شرح جمل الزجّاجى - ج ٢

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٥٩٧

وللتعجب ثلاثة ألفاظ : ما أفعله ، وأفعل به ، ولفعل. ويجري «أفعل من» مجرى التعجب وإن لم يكن تعجّبا في أنّه لا يبنى إلا مما بني منه فعل التعجب.

فأما «ما أفعله» فلا يخلو أن تريد التعجب من مزيد أو غير مزيد. فأما المزيد فلا يخلو أن يكون على وزن «أفعل» أو على غير ذلك من الأوزان. فإن كان على غير ذلك من الأوزان ، فلا يجوز التعجب منه ، لأنه لا يجوز التعجب من فعل حتى يصير على وزن «فعل» ، فإذا فعل به ذلك أدى إلى حذف زوائد الفعل ، وقد كانت هذه الزوائد تعطي معانيها ، فتفقد بزوالها إلّا ما شذّ من ذلك ، وهو قول العرب : «ما أفقره» ، من «افتقر» ، و «ما أغناه» ، من «استغنى» ، وما «أتقاه» من «اتّقى» ، و «ما أقومه» ، من «استقام».

وكأن التعجب إنّما هو من «فقر» ، و «غني» ، و «تقي» ، و «قام» في معنى «استقام» وإن لم ينطق بشيء من ذلك. وممّا يدلّ على ذلك : فقير ، وغني ، وتقيّ ، ألا ترى أنّ «فعيلا» لا يبنى إلّا من فعل ثلاثي ، نحو : «كريم» و «ظريف» من «كرم» و «ظرف» ، ومما يسهّل ذلك في «اتقى» أنّهم قد حذفوه حتى صار «تقي» ، ومنه قول الشاعر [من الوافر] :

٤١٦ ـ تقوه أيّها الفتيان إنّي

رأيت الله قد غلب الجدودا

__________________

٤١٦ ـ التخريج : البيت لخداش بن زهير في سرّ صناعة الإعراب ١ / ١٩٨ ؛ والمقاصد النحوية ٢ / ٣٧١ ؛ ونوادر أبي زيد ص ٢٧ ؛ وبلا نسبة في الممتع في التصريف ١ / ٢٢٣ ؛ والمنصف ١ / ٢٩٠ ؛ ونوادر أبي زيد ص ٤.

اللغة : تقوه : اتقوه ، من الوقاية. الجدود : الحظوظ.

المعنى : اتقوا الله أيّها الناس وأيّها الشباب ، فأنا متأكد أن لكل شيء جزاء عند الله ، وليس كل شيء ينال بالحظ.

الإعراب : تقوه : فعل أمر مبني على حذف النون ، لأن مضارعه من الأفعال الخمسة ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «هاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. أيها : «أي» : منادى مبني على الضم في محل نصب على النداء لأنه نكرة مقصودة ، و «ها» : للتنبيه ، وحرف النداء محذوف. الفتيان : بدل من (أي) مرفوع على اللفظ. إني : حرف مشبه بالفعل ، و «الياء» : ضمير متصل في محل نصب اسم (إن). رأيت : فعل ماض مبني على السكون و «التاء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل. الله : لفظ الجلالة مفعول به أول منصوب بالفتحة. قد غلب : «قد» : حرف تحقيق ، «غلب» : فعل ماض مبني على الفتح ، و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره (هو). الجدودا : مفعول به منصوب بالفتحة ، و «الألف» : للإطلاق.

وجملة «تقوه» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «غلب الجدودا» : في محلّ نصب مفعول به ثان لرأيت. وجملة «رأيت الله قد غلب» : في محل رفع خبر إن. وجملة «إني رأيت» : استئنافية لا محل لها.

٤١

فإن كان على وزن «أفعل» ففيه خلاف ، فمنهم من منع التعجّب منه في الجميع ، ومنهم من أجاز التعجب منه في الجميع ، ومنهم من فصّل.

أما الذي منعه من الجميع فقاسه على غيره من المزيدات ، والذي أجازه في الجميع رأى همزة «أفعل» التي للتعجب تعقب تلك الزيادة. والذي فصّل منع ذلك إن كانت الهمزة للنقل ، لأنّها إذ ذاك حرف معنى ، وأجاز إذا كانت لغير نقل لأنّها لا معنى لها.

والصحيح أنّه لا يجوز التعجب منه إلّا فيما شذّ من ذلك ، وهو قولهم : «ما أنتنه» ، من «أنتن» ، و «ما أخطاه» ، من «أخطأ» ، و «ما أصوبه» من «أصاب» ، و «ما آتاه للمعروف» ، و «ما أعطاه للدراهم» ، و «ما أولاه للمعروف» ، و «ما أضيعه لكذا».

والدليل على جواز «ما أضيعه لكذا» قول ذي الرمة [من الطويل] :

٤١٧ ـ وما شنّتا خرقاء واهية الكلى

سقى بهما ساق ولمّا تبلّلا

بأضيع من عينيك للماء كلّما

توهّمت ربعا أو تذكّرت منزلا

__________________

والشاهد فيه قوله : «تقوه» فقد استدل به على جواز استعمال (ما أتقاه) لأنه من تقي ، كما في السابق.

٤١٧ ـ التخريج : البيتان لذي الرمة في ملحق ديوانه ص ١٨٩٧ ـ ١٨٩٨ ؛ ومعاهد التنصيص ٣ / ٢٦٢ ؛ ولسان العرب ١١ / ٦٤ (بلل) ، ١٤ / ٣٩٣ (سقي) ؛ وأمالي القالي ١ / ٢٠٨ ؛ وتاج العروس (بلل) ، (سقي) ؛ وبلا نسبة في شرح الحماسة للمرزوقي ص ١٣٧٢.

اللغة : الشنّة : السقاء البالي ، وأراد بها هنا الدلو المهترىء. الخرقاء : التي لا تحسن عملا. الكلى : الرقعة المستديرة التي تخرز على المزادة أو الدلو. تبلل : حسنت حاله بعد الهزال. الربع : منازل الأهل.

المعنى : إن دلوين مهترئين لامرأة لا تحسن إصلاحهما ، رقعها ضعيفة ، أراد رجل أن يسقي بهما فلم يصل إلى ما يحسّن حاله ، بسبب إسالتهما الماء ، لا يضيعان الماء كما تضيعه عيناك حين تتوهّمان رؤية الأهل أو منازلهم.

الإعراب : وما : «الواو» : حسب ما قبلها ، «ما» : حجازية تعمل عمل (ليس). شنتا : اسم (ما) مرفوع بالألف لأنه مثنى. خرقاء : مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. واهية : صفة مجرورة بالكسرة. الكلى : مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الألف. سقى : فعل ماض مبني على الفتح. بهما : جار ومجرور معلقان بـ (سقى). ساق : فاعل مرفوع بضمّة مقدّرة على الياء المحذوفة بسبب التنوين. ولما : «الواو» : حالية ، «لما» : حرف جزم. تبللا : فعل مضارع مجزوم بحذف النون ، والألف فاعل. بأضيع : «الباء» : حرف جر زائد ، «أضيع» : اسم مجرور لفظا بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف ، منصوب محلّا على أنه خبر (ما). من عينيك : جار ومجرور بالياء لأنه مثنى ، متعلّقان بـ (أضيع) ، و «الكاف» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. للماء : جار ومجرور متعلقان بـ (أضيع). كلّما : ظرف يفيد التكرار منصوب بالفتحة متعلّق بـ (أضيع) ، و «ما» : مصدرية. توهّمت : فعل ماض مبني

٤٢

وأما غير المزيد فيه فلا يخلو أن يكون متصرّفا أو غير متصرف. فإن كان غير متصرّف لم يجز التعجب منه ، نحو : «نعم» ، و «بئس» ، و «عسى» وأمثالها ، وإن كان متصرفا فلا يخلو أن يكون من باب «ظننت» ، أو من باب «كان» ، أو لا يكون.

