شرح جمل الزجّاجى - ج ٢

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٥٩٧

باب «كم»

[١ ـ «كم» الاستفهامية و «كم» الخبرية] :

«كم» كناية عن عدد ، لذلك أتى بها عقيب أبواب العدد. وهي تنقسم قسمين : استفهامية ، وخبريه.

فالاستفهامية هي التي تستدعي جوابا ، والخبرية هي التي لا تستدعي جوابا ، وكلاهما مبنيّ. فالاستفهامية بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام ، وهي الهمزة ، وأما الخبرية فبنيت لشبهها بـ «ربّ» ، لأنّ «ربّ» للمباهاة والافتخار كما أنّ «كم» كذلك ، وذلك نحو قولك : «كم غلام ملكت» ، وإنّما تريد : كثيرا من الغلمان ملكت.

وذهب الفراء إلى أنّ «كم» مركّبة من كاف التشبيه و «ما» الاستفهامية ، فالأصل عنده فيها «كم» ، لأنّ حرف الجر إذا دخل على «ما» الاستفهامية حذف منها الألف ، وسكن ميم «كم» لكثرة الاستعمال ، كما قالوا : «فيم» ، و «لم» ، في «فيم» و «لم».

فإذا قلت : «كم رجلا عندك»؟ فالمعنى عنده : كأيّ شيء من الرجال عندك ، وكنيّت بـ «أيّ» عن عدد ، ورأى أنّ هذا أولى من أن يثبت في أسماء الاستفهام ما لم يستقر فيها. وحكى هذا المذهب عنه ابن كيسان. وهو باطل لأنّها يدخل عليها حرف الجر وحرف الجر لا يدخل على مثله.

و «كم» اسم مبهم فلا بدّ لها من تمييز ، وتمييز الاستفهامية مفرد منصوب وتمييز الخبرية مخفوض ، ويكون مفردا وجمعا.

١٤١

فإن قيل : ولأيّ شيء خفض تمييز الخبرية؟ فالجواب أن تقول : إنّما خفض تمييز الخبرية لأنّها للتكثير أبدا ، والعرب أبدا إنّما تكثّر بالمائة والألف ، والدليل على ذلك قول امرىء القيس [من الطويل] :

٤٨٥ ـ هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط

بني أسد حزنا من الأرض أوعرا

وكذلك قوله [من الرجز] :

٤٨٦ ـ حيدة خالي ولقيط وعلي

وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي

__________________

٤٨٦ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ٦٥.

اللغة : الجوّ : ما اتّسع من الأرض. ناعط : اسم جبل. حزنا : أي انزلوا حزنا ؛ والحزن : ما غلظ من الأرض في ارتفاع. أوعر القوم : وقعوا في الوعر ؛ والوعر : المكان الصّعب المرتقى.

المعنى : يا بني أسد انزلوا في الأماكن الصعبة المرتفعة ، فأنا الذي أنزل الآلاف من الأماكن السهلة المتّسعة قرب جبل (ناعط). الإعراب : هو : ضمير منفصل في محلّ رفع مبتدأ. المنزل : خبر مرفوع بالضمّة. الآلاف : مفعول به لاسم الفاعل (المنزل) منصوب بالفتحة. من جو : جار ومجرور متعلقان بـ (المنزل). ناعط : مضاف إليه مجرور بالكسرة. بني : منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم. أسد : مضاف إليه مجرور بالكسرة. حزنا : مفعول به منصوب بالفتحة لفعل محذوف جوازا تقديره (الزموا). من الأرض : جار ومجرور متعلقان بصفة «حزنا». أوعرا : صفة (حزنا) منصوبة بالفتحة ، و «الألف» : للإطلاق.

وجملة «هو المنزل» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة النداء : اعتراضية لا محلّ لها. وجملة «الزموا حزنا أوعرا» : استئنافية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «الآلاف» حيث جاء بها ليعني التكثير ، لا ليعني العدد.

٤٨٦ ـ التخريج : الرجز لامرأة من بني عقيل في خزانة الأدب ٧ / ٣٧٥ ، ٣٧٦ ، ٣٧٧ ؛ ولسان العرب ١٢ / ١١٥ (حتم) ؛ ونوادر أبي زيد ص ٩١ ؛ ولقصيّ بن كلاب في المقاصد النحوية ٤ / ٥٦٥ ؛ ولامرأة في شرح شواهد الشافية ص ١٦٣ ؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٣٠ ، ١١ / ٣٧٤ ، ٣٧٦ ؛ والخصائص ١ / ٣١١ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٤ ؛ وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٢٣٤ ؛ ولسان العرب ٣ / ١٦٠ (حيد) ، ١٥ / ٢٧٠ (مأي) ؛ والمنصف ٢ / ٦٨.

اللغة : حيدة ، ولقيط ، وعلي : أعلام أشخاص.

المعنى : إني أعظم شأنا وأرفع منزلة لأن حيدة ولقيط وعلي وحاتم أخوالي ، وكفاني فخرا بهذا الطائي الجواد الكريم.

الإعراب : «حيدة» : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. «خالي» : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة ، وهو مضاف ، والياء : ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالإضافة. «ولقيط» : «الواو» : حرف عطف ، «لقيط» :

١٤٢

وكذلك قول النابغة [من البسيط] :

٤٨٧ ـ الواهب المائة المعكاء زيّنها

سعدان توضح في أوبارها اللّبد

وكذلك قوله [من البسيط] :

٤٨٨ ـ أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية

ما في عطائهم منّ ولا سرف

__________________

اسم معطوف مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. «وعلي» : «الواو» : حرف عطف ، «علي» : اسم معطوف مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. «وحاتم» : «الواو» : حرف عطف ، «حاتم» : اسم معطوف مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. «الطائي» : صفة أولى مرفوعة وعلامة رفعها الضمة الظاهرة. «وهاب» : صفة ثانية مرفوعة وعلامة رفعها الضمة. «المئي» : مضاف إليه مجرور.

وجملة «حيدة خالي» : جملة اسمية ابتدائية لا محل لها من الإعراب.

والشاهد فيه قوله : «المئي» حيث جاء بها ليعني الكثير ، لا ليعني العدد. والأصل «المئين» حذف النون لأنها أخت التنوين.

