أخبار مكّة في قديم الدّهر وحديثه - ج ٣

أبي عبد الله محمّد بن إسحاق ابن العبّاس الفاكهي المكّي

أخبار مكّة في قديم الدّهر وحديثه - ج ٣

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن إسحاق ابن العبّاس الفاكهي المكّي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤١٠

وعمر بن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن المؤمّل.

ومحمد بن حسن وغيرهم.

حدّثني كل واحد منهم بطائفة من هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سمعت من أمر الحروراء ، الذين خرجوا في زمن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ، قالوا : وأقبل أبو حمزة من عرفة حتى صعد المنبر ـ يعني : بمكة ـ وعليه ثوبان قطرّيان (١) ، وهو متنكب قوسا عربية ، فحمد الله ـ تعالى ـ وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على محمد صلّى الله عليه وسلم ثم قال : أما بعد ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يتقدم ولا يتأخر إلا بأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ ووحيه ، أنزل عليه كتابا بيّن له ما يأتي وما يذر ، فلم يكن في شك من دينه ، ولا على شبهة من أمره ، حتى قبضه الله ـ تعالى ـ إليه ، فصلى الله عليه وسلّم ، وقد علم المسلمون معالم دينهم ، وولّى أبا بكر الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ صلاتهم ، فعمل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالكتاب والسنّة ، وقتل أهل الردة ، ثم مضى [لسبيله](٢) ـ يرحمه الله ـ ، وولي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الأمر بعده ، فسار عمر ـ رضي الله عنه ـ سيرة صاحبه ، جبى الفيء وقسمه بين أهله ، وفرض الأعطية ، وجمع الناس في قيام شهر رمضان ، وغزا العدوّ في بلادهم ، وضرب في الخمر ثمانين ، ثم مضى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لسبيله ـ يرحمه الله ـ وغفر له. ثم ولي عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ الأمر على الناس من بعده ، فسار ست سنين بسيرة صاحبيه ، وسار في الست الآخرة بما أحبط سنيّه الأوائل ، ثم قام من بعده علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فلم يبلغ من الحق قصدا ، ولم يرفع له منارا ، ثم مضى

__________________

(١) نوع من البرود ، حمراء اللون ، جيدة ، فيها بعض الخشونة. لسان العرب ٥ / ١٠٦.

(٢) في الأصل (سبيله).

١٤١

لسبيله ، وهو في ذلك يلعنهما ـ لعن الله أبا حمزة ـ ثم قام من بعد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ لعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن لعينه ، فاتخذ عباد الله خولا (١) ومال الله دولا ، ودين الله دغلا (٢) ، ثم مضى إلى سبيله ، فألعنوه لعنه الله أيها [الناس](٣). قال : فلعنه جنده والناس الذين معه حتى ارتفع الصوت. ثم ولي يزيد بن معاوية ـ يزيد الخمور ويزيد القرود ـ فالعنوا يزيد ، لعن الله يزيد وأبا يزيد. ثم ولي عمر ابن عبد العزيز ، فلم يذكره. وحمده وحمد عمله ، ثم استقرئ خلفاء بني أمية خليفة خليفة يقع بهم ويسبّهم ، قال : ثم ولي يزيد بن عبد الملك الفاسق في بطنه ، المأبون في دبره ، الذي لم يؤنس منه رشد ، وقد قال الله ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه في أموال اليتامى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)(٤) في نفس واحدة يطلب منها الرشد والمال لها ، فكيف بمن يلي أمر هذه الأمة / ، أمة محمد صلّى الله عليه وسلم؟ فهذا أعظم ، يأكل الحرام ويشرب الحرام ، ويلبس الحلّة قد قوّمت عليه بألف دينار ، قد ضربت فيها الأبشار ، وتهتكت فيها الأستار ، وأجلس حبّابة عن يمينه ، وسلّامة (٥) عن شماله تغنيانه ويشرب الخمر ، حتى إذا أخذ الشراب كل مأخذ قال : ألا أطير؟ بلى ، يطير إلى النار. وأما بنو أبيه ـ يعني بني أمية ـ ففرقة منهم بطشهم بطش جبرية ، يأخذون بالظنّة ويقتلون على الغضب ، ويحكمون بالشفاعة ،

__________________

(١) الخول : العبيد والاماء. لسان العرب ١١ / ٢٢٤.

(٢) الدغل : الفساد. اللسان ١١ / ٢٤٤.

(٣) سقطت من الأصل.

(٤) النساء (٦).

(٥) حبابة : جارية من مولدات المدينة ، كانت مغنيّة ضاربة بالعود ، اشتراها يزيد بأربعة آلاف دينار ، وكان اسمها العالية ، فسمّاها يزيد حبابة. الأغاني ١٥ / ١٢٢.

وسلّامة ، هي : سلّامة القس ، تقدّم الكلام عنها برقم (١٦٠١).