فإن كان من باب «كان» لم يجز التعجب منه لأنّه إذا بني على «فعل» لم يحتج إلى أكثر من فاعل ، فتدخل عليه همزة النقل فيصير الفاعل مفعولا ، فتقول : «ما أكون زيدا» ، فيؤدّي إلى بقاء المبتدأ دون خبر ، ولا يجوز : «ما أكون زيدا لقائم». لأنّ اللام لا تدخل على خبر المبتدأ.

وأما «ظننت» فيجوز التعجب منه ومن أخواته بشرط الاقتصار على الفاعل ، فتقول : «ما أظنّني» ، ولا تذكر المفعولين ولا أحدهما وتحذف الآخر.

أما ذكر أحدهما فيؤدي إلى بقاء الخبر دون مبتدأ والمبتدأ دون خبر ، وباطل أن تذكر المفعولين لأنّه لا بدّ من نقله إلى «فعل» ، و «فعل» لا يتعدّى. ولا يجوز دخول اللام على المفعولين ، لأنه لا يجوز دخول اللام على المبتدأ والخبر.

فإن لم يكن من باب «ظننت» ولا من باب «كان» ، فلا بد أن يكون على وزن «فعل» أو «فعل» أو «فعل». فإن كان على وزن «فعل» بضمّ العين أدخلت عليه همزة النقل وصار الفاعل مفعولا. فإن كان مفتوح العين أو مكسورها ، نقلته إلى «فعل» وحينئذ يتعجّب منه ، والدليل على ذلك شيئان :

أحدهما : أنّك إذا تعجّبت مما يتعدّى إلى مفعول واحد بقي على ما كان عليه ، فقلت : ما أضرب زيدا لعمرو! ولو كان غير منقول لفعل لوجب تعدّيه إلى مفعولين ، لأنّ همزة «أفعل» التي للتعجب للنقل ، بدليل أنّك تقول : «ما أظرف زيدا»! فيصير «ظرف» يتعدّى بعد

__________________

على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل. ربعا : مفعول به منصوب بالفتحة. أو تذكرت : «أو» : حرف عطف ، «تذكرت» : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. منزلا : مفعول به منصوب بالفتحة.

وجملة «وما شنتا بأضيع» : حسب ما قبلها. وجملة «سقى» : في محلّ رفع صفة لـ (شنتا). وجملة «تبللا» : حالية. وجملة «توهمت» : في محل جرّ بالإضافة أو صلة الموصول الحرفي لا محل لها. وذلك على جعل (ما) حرفا مصدريا ، والمصدر المؤول مضاف إليه. وجملة «تذكرت» : معطوفة عليها فهي مثلها.

والشاهد فيهما قوله : «بأضيع من عينيك للماء» حيث تعجّب من تضييعها للماء بقوله (بأضيع للماء).

٤٣

أن كان غير متعدّ ، فدلّ ذلك على أنّه منقول إلى «فعل» حتى يصير غير متعدّ.

والآخر : أنّهم إذا أرادوا التعجب من الثلاثيّ قالوا : «لفعل» ، نحو : «لشرف زيدا» ، و «لضربت يدك» ، فينقلون «فعل» و «فعل» إلى «فعل» ، ومن كلامهم : «ضربت إليك يدك» ، أي : ما أضربها!

فإن قيل : فلأيّ شيء بني على «فعل»؟ فالجواب : إنّ التعجب موضع مبالغة و «فعل» من أفعال الغرائز والطبائع ، ومن المبالغة في الفعل أن يجعل كأنّه طبع في التعجب منه. إلّا ألفاظا استغنت العرب عن التعجب منها بـ «أشدّ» وما في معناها ، وهي : «قام» ، و «قعد» ، و «نام» ، و «سكر» ، و «غضب» ، و «جلس» ، و «قال» ، من القائلة ، فلم يقولوا : «ما أقومه» ، لئلا يلتبس بـ «ما أقومه» من «استقام» ، ولم يقولوا : «ما أقعده» ، لئلا يلتبس بـ «ما أقعده من أب» ، ولم يقولوا : «ما أجلسه» ، حملا على «ما أقعد» لأنّه في معناه أو حملا على «ما أقومه» لأنّه نقيضه ، ولم يقولوا : «ما أسكره» ، لئلا يلتبس بقولهم : «ما أسكر التمر» ، إذا كان من السكّر.

وأما «ما أنومه» ، و «ما أغضبه» ، و «ما أقيله» فلم نقل استغنت عنها بالتعجب بـ «أشدّ» وما في معناها وكلّ ما ذكرنا أنّه لا يجوز التعجب منه ، فإنّ العرب إذا أرادت التعجب منه أتت بفعل يجوز أن تتعجب منه ، ونصبت مصدر ذلك الفعل الذي قصدت التعجب منه على أنّه مفعول له ، فتقول : «ما أشدّ استخراجه للمال» ، و «ما أبين حمرته» ، و «ما أسوأ عماه» ، وكذلك جميع ما لا يتعجّب منه.

[٢ ـ مذاهب النحاة في «ما»] :

وفي «ما» في ما أفعله خلاف بينهم ، فمذهب أبي الحسن الأخفش أنّها موصولة ، والفعل الذي بعدها صلة لها ، والخبر محذوف ، والتزم حذفه كما التزم حذف خبر المبتدأ الواقع بعد «لو لا» ، إذ لا يسوغ عنده أن تكون اسما تاما ، لأنّ «ما» لا تكون عنده اسما تاما إلّا في الشرط والاستفهام أو يلزمها النعت ، نحو : «مررت بما معجب لك» ، وهذا فاسد لأنه إذا جعلها موصولة كانت معرفة ، فيناقض ذلك معنى التعجب ، لأنّ التعجب لا يكون إلا من خفيّ السبب.

٤٤

فإن اعتذر بأنّ الإبهام في حذف الخبر ، فنقول : هذا الخبر لا يخلو أن يكون حذفه للدلالة عليه أو لغير دلالة ، فإن كان للدلالة عليه ، فهو بمنزلة الثابت ، فلا إبهام فيه ، وباطل أن يكون لغير دلالة ، لأنّ الحذف من غير دليل غير موجود في كلام العرب ، وأيضا فإنه يؤدي جعلها اسما تاما والفعل الذي بعدها في موضع الخبر إلى الابتداء بالنكرة من غير شرط.

وأيضا فإنّ هذا المذهب يؤدي إلى ادعاء حذف ما لم يلفظ به في موضع من المواضع ، ولو كانت بمنزلة «الذي» للفظ بخبرها في موضع.

ومذهب سيبويه ، رحمه‌الله ، أنها اسم تامّ بغير صفة ولا صلة ، وما بعدها في موضع الخبر.

فإن قيل : إنّ ذلك يؤدي إلى ما ذكره أبو الحسن الأخفش من الابتداء بالنكرة من غير شرط ، فالجواب : إنّ الذي سوّغ الابتداء بالنكرة ما دخل الكلام من معنى التعجّب ، فجاز لذلك كما جاز : «عجب لزيد».