٤٨٧ ـ التخريج : البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٢ ؛ ولسان العرب ١ / ٦٤٠ (غرب) ، ٣ / ٢١٦ (سعد) ، ١٠ / ٤٩٠ (معك) ، ١٥ / ٨٢ (عكا) ؛ وتاج العروس ٣ / ٤٥٧ (غرب) ، (معك) ؛ وجمهرة اللغة ص ١٨٣ ؛ وتهذيب اللغة ٣ / ٤٠.

اللغة : المعكاء : الإبل الغلاظ السّمان. السعدان : بقلة ، أو نبت ذو شوك. توضح : اسم مكان من قرى اليمامة. اللبد : المتلبّدة ، اللاصقة بعضها ببعض.

المعنى : إنه كريم يعطي الكثير من الإبل السّمان ، التي تأكل من نبات توضح حتى تلتصق بأوبارها.

الإعراب : الواهب : خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو) مرفوع بالضمة. المائة : مفعول به منصوب بالفتحة لاسم الفاعل (الواهب). المعكاء : صفة منصوبة بالفتحة. زيّنها : فعل ماض مبني على الفتح ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. سعدان : فاعل مرفوع بالضمة. توضح : مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. في أوبارها : جار ومجرور متعلقان بحال من (سعدان) محذوفة. و «ها» : ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه. اللبد : صفة لـ (أوبار) مجرورة بالكسرة.

وجملة «هو الواهب» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «زينها» : في محلّ نصب حال من (المائة).

والشاهد فيه قوله : «الواهب المئة» حيث أراد بـ «المئة» التكثير لا العدد نفسه.

٤٨٨ ـ التخريج : البيت لجرير في ديوانه ص ١٧٤ ؛ ولسان العرب ٣ / ٤٣٧ (هند) ، ٤ / ٤١ (بحر) ، ٩ / ١٤٩ (سرف) ؛ والتنبيه والإيضاح ٢ / ٨٣ ؛ وجمهرة اللغة ص ٦٨٧ ؛ ومقاييس اللغة ٣ / ١٥٣ ، ٦ / ٦٩ ؛ والمخصص ٣ / ٣٥ ؛ وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٩٨ ؛ ومجمل اللغة ٣ / ١٣٥ ؛ وتاج العروس ٩ / ٣٤٨ (هند) ، ٢٣ / ٤٢٨ (سرف).

١٤٣

و «هنيدة» اسم للمائة من الإبل ، فلما كانت تكثّر بالمائة والألف ، وتمييز المائة والألف مخفوض ، فكذلك كان تمييز الخبرية مخفوضا.

فلما لزم الخفض للخبرية ، لم يبق للاستفهامية إلّا النصب.

ويكون تمييز الخبرية جمعا ، فإن قيل : ولأيّ شيء يكون جمعا؟ قيل : لما أشبهت «كم» الخبرية العدد الذي يخفض ما بعده ، والعدد الذي يخفض ما بعده منه ما يكون تمييزه مفردا ومنه ما يكون تمييزه جمعا ، فكذلك كان تمييز الخبرية مفردا وجمعا. ومثاله جمعا قول الشاعر [من المديد] :

٤٨٩ ـ كم ملوك باد ملكهم

ونعيم سوقة بادوا

__________________

اللغة : يحدوها : يقودها وهو يغنّي لها. المنّ : التذكير بالإعطاء. السرف : الخطأ.

المعنى : هؤلاء الكرام (ويقصد عبد الملك بن مروان) يمنحون الكثير من الإبل مع رعيانها ، ثم لا يذكرون عطاياهم ، ولا يخطئون في كرمهم.

الإعراب : أعطوا : فعل ماض مبني على الضمّ ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الألف» : للتفريق. هنيدة : مفعول به منصوب بالفتحة. يحدوها : فعل مضارع مرفوع بالضمّة المقدّرة على الواو ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. ثمانية : فاعل مرفوع بالضمّة. ما : حرف ناف مهمل. في عطائهم : جار ومجرور متعلّقان بالخبر المقدّم المحذوف تقديره (موجود) ، و «هم» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. من : مبتدأ مؤخّر مرفوع بالضمّة. ولا : «الواو» : حرف عطف ، «لا» : حرف نفي. سرف : معطوف على مرفوع مرفوع مثله بالضمّة.

وجملة «أعطوا هنيدة» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «يحدوها» : في محلّ نصب صفة لـ (هنيدة). وجملة «ما في عطائهم منّ ولا سرف» : في محلّ نصب حال.

والشاهد فيه قوله : «أعطوا هنيدة» حيث جاءت هنا للتكثير لا لقصد العدد مئة بالذات.

٤٨٩ ـ التخريج : البيت بلا نسبة في الدرر ٤ / ٤٧ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٥١١ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٥ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٢٥٤.

اللغة : باد : هلك .. السوقة : الرعيّة من دون الملك ، وكلّ من لم يكن ذا سلطان فهو سوقة وهم سوقة.

المعنى : لقد هلك الكثير من الملوك ، وتقوّضت عروشهم ، وكذلك الناس غير الملوك تهلك أيضا ، أي أن الحياة اللينة لا تدوم لأحد.

الإعراب : كم : اسم بمعنى كثير في محلّ رفع مبتدأ. ملوك : مضاف إليه مجرور ، أو مجرور بـ «من» مقدرة («ملوك» مميز «كم»). باد : فعل ماض مبني على الفتح. ملكهم : فاعل مرفوع بالضمة ، و «الهاء» : ضمير متصل في محل جرّ بالإضافة ، والميم علامة جمع الذكور العقلاء. ونعيم : «الواو» : للعطف ، «نعيم» :

١٤٤

وكذلك قول الآخر [من الرجز] :

٤٩٠ ـ كم دون سلمى فلوات بيد

منضية للبازل القيدود

والإفراد فيه أحسن من الجمع.

وتمييز الاستفهامية لا يكون إلّا مفردا ، وسبب ذلك أنّه مشبّه من العدد بما ينصب ما بعده ، والذي ينصب ما بعده من العدد لا يكون تمييزه إلّا مفردا. ويجوز حمل الاستفهامية على الخبرية ، فينخفض تمييزها ، ولا يجوز ذلك إلّا إذا فهم المعنى. ولا يحمل فيما عدا ذلك. وأما الإفراد والجمع فعلى ما كان عليه قبل الحمل.

فمثال حمل الخبرية على الاستفهامية : «كم غلام ملكت» ، هذا ما لم تفصل ، فإن فصلت لزم الحمل على الاستفهامية.