١٤٢

ويأخذون الفريضة من غير موضعها ، ويضعونها في غير أهلها ، وقد سمّى الله ـ تبارك وتعالى ـ أهلها ، فجعلهم ثمانية أصناف ، فقال ـ تبارك وتعالى ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ، وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١). فأقبل صنف تاسع ليس منها ، فلم يرض أن يكون كأحدها حتى أخذها كلها ، فقلت له : إنّ ليس لك فيها حقّا ، أفلا ترضى أن تكون فيها كمن له فيها حقّ؟ فأبى الا أخذها كلها. فأقبلنا عليكم ، فقلنا : أعينونا عليهم ، وقلتم : سلطان ولا نقوى عليه. فعذرناكم بذلك ، ثم استدرتم إليه ، فأعنتموه على أخذها ، فلا أنتم إذ غلبكم تركتم عونه ، ـ فأنتم تعلمون ظلمه ـ حتى صرتم له أعوانا على أخذها والظلم فيهم ، تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ وقد شهد لكم يا أهل مكة في حكمه أصابتكم في زمن هشام بن عبد الملك ، فكتب إليهم بكتاب أرضاكم فيه ، وأسخط الله ـ عزّ وجلّ ـ عليه ، فقال : قد تركت لكم صدقاتكم في عامكم هذا ، فزاد فقيركم الذي جعل الله ـ عزّ وجلّ ـ له ذلك فقرا ، وزاد غنيّكم غنى ، فقلتم : جزاه الله خيرا ، فلا جزاه الله خيرا ، ولا أثابكم خيرا. أمّا هذه الشيع فشيع تظاهرت بكتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ وأعظمت الفرية على الله ـ تعالى ـ لم يفارقوا الناس ببصر ناقد في الدين ، ولا علم نافع في القرآن ، ينقمون [المعصية](٢) على أهلها ، ويعملون إذا ولّوا بها ، ينصرون الفتنة ولا يخرجون منها ، جفاة عن الدين ، أتباع كهان ، يؤمّلون الدولة في بعث الموتى ، ويوقنون ببعث إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، قلّدوا دينهم من لا ينظر إليهم

__________________

(١) التوبة (٦٠).

(٢) في الأصل (الغضبة) وصوبتها من البيان والتبيين.

١٤٣

(قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(١). يا أهل الحجاز ، قد بلغني [أنكم](٢) تعيّرونني بأصحابي ، وتزعمون أنهم شباب ، ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شبابا؟ شباب والله يكتهلون في شبابهم ، غائبة عن الشرّ أعينهم ، ثقيلة عن الباطل أرجلهم ، أنضاء (٣) عبادة ، وقد نظر الله ـ عزّ وجلّ ـ إليهم في جوف الليل ، محنيّة أصلابهم على أجزاء القرآن ، إذا مر أحدهم بالآية فيها ذكر الجنة دعا شوقا إليها ، وإذا مر بالآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه ، موصول كلالهم بكلالهم ، كلال الليل بكلال النهار ، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وجباههم ، فاستقلّوا ذلك في جنب الله ـ عزّ وجلّ ـ حتى إذا رأوا السهام قد فوّقت (٤) ، والرماح قد أشرعت ، والسيوف قد انتضيت ، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت / استخفوا رعد الكتيبة في ذات الله ـ تعالى ـ فمضى الشباب منهم قدما ، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه ، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه ، وأسرعت إليه سباع الأرض ، وانحطت عليه طير السماء ، فكم من عين في منقار طير طالما بكى صاحبها في جوف الليل في سجوده لله ـ تعالى ـ وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في ركوع وسجود لله ـ تعالى ـ.

ثم قال أبو حمزة : هاه ، هاه ، وانتحب ، ووضع كمّه على وجهه ، وبكى ، وبكى الناس لبكائه ، وقال للناس : لشتان [بين](٥) من يدعوكم

__________________

(١) التوبة (٣٠).

(٢) سقطت من الأصل.

(٣) الأنضاء : جمع نضو ، وهو في الأصل : البعير المهزول من السفر ، يريد أن العبادة هزلتهم فأنحفتهم.

(٤) فوّقت : جعلت لها الأفواق. والفوق : موضع الوتر من السهم. اللسان ١٠ / ٣١٩.

(٥) سقطت من الأصل.

١٤٤

إلى الرحمن وبيعة القرآن ، وبين من يدعو إلى سنّة الشيطان وبيعة مروان ، وما أمر مروان برشيد.

ثم نزل فما رؤي على منبر مكة أحد كان أحسن خطبة منه.

١٩١٠ ـ وأنشدني أبو يحيى بن أبي مسرّة لبعض الخوارج :

لقد أخّرتني يوم مكة شقوتي

غداة مضى المختار فيمن يقدّم

غداة ينادي أيّها الناس أقبلوا

إلى طاعة الرحمن قبل التندّم

إلى الله يدعو أن يقام كتابه

وبالسيّد الماضي يسير وينتمي

ذكر

خطبة سديف بن ميمون بين يدي داود بن علي

وما لقي قبل خروج بني هاشم في دولتهم

١٩١١ ـ حدّثنا عبد الله بن أبي مسرّة ، قال : ثنا محمد بن عبد الرحمن بن حسيب اللهبي ، عن ابن دأب ، قال : لما قدم داود بن علي بن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهم ـ مكة ، أخرج سديف بن ميمون من الحبس وخلع

__________________

١٩١٠ ـ أبو يحيى بن أبي مسرّة ، هو : عبد الله بن أحمد. ولم أقف على هذا الشعر.

١٩١١ ـ إسناده واه.

ابن داب ، هو : محمد بن داب المدني ، تقدمت ترجمته وهو ضعيف. وسديف بن ميمون تقدّم الكلام عنه بعد الخبر (١١٧٤).

ونقل هذه الخطبة بطولها الفاسي في العقد الثمين ٤ / ٥١٤ ـ ٥١٧ عن الفاكهي. وعن الفاسي نقلها ابن فهد في إتحاف الورى ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٩.