فإن قيل : فإنّ «ما» لم تقع تامة من غير صلة ولا صفة إلّا في الشرط والاستفهام ، فالجواب : إنّ ذلك قد جاء قليلا ، حكي من كلامهم : «غسلته غسلا نعمّا» ، و «لأمر ما جدع قصير أنفه» (١). ألا ترى أنّ «ما» لا يخلو أن تكون زائدة أو غير زائدة. وباطل أن تكون زائدة لأنّه يؤدي إلى إخلاء الفعل ، وهو «نعم» ، من فاعل ظاهر أو مضمر ، فثبت أنّها اسم وليس لها صلة.

والصحيح إذن مذهب سيبويه رحمه‌الله.

[٣ ـ مذاهب النحاة في «أفعل»] :

وفي «أفعل» أيضا خلاف بين النحويين. فمنهم من ذهب إلى أنّه اسم (٢) واستدلّ على

__________________

(١) هذا القول من أمثال العرب ، وقد ورد في أمثال العرب ص ١٤٦ ؛ وخزانة الأدب ٨ / ٢٧٥ ، ٩ / ٣٢٠ ؛ والدرّة الفاخرة ١ / ١٠٦ ؛ والمستقصى ٢ / ٢٤٠ ؛ ومجمع الأمثال ٢ / ١٩٦ ؛ والوسيط في الأمثال ص ٢٠٣.

وقصير هو صاحب جذيمة الأبرش ، وهو الذي أخذ بثأره من الزبّاء التي قالت هذا القول عند ما رأت قصيرا يدخل المدينة وقد جدع أنفه تمويها واحتيالا.

(٢) انظر المسألة الخامسة عشرة من مسائل الإنصاف في مسائل الخلاف ص ١٢٦ ـ ١٤٨.

٤٥

ذلك بأنّه قد صغّر ، والتصغير إنّما هو من خواصّ الأسماء ، كقوله [من البسيط] :

يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا

من هؤليّائكنّ الضّال والسمر (١)

واستدل بأنّه لا يتصرّف ولا مصدر له.

وهذا لا حجة فيه ، أما تصغيره فقد يمكن أن يكون في ذلك مثل قولهم : «هذا حبّ رمّاني» ، أعني في أنك أردت أن تضيف «الحبّ» إلى نفسك فأضفت «الرمان» ، فكذلك أردت أن تصغّر «ما» التي هي سبب التعجب ، فصغّرت الفعل ، ومثل ذلك قولهم : «قامت هند» ، في أنّك ألحقت الفعل علامة التأنيث والمراد الفاعلة ، فكذلك هذا.

وأما عدم تصرفه وأنّه لا مصدر له ، فقد وجد من الأفعال ما هو على هذه الصفة كـ «عسى».

ومنهم من ذهب إلى أنّه فعل ، واستدلّ على ذلك ببنائه على الفتح ، ولو كان اسما لكان معربا إذ لا موجب لبنائه ، واستدلّ أيضا بنصبه للمفعول ، ولو كان اسما لم يجز ذلك فيه إذ ليس هو من قبيل الفاعلين والمفعولين ، ولا من قبيل المصادر المقدّرة بـ «أن» والفعل ، ولا من قبيل الأسماء الموضوعة موضع الفعل.

[٤ ـ التعجب من صفة فيما يستقبل] :

ولا يجوز التعجب من صفة فيما يستقبل إلّا أن يكون في الحال ما يدل على أنّ المتعجّب منه ينتهي إلى صفة يجوز التعجب من مثلها ، نحو : «ما أحسن ما تكون هذه الجارية» ، و «ما أطول ما يكون هذا الزرع».

[٥ ـ زمن التعجب] :

واختلف في زمن فعل التعجب ، فمنهم من ذهب إلى أنّه بمعنى الحال ، واستدلّ بأنّك

__________________

(١) تقدم بالرقم ١٨.

٤٦

لا تقول : «ما أحسن زيدا» ، إلا وهو في الحال حسن ، وإذا أردت الماضي أدخلت «كان» ، فقلت : «ما كان أحسن زيدا».

ومنهم من ذهب إلى أنّه بمعنى المضيّ ، إبقاء للصيغة على بابها ، إلّا أنه يدلّ على الماضي المتصل بزمان الحال ، فيحصل الحال بحكم الانجرار. فإذا أردت الماضي المنقطع أتيت بـ «كان». وهذا المذهب أولى لما فيه من إبقاء اللفظ على بابه ، ألا ترى أن «أفعل» صيغة الماضي.

[٦ ـ المجيء بـ «كان» في التعجب] :

وإذا أتيت بـ «كان» فلا يخلو أن تأتي بها بعد الفعل أو قبله أو بعده وقبله. فإن أتيت بها قبل الفعل ، فقلت : «ما كان أحسن زيدا» ، ففي ذلك خلاف بين النحويين. فمنهم من ذهب إلى أنّ «كان» زائدة و «أحسن» في موضع الخبر. ومنهم من ذهب إلى أنّها في موضع خبر «ما» ، واسمها مضمر فيها يعود على «ما» ، والجملة التي هي «أفعل» وفاعلها ومفعولها في موضع خبرها.

وهذا فاسد ، لأنّ «ما» التعجبية لا يكون خبرها إلا على وزن «أفعل» ، إلا فيما جاء من هذا محذوف الهمزة ، نحو قولهم : «ما خير اللبن للصّحيح ، وما شرّه للمبطون (١)»! والذاهبون إلى أنّها زائدة اختلفوا فيها ، فمنهم من جعل لها فاعلا ، وهو مضمر المصدر ، وهو السيرافي ، ومنهم من ذهب إلى أنها مفرغة ليس لها فاعل ، وهو أبو علي الفارسي.

واستدلّ السيرافي على صحة مذهبه بأن الفعل لا بد له من فاعل ، وتكون على مذهبه تامة.

واستدلّ الفارسيّ على صحة مذهبه بأنّ زيادة المفرد أولى من زيادة الجملة ، وإذا كانت مفرغة كانت من قبيل المفردات.

فإن قيل : إنّها فعل ، والفعل لا بد له من فاعل ، فالجواب : إنّ الفعل إذا استعمل

__________________

(١) المبطون : من به داء في البطن.

٤٧

استعمال ما لا يحتاج إلى فاعل استغنى عن الفاعل ، دليل ذلك «قلّما» فإنّها لما استعملت استعمال «ما» في أنّ المراد بها النفي ، لم تحتج إلى فاعل. فكذلك «كان» لمّا استعملت للدلالة على الزمن الماضي ولم يرد بها أكثر من ذلك استغنت عن الفاعل ، كما استغنى عنه الظرف ، نحو : «أمس».

وإن أتيت بـ «كان» بعد الفعل ، فلا بد من إدخال «ما» المصدرية على «كان» ، فتقول : «ما أحسن ما كان زيد» ، برفع «زيد» على أنّه فاعل «كان» ، و «ما» مصدرية ، وهي مع ما بعدها في موضع مفعول فعل التعجب ، كأنّه في التقدير : «ما أحسن كون زيد»! ومنهم من أجاز نصب «زيد» على أن تكون «ما» بمنزلة «الذي» ، و «كان» ناقصة واسمها مضمر فيها يعود على «ما» و «زيد» خبرها. وهذا فاسد من جهة المعنى ، ألا ترى أنّ المعنى إذ ذاك : ما أحسن الذي كان زيد ، ويغني عن ذلك : ما أحسن زيدا. وأيضا فإنّ «ما» المصدرية لا ينبغي أن تدخل إلّا على ما له مصدر ، وهو الفعل التام.