__________________

اسم معطوف على (ملوك) مجرور مثله بالكسرة. سوقة : نعت مجرور بالكسرة. بادوا : فعل ماض مبني على الضمّ ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل.

وجملة «كم ملوك باد ملكهم» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «باد ملكهم» : في محلّ رفع خبر (كم). وجملة «بادوا» : في محلّ رفع خبر لـ (كم) مقدرة واقعة مبتدأ. وجملة «كم نعيم سوقة بادوا» : معطوفة على جملة «كم ملوك ملكهم».

والشاهد فيه قوله : «كم ملوك» حيث جاء مميّز (كم) جمعا.

٤٩٠ ـ التخريج : لم أقع عليه فيما عدت إليه من مصادر.

اللغة : الفلوات : جمع فلاة وهي الصحراء لا ماء فيها. البيد : جمع بيداء وهي الصحراء المستوية لا شيء فيها. المنضية : المهلكة. البازل : البعير الفتي الذي ظهر نابه. القيدود : الناقة الطويلة الظهر.

المعنى : يوضّح الشاعر أنّ ما يفصله عن حبيبته سلمى كثير جدّا ، فبينهما صحار مهلكة للبعير القادر على السفر.

الإعراب : كم : خبرية تفيد التكثير ، في محلّ رفع مبتدأ. دون : مفعول فيه ظرف مكان منصوب بالفتحة ، متعلّق بالخبر المحذوف. سلمى : مضاف إليه مجرور بفتحة مقدرة على الألف لأنه ممنوع من الصرف. فلوات : مضاف إلى (كم) مجرور بالكسرة. بيد : صفة (فلوات) مجرورة بالكسرة. منضية : صفة ثانية مجرورة بالكسرة. للبازل : جار ومجرور متعلقان بـ (منضية). القيدود : صفة (البازل) مجرورة بالكسرة.

وجملة «كم فلوات موجودة دون سلمى» : ابتدائية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «كم فلوات» حيث جاء مميّز (كم) الخبرية جمعا.

١٤٥

ولا يجوز خفض تمييز الاستفهامية إلّا في ضرورة شعر أو نادر كلام ، ومنه قول الشاعر [من الرمل] :

٤٩١ ـ كم بجود مقرف نال العلا

وكريم بخله قد وضعه

في رواية من رواه بخفض مقرف.

وسبب ذلك أنّه لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه إلّا في الضرورة. ويكون جمعا ، نحو قولك : «كم غلمانا ملكت».

ومثال حمل الاستفهامية على الخبرية قولك : «كم غلام ملكت» ، ولا يجوز في هذا التمييز إلّا على الإفراد.

وزعم الزجّاجي أنّه لا يجوز حمل الاستفهامية على الخبرية ، ولا حمل الخبرية على الاستفهامية ، وأجاز الخفض في تمييز الاستفهامية على إضمار «من» بشرط أن يتقدم على

__________________

٤٩١ ـ التخريج : البيت لأنس بن زنيم في ديوانه ص ١١٣ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ٤٧١ ؛ والدرر ٤ / ٤٩ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ٥٣ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٣ ؛ ولعبد الله بن كريز في الحماسة البصرية ٢ / ١٠ ؛ وبلا نسبة في الدرر ٦ / ٢٠٤ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠ ؛ وشرح الأشموني ٣ / ٦٣٥ ؛ وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٤ ؛ وشرح المفصل ٤ / ١٣٢ ؛ والكتاب ٢ / ١٦٧ ؛ والمقتضب ٣ / ٦١ ؛ والمقرب ١ / ٣١٣ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٢٥٥ ، ٢ / ١٥٦.

اللغة : المقرف : النذل اللئيم الأب. وضعه : جعله وضيعا منحطّا.

المعنى : إن الجود والكرم يرفع الدنيء اللئيم ، والبخل يحطّ من منزلة السيد الشريف.

الإعراب : «كم» : اسم كناية في محلّ رفع مبتدأ. «بجود» : جار ومجرور متعلّقان بـ (نال). «مقرف» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «نال» : فعل ماض مبني على الفتح ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). «العلا» : مفعول به منصوب بفتحة مقدّرة على الألف. «وكريم» : «الواو» : للعطف ، «كريم» : معطوف على مجرور ، مجرور مثله. «بخله» : مبتدأ مرفوع بالضمّة ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. «قد» : حرف تحقيق. «وضعه» : فعل ماض مبني على الفتح ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو).

وجملة «كم مقرف نال العلا» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «نال العلا» : في محلّ رفع خبر لـ (كم). وجملة «بخله قد وضعه» : في محلّ جرّ صفة لـ «كريم». وجملة «قد وضعه» : في محلّ رفع خبر لـ (بخله).

والشاهد فيه قوله : «كم بجود مقرف» حيث جاء تمييز «كم» الاستفهامية مجرورا ، وهذا نادر. ويرى جمهور النحاة أنّ «كم» هنا خبريّة لا استفهامية.

١٤٦

«كم» حرف جر ، نحو قولك : «بكم درهم اشتريت ثوبك» ، وجعل حرف الجر ينوب مناب «من».

وهذا الذي قال يمكن لأنّ العوض قد لا يقع موقع ما عوّض منه ، نحو التاء في «زنادقة» لأنّها عوض من الياء في «زناديق» ، ولم تقع موقعها ، فقوله في الاستفهامية صحيح ، وأما الخبرية فمذهبه فيها فاسد ، لأنّ سيبويه ، رحمه‌الله ، حكى نصب تمييز «كم» الخبرية من غير فصل حملا على الاستفهامية. وعلى ذلك قول الشاعر [من الكامل] :

٤٩٢ ـ كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

__________________

٤٩٢ ـ التخريج : البيت للفرزدق في ديوانه ١ / ٣٦١ ؛ والأشباه والنظائر ٨ / ١٢٣ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ٤٥٨ ، ٤٨٩ ، ٤٩٢ ، ٤٩٣ ، ٤٩٥ ، ٤٩٨ ؛ والدرر ٤ / ٤٥ ؛ وشرح التصريح ٢ / ٢٨٠ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٥١١ ؛ وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٦ ؛ وشرح المفصّل ٤ / ١٣٣ ؛ والكتاب ٢ / ٧٢ ، ١٦٢ ، ١٦٦ ؛ ولسان العرب ٤ / ٥٧٣ (عشر) ؛ واللمع ٢٢٨ ؛ ومغني اللبيب ١ / ١٨٥ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٩ ؛ وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ١ / ٣٣١ ؛ وشرح الأشموني ١ / ٩٨ ؛ وشرح ابن عقيل ص ١١٦ ؛ ولسان العرب ١٢ / ٥٢٨ (كمم) ؛ والمقتضب ٣ / ٥٨ ؛ والمقرب ١ / ٣١٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٢٥٤.