١٤٥

عليه ، ثم وضع المنبر ، فخطب فأرتج (١) عليه ، فقام سديف بن ميمون ، فقال : أما بعد ، فإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم ، فاختاره من قريش ، نفسه من أنفسهم ، وبيته من بيوتهم ، فكان فيما أنزل عليه في كتابه الذي حفظه ، وأشهد ملائكته على حقه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢) ، وجعل الحقّ بعد محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أهل بيته ، فقاتلوا على سنته وملته ، بعد عصر (٣) من الزمان ، وتتابع الشيطان ، بين ظهراني أقوام ، إن رتق حقّ فتقوه ، وإن فتق جور رتقوه ، آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي ، أهل خمور وماخور (٤) ، وطنابير ومزامير ، إن ذكّروا الله لم يذكروا ، وإن قوّموا الحقّ أدبروا ، بهذا قام زمانهم ، وبه كان يعمر سلطانهم ، أيزعم (٥) الضلّال ـ فأحبطت أعمالهم ـ أنّ غير (٦) آل محمد صلّى الله عليه وسلم أولى بالخلافة منهم؟ فبم (٧) ، ولم أيها الناس؟ألهم (٨) الفضل بالصحابة دون ذوي القربى في النسب ، والورثة للسلب ، مع ضربهم على الدين جاهلكم ، واطعامهم في اللأواء جائعكم ، وأمنهم في الخوف سائلكم ، والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ، ما زلتم تولون تيميا مرّة ، وعدويا مرة ، وأسديا مرة ، وأمويا مرة ، حتى جاءكم من لا يعرف اسمه / ولا نسبه ، فضربكم بالسيف فأعطيتموها عنوة وأنتم كارهون ، أل

__________________

(١) أي استغلق عليه الكلام فلم يقدر عليه. من الرتاج وهو : الباب المغلق. اللسان ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٨٠.

(٢) سورة الأحزاب (٣٣).

(٣) كذا في الأصل ، وعند الفاسي وابن فهد (غض).

(٤) الماخور : بيت الريبة والفسق والفساد ، جمعها : مواخير. لسان العرب ٥ / ١٦١.

(٥) في العقد (عم الضلال).

(٦) في العقد والإتحاف (أن نمر).

(٧) في الأصل (قثم) والتصويب من الفاسي.

(٨) في العقد (أكلم).

١٤٦

محمد صلّى الله عليه وسلم أئمة الهدى ومنار سبل التقى ، كم قصم الله بهم من منافق طاغ ، وفاسق باغ ، وأرباد أملاغ (١) ، فهم السادة القادة الذادة ، بنو عم الرسول صلّى الله عليه وسلم ، ومنزّل جبريل بالتنزيل ، لم يسمع بمثل عباس ، لم تخضع له الأمة إلا لواجب حق الحرمة ، أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أبيه ، وإحدى يديه ، وجلدة ما بين عينيه ، والموثّق له يوم العقبة ، وأمينه يوم القيامة ، ورسوله يوم مكة ، وحاميه يوم حنين ، عند ملتقى الفئتين ، والشافع يوم نيق العقاب (٢) ، إذ سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الأحزاب.

أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم.

ويقال : إن سديف بن ميمون كان في حبس بني أمية ، وذلك أنه كان يتكلم في بني أمية ، ويطلق فيهم [لسانه](٣) ويهجوهم ، وكان له في [الحساب](٤) فيما يزعمون نظر ، وفي الأدب حظ وافر ، وكان يجلس مع لمّة له من أهل مكة وأهل الطائف يسمرون في المسجد الحرام إلى نصف الليل ونحوه ، فيتحدثون [ويخبرهم](٥) بدولة بني هاشم أنها قريبة ، فبلغ ذلك من

__________________

(١) أرباد : المفسد ، أربد الرجل ، أي : أفسد ماله ومتاعه. اللسان ٣ / ١٧٢. وجاءت هذه اللفظة في الإتحاف (أرثاد).

والأملاغ : هو المتملّق ، وقيل : الأحمق الذي يتكلم بالفحش. اللسان ٨ / ٤٥٢.

(٢) نيق العقاب : موضع بين مكة والمدينة ، قرب الجحفة ، مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفتح ، فلقى به أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، أخا أمّ سلمة ، فلم يأذن لهما بالدخول عليه إلّا بعد أن كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيهما ، لما كان منهما من أذية المسلمين ، وهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم والشفاعة التي أشار إليها سديف هي شفاعة العباس في أبي سفيان بن حرب ، وأهل مكة أنظر معجم البكري ٢ / ١٣٤١ ، وياقوت ٥ / ٣٣٣ ، وابن هشام ٤ / ٤٢ ـ ٥٠ ، وسبل الهدى والرشاد ٥ / ٣٢٣.

(٣) سقطت من الأصل ، وألحقتها من الفاسي.

(٤) في الأصل (الحسنات) والتصويب من الفاسي.

(٥) في الأصل (وغيرهم) والتصويب من المرجع السابق.

١٤٧

قوله الوليد بن عروة (١) ، وهو على مكة واليا لمروان بن محمد.

فسمعت بعض أهل الطائف يقول : فاتخذ عليه الأرصاد مع أصحابه حتى أخذوه ، فأخذه فحبسه ، ثم جعل يجلده كل سبت مائة سوط ، كلما مضى سبت أخرجه فضربه مائة سوط حتى ضربه أسبتا ، فلما أتّطأ (٢) الأمر لبني هاشم ، وبويع لأبي العباس بالخلافة ، بعث داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، فقدم مكة ليوم الأربعاء سنة إثنتين وثلاثين ومائة ، فلما سمع الوليد بن عروة السعدي بداود أنه يريد مكة أيقن بالهلكة ، فخرج هاربا إلى اليمن ، وقدم داود بن علي مكة ، فاستخرج سديفا من الحبس وخلع عليه ، وأخلده ، فعند ذلك يقول سديف قصيدته التي يمدح فيها بني العباس ـ رضي الله عنهم ـ :

أصبح الدين ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس (٣)

ثم وضع داود بن علي المنبر ، فخطب فأرتج عليه ، فقام إليه سديف فخطب بين يديه الخطبة التي ذكرناها.

__________________

(١) الوليد بن عروة السعدي. ترجمته في العقد الثمين ٧ / ٣٩٧.

(٢) في العقد (آل).