فإن كرّرت «كان» كانت كل واحدة منهما على ما استقرّ فيها قبل التكرار.

[٧ ـ الأفعال التي تزاد في التعجب] :

ولا يزاد في هذا الباب من الأفعال إلّا «كان» عند أهل البصرة ، وقاس أهل الكوفة على ذلك سائر أخواتها ما لم يناقض معنى الفعل المزيد فيه معنى التعجب ، وحكوا من كلام العرب : «ما أصبح أبردها» ، و «ما أمسى أدفأها» ، يعني الدنيا. ومنهم من أجاز زيادة كل فعل لا يتعدّى ، نحو : «ما قام أحسن زيدا» ، إذا أردت : ما أحسن قيام زيد فيما مضى ، واستدلّ على ذلك بقوله [من الوافر] :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (١)

ف «قام» زائدة ، والمعنى : علام يشتمني لئيم.

وكذلك استدل بقول الآخر [من البسيط] :

فالآن قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب (٢)

__________________

(١) تقدم بالرقم ٢٧٣.

(٢) تقدم بالرقم ١٤٠.

٤٨

فـ «اذهب» زائدة ، وحكوا من كلام العرب : فلان قعد يتهكّم بعرض فلان. على زيادة قعد ، وحكى الكسائي : «ما مرّ أغلظ أصحاب موسى» ، على معنى : أغلظ ما مرّوا ، وهذا من القلة والشذوذ بحيث لا يقاس عليه.

ولا يجوز تقديم معمول فعل التعجب على «ما» ولا على فعل التعجب نفسه. واختلف في الفصل بينه وبين معموله بالظرف والمجرور ، فمنهم من أجاز ، ومنهم من منع. فالمانع يحتجّ بضعف هذا الفعل وقلّة تصرّفه ، والذي يجيز يحتج بأنّ ذلك قد جاء في الحرف مع أنّ الحرف أضعف من الفعل ، فالأحرى أن يجوز مع الفعل ، وذلك نحو قولك : «إنّ بك زيدا مأخوذ»

فإن قيل : إنّ الحرف قد خرج من الباب الأضعف إلى الباب الأقوى لشبهه بالفعل ، وفعل التعجب خرج من الباب الأقوى وهو الفعل إلى الباب الأضعف وهو الحرف ، فالجواب : إنّ فعل التعجب قويّ الأصل لأنّه فعل ، و «إنّ» ضعيفة الأصل لأنها حرف ، فلا أقلّ من أن يكونا في رتبة واحدة.

والصحيح أنّ ذلك جائز. وحكي من كلام العرب : «ما أحسن بالرجل أن يصدق» ، ومن كلام عمرو بن معديكرب : «لله درّ بني مجاشع ، ما أكثر في الهيجاء لقاءها ، وأكثر في اللزبات عطاءها»!

فصل

[٨ ـ صيغة «أفعل به»] :

و «أفعل به» في معنى «ما أفعله» ، ولا يجوز بناؤه إلّا فيما بني منه «ما أفعله». واختلف في المجرور ، فمنهم من جعله في موضع رفع ، ومنهم من جعله في موضع نصب ، فالذي جعله في موضع رفع استدلّ على ذلك بأنّ «أفعل» فعل والفعل لا بدّ له من فاعل ، ولا فاعل ملفوظ به ولا مقدّر ، إذ لو كان مضمرا لبرز في بعض الأحوال ، فدلّ ذلك على أنّ المجرور فاعل ، والباء زائدة.

جمل الزجاجي / ج ٢ / م ٤

٤٩

فإن قيل : لو كانت زائدة لم تلزم كما لم تلزم في مثل : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً)(١). فالجواب : إنّ الباء لزمت هنا إصلاحا للفظ ، وذلك أنّ فعل الأمر بغير لام لا يكون فاعله مظهرا إلّا في هذا الباب ، فدخلت الباء حتى يصير في اللفظ كأنّه مفعول ، فإن قيل : فلأيّ شيء جاء فاعله مظهرا وهو أمر؟ فالجواب : إنّه إنّما جاء ذلك لأنّه ليس بأمر صحيح ، ألا ترى أنّ معناه التعجب ، ونظير ذلك في أنّ اللفظ لفظ الأمر والمعنى على غير ذلك قول الله تبارك وتعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا)(٢). فمعناه : فيمدّ. وهذا الأمر من «أفعل» الذي معناه : صار ذا كذا ، نحو : «أبقلت الأرض» ، أي : صارت ذات بقل ، و «أجنى الشجر» ، صار : ذا جنى ، ودليل ذلك أنّ همزته همزة قطع ، ولو كان من فعل ثلاثي لكانت همزته همزة وصل.

ومنهم من جعل فاعله مضمرا وجعل المجرور في موضع مفعول. وهؤلاء اختلفوا فمنهم من جعل الضمير يعود على الحسن ، كأنّه قال : أحسن يا حسن زيدا ، ولذلك كان مفردا على كلّ حال.

ومنهم من جعل الضمير عائدا على المخاطب ، ولم يبرز في تثنية ولا جمع لأنه جرى مجرى المثل. وهذان المذهبان فاسدان ، بدليل أنّه لو كان كذلك ، لم يخل أن يكون منقولا من «أفعل» المتعدّية أو من «أفعل» غير المتعدّية. وباطل أن يكون من «أفعل» المتعدّية ، إذ لو كان كذلك لوجب أن يقول : «أحسن زيدا» ، فتوصله إلى المفعول بنفسه ، فثبت أنّه منقول من «أفعل» غير المتعدّية. وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّ الظاهر في موضع الفاعل ، وهذا مع أنّ أحد الوجهين فاسد ، بدليل عدم الظهور في التثنية والجمع ، أعني مذهب من زعم أنّ الفاعل ضمير المخاطب.

[٩ ـ التعجّب من الفعل الثلاثيّ] :

ويجوز التعجب من كلّ فعل ثلاثيّ تنقله إلى «فعل» مضموم العين ، وإذا فعلت ذلك به

__________________

(١) الرعد : ٤٣.

(٢) مريم : ٧٥.

٥٠

صار غير متعدّ أيضا ، ويجوز دخول الباء على فاعله زائدة ولا تلزم ، فتقول : «ضرب زيد» ، و «ضرب بزيد» ، في معنى : «ما أضربه» ، ولا يلزم فاعله أن يكون معرّفا بالألف واللام ، فتقول : «لضربت يدك» ، و «لضربت اليد». ومن زيادة الباء قوله [من المديد] :

٤١٨ ـ حبّ بالزور الذي لا يرى

منه إلّا صفحة أو لمام

وإذا بنيته من فعل معتلّ اللام من ذوات الياء ، قلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها كـ «رمو الرجل» ، في معنى : ما أرماه ، ومن كلام العرب : «لسرور الرجل» ، في معنى : ما أسراه. ويعرض في هذا الباب اللبس بين التعجب والنفي والاستفهام مع كل فعل في آخره نون إذا اتصل به ضمير متكلم عند من لا بصر له بكلام العرب. لكنّ الذي يؤمن اللبس في ذلك أن يعلم أنّ «أفعل» في التعجب فعل ، فإن اتصل به ضمير نصب للمتكلم ، فلا بدّ من إلحاق نون الوقاية في حال الإفراد ، و «أفعل» في الاستفهام اسم فلا يحتاج إلى نون الوقاية في حال من الأحوال ، و «أفعل» في النفي فعل إلا أن المتصل به ضمير رفع ، فلا بدّ من تسكين آخر الفعل فتقول في التعجب في الإفراد : «ما أحسنني» ، وفي التثنية والجمع : «ما أحسننا» ، وتقول في الاستفهام في الإفراد : «ما أحسنني»؟ وفي التثنية والجمع : «ما أحسننا»؟

__________________

٤١٨ ـ التخريج : البيت للطرماح بن حكيم في ديوانه ص ٣٩٣ ؛ والدرر ٥ / ٢٣٢ ؛ وشرح التصريح ٢ / ٩٩ ؛ وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٥٤ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٣٨٠ ؛ ولسان العرب ٤ / ٣٣٥ (زور) ؛ والمقرب ١ / ٧٨ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ٨٩.