شرح المفردات : الفدعاء : التي اعوجّت أصابعها من الحلب ، أو التي اعوجّت مفاصلها. العشار : الناقة التي عمرها عشرة أشهر ، أو التي أتى عليها عشرة أشهر من زمان حلبها.

المعنى : يقول : إنّ لك يا جرير كثيرا من العمّات والخالات الفدعاوات قد عملن عندي في حلب نوقي ، أو في رعي ماشيتي.

الإعراب : تروى «عمّة» و «خالة» مرفوعتين ومجرورتين ومنصوبتين. فإن رويتهما منصوبتين ، فيجوز بـ «كم» أن تكون خبرية ، أو استفهاميّة تهكّميّة في محلّ نصب مفعول مطلق ، أو ظرف زمان متعلّق بـ «حلبت» ومميّزها محذوف مجرور إذا قدّرت «كم» خبريّة ، أو منصوب إذا قدّرت «كم» استفهاميّة. «عمّة» : مبتدأ مرفوع. «لك» : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف نعت لـ «عمّة». «يا» : حرف نداء. «جرير» : منادى مبنيّ على الضمّ في محلّ نصب. «وخالة» : الواو حرف عطف ، «خالة» : معطوف على «عمّة». «فدعاء» : نعت «خالة» مرفوع. «قد» : حرف تحقيق. «حلبت» : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : «هي». «عليّ» : جار ومجرور متعلّقان بـ «حلب». «عشاري» : مفعول به لـ «حلب» منصوب ، وهو مضاف ، والياء ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. فإن نصبت «عمّة» و «خالة» فتكون «كم» استفهاميّة في محلّ رفع مبتدأ. «عمّة» : تمييز منصوب.

وجملة : «كم عمة ...» ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة النداء : «يا جرير» اعتراضية. وجملة : «قد حلبت ...» في محلّ رفع خبر المبتدأ «عمّة» أو «كم».

الشاهد : قوله : «عمة» حيث يجوز فيها الرفع على الابتداء ، والمسوّغ للابتداء بها وصفها بالجار والمجرور ، والنصب على المفعولية المطلقة أو على التمييز ، والجرّ على الإضافة.

١٤٧

ويجوز الفصل بين تمييز «كم» الاستفهامية و «كم» بالظروف والمجرور ، نحو قولك : «كم في الدار رجلا» ، ولا يجوز الفصل بين تمييز «كم» الخبرية وبين «كم» إلّا في ضرورة شعر ، كقول الشاعر [من الرجز] :

كم دون سلمى فلوات بيد (١)

وزعم يونس أنّه لا يجوز الفصل في الشعر إلّا بشرط أن يكون الظرف والمجرور ناقصين ، واستدلّ على ذلك بأن قال : إذا فصلت بالظرف التام يكون خبرا ، فكأنك قد فصلت بالخبر ، وذلك لا يجوز.

وهذا باطل لأنّ العرب لا تفرّق بين الظرف التام والناقص في الفصل.

و «كم» أبدا تلزم الصدر ، وأما الاستفهامية فأمرها بيّن لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، وأما الخبرية فلزمت الصدر حملا على «ربّ» لأنّ «ربّ» تلزم الصدر بالإجماع.

وزعم الأخفش أنّها لا تلزم الصدر لأنّها في معنى «كثير» ، وهو لا يلزم الصدر ، لأنّك إذا قلت : «كم غلام ملكت» ، فمعناه : كثير من الغلمان ملكت ، و «كثير» لا تلزم الصدر ، فكذلك ما في معناه ، فيجيز : «وأنت كم غلام ملكت». وهذا فاسد ، لأنّ العرب لم يسمع منها إلّا أن يجعل صدرا ، فيمكن إن لحظت في ذلك الحمل على «ربّ» كما قالوا ، لأنّها تلزم الصدر بإجماع.

واعلم أنّه لا يكون تمييز «كم» ما اختص بالنفي مثل «عريب» (٢) ، و «كنيع» (٣) ، و «طوريّ» (٤) ولا ما قرن بـ «لا» نحو : «كم لا رجل في الدار» ، ولا المعرفة ولا ما توغّل من الأسماء في البناء ، نحو : «من» و «ما» ، ولا ما توغّل في الإبهام ، نحو : «شيء». و «كم» لا بدّ لها من جواب ، وجوابها على حسب إعرابها ، فينبغي أن يبيّن إعرابها.

ف «كم» لا يخلو أن يكون قبلها حرف أو لا يكون. فإن تقدّم عليها حرف جر فهي في موضع خفض به ، وإن لم يتقدّم عليها حرف جر ، فلا يخلو أن تكون كناية عن ظرف زمان ،

__________________

(١) تقدم بالرقم ٤٩٠.

(٢) تقول : ما بالدار عريب ، أي : ما بها أحد.

(٣) تقول : ما بالدار كنيع ، أي : ما بها أحد.

(٤) الطوري : الغريب ، والوحشي من الناس والطير.

١٤٨

أو ظرف مكان ، أو لا تكون كناية عن شيء من ذلك. فإن كانت كناية عن مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان ، فهي في موضع نصب. وإن لم تكن كناية عن شيء من ذلك ، فلا يخلو أن يكون بعدها فعل أو لا يكون.

فإن لم يكن بعدها فعل ، فهي في موضع رفع ، نحو : كم رجل في الدار. وإن كان بعدها فعل فلا يخلو من أن يكون متعدّيا أو غير متعدّ.

فإن كان بعدها فعل غير متعدّ ، فهي مبتدأ ، وإن كان بعدها فعل متعدّ فلا يخلو أن يكون الفعل الذي بعدها مسندا إلى ضمير يعود على «كم» أو لا يكون. فإن كان الفعل الذي بعدها مسندا إلى ضمير يعود على «كم» ، فهي مبتدأ ، نحو : «كم غلام جاءك» ، وإن لم يكن فلا يخلو أن يكون الفعل قد أخذ معموله أو لا يكون قد أخذه. فإن لم يكن قد أخذ معموله ، فهي معموله. وإن كان الفعل قد أخذ معموله ، فيجوز فيه وجهان : الرفع على الابتداء والنصب على الاشتغال. فعلى هذا يكون الجواب على حسب ما يحكم به على «كم».

وقد يجوز أن يكون الجواب مرفوعا سواء كانت «كم» في موضع رفع أو نصب أو خفض.

ويجوز أن تحذف تمييز «كم» إذا كان في الموضع ما يدلّ عليه ، نحو قولك : «كم مالك»؟ و «كم درهمك»؟ تريد : كم حبة درهمك ، وكم درهما مالك. ويحسن هذا إذا كان تمييز «كم» ظرفا ، كقوله [من الكامل] :

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري (١)

في رواية من رفع «العمة».

[٢ ـ ما يجري مجرى «كم»] :

ومما يجري مجرى «كم» في الخبر «كأيّن» ، ويلزم تمييزها «من» ، ويجوز الفصل بينها وبين تمييزها بالجمل ، فتقول : «كأيّن جاءك من رجل». تريد : كم من رجل جاءك. وفيها لغات : «كأيّن» ، بياء مشددة مكسورة بعد الهمزة ، و «كائن» بهمزة بعد الألف على وزن

__________________

(١) تقدم بالرقم ٤٩٢.

١٤٩

«فاعل» ، و «كئن» ، بهمزة بين الكاف والنون ، و «كيئن» ، بهمزة مكسورة بين الياء والنون.

ومما جرى مجرى «كم» في أنّه كفاية عن العدد «كذا» ، فتقول إذا كنّيت عن الثلاثة إلى العشرة : «له كذا من الدراهم» ، وإن كنّيت عن «أحد عشر» إلى «تسعة عشر» قلت : «له كذا كذا درهما». فإن كنيت عن العقود من عشرين إلى تسعين قلت : «له كذا درهما». فإن كنيت عن المعطوفات من واحد وعشرين إلى تسعة وتسعين قلت : «له كذا وكذا درهما».

وتكنّي عن المائة والألف كما يكنّى عن الثلاثة إلى العشرة.

وأهل الكوفة يقولون في الثلاثة إلى العشرة : «له كذا دراهم» ، وفي المائة والألف : «له كذا درهم». وذلك فاسد عندنا لأنّ اسم الإشارة لا يضاف أصلا.

١٥٠

باب «مذ» و «منذ»

مذ ومنذ يكونان اسمين إذا ارتفع ما بعدهما ، ويكونان حرفين إذا انجرّ ما بعدهما ، فإن قيل : وما الدليل على أنّهما يكونان اسمين إذا ارتفع ما بعدهما وعلى أنّهما حرفان إذا انجرّ ما بعدهما؟

فالجواب : إنّ «مذ» مع الاسم الذي يرتفع بعدها تكون منتهى كلام ، تقول لمن قال لك : «كم لك لم تر زيدا»؟ : «منذ يومان». فمحال أن يكون حرفا واسما ، لأنّ الحرف والاسم لا يأتلف منهما كلام ، خلافا للفارسي حيث ذهب إلى أنّ الحرف والاسم يأتلف منهما كلام في النداء ، ألا ترى أنّ المنادى منصوب بإضمار فعل.

فإنّما : «يا عبد الله» ، عندنا مؤلف من الاسم ، والفعل ، والحرف.

فإذا لم يمكن أن يكون «منذ يومان» حرفا واسما تعيّن أنّ «منذ» اسم.

فإن قيل : لعلّهما حرف ، والفعل مضمر بعدها ، كأنّه قال : «مذ تقدّم أو مذ مضى يومان». فالجواب : إنّها لو كان الاسم بعدها على إضمار الفعل ، لكانت من الحروف الطالبة للفعل كـ «قد» والسين وسوف ، وكلّ ما كان طالبا من الحروف للفعل لم يجز أن يليه الاسم إلّا في ضرورة شعر. وهذا فصيح فدلّ على أنّ ليس بعدها فعل مضمر. وأيضا فإنّ الفعل لا يضمر إلّا أن يكون أمرا ، أو نهيا ، أو ما جرى مجراهما.

فلا يضمر في الخبر إلّا أن يكون ثمّ ما يدل عليه.

ولا يمكن أن تكون «منذ» فعلا. والدليل على أنّهما ـ إذا انجرّ ما بعدهما ـ حرفان ما

١٥١

استدل به الأخفش من أنّهما لو كانا اسمين ظرفين لثبات الاسمية لهما إذا ارتفع ما بعدهما ، لوجب إذا نفي الفعل أو أوجب أن ينفى عنهما خاصة ، لأنّ الظرف لا ينفي الفعل عن غيره إذا نفي في نفسه. ألا ترى أنّك إذا قلت : قمت يوم الجمعة ، فالقيام في يوم الجمعة ، وإذا قلت : «ما قمت يوم الجمعة» ، فإنما انتفى القيام عن يوم الجمعة خاصة. فينبغي أن يكون الأمر في «مذ» و «منذ» على هذا التحديد.

وأنت تقول : «ما رأيته مذ يوم الجمعة» ، فالرؤية منتفية عن يوم الجمعة وعما بعد إلى زمن الإخبار. فدلّ ذلك على أنّها ليست بظرف وأنّها حرف ، وانتفى الفعل عما بعدها ، وكذلك حال الحروف. ألا ترى أنّه يقول : «ما رأيته من الكوفة» ، و «ما رأيته من البصرة» ، فانتفت الرؤية عن الكوفة وما بعدها وعن البصرة وما بعدها. وكذلك : «ما سرت من بغداد» ، فنفى السير من بغداد إلى المكان الذي أنت فيه إلى زمن الإخبار.

فثبت أنّهما إذا ارتفع ما بعدهما اسمان ، وإذا انجرّ ما بعدهما حرفان. إلّا أنّ الغالب على «مذ» الاسمية والغالب على «منذ» الحرفية.

وإنما كان الغالب على «مذ» أن تكون اسما ، لأنّها محذوفة من «منذ» ، والحذف تصرّف ، والتصرّف بابه الأسماء لا الحروف.

وكيفية غلبة الاسمية على هذه ، والحرفية على هذه أنّ «مذ» و «منذ» لا يدخلان إلّا على الزمان ، ولا يدخلان منه على مستقبل لما يبيّن بعد إن شاء الله تعالى. وإنما يدخلان منه على الحال والماضي ، فالحال أبدا يكون بعدها مخفوضا.

والحال «الآن» وما في معناها كالساعة والحين واليوم والليلة وكل اسم زمان أضفته إلى نفسك قرب أو بعد ، نحو : «يومنا» ، و «شهرنا» ، و «عامنا» ، وكل اسم أشرت إليه ، نحو : «هذا العام وهذا الشهر وهذه الأيام الثلاثة» ، لأنّك لم تشر إليه إلّا وأنت قد قدّرته حاضرا ، ولم تضفه إلى نفسك إلّا على هذا المعنى. فهذا هو الحال.

ولا يكون أبدا إلّا مخفوضا ، لأنّه لا يمكن أن يتقدّر بخلاف «في» ، فلهذا ألزم الجر.

وأما الماضي فلا يخلو من أن تدخل عليه «مذ» أو «منذ» ، فإن دخلت عليه «منذ» جاز الرفع والجر ، والجرّ أفصح. وإن دخلت عليه «مذ» لم يجز إلّا الرفع في لغة بعض الحجاز.

ومن الناس من أنكر الجر ، ومنهم من زعم أنّه يكون نادرا. فـ «مذ» الغالب عليها أن

١٥٢

يرفع ما بعدها ، لأنّ الحال وإن انجرّ بعدها فهو لفظ قليل محصور فيما ذكرنا. والحال «الآن» وما في معناها ، والماضي لا ينضبط ، و «منذ» الغالب عليها الحرفية لأنّها جارة للحاضر والماضي ، فتبيّن أنّ الغالب على «مذ» الاسمية وأنّ الغالب على «منذ» الحرفية كما قلنا.

وإذا دخلتا على الحال كانتا للغاية بمنزلة «من» في قولك : «أخذته من التابوت» ، ألا ترى أنّ الأخذ كان ابتداؤه وانتهاؤه من الزمان ، فـ «ما رأيته منذ عامنا» ، الرؤية منقطعة في جملة العام.

وإذا دخلت على الماضي فإما أن يكون معدودا أو لا يكون ، فإن كان معدودا فقلت : «ما رأيته منذ يومنا ومنذ ثلاثة أيام» ، فهي أيضا للغاية. وإن دخلت على معرفة ليس بمعدود ، كانت لابتداء الغاية ، تقول : «ما رأيته منذ يوم الجمعة» ، فهي لابتداء الغاية في يوم الجمعة ، فلم يمكن أن ينتهي عدم الرؤية في يوم الجمعة.

وإذا وقع بعدها عدد ، فإنّ العرب تختلف في ذلك ، فمنهم من لا يعتدّ بالناقص أصلا ، وإنّما يعتدّ بالكامل ، فإذا قال : «ما رأيته منذ ثلاثة أيام» ، فلا بدّ أن تكون الثلاثة بجملتها لم يره فيها.

ومنهم من يعتدّ بالناقص الأول ، فإذا رأى شخصا ظهر يوم الجمعة ، ثم انقطعت الرؤية إلى ظهر يوم الاثنين ، قال : «ما رأيته منذ ثلاثة أيام» ، ولم يعتدّ بالناقص الثاني. ومنهم من يعتد بالناقص الثاني ولا يعتدّ بالأول ، فيكون اللفظ واحدا ، ومنهم من يعتدّ بالناقصين : الأول والثاني ، فيقول في هذه المسألة : «ما رأيته منذ أربعة أيام» ، والأقيس الأول ، لأنّ تسمية الناقص يوما مجاز. ومن يعتد بالناقص لا يفعل ذلك إلّا إذا كان ثمّ يوم كامل ، فإن لم يكن ثمّ يوم كامل لم يجز ، لأنّ الكلام كله مجاز.

فلو رأيت شخصا ظهر يوم الجمعة ، ثم انقطعت الرؤية إلى ظهر يوم السبت لم يجز في هذا أن يقال : «ما رأيته منذ يومان ، ولا مذ يوم» ، لأنّه ليس معك يوم كامل ، فإنّما يكون المجاز إذا اختلط بالحقيقة.

١٥٣

وإذا تبيّن أنّ «مذ» الغالب عليها الاسمية ، وأنّ «منذ» الغالب عليها الحرفية ، فينبغي أن تبيّن نسبة اللغات.

فجميع العرب تتكلم بـ «مذ» المحذوفة من «منذ» ، ولا يتكلم بـ «منذ» إلّا أهل الحجاز خاصة. فأهل الحجاز يتكلمون بـ «مذ» و «منذ» وغيرهم لا يعرفون منذ.

ف «مذ» في جميع لغات العرب تجرّ الحال ، وبنو تميم يرفعون بها الماضي ولا يجيزون فيها الجر ، وأهل الحجاز يجرون بها الماضي وبعضهم يرفع بها الماضي. و «منذ» لا يتكلم بها إلّا الحجازيون خاصة فهي عندهم تجرّ الحال ، والماضي عندهم مجرور ، وبعضهم يرفعه ، فحصل بهذا أنّ «مذ» الغالب عليها الاسمية ، لأنّ بني تميم لا يجيزون في الماضي معها إلّا الرفع وبعض الحجازيين يرفع بها. فالغالب فيها الاسمية.

و «منذ» لا يتكلّم بها إلّا الحجازيون ، وهي جارة للحال أبدا ، وتجرّ الماضي عند أكثرهم ، والأقل هو الذي يرفع بها الماضي ، فقد ثبت ما قلنا.

واعلم أنّهما لا يخلو أن يقع قبلهما الفعل المنفيّ أو غيره. فإن كان المنفيّ فلا تفصيل فيه ، وكل منفيّ جائز أن يقع قبلهما ، فتقول : «ما رأيته منذ يومنا ، أو منذ ثلاثة أيام أو منذ يوم الجمعة». وإن وقع قبلهما غير المنفيّ فلا بدّ أن يكون ذلك الفعل متطاولا ممتدا ، وإلّا لم يجز ، فتقول : «سرت مذ يوم الجمعة» ، لأنّ السير متّصل إلى حين الإخبار ، ولو قلت : «قتلت عمرا منذ يوم الجمعة» ، لم يجز لأنّ القتل لا يمتدّ إلى حين الإخبار ، فإن أردت أنّ هذا القتل نوع مما يمتدّ جاز.

وكذلك فيما هو الحال لا يجوز ، فلا يجوز أن تقول : «قتلته مذ يومنا» ، لأنّ معناه : في يومنا ، والقتل لا يمتد في اليوم أجمع ، وإنّما يكون في جزء منه.

وسبب ذلك أنّ «مذ» إنّما تكون أبدا داخلة على ماض أو حال. فالحال يكون فيه بمنزلة «في» ، فيقول : «ما رأيته في يومنا» ، فهو لم يره في جزء من اليوم. وإذا قلت : «سرت مذ يومنا» ، فالسير في جملة اليوم بخلاف قولك : «سرت في اليوم».

فهي مع المنفيّ توافق سائر الظروف من أنّ الفعل لم يقع في جزء من اليوم ومع الموجب تخالف ، لأنّك إذا قلت : «سرت اليوم» ، أمكن أن يكون السير في بعض اليوم ،

١٥٤

بخلاف «منذ» ، لأنّها لا يكون السير الموجب إلّا في جميع اليوم. وكذلك فعلت العرب.

فمحال أن يقع قبلها موجب لا يتطاول ، لأنّه يكون كذبا ، والمنفيّ يقع لانقطاع الشيء معقول دوامه.

وأما الماضي فالمعدود منه يكون فيه بمنزلة «في» على التفصيل الذي في ذلك من الاعتداد بالناقص وعدم الاعتداد به.

فإن كان معرفة غير معدودة فهي لابتداء الغاية ، فلو قلت : «رأيته منذ يوم الجمعة» ، اقتضى هذا أنّ الرؤية دامت إلى زمن الإخبار ، وذلك لا يتصوّر إلّا أن تريد ذلك بالفعل غير المتطاول فيقدّر مع «مذ» على كل حال ، والمنفيّ يتصل انقطاعه ، فهو سائغ في الجميع. فقد ثبت أنّها لا تدخل إلّا على الزمان.

فإن عطفت على الزمان الذي تدخل عليه ، فلا يخلو أن تعطف حالا على حال ، أو ماضيا على ماض ، أو حالا على ماض ، أو ماضيا على حال.

فعطف الحال على الحال يتصوّر ، فتقول : «ما رأيته مذ يومنا وليلتنا ومذ شهرنا وعامنا». ويكون في بعض هذه المسألة ما في قوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)(١). وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٢). من تكرار ما يدخل تحت عموم ما قبلها.

فإن عطفت ماضيا على ماض ، لم يجز ، قدّمت المتقدّم في الزمان أو أخرّته ، فلا يجوز : «ما رأيته مذ يوم الخميس ويوم الجمعة» ، لأنّ قولك : «مذ يوم الخميس» يقتضي أنّك لم تره في يوم الجمعة ، وقولك : «ويوم الجمعة» يقتضي أنّك رأيته في أوله ، لأنّ «مذ» إذا دخلت على الماضي المعرفة كانت لابتداء الغاية ، والفعل واقع في أول ذلك الزمان ثم يتصل انقطاعه ، فلما كان التناقض والكذب لم يجز. وكذلك لو قدمت «يوم الجمعة» ، فقلت : «ما رأيته مذ يوم الجمعة ويوم الخميس» لم يجز ، لأنّ يوم الخميس يقتضي أنّك

__________________

(١) سورة الرحمن : ٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٩٨.

١٥٥

رأيته في أوله ، ثم انقطعت الرؤية فيما بعد ، وقولك : «يوم الجمعة» يقتضي أنّك رأيته في أوله ، وذلك تناقض.

فإن قيل : هل يجوز النصب على إضمار فعل؟ فالجواب أن تقول : إنّك إن بدأت بالمتأخر جاز ، فقلت : «ما رأيته مذ يوم الخميس ويوم الأربعاء» ، لأنّ الرؤية انقطعت عن ما بعد يوم الخميس ، ثم أخبرت أنّك لم تره يوم الأربعاء ، ولو عكست فبدأت بالمتقدّم لم يجز ، وكان عيّا. لأنّك إذا قلت : «ما رأيته مذ يوم الخميس ويوم الجمعة» ، اقتضى «يوم الخميس» أنّك لم ترد «يوم الجمعة» ، فلا فائدة في قولك بعد «يوم الجمعة».

وإن عطفت ماضيا على حال لم يجز ، فلا تقول : «ما رأيته مذ يومنا ويوم الجمعة» ولا عكسه ، لأنّ «مذ» إذا دخلت على الحال كانت بمعنى «في» ، وإذا دخلت على الماضي كانت بمعنى «من» لابتداء الغاية ، فلما اختلفا لم يجز عطف ما بعدهما على ما قبلهما ، لأنّ الواحد مجرور على أنّ العمل في جميعه أو منفيّ عن جميعه ، والآخر يكون نفي العمل عن بعضه ، فلما اختلفا لم يسغ عطفهما.

فإن قيل : فهل يجوز النصب على إضمار فعل؟

فالجواب أن تقول : إن تقدّم الحال جاز وإن تقدّم الماضي لم يجز ، ألا ترى أنّه سائغ أن تقول : «ما رأيته مذ يومنا ويوم الجمعة» ، على تقدير : وما رأيته يوم الجمعة ، ولا يسوغ أن تقول : «ما رأيته مذ يوم الجمعة ويومنا» ، لأنّ قولك : «مذ يوم الجمعة» ، يقتضي أنّك رأيته في أوله وانقطعت الرؤية إلى زمن الإخبار ، فلا فائدة في قولك : ويومنا ، إلّا أن يكون من قوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)(١).

ف «مذ» و «منذ» لا تدخلان إلّا على الزمان ، فإن دخلا على غيره فمؤوّل. ولا تدخلان منه إلّا على المعدود أو معرفة ، فلا يجوز : «ما رأيته مذ حين» ولا «مذ زمان» ، ولا «مذ وقت». وتقول : «ما رأيته مذ الليلة ومذ اليوم» ، ولا يجوز «مذ الليل ولا مذ النهار» ، لأنّ «النهار» عبارة عن الضياء و «الليل» عبارة عن الظلام ، وذلك لا يحصل شيئا شيئا ، فلذلك لم ندخل عليهما «مذ». نقل الأخفش أنّ النهار عندهم الضياء والليل الظلام. فإن

__________________

(١) سورة الرحمن : ٦٨.

١٥٦

قيل : ألم يجز سيبويه رحمه‌الله : «سرت الليل» ، تريد : ليل ليلتك ، والنهار ، تريد نهار نهارك ، فهلا أجزتم مذ الليل ومذ النهار ، على هذا المعنى؟ فالجواب : إنّ ذلك لا يتصوّر و «مذ» توجب التصرف لما تدخل عليه لأنّها ترفعه أو تجره ، ولما كان الزمان يقع بعدها لذلك لم يدخل العرب واحدة منهما على الصباح والمساء إلّا قليلا ، لأنّه في الأصل اسم في موضع المصدر بمنزلة العطاء ، فالأصل : أمسى إمساء وأصبح إصباحا ، ثم وضع الصباح والمساء في موضع المصدر ، فلمّا استعملا في الزمان ، ولم يكن الأصل فيهما ذلك ، لم يجز أن تجرهما «مذ» و «منذ» ، ولا أن يرتفعا بعدهما.

ومن راعى أنّها قد كانت تكون في الزمان أدخلهما في جملة الأزمنة ، فجرهما بـ «مذ» و «منذ» ورفعهما.

وإن وقع ما ليس بزمان بعدهما يؤوّل ، فإن قلت : «ما رأيته مذ زيد قائم ومذ الحجّاج أمير» ، كان الزمان محذوفا والجملة مضافة له. وأسماء الزمان تعلّق عما تخفضه باتفاق ، ومن غيرها ولا يتعلق خافض سوى ما ذكر. وإذا قلت : ما رأيته مذ أنّ الله خلقني ، فالزمان عند الفارسيّ محذوف لأنّ «أنّ» ليست زمانا.

ومن الناس من لم يحذف مضافا ، وجعل «أنّ» مصدرا يراد به الزمان بمنزلة : «خفوق النجم» و «مقدم الحاجّ». والقول الأول أحبّ إليّ لأنّهم لا يقولون : «مذ الصباح» ، إلّا قليلا ، فالأحرى أن لا يجيزوا بها «أنّ» التي تتقدر بالمصدر ثم يكون ذلك المصدر زمانا.

وإذا قلت : «ما رأيته مذ يومان» ، فالناس مختلفون في الرفع لما بعد «مذ». فمنهم من ذهب إلى أنّه ارتفع بفعل مضمر وهو الكسائي. وذلك باطل لما تقدّم في أول الباب. وأيضا فإنّهم يقولون : «ما رأيته مذ أن الله خلقني» ، والجملة لا تكون فاعلة ، وكذلك قولهم : «ما رأيته مذ زيد قائم» ، فهذا المذهب فاسد. ومنهم من قال : إنّه ارتفع على الابتداء ، و «مذ» خبر مقدّم ظرف ، والتقدير : بيني وبين لقائه يومان. وهو أبو القاسم.

وزعم الفارسي وأبو بكر أنه خبر مبتدأ وأنّ التقدير : مدّة ذلك يومان ، وهذا أولى ، لأنّه يطرد ولا ينكسر أصلا ، ومذهب أبي القاسم ينكسر ، ألا ترى أنّه لا يسوغ في «ما رأيته مذ يوم الجمعة» هذا التقدير لأنّك إن قلت : «بيني وبين لقائه يوم الجمعة» كنت كاذبا ، لأنّ

١٥٧

بينك وبين لقائه أكثر من ذلك وهو ما بعد يوم الجمعة. وإذا قلت : أول ذلك يوم الجمعة ، جاز لأنّك أخبرت بأول الانقطاع أنّه كان في يوم الجمعة ثم اتصل.

فمذهب أبي علي الفارسي أولى لاطراده.

واعلم أنّ «مذ ومنذ» إذا وقع بعدهما الزمان ووقع بعدهما الفعل فلا بدّ أن يكون ذلك الفعل ماضيا ، وإن كان مضارعا ، فلا يجوز إعماله في ظرف ماض ولا مستقبل ، فلا تقول : «ما رأيته مذ زمن يقوم أمس» ، لتنافر ما بين «يقوم» و «أمس». وكذلك لا يجوز : «ما رأيته مذ زمن يقوم غدا» ، لأنّ معناه الماضي ، ولا يقع المضارع موقع الماضي إلّا في مواضع محفوظة. فإن جئت بفعل مضارع ، فإنّما يكون وحده غير معمل في شيء ، ويكون على حكاية الحال ، فتقول : «ما رأيته مذ زمن يقوم» ، تريد : منذ زمن كان فيه يقوم.

واعلم أنّ «مذ» و «منذ» إذا دخلت واحدة منهما على الفعل ، فلا بدّ من أن تكون الصيغة ماضية ، فتقول : «ما رأيته مذ قام زيد» ، ولا يجوز : «مذ يقوم زيد». وعلّة ذلك أنّ الفعل إذا وقع بعدهما ، فلأنّه على تقدير زمن محذوف ، فهو هنا مجاز ، فكرهوا أن يكون ثمّ مجازان : حذف الزمان وحكاية الحال.

واعلم أنّك إذا أوقعت بعدهما الليالي فإنّ الأيام داخلة معهما ، فإذا قلت : «ما رأيته مذ ليلتان» ، كنت فاقدا له ليلتين ويومين ، فهو انقطعت رؤيته مثلا في عشيّة يوم الجمعة ، ثم اتصل ذلك إلى عشية يوم الأحد ، ولا يجوز أن يكون ذلك اتصل إلى غدوة الأحد إلّا قليلا ، لأنّ العرب كنّت بالليالي عن الأيام ، ولم تفعل ذلك بالأيام. فإذا قلت : «ما رأيته مذ ثلاثة أيام» ، أمكن أن يكون انقطاع الرؤية من ليلتين ، لأنّها لم تكنّ عن الأيام إلّا بالبياض.

واعلم أنّ «مذ» و «منذ» إذا دخلا على أسماء الاستفهام ، فلا بدّ أن يكون ما دخلا عليه يستعمل ظرفا واسما. فيقول : «ما رأيته مذ ثلاثة أيام» ، وأنت لم تدر العدد ، فتقول : مذ كم؟ ويقول : ما رأيته مذ يوم الجمعة ، فلم تدر ابتداء الغاية فتقول : مذ متى؟ ومذ أي وقت؟ ولا يجوز : «مذ مه» ، لأنّ «ما» لا تكون ظرفا و «متى» و «كم» يستعملان ظرفين.

ومن النحويين من أجاز : «مذ مه»؟ لأنّها قد تشبّه بالظرف ، ألا ترى أنّها تكون مع الفعل بمنزلة مصدر ، وذلك المصدر يكون ظرفا ، نحو قول العرب : «سبحان ما سبّح الرعد بحمده». وكذلك سائر أسماء الