / ٣٤٣.

(٣) هو الحسن بن الحسين بن أبي هريرة ، أبو علي ، الفقيه الشافعي. أخذ الفقه عن أبي العباس ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وشرح «مختصر المزني» وله مسائل في الفروع ودرّس ببغداد وتخرّج عليه خلق كثير. وانتهت إليه إمامة العراقيين. وكان معظّما عند السلاطين والرعايا ، ت ٣٤٥ ه‍ (وفيات الأعيان ٢ / ٧٥).

(٤) هو أحمد بن عمر بن سريج ، تقدم التعريف به في ٢ / ١١٥.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ليست في المطبوعة.

(٨) ليست في المخطوطة.

(٩) عبارة الخطابي ذكرها السيوطي في الإتقان ٣ / ٨٨ النوع الثامن والأربعون في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض.

(١٠) ليست في المخطوطة.

١٧٧

ذات القرآن ، يقال : هذا كلام مختلف ، أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة ؛ إذ هو مختلف ، أي بعضه يدعو إلى الدين ، وبعضه يدعو إلى الدنيا. أو هو مختلف النّظم ؛ فبعضه على وزن الشعر ، وبعضه منزحف ، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة ، وبعضه [٨٢ / أ] على أسلوب يخالفه ، وكلام الله تعالى منزّه عن هذه الاختلافات ، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره ، وعلى مرتبة (١) واحدة في غاية الفصاحة ، فليس يشتمل على الغثّ والسمين ، ومسوق لمعنى واحد ؛ وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى ، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين ، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات ؛ إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ، ثم اختلاف في درجات الفصاحة ؛ بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغثّ والسمين ، فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان ، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة ، وأبيات سخيفة ، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة ؛ لأن الشعراء والفصحاء (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء : ٢٢٥) ، فتارة يمدحون الدنيا ، وتارة يذمونها ، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما ، وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا ، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة ، وتارة يذمونها ويسمونها تهوّرا ، ولا ينفكّ [كلام آدميّ] (٢) عن هذه الاختلافات ، لأن منشأ هذه [الاختلافات] (٢) اختلاف الأغراض ، واختلاف الأحوال ، والإنسان تختلف أحواله ، فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ، ويتعذر عليه عند الانقباض. ولذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرّة ويميل عنه أخرى ، فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة ، فلا تصادف اللسان يتكلّم في ثلاث وعشرين سنة ، وهي مدة نزول القرآن ، فيتكلم على غرض واحد ، وعلى منهج واحد ، ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا تختلف أحواله فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير ، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن ، وكيف يكون هذا المراد ، وقد قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (البقرة : ٢٦) ، فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف ؛ وهو مع هذا (٣) سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى ؛ فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا ، وهي أشد أنواع الاختلاف. والله أعلم.

__________________

(١) في المخطوطة (على درجة).

(٢) ليس في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (مع ذلك).

١٧٨

(مسألة) (١) قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني (٢) : «إذا تعارضت الآي وتعذّر فيها الترتيب [والجمع] (٣) طلب التاريخ وترك المتقدم منهما بالمتأخر ، ويكون ذلك نسخا له ، وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين ، علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها.

قال : ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين (٤)».

وذكروا عند التعارض مرجّحات :

* الأول : تقديم المدني على المكي (٥) ؛ وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عوده إلى مكة والمدنيّة قبلها ، فيقدّم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصيص والتقديم ؛ إذ كان غالب الآيات [المكية] (٦) نزولها قبل الهجرة.

* الثاني : أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة ، والآخر على غالب أحوال أهل المدينة ، فيقدّم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة ، كقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧) ، [مع قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (٧) (البقرة : ١٧٨) فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧) كأنّه قال : إلا من وجب عليه القصاص. ومثل [٨٢ / ب] قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة : ٩٥) ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل [صيد] (٨) مكة ، [مع] (٨) قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ

__________________

(١) في المطبوعة (فصل).

(٢) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، الإمام العلامة الأصولي الشافعي أبو إسحاق الأسفراييني ، أحد المجتهدين في عصره. ارتحل في الحديث وسمع من دعلج السجزي وأبي بكر الإسماعيلي وعدّة. وحدّث عنه أبو بكر البيهقي وأبو القاسم القشيري وأبو الطيب الطبري وغيرهم. وكان من المجتهدين في العبادة المبالغين في الورع. من تصانيفه «جامع الحلي في أصول الدين والرد على الملحدين» ت ٤١٨ ه‍ (سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٥٣).

(٣) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة والصواب إثباتها كما في الإتقان للسيوطي ٣ / ٨٩.

(٤) عبارة أبي إسحاق الأسفراييني ذكرها السيوطي في الإتقان ٣ / ٨٩.

(٥) عبارة المطبوعة (تقديم المكي على المدني) والصواب ما أثبتناه كما في المخطوطة.

(٦) ليس في المخطوطة.

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

١٧٩

قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) (المائدة : ٤) ، فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم ، وخصّ من اصطاده في الحل وأدخله حيّا فيه.

الثالث : أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه ؛ والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه ، فيقدم المستقلّ بنفسه عند المعارضة والترتيب ؛ كقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة : ١٩٦) ، [مع] (١) قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة : ١٩٦) ، وقد أجمعت الأمة [على] (١) أن الهدي لا يجب بنفس الحصر ، و [ليس] (١) فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له ، فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة : ١٩٦) على ما عارضه من الآية.

* الرابع أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد ، فيقدّم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر ، كقوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (النساء : ٢٣) ، بقوله : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (٢) (النساء : ٣٦) فيخصّ الجمع بملك اليمين ، بقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ) (٣) (النساء : ٢٣) فتحمل آية الجمع على العموم ، والقصد فيها بيان ما يحلّ وما يحرم ، وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال.

الخامس : أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلّق بمعناه والآخر باسمه ، كقوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (المائدة : ١٠٦) مع قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [فَتَبَيَّنُوا]) (٤) (الحجرات : ٦) الآية ؛ فيمكن أن يقال في الآية بالتبيّن عند شهادة الفاسق ، إذا كان ذلك من كافر على مسلم ، أو مسلم فاسق على كافر ، وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا ، أو يحمل ظاهر قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (المائدة : ١٠٦) على القبيلة دون الملّة ، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملّة ؛ لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ وتخصيص الغير بالقبيلة لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير.

السادس : ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا ، كتقديم قوله

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (أيمانهم).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

١٨٠