(٣) البيت في الأغاني ٤ / ٣٥٢ ، والكامل للمبرّد ٣ / ١١٧٨ ، والكامل لابن الأثير ٤ / ٣٣٣. وقد فسّر هنا البهلول : العزيز الجامع لكل خير ، كما قال السيرافي. لسان العرب ١١ / ٧٣.

١٤٨

ذكر

البرك التي عمّرت بمكة وتفسير أمرها

وقال بعض أهل مكة عن أشياخه : إنّ سليمان بن عبد الملك كتب إلى خالد بن عبد الله القسري : أن أجر لي عينا من الثقبة (١) يخرج من مائها العذب الزلال ، حتى تظهر بين زمزم والمقام ، تضاهي بها ـ فيما ذكروا ـ زمزم. قال : فعمل خالد بن عبد الله البركة التي بفم الثقبة ، يقال لها : بركة القسري ، ويقال لها بركة السروي (٢) ، وهي قائمة إلى اليوم بأصل ثبير ، فعملها بحجارة منقوشة طوال ، وأحكمها وأنبط ماءها في ذلك الموضع ، ثم شقّ لها فلجا يسكب فيها من الثقبة ، [وبنى سدّ الثقبة وأحكمه](٣) ـ والثقبة : شعب يفرع فيه وجه ثبير ـ ثم شقّ من هذه البركة عينا / تخرج إلى المسجد الحرام ، فأجراها في قصب (٤) من رصاص حتى أظهرها من فوّارة (٥) تسكب في

__________________

(١) سيأتي ذكرها في القسم الجغرافي ـ إن شاء الله ـ وهي المتن الشرقي لجبل ثبير الأثبرة ، ويعرف بعضها اليوم ب (الغسالة) على يمين الذاهب إلى الطائف من طريق السيل ، وهي مقابلة تماما لحراء.

(٢) نسبة إلى السراة سراة اليمن ، وخالد منهم. وتصحفت هذه اللفظة عند الأزرقي إلى (البردي).

(٣) العبارة في الأصل (وبها شيّد القبة وأحكمها) وهو تصحيف ، أصلحته من الأزرقي. ولا زالت آثار هذا السد واضحة إلى اليوم ، بعد مدخل الغسالة بقليل ، وقد قسّمه شارع الغسالة إلى نصفين.

(٤) القصب : واحدته قصبة ، وأصله : العظم المستدير الأجوف ، والنبات ذو الأنابيب ، ثم أطلق على كل شيء مستدير أجوف ، من أي معدن كان. والمراد هنا أنابيب من رصاص. اللسان ١ / ٦٧٥.

وهذا ـ إن صحّ ـ عمل عجيب ، أن تمدّ أنابيب من رصاص بطول يساوي ٥ كلم أو أكثر ، لا يقل قطر الأنبوب عن ١٠ بوصات على أقل تقدير ، بشكل موزون وانسيابي يسمح بمرور الماء دون قوّة دافعة ، وفي منطقة وادي مكة ، ذي السيول العظيمة العارمة ، وفي ذلك الزمن المبكر من تاريخ الحضارة الإسلامية إنه عمل يدعو إلى التأمل إن صحّت الرواية.

(٥) أي : موضع يفور منه الماء ، ويطلق عليه اليوم (النافورة). اللسان ٥ / ٦٧.

١٤٩

فسقيّة (١) من رخام بين زمزم والركن والمقام.

فلما أن جرت وظهر ماؤها أمر القسري بجزر فنحرت بمكة ، وقسمت بين الناس ، وعمل طعاما فدعا إليه الناس ، ثم أمر صائحا ، فصاح : الصلاة جامعة ، وأمر بالمنبر ، فوضع في وجه الكعبة ، ثم صعده فحمد الله ـ تعالى ـ وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، احمدوا الله ، وادعوه لأمير المؤمنين ، الذي سقاكم الماء العذب الزلال [النقاخ](٢) ، بعد الماء الملح الأجاج ، الذي لا يشرب إلا صبرا (٣).

قال الشاعر يذكر الماء النقاخ العذب :

فمنهنّ ما يسقى بعذب مبرد

نقاخ ، فتلكم طافت واستقرّت

ومنهنّ ما يسقى بأخضر آجن

طريف فلو لا خشية الله برّت (٤)

يريد : أعلنت وأنارت. وقال العرجي (٥) ـ واسمه عبد الله بن عمرو بن

__________________

(١) جمعها : فساقي ، وهي : الحوض. وهي لفظة مولّدة. تاج العروس ٧ / ٤٩. المنجد ص : ٥٨٣.

(٢) في الأصل (القناح) وهو تصحيف. ومعنى النقاخ : الماء البارد العذب الصافي الخالص ، الذي يكاد ينقخ الفؤاد ببرده. وقيل : هو الماء الكثير ينبطه الرجل في الموضع الذي لا ماء فيه. اللسان ٣ / ٦٤.

(٣) وقد وردت هذه القصة بألفاظ أخرى تدل على جبروت وطغيان ، وزندقة ... ولعلّ القسري بريء من مثل هذه ـ والعلم عند الله ـ لأن الرجل كان فيه نصب وعداء لأهل البيت ، فتناولته ألسنة الشيعة من الرواة ، فنسبوا إليه أشياء قبيحة ، بل طعنوا في نسبه ، ومرؤته وخلقه ، وإذا أردت أن تعرف ما قالوه فيه فارجع إلى كتاب الأغاني ، والعقد الفريد ، والرجل مع هناته كانت له مواقف خدم فيها الإسلام ، في قمعه لأهل البدع والضلال ، وغيرته العربية مشهورة حتى دعته لمنع الغناء ، والتفرقة بين الرجال والنساء في الطواف ، وغير ذلك. وقد أورد ابن كثير بعض ما يستقبح من أخباره ثم قال (والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه ، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم ، وغيره من أهل الإلحاد ، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح ، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ، ومغالاة في أهل البيت ، وربّما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيّع ، وقد أغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره) البداية والنهاية ١٠ / ٢١.

(٤) الآجن : الماء المتغير الطعم واللون ، لسان العرب ١٣ / ٨.

(٥) تقدّم التعريف به في الخبر (١٦٨٦).

١٥٠

عثمان ـ ويقال : بل قائل ذلك عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ـ يذكر النقاخ أنه الماء العذب :

[فإن](١) شئت حرّمت النساء سواكم

وإن شئت لم أشرب نقاخا ولا بردا (٢)

وإن شئت غرنا معكم ثمّ لم نزل

بمكة حتى تجلسي قائلا نجدا (٣)

ثم تفرغ تلك الفسقية في سرب (٤) من رصاص يخرج إلى موضع وضوء كان عند باب المسجد ، باب الصفا [في بركة](٥) كانت في السوق.

قال : فكان الناس لا يقفون على تلك الفسقية ولا يكاد أحد يقربها ، وكانوا على شرب ماء زمزم أحرص ، وفيه أرغب ، فلما رأى ذلك القسري صعد المنبر ، فتكلم بكلام يؤنّب فيه أهل مكة ثم نزل.

فلم تزل تلك البركة على حالها حتى قدم داود بن علي مكة حين أفضت الخلافة إلى بني هاشم. فكان أول ما أحدث بمكة فيما يقولون : أن هدمها وكسر الفسقية ، وصرف العين إلى بركة كانت بباب المسجد ، فسرّ الناس بذلك سرورا عظيما حين هدمت.

فكان ذلك السرب الرصاص على حاله (٦) ، حتى قدم بشر الخادم مولى

__________________

(١) في الأصل (أن) والتصحيح من اللسان.

(٢) البيت في اللسان ٣ / ٦٥ ونسبه للعرجي ، ولم يذكر البيت الثاني. وفسّر البرد بالرّيق. وفي ٣ / ٨٥ نقل عن ثعلب أنه النوم. وجاء فيه لفظة (أشرب) أطعم.

(٣) غرنا : أي أتينا الغور ، وهو ما انخفض من الأرض ، من غار يغور غورا. والمقصود هنا : غور تهامة ، وهو : ما بين ذات عرق والبحر إلى اليمن.

وضد الغور : الجلس ، وهو : ما ارتفع من الأرض ، ومثله نجد.

ويقال لمن يأتي الجلس : أجلس ، ولمن يأتي النجد : أنجد. لسان العرب ٥ / ٣٤ ، ٦ / ٤٠.

(٤) السرب : طريق الماء ، أو القناة التي يجري فيها الماء. اللسان ١ / ٤٦٤.

(٥) في الأصل (وبركة) والتصويب من الأزرقي.

(٦) أنظر الأزرقي ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٩ ، والفاسي في العقد ٤ / ٢٧٣ ـ ٢٧٥ ، وابن فهد في الإتحاف ٢ / ١٢٣ ـ ١٢٤. وانظر لخطبة القسري الأغاني لأبي الفرج ٢٢ / ١٦.

١٥١

أمير المؤمنين في سنة ست وخمسين ومائتين فعمل القبّة التي إلى جانب بيت الشراب ، وأخرج قصب خالد هذه التي من رصاص ، التي كان عملها لسليمان بن عبد الملك ، فأصلحه وجعله في سرب الفوّارة التي يخرج الماء منها من حياض زمزم ، تصبّ في هذه البركة ، وقد فسرنا عملها في موضعها (١).

وقد كان أهل مكة فيما مضى قد ضاقوا من الماء ضيقا شديدا ، حتى كانت الراوية تبلغ في الموسم عشرين درهما أو أكثر ، وفي سائر السنة نصف دينار ، وثلث دينار ، ونحو ذلك. فأقاموا بذلك حينا ، حتى أمر أمير المؤمنين هارون بعيون معاوية بن أبي سفيان الدوائر ، فعملت وجمعت وصرفت في عين واحدة يقال لها : الرشا ، وتسكب في الماجلين اللذين أحدثهما هارون أمير المؤمنين ، ويعرفان اليوم : بماجلى (٢) هارون ، بالمعلاة ، ثم تسكب في البركة التي عند باب المسجد الحرام /. فتوسع الناس في ذلك بعض السعة ، وكانوا إذا انقطع من هذه العيون شيء في شدة من الماء.

فبلغ ذلك أمّ جعفر ـ زبيدة (٣) بنت أبي الفضل جعفر بن أمير المؤمنين ـ وقيل لها : إنّ أهل مكة في ضيق من الماء وشدة ، فأمرت بعمل بركتها هذه التي بمكة. فأجرت لها عينا من الحرم ، فجرت بماء قليل لم يكن فيه ريّ لأهل مكة ولا فضل ، وقد غرمت في ذلك غرما كبيرا ، فبلغها ذلك ، فأمرت المهندسين أن يجروا لها عيونا من الحل.

وكان الناس يقولون : إنه لا يدخل ماء الحلّ إلى الحرم ، لأنه يمر على

__________________

(١) أنظر ص (١٤٥) من هذا المجلّد.

(٢) الماجل هو : الصهريج من الماء. وهذان الماجلان لا يعرفان اليوم ، إلّا أن الفاسي ذكر في شفائه ١ / ٢٩٦ أنّهما في أغلب ظنّه يشكلان (بركتي الصارم) اللتان كانت إحداهما ملاصقة لسور مكة في المعلاة ، ويمكن القول إنّ موضعهما يقابل بناية البريد المركزي الآن على يسارك وأنت نازل إلى مكة.

(٣) أنظر ترجمتها في تاريخ بغداد ٤ / ٢٣٣ ، والعقد الثمين ٨ / ٢٣٦.

١٥٢

عقاب وظراب وجبال ، فأرسلت بأموال عظام ، ثم أمرت من يزن عينها الأولى ، فوجدوا فيها فسادا ، فأنشأت عينا أخرى إلى جنبها ، وأبطلت تلك العين ، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من العمل ، وعظمت نيتها في ذلك ، فلم يزل العمّال يعملون ، حتى بلغوا ثنيّة خلّ (١) ، فإذا الماء لا يظهر على ذلك الجبل إلا بعمل شديد ، وعزم فظيع ، وضرب في الجبل ، فأمرت بالجبل فضرب فيه بالزبر (٢) ، وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم يكن تطيب به نفس أحد ، حتى أجراها الله ـ تعالى ـ وأجرت فيها عيونا من الحلّ منها : عين مشاش (٣) ، واتخذت لها بركا تكون السيول إذا جاءت تجتمع فيها ، ثم أجرت لها عيونا من حنين ، واشترت حائط حنين ، فصرفت عينه إلى البركة ، وجعلت حائطه سدّا تجتمع فيه السيول ، فأهل مكة يشربون من مائها إلى يومنا هذا (٤).

وكان الناس يستقون من هذه البركة الكبيرة التي بأعلى مكة ، حتى كانت سنة عشر ومائتين ، فكتب صالح بن العباس إلى أمير المؤمنين المأمون يستأذنه في عمل البرك الصغار التي في فجاج مكة ، وأن يكون ذلك منه ، فكتب إليه يأمره أن يتخذ له بركا في الفجاج خمسا لئلا يتعنّى أهل المسفلة وأهل الثنيّة (٥) ، وأجيادين ، والوسط ، إلى بركة أم جعفر بالمعلاة ، فأجرى من بركة

__________________

(١) ستأتي في المباحث الجغرافية ، وتقع قبيل أعلام الحرم في طريق الطائف على اليمانية.

(٢) الزبر : جمع زبرة ، وهي : القطعة الضخمة من الحديد. يريد قضبان الحديد الضخمة. تاج العروس ٣ / ٢٣١.

(٣) عين مشاش ، تسمّى اليوم (عين الشرائع) أو (عين حنين). وهي اليوم لا تسير إلى مكة ، بل يزرع الناس عليها هناك. وتبعد عين حنين (٣٦) كلم عن المسجد الحرام إلى الشرق. معالم مكة التاريخية ص : ٨٨.

(٤) الأزرقي ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٥) هي الثنية السفلى ، التي يسن الخروج من مكة عليها ، وتسمّى (كدى) بضم الكاف والقصر. وتسمّى اليوم : الشبيكة أو (ريع الرسّام).

١٥٣

أم جعفر [فلجا يسكب فيه الماء من بركة أم جعفر](١) إلى بركة عند شعب علي ، ودار بن يوسف (٢) ، ثم يمضي إلى بركة عملها عند الصفا ، ثم يمضي إلى بركة عند الخياطين (٣) ، ثم يمضي إلى بركة بفوّهة سكة الثنية دون دار رويس ، ثم تمضي إلى بركة عند سوق الحطب (٤) بأسفل مكة. فلما فرغ منها صالح وخرج الماء فيها ، ركب بوجوه أهل مكة إليها ، فوقف عليها حتى جرى الماء ، ونحر على كل بركة جزورا ، وقسم لحمها على الناس ، وبلغ ذلك أمّ جعفر زبيدة ، فاغتمت لذلك ، ثم حجت في سنة إحدى عشرة ومائتين ، وعلى مكة يومئذ صالح بن العباس. فسمعت ابراهيم بن أبي يوسف يقول : فأتاها ، فسلّم عليها ، فلامته في أمر هذه البرك التي عمل ، وقالت : هلا كتبت إليّ حتى كنت أنا أسأل أمير المؤمنين أن يجعل ذلك إليّ ، فأتولى النفقة فيها كما أنفقت في هذه البركة ، حتى استتم ما نويت في أهل حرم الله؟! فاعتذر إليها صالح من ذلك (٥).

وقد قال شاعر من أهل مكة يذكر بركة أم جعفر ، ودخول ماء الحل إلى الحرم :

الحمد لله الأعزّ الأكرم

الواسع الفضل الكثير المنعم

أجرى على رغم أنوف الرغم

/ من كان ينبينا بما لم نعلم

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وألحقتها من العقد الثمين ٥ / ٢٨.

(٢) دار ابن يوسف في شعب علي ، وهو المعروف ب (المولد) ، قامت عليه مكتبه عامّة عامرة.

(٣) قرب السوق الصغير.

(٤) أفاد الأستاذ ملحس أن سوق الحطب يسمّى اليوم (الهجلة).

(٥) ذكره الفاسي في العقد الثمين ٥ / ٢٨ نقلا عن الفاكهي. وأنظر الأزرقي ٢ / ٢٣٢ ، وإتحاف الورى ٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

١٥٤

عينا من الحلّ جرت في الحرم

تسكب في خابية قليدم (١)

خضراء فيها ملعب للعوّم (٢)

في قصيدة يرجز فيها.

ثم عملت على البركة التي بالمعلاة (سفلا وعلوا يكون فيه قيم البركة الذي يحرسها ويقوم بمصلحتها ، وجعل لذلك باب دار مبوّب بفرخ صغير فيه) (٣) وعليه طاق معقود ، وكتب على وجه البركة كتاب هو قائم إلى اليوم : (بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وصلّى الله على محمده عبده ورسوله ، بركة من الله ، مما أمرت به أم جعفر بنت أبي الفضل جعفر بن أمير المؤمنين المنصور ـ رضي الله عن أمير المؤمنين ـ بإجراء هذه العيون ، سقاية لحجاج بيت الله وأهل حرمه ، طلب ثواب الله وقربة إليه ، على يدي ياس خادمها ومولاها ، سنة أربع وتسعين ومائة) وهذا الكتاب مكتوب بجص ومرمر ، قد سوّد بالسواد. ثم تحت هذا الكتاب كتاب (بايقاس) (٤) : (مما جرى على يدي أبي إسحاق اسماعيل بن إسحاق القاضي (٥) ، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وكرامته).

وعلى هذه العيون أموال لأم جعفر في مخاليف (٦) مكة وبغداد وغيرها ، وغلات محبوسة على هذه العيون إلى يومنا هذا.

__________________

(١) الخابية : الجرة العظيمة. اللسان ١ / ٦٢. وشبّه البركة بالخابية العظيمة الخضراء الكثيرة الماء. وقليدم :الماء الكثير. اللسان ١٢ / ٤٩٢.

(٢) العوّم : جمع عائم ، وهو : السابح.

(٣) كذا العبارة في الأصل ، وفيها غموض.

(٤) كذا في الأصل ، ولم أتبيّنها.

(٥) هو القاضي المشهور ، شيخ المصنّف. توفي سنة (٢٨٢). أنظر تاريخ بغداد ٦ / ٢٨٤.

(٦) سيأتي ذكرها في مبحث خاص بها في آخر الكتاب (إن شاء الله).

١٥٥

وقد كان إسحاق بن سلمة في سنة إحدى وأربعين ومائتين عمل البركة التي بالحصحاص (١) ، إذا أشرفت من ثنية الحصحاص تريد التنعيم ، وصرف ماء فخّ (٢) إليها ، وجعل لها فلجا من عين فخّ يصب في بركة عملها عند الثنية. ثم تركت بعد ذلك. والبركة قائمة إلى يومنا هذا ليس فيها ماء.

__________________

(١) الحصحاص : هو الجبل المشرف على حيّ الزاهر اليوم من مطلع الشمس يسمّى جانبه الشمالي (جبل أبو مدافع) وتحته حيّ يسمّى (ملقيّة). ولم يعد اسم الحصحاص معروفا اليوم. أفاد ذلك الأستاذ البلادي في كتاب معالم مكة ص : ٨٥. وسيأتي مزيد تعريف به في المباحث الجغرافية. وثنية الحصحاص سيأتي الكلام عنها ـ إن شاء الله ـ.

(٢) فخّ ، واد معروف من أودية مكة ، يبدأ من طريق نجد ، وحراء ، وينتهي بالحديبية. والمقصود هنا هو جزء منه ، يعرف اليوم ب (وادي الزاهر) و (الشهداء).

١٥٦

باب جامع (١)

من أخبار مكّة في الإسلام

١٩١٢ ـ حدّثنا أبو الحين ابراهيم بن محمد النوفلي ، قال : بلغني أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال لجبير بن مطعم : كيف أنا في قومي؟ وكيف أنا في عشيرتي؟ قال : أنت والله كما قال الشاعر (٢) :

نميل على جوانبه كأنّا

إذا ملنا نميل على أبينا

نقّلبه لنخبر حالتيه

فنبلوا منهما كرما ولينا

فأنت والله كذلك. قال : فأرسل إليه معاوية ـ رضي الله عنه ـ بعشرة آلاف.

١٩١٣ ـ حدّثنا عمرو بن محمد ، قال : ثنا عثمان بن يعقوب ، قال : حدّثني محمد بن طلحة ، عن الثقة عنده ، قال : إنّ العباس بن عبد المطلب وأبا

__________________

١٩١٢ ـ إسناده منقطع.

١٩١٣ ـ في إسناده من لم يسمّ. لكن أصله في الصحيح.

وعمرو بن محمد ، هو العثماني.

(١) هذه اللفظة ، وقعت في الفهرس الموجود في أول الأصل (ما جاء).

(٢) قائل هذا الشعر ، هو : أبو الجهم ، وكان قد جرى بينه وبين معاوية كلام ، فتكلم أبو الجهم كلاما فيه شدة لمعاوية ، فأطرق معاوية ، ثم رفع رأسه ، فقال : يا أبا الجهم ، إياك والسلطان ، فإنّه يغضب غضب الصبيان ، ويأخذ أخذ الأسد ، وإن قليله يغلب كثير الناس ، ثم أمر معاوية بمال لأبي الجهم ، فقال عند ذلك هذه الأبيات يمدح فيها معاوية. أنظر البداية والنهاية ٨ / ١٣٥. ـ

١٥٧

سفيان بن الحارث ـ رضي الله عنهما ـ كانا من المائة الصابرة يوم حنين.

١٩١٤ ـ حدّثنا محمد بن أبي عمر ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا [عبيد الله](١) بن أبي يزيد ، قال : رأيت الغنم تقدم مكة مقلّدة.

١٩١٥ ـ حدّثنا أحمد بن حميد ، عن ابن سلام ، عن أبان بن عثمان ، وغيره ، قال : لمّا توجّه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف ، رأى على العقبة قبرا ، فقال : «يا أبا بكر ، ما هذا القبر؟» فقال : هذا قبر أبي أحيحة ـ لعنه الله ـ فإنه / كان شديد التكذيب بآيات الله ـ تعالى ـ شديد الردّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال أبان بن سعيد : بل لعن الله أبا قحافة ، إنه كان لا يدفع الضيم ، ولا يقري الضيف. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات».

__________________

رواه أحمد ١ / ٢٠٧ ، وابن سعد ٢ / ١٥١ ، ومسلم ١٢ / ١١٣ والنسائي في الكبرى (تحفة الأشراف ٤ / ٢٦٩) والطبري ٤ / ١٢٨ كلّهم من طريق : الزهري ، عن كثير بن عبّاس ، عن العباس ، بمعناه. وانظر سبل الهدى والرشاد ٥ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١٩١٤ ـ إسناده صحيح.

١٩١٥ ـ شيخ المصنّف لم أقف عليه ، لكنه روي من وجه آخر بإسناد صحيح.

وابن سلّام ، هو الجمحي. وأبان بن سعيد ، هو : ابن العاص. وأبو أحيحة ، هو : سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. كان من سادات قريش في الجاهلية ، أدرك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يسلم. المنمّق ص : ٦٤ ، ١٣٠. والاصابة ٢ / ١٢٥. والحديث رواه ٤ / ٢٥٢ من طريق : المغيرة بن شعبة ، وإسناده صحيح ، كما قال الهيثمي في المجمع ٨ / ٧٦ ولفظه (لا تسبّوا الأموات فتؤذوا الأحياء). ورواه الواقدي في المغازي ٣ / ٩٢٥ عن أشياخه ، وذكره ابن حبيب في المنمّق ص : ٣٦١ لكنه ذكر بدل أبان بن سعيد ، أخاه خالد بن سعيد.

(١) في الأصل (عبد الله) والصحيح (عبيد الله) وهو : ابن أبي يزيد المكي ، مولى آل قارظ بن شيبة : ثقة ، كثير الحديث ، مات سنة (١٢٦). التقريب ١ / ٥٤٠.

١٥٨

١٩١٦ ـ حدّثنا أحمد بن حميد ، عن الأصمعي ، قال : استعمل أبان بن عثمان على الموسم ، وكان صاحب الموسم يقيم ثلاثا ثم يتحيّن به صاحب مكة إلا أن يكون في كتابه أكثر من ذلك ، فتحيّن بأبان ، فقال الشاعر :

فإن تنج منها يا أبان مسلّما

فقد ألفت الحجّاج خيل شبيب (١)

وقال رجل (٢) من أهل مكة يرد عليه :

فلا تذكر الحجاج إلا بصالح

فقد عشت من معروفه بذنوب (٣)

قال : فما راع الرجل إلا والكساء قد جاءت من عند الحجاج.

١٩١٧ ـ حدّثنا محمد بن إسحاق بن شبّويه ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن حنظلة بن أبي سفيان ، عن طاوس ، عن ابن

__________________

١٩١٦ ـ شيخ المصنّف لم أقف عليه.

ذكره أبو الفرج في الأغاني ٣ / ٣٣٤ ، ٣٣٨.

١٩١٧ ـ إسناده حسن.

شيخ المصنّف : صدوق. كما في التقريب ٧ / ١٩٦. ومحمد بن يوسف ، هو : الفريابي.

رواه أبو داود ٣ / ٣٣٥ ، والنسائي ٥ / ٥٤ كلاهما من طريق : أبي نعيم ، عن سفيان به.

(١) قوله (ألفت) في الأغاني (أفلت). وشبيب هو : ابن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني ، أحد أبطال الدنيا ، وشجعان العرب ، وفرسان الخوارج ، بعث الحجاج لحربه خمسة قوّاد ، فقتلهم واحدا بعد واحد ، ثم حاصر الحجاج. وكانت زوجته غزالة عديمة النظير في الشجاعة ، وأمّه كذلك. غرق في نهر دجيل ، فمات سنة (٧٧). أنظر سير أعلام النبلاء ٤ / ١٤٦. والبداية والنهاية ٩ / ١٩.

وقد نسب أبو الفرج هذا البيت للحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي ، أحد ولاة مكة ، في قصة ذكرها ، وذكر بعدها بيتين آخرين.

(٢) هذا الرجل هو : عبيد بن موهب ، أحد شيعة الحجاج على ما في الأغاني.

(٣) البيت في الأغاني ، وذكر معه بيتين آخرين أيضا. (وذنوب) هو : الحظ والنصيب. قال أبو ذؤيب:

عمرك والمنايا غالبات

لكل بني أب منها ذنوب

١٥٩

عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة» (١).

١٩١٨ ـ حدّثني أحمد بن صالح ـ عرضته عليه ـ قال : حدّثني محمد بن اسماعيل القرشي ، المدني ، قال : حدّثني عبد الله بن نافع ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «من مات بين الحرمين حاجّا أو معتمرا ، بعثه الله ـ تعالى ـ يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب ، ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن جاورني بعد موتي ، فكأنما جاورني في حياتي ، ومن مات بمكة فكأنما مات في السماء الدنيا ، ومن شرب من ماء زمزم [فماء](٢) زمزم لما شرب له ، ومن قبّل الحجر واستلمه شهد له يوم القيامة بالوفاء ، ومن طاف حول بيت الله أسبوعا ، أعطاه الله بكل طوف عشر نسمات من ولد اسماعيل عتاقة ، ومن سعى بين الصفا والمروة ثبّت الله ـ تعالى ـ قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام».

حدّثني بهذا أحمد بن صالح وعرضته عليه في الصف الأول. وهذا حديث منكر من حديث مالك بن أنس.

__________________

١٩١٨ ـ أحمد بن صالح ، هو : ابن سعد بن عبد الرحمن الحنظلي ، ذكره المزّي في التهذيب ص : ١١٨٨ في ترجمة محمد بن الحسن بن زبالة ، ولم أعرف من حاله سوى هذا.

والأثر ذكره ابن حجر في اللسان ١ / ١٨٧ ، وقال : رواه الحاكم في تاريخه ، من رواية أحمد بن صالح الشمومي ، عن عبد الله بن نافع ، عن مالك ، به مختصرا. وذكره السيوطي في الكبير ١ / ٨٣٦ وعزاه للديلمي ، وقال : فيه أحمد بن صالح الشمومي ، قال ابن حجر : هذا من مناكيره.

(١) الحديث في الأصل (الوزن وزن أهل المدينة ، والمكيال مكيال أهل مكة) ، قلبه الناسخ ، فأرجعته إلى أصله المشهور ، على ما في المراجع.

(٢) في الأصل (وماء).

١٦٠