شرح المفردات : الزور : الزائر. الصفحة : هنا جانب الوجه. اللمام : ج اللمّة ، وهي الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن.

المعنى : يقول : أحبب بالزائر الذي لا يرى منه إلا جانب وجهه أو بعض شعر وجهه ، أي بالزائر الخفيف الظلّ.

الإعراب : «حبّ» : فعل ماض جامد لإنشاء المدح. «بالزور» : الباء حرف جرّ زائد ، «الزور» : اسم مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه فاعل «حبّ». «الذي» : اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع نعت «الزور». «لا» : حرف نفي. «يرى» : فعل مضارع للمجهول. «منه» : جار ومجرور متعلّقان بـ «يرى». «إلّا» : حرف حصر. «صفحة» : نائب فاعل مرفوع. «أو» : حرف عطف. «لمام» : معطوف على «صفحة» مرفوع ، وسكّن للضرورة الشعريّة.

وجملة : «حبّ بالزور» ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «لا يرى ...» صلة الموصول لا محلّ لها من الإعراب.

الشاهد فيه قوله : «حبّ بالزور» حيث جاء بفاعل «حبّ» التي تفيد معنى «نعم» مقترنا بالباء الزائدة ، وذلك من قبل أنّ المعنى قريب من معنى صيغة التعجّب.

٥١

برفع «أحسن». وتقول في النفي في الإفراد : «ما أحسنت» ، وفي التثنية والجمع : «ما أحسنّا».

واعلم أنّ كلّ فعل يتصل به ضمير المتكلم المنصوب فإنه يلزمه نون الوقاية إلا فعل التعجب ، فإنّك في إلحاقها بالخيار ، وسبب ذلك شبهه بالاسم وإذا كانوا قد يتركونها في مثل قوله [من الوافر] :

٤١٩ ـ [تراه كالثّغام يعلّ مسكا]

يسوء الفاليات إذا فليني

مع أنّه لم يخرج عن أصله كفعل التعجب. فأقلّ مراتب هذا أن يجوز فيه ذلك.

__________________

٤١٩ ـ التخريج : البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٨٠ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٣٧١ ، ٣٧٢ ، ٣٧٣ ؛ والدرر ١ / ٢١٣ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠٤ ؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ٢١٣ ؛ والكتاب ٣ / ٥٢٠ ؛ ولسان العرب ١٥ / ١٦٣ (فلا) ؛ والمقاصد النحوية ١ / ٣٧٩ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٨٥ ؛ وجمهرة اللغة ص ٤٥٩ ؛ وشرح المفصل ٣ / ٩١ ؛ ولسان العرب ٢ / ٢٤٦ (حيج) ؛ والمنصف ٢ / ٣٣٧ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٦٥.

اللغة : الثغام : نبت إذا يبس ابيض لونه. يعل : يشرب بعد الشربة الأولى. يفلي : يفتش في الشعر عن القمل.

المعنى : ترى شعرك أصبح مختلطا أسوده بأبيضه ، نعم وهذا ما يسوء الغانيات فيبتعدن عني ، فقد أصبح هذا الشعر لك وحدك.

الإعراب : تراه : فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف للتعذر ، و «الهاء» : ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، و «الفاعل» : ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت. كالثغام : جار ومجرور متعلقان بحال محذوفة. يعل : فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بالضمة الظاهرة ، و «نائب الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره هو. مسكا : تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره. يسوء : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره هو. الغانيات : مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم. إذا : ظرف مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل يسوء. فليني : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة المحذوفة ، و «الياء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل ، و «الياء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل.

وجملة «تراه» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «يعل مسكا» : في محل نصب حال. وجملة «يسوء» : في محل نصب حال. وجملة «فليني» في محل جر بالإضافة.

والشاهد فيه قوله : «فليني» حيث حذفت نون النسوة والأصل فيه (فلينني) وبقيت نون الوقاية لأنها الصون للفعل ووقاية له.

٥٢

باب «ما»

كلّ حرف يليه الاسم مرّة والفعل أخرى ، فبابه أن لا يعمل ، وما انفرد بأحدهما ولم يكن كالجزء منه عمل فيما انفرد به.

وتحرّزت بقولي : «ولم يكن كالجزء منه» ، من السين ، وسوف ، وقد ، ولام التعريف. ألا ترى أنّ اللام تنفرد بها الأسماء ولا تعمل مع ذلك فيها ، لأنّها تنزّلت منزلة الجزء منها ، ولذلك لم يعتدّ بها فاصلة بين العامل في الاسم وبين الاسم في نحو : «مررت بالرجل» ، فلو لا أنّها كالجزء من الاسم لم يجز الفصل بها بين حرف الجر والمجرور.

وكذلك قد والسين وسوف ، تنزّلت من الفعل منزلة حرف من حروفه بدليل دخول اللام عليها ، قال الله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(١). فلو لا أنّها بمنزلة حرف من حروف الفعل لما جاز الفصل بها بين اللام والفعل بـ «أنّ» وأخواتها. وحروف الجر إنّما عملت في الأسماء لانفرادها بها ، والنواصب والجوازم إنّما عملت في الأفعال لانفرادها بها ، وما لم ينفرد نحو همزة الاستفهام وما أشبهها فإنّه غير عامل.

و «ما» لم تختص ، فكان القياس فيها أن لا تعمل ، إلّا أنّها لما كان لها شبهان : شبه عام وشبه خاص عملت.

فشبهها العام شبهها بالحروف غير المختصة في كونها تليها الأسماء والأفعال ، وشبهها الخاص شبهها بـ «ليس» ، وذلك أنّها للنفي كما أنّ «ليس» كذلك ، وداخلة على المبتدأ والخبر كما

__________________

(١) الضحى : ٥.

٥٣

أنّ «ليس» كذلك ، وتخلص الفعل المحتمل للحال كما أنّ «ليس» كذلك ، تقول : «ما زيد يقوم» ، فيكون المعنى على الحال ، وكذلك «ليس زيد يقوم» ، فمن راعى فيها الشبه العام لم يعملها وهم بنو تميم ، ومن راعى شبهها الخاص أعملها وهم الحجازيون ، وذلك بشروط.

منها أن لا يقع بعدها «إن» ، نحو قولك : «ما إن زيد قائم» ، فإن وقعت بعدها «إن» بطل عملها ، نحو قول الشاعر [من الوافر] :

٤٢٠ ـ فما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

ومنها أن لا يدخل على الخبر حرف يقتضي الإيجاب ، نحو : «ما زيد إلّا قائم». ومنها أن لا يتقدّم خبرها على اسمها ما لم يكن ظرفا أو مجرورا ، فإن كان ظرفا أو مجرورا ففيه خلاف بين النحويين ، وسيبيّن إن شاء الله تعالى ، فأما قول الشاعر [من الطويل] :

٤٢١ ـ وما الدهر إلّا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا

__________________

٤٢٠ ـ التخريج : البيت لفروة بن مسيك في الأزهية ص ٥١ ؛ والجنى الداني ص ٣٢٧ ؛ وخزانة الأدب ٤ / ١١٢ ، ١١٥ ؛ والدرر ٢ / ١٠٠ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠٦ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٨١ ؛ ولسان العرب ١ / ٥٥٤ (طبب) ؛ ومعجم ما استعجم ص ٦٥٠ ؛ وللكميت في شرح المفصل ٨ / ١٢٩ ؛ وللكميت أو لفروة في تلخيص الشواهد ص ٢٧٨ ؛ وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٠٧ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ١٤١ ، ٢١٨ ؛ والخصائص ٣ / ١٠٨ ؛ ورصف المباني ص ١١٠ ، ٣١١ ؛ وشرح المفصل ٥ / ١٢٠ ، ٨ / ١١٣ ؛ والكتاب ٣ / ١٥٣ ، ٤ / ٢٢١ ؛ والمحتسب ١ / ٩٢ ؛ والمقتضب ١ / ٥١ ، ٢ / ٣٦٤ ؛ والمنصف ٣ / ١٢٨ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٢٣.

اللغة : طبّنا : عادتنا أو شأننا. منايانا : ميتاتنا ، جمع منيّة وهي الموت. الدولة : الغلبة والانتصار في الحرب.

المعنى : ليس الخوف والجبن من عادتنا ، ولكن أقدارنا حكمت علينا بانتصار الآخرين علينا.

الإعراب : فما : «الفاء» : استئنافية ، «ما» : نافية تعمل عمل ليس. إن : زائدة كفّت «ما» عن العمل. طبنا : مبتدأ مرفوع بالضمّة ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. جبن : خبر مرفوع بالضمّة. ولكن : «الواو» : للاستئناف ، «لكن» : حرف استدراك لا عمل لها. منايانا : مبتدأ مرفوع بضمّة مقدرة على الألف ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. وخبرها محذوف تقديره (منايانا حلّت أو قدّرت). ودولة : «الواو» : للعطف ، «دولة» اسم معطوف على (منايا) مرفوع مثله. آخرينا : مضاف إليه مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم ، و «الألف» : للإطلاق.

وجملة «طبنا جبن» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «منايانا قدّرت» : استئنافية كذلك.

والشاهد فيه قوله : «ما إن» حيث زيدت (إن) للتوكيد بعد (ما) فبطل عمل (ما).

٤٢١ ـ التخريج : البيت لأحد بني سعد في شرح شواهد المغني ص ٢١٩ ؛ وبلا نسبة في تخليص

٥٤

فأعمل «ما» مع دخول حرف الإيجاب وهو «إلّا» على الخبر فيتخرّج على وجهين :

أحدهما : أن يكون «منجنونا» اسما موضوعا موضع المصدر الموضوع موضع الفعل الموضوع موضع خبر «ما» ، ويكون تقديره : وما الدهر إلّا يجنّ جنونا بأهله ، ثم حذف «يجنّ» الذي هو خبر «ما» ، وأقام المصدر مقامه الذي هو جنون ، فبقي : وما الدهر إلّا جنون ، كما تقول : «ما أنت إلّا شربا» ، تريد : تشرب شربا. هذا في موضع الكثرة مقيس ، ثم أوقع «منجنونا» موقع «جنون».

والآخر أن يكون «منجنونا» اسما في موضع الحال ، ويكون خبر «ما» محذوفا تقديره : وما الدهر إلّا موجودا على هذه الصفة ، أي : مثل المنجنون وهو السانية ، يريد أنّه لا يستقر على حالة واحدة.

وأما قوله : «وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا» ، فـ «معذّبا» مصدر تقديره : إلّا يعذّب معذّبا ، أي : تعذيبا ، وذلك أنّ كلّ اسم مفعول من فعل زائد على ثلاثة أحرف فإنّه يكون

__________________

الشواهد ص ٢٧١ ؛ والجنى الداني ص ٣٢٥ ؛ وخزانة الأدب ٤ / ١٣٠ ، ٩ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ؛ والدرر ٢ / ٩٨ ، ٣ / ١٧١ ؛ ورصف المباني ص ٣١١ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٢١ ؛ وشرح التصريح ١ / ١٩٧ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٧٥ ؛ ومغني اللبيب ص ٧٣ ؛ والمقاصد النحوية ٢ / ٩٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٢٣ ، ٢٣٠.

شرح المفردات : المنجنون : الدولاب الذي يستقى عليه ، وهو مؤنث.

المعنى : يقول : إنّ الدهر يدور بالناس كما يدور المنجنون ، وأشدّ ما يتعذّب في هذه الحياة هو صاحب الحاجات لكثرة العقبات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق أهدافه.

الإعراب : «وما» : الواو بحسب ما قبلها ، و «ما» : من أخوات «ليس». «الدهر» : اسم «ما» مرفوع. «إلا» : حرف استثناء وحصر. «منجنونا» : خبر «ما» منصوب. «بأهله» : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف نعت لـ «منجنون» ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. «وما» : الواو حرف عطف ، و «ما» : من أخوات «ليس». «صاحب» : اسم «ما» مرفوع ، وهو مضاف ، «الحاجات» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «إلّا» : حرف حصر واستثناء. «معذّبا» : خبر «ما» منصوب.

وجملة «ما الدهر ..» بحسب ما قبلها. وجملة «ما صاحب ..» معطوفة على سابقتها.

الشاهد فيه : إعمال «ما» مع انتقاض خبرها بـ «إلّا» ، وهذا شاذّ ، وخرّج على أنّه بتقدير : وما الدهر إلّا يشبه منجنونا ، وما صاحب الحاجات إلّا يشبه معذّبا ، فهما منصوبان بالفعل الواقع خبرا. وقيل : إن «منجنونا» منصوب على الحال ، والخبر محذوف ، أي : وما الدهر إلّا مثل المنجنون لا يستقرّ على حاله ، وعلى هذا تكون عاملة قبل انتقاض نفيها ، وكذا يكون التقدير في الثاني ، أي : وما صاحب الحاجات موجودا إلّا معذبا ، ولا تقدّر هنا «مثل» ، لأنّ الثاني هو الأوّل.

٥٥

للمفعول والمصدر والزمان على صيغة واحدة. وأما قوله [من البسيط] :

٤٢٢ ـ فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

فنصب «مثل» مع تقديم الخبر على الاسم وليس بظرف ولا مجرور ، ففيه سبعة أقوال للنحويين ، فمنهم من جعله شاذّا ، وهو مذهب سيبويه رحمه‌الله. ومنهم من قال : البيت للفرزدق فاستعمل لغة غيره فغلط ، لأنّه قاس النصب مع التقديم على النصب مع التأخير ، وهذا باطل لأنّ العربي إذا جاز له القياس على لغة غيره جاز له القياس في لغته ، فيؤدي ذلك إلى فساد لغته.

ومنهم من قال : إنّما نصبه ضرورة لئلا يختلط المدح بالذم ، لأنّك إذا قلت : «ما مثلك أحدا» ، نفيت عنه الأحدية فاحتمل أن يكون مدحا وذما ، فإذا نصبت مثلك ورفعت أحدا كان الكلام مدحا ، فلذلك نصب «مثلهم» في البيت.

وهذا باطل ، لأنّ ما قبله وما بعده يدلّ على أنّه قصد المدح.

ومنهم من قال : هو منصوب على الحال والخبر محذوف وهو العامل في الحال.

__________________

٤٢٢ ـ التخريج : البيت للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨٥ ؛ والأشباه والنظائر ٢ / ٢٠٩ ، ٣ / ١٢٢ ؛ وتخليص الشواهد ص ٢٨١ ؛ والجنى الداني ص ١٨٩ ، ٣٢٤ ، ٤٤٦ ؛ وخزانة الأدب ٤ / ١٣٣ ، ١٣٨ ؛ والدرر ٢ / ١٠٣ ، ٣ / ١٥٠ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٦٢ ؛ وشرح التصريح ١ / ١٩٨ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٢٣٧ ، ٢ / ٧٨٢ ؛ والكتاب ١ / ٦٠ ؛ ومغني البيت ص ٣٦٣ ، ٥١٧ ، ٦٠٠ ؛ والمقاصد النحويّة ٢ / ٩٦ ؛ والمقتضب ٤ / ١٩١ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٢٤ ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣١٢ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٢٢ ؛ ومغني اللبيب ص ٨٢ ؛ والمقرب ١ / ١٠٢.

المعنى : إنّهم قد أعيدوا إلى كرمهم المعهود ، وهم من قريش أشرف بني البشر.

الإعراب : «فأصبحوا» : الفاء بحسب ما قبلها ، «أصبحوا» : فعل ماض ناقص ، والواو ضمير في محلّ رفع اسم «أصبح» ، والألف فارقة. «قد» : حرف تحقيق. «أعاد» : فعل ماض. «الله» : اسم الجلالة فاعل مرفوع. «نعمتهم» : مفعول به منصوب ، وهو مضاف ، و «هم» : ضمير في محلّ جرّ بالإضافة. «إذ» : حرف تعليل. «هم» : ضمير رفع منفصل .. مبتدأ. «قريش» : خبر مرفوع. «وإذ» : الواو حرف عطف ، و «إذ» : حرف تعليل. «ما» : من أخوات «ليس». «مثلهم» : خبر «ما» مقدّم منصوب ، وهو مضاف ، و «هم» : ضمير في محلّ جرّ بالإضافة. «بشر» : اسم «ما» مؤخّر مرفوع بالضمّة.

وجملة : «فأصبحوا ...» بحسب ما قبلها. وجملة : «قد أعاد الله نعمتهم» في محلّ نصب خبر «أصبح». وجملة : «هم قريش» تعليليّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة «إذ ما مثلهم بشر» معطوفة على جملة «هم قريش».

الشاهد فيه قوله : «إذ ما مثلهم بشر» ، حيث عملت «ما» الحجازية مع تقدّم خبرها على اسمها ، وليس بظرف ولا مجرور.

٥٦

تقديره : وإذا ما مثلهم في الوجود.

وهذا باطل لأنّ معاني الحروف لا تعمل مضمرة.

ومنهم من جعله ظرفا بمنزلة بدل ، وهم أهل الكوفة ، واستدلّوا على صحة مذهبهم بقول المهلّب بن أبي صفرة : ما يسرني أن يكون لي ألف فارس مثل بيهس لأنّي لو رأيتهم يتسامون لقلت لعلّهم يتسامون لواذا. فقالوا : محال أنّه لا يسرّه أن يكون له ألف فارس كلّ واحد منهم مثل بيهس وإنّما المعنى أنّه لا يسرّه أن يكون له ألف فارس بدل بيهس لشجاعته وإقدامه في الحروب.

وهذا الذي قاله أهل الكوفة لا حجّة فيه ، لأنّ العرب إذا قالت : «مررت برجال مثلك» ، كان لهم في ذلك وجهان : أحدهما أن يكون : مررت برجال كلّهم كلّ واحد منهم مثلك. والآخر : أن يكون المعنى : مررت برجال كلّهم إذا اجتمعوا مثلك ، فعلى هذا يكون «ما يسّرني أن يكون لي ألف فارس مثل بيهس» ، يعني أنّه لا يسرّه أن يكون له ألف فارس كلّهم إذا اجتمعوا مثل بيهس وحده ، لأنّ شجاعة ألف فارس إذا كانت مجتمعة في فارس واحد كان أولى من افتراقها في أشخاص كثيرة ، لأنّه متى حضر كان بمنزلة ألف فارس ، وألف فارس إذا تفرقوا فقد يكون ذلك سببا لضعفهم.

ومنهم من قال : «مثل» منصوب على الظرف وكأنّه في الأصل صفة لظرف تقديره قبل الحذف : إذ ما مكانا مثل مكانهم بشر ، ثمّ حذف الموصوف وقامت الصفة مقامه ، فأعربت بإعرابه فصار : إذ ما مثل مكانهم بشر.

وهذا باطل لأنّه تقدّم أنه لا يحذف الموصوف إلّا إذا كانت الصفة خاصة ، و «مثل» ليس من الصفات الخاصة ، أو يتقدّم ما يدلّ على المحذوف.

ومنهم من قال : إنّ «ما» هنا لم تعمل شيئا ، ولا شذوذ في البيت. وذلك أنّها أضيفت إلى مبنيّ ، فبنيت على الفتح بمنزلة قوله : «يومئذ» و «حينئذ» ، وهو الصحيح.

فأما إن كان خبر «ما» ظرفا أو جارّا ومجرورا ففيه خلاف ، فمنهم من أجاز تقديمه على الاسم ، ومنهم من منع من ذلك.

والذين أجازوا هم البصريون قياسا على «إنّ» التي يتقدّم خبرها على اسمها إذا كان ظرفا أو مجرورا ، والذي منع هو أبو الحسن الأخفش ، ومنع أن يقاس هذا على «إنّ» لأنّها أقوى

٥٧

من «ما» ، وذلك أنّها اختصّت بما دخلت عليه ، و «ما» ليست كذلك. والصحيح أنّ ذلك يجوز بدليل قوله تبارك وتعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(١). فـ «حاجزين» خبر «ما» ، وهو منصوب ، فثبت أنّها حجازية وقد فصل بينها وبين اسمها بمجرور الذي هو «منكم» ، فإذا فصل بين «ما» واسمها بمجرور ليس في موضع خبرها الذي لا يجوز في «إنّ» إلّا قليلا ، كقول الشاعر [من الطويل] :

فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها

أخاك مصاب القلب جمّ بلابله (٢)

فالأحرى أن يجوز بالمجرور الذي هو في موضع الخبر الجائز في «إنّ» في فصيح كلام العرب نحو : «إنّ في الدار زيدا»

[١ ـ دخول الباء على خبر «ما»] :

ويجوز دخول الباء على الخبر ، وفي دخولها خلاف ، فمنهم من لا يدخلها إلّا مع التأخير ، وذلك حيث ينصب الخبر ، ولا يجيز دخولها مع التقديم.

ومنهم من أجاز دخولها مع التقديم والتأخير في اللغتين معا ، وهو الصحيح بدليل قول الشاعر [من الوافر] :

٤٢٣ ـ أما والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا القمين

__________________

(١) الحاقة : ٤٧.

(٢) تقدم بالرقم ٣٠٠.

٤٢٣ ـ التخريج : البيت بلا نسبة في خزانة الأدب ٤ / ١٤١ ، ١٤٣ ، ١٤٥ ، ١٠ / ٨٢ ؛ والجنى الداني ص ٢٢٢ ؛ وجواهر الأدب ص ١٩٧ ؛ والدرر ٤ / ٩٦ ، ٢١٩ ؛ ورصف المباني ص ١١٦ ؛ وشرح التصريح ٢ / ٢٣٣ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ١١١ ؛ ومغني اللبيب ١ / ٣٣ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠٩ ؛ والمقرب ١ / ٢٠٥ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ١٨ ، ٤١.

اللغة : القمين : الجدير بالشيء.

المعنى : يقسم بالله ـ جلّ وعلا ـ أنه كان قاتله ، أو بارزه ، أو هاجاه ، لو كان حرّا سيّدا ، ولكنه ليس حرّا ولا جديرا بأن يكون كذلك.

الإعراب : «أما» : حرف استفتاح. «والله» : «الواو» : واو القسم ، «الله» : لفظ الجلالة مجرور بواو القسم ، والجار والمجرور متعلّقان بفعل القسم المحذوف. «أن» : زائدة لا عمل لها. «لو» : حرف شرط غير جازم. «كنت» : فعل ماض ناقص ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع اسمها. «حرّا» : خبر (كان)

٥٨

فأدخل الباء في الخبر مع التقديم ، فدلّ ذلك أنّ الباء يجوز دخولها على الخبر. ويجوز زيادة «من» في اسم «ما» إذا كان نكرة ، نحو : «ما من أحد قائما» ، على الحجازية ، وقائم ، على التميمية.

[٢ ـ العطف في باب «ما»] :

وإذا عطفت في هذا الباب ، فلا يخلو أن تعطف على الاسم ، أو على الخبر ، أو على الاسم والخبر معا. فإن عطفت على الخبر ، فلا يخلو أن يكون مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، فإن كان مرفوعا فعلى اللفظ ، وإن كان منصوبا فلا يخلو أن يكون حرف العطف موجبا للخبر أو لا يكون.

فإن كان موجبا للخبر رفعت ، مثل قولك : «ما زيد قائما بل قاعد» ، وإن لم يكن موجبا نصبت ، مثل قولك : «ما زيد قائما ولا قاعدا». وحكى سيبويه ، رحمه‌الله ، الخفض على توهّم الباء ، وذلك نحو قولك : «ما زيد قائما ولا قاعد» ، بخفض «قاعد» وذلك قبيح ، وإن كان مخفوضا فلا يخلو أن يكون حرف العطف يقتضي الإيجاب أو لا يكون يقتضيه ، فإن كان يقتضي الإيجاب رفعته ، نحو : «ما زيد بقائم بل قاعد» ، ولا يجوز خفض «قاعد» ، لأنّك لو خفضته كان على نيّة الباء ، كأنّك قلت : «بل بقاعد» ، والباء لا تزاد في الواجب بقياس. وإن لم يكن يقتضي الإيجاب ، جاز الخفض على اللفظ والنصب على الموضع إن قدّرت «ما» حجازية ، والرفع على الموضع إن قدّرت «ما» تميمية.

وإن عطفت على الاسم رفعت ، نحو : «ما زيد قائما ولا عمرو ، فإن عطفت على

__________________

منصوب بالفتحة. «وما» : «الواو» : حرف استئناف ، «ما» : حرف عامل عمل ليس. «بالحرّ» : «الباء» : حرف جرّ زائد ، «الحرّ» : اسم مجرور لفظا منصوب محلّا على أنه خبر مقدّم لـ «ما» الحجازية. «أنت» : ضمير منفصل في محلّ رفع اسم «ما». «ولا» : «الواو» : حرف عطف ، «لا» : حرف نفي. «القمين» : اسم معطوف على «الحرّ» مجرور بالكسرة.

وجملة «أقسم والله» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «لو كنت حرّا ...» : مع جواب الشرط المحذوف جواب القسم لا محل لها. وجملة «ما بالحرّ أنت» : استئنافية لا محلّ لها.

والشاهد فيه قوله : «ما بالحرّ أنت» حيث زيدت الباء في خبر (ما) مع أنه متقدم.

٥٩

الاسم والخبر معا ، فلا يخلو الخبر أن يكون مرفوعا ، أو منصوبا ، أو مخفوضا ، فإن كان الخبر مرفوعا رفعت ، نحو : «ما زيد قائم ولا عمرو خارج» ، وإن كان منصوبا فلا يخلو أن يكون حرف العطف يقتضي الإيجاب أو لا يكون ، فإن كان يقتضي الإيجاب رفعت ، وإن لم يكن يقتضيه فحكمه حكم ما عطف عليه ، نحو : «ما زيد قائما ولا عمرو خارجا». فإن كان مخفوضا ، فلا يخلو أن يكون حرف العطف موجبا للخبر أو لا يكون ، فإن كان موجبا رفعت المعطوف ، نحو قولك : «ما زيد بقائم بل عمرو خارج».

وإن لم يكن موجبا فلا يخلو أن تعطف على اللفظ أو على الموضع. فإن عطفت على الموضع رفعت الاسم ونصبت الخبر في الحجازية ، نحو قولك : «ما زيد بقائم ولا عمرو قاعدا» ، وعلى اللغة التميمية ترفع الاسمين فتقول : «ما زيد بقائم ولا عمرو قاعد».

وإذا ذكرت مع الاسم المعطوف على الخبر اسما ، فلا يخلو أن يكون من سبب اسم «ما» أو لا يكون. فإن لم يكن من سبب اسم «ما» ، فلا يخلو من أن يتقدّم على الخبر أو يتأخّر. فإن تقدّم ، نحو : «ما زيد قائما ولا عمرو قاعدا» ، جاز عطف الاسمين على الاسمين المتقدّمين ، تقديره : وما عمرو قاعدا. ويجوز رفعهما على المبتدأ والخبر ، وتكون الجملة معطوفة على الجملة الأولى. فإن تأخر فالرفع ليس إلّا ، نحو : «ما زيد قائما ولا منطلق عمرو» ، فيكون «منطلق» خبرا مقدّما ، و «عمرو» مبتدأ ، والجملة معطوفة على الجملة المتقدمة.

وإنّما لم يجز نصب «منطلق» لأنّك إذ ذاك لا تخلو من أن ترفع «عمرا» بـ «منطلق» ، أو بالعطف على اسم «ما» ، ولا يجوز أن يكون معطوفا على اسم «ما» ، لأنّ ذلك يؤدي إلى تقديم خبر «ما» الحجازية على اسمها ، ألا ترى أن التقدير : وما منطلقا زيد ، ولا يجوز أن يكون مرفوعا بـ «منطلق» ، ويكون «منطلق» معطوفا على خبر «ما» لأنّ المعطوف شريك المعطوف عليه فيلزم أن يكون خبر «ما» وذلك لا يتصوّر هنا ، لأنّه ليس في الخبر ضمير يعود على المخبر عنه ، ألا ترى أنّ التقدير : ما زيد قائما وما زيد منطلقا عمرو ، فلا يكون في «منطلق» ضمير يعود على «زيد». ولو كان بدل «ما» : «ليس» لجاز النصب ويكون الاسمان معطوفين على الاسمين المتقدمين ، لأنّه يجوز تقديم خبر «ليس» على اسمها ، وذلك : «ليس زيد قائما ولا منطلقا عمرو» ، ويكون تقديره إذ ذاك : وليس منطلقا عمرو.

٦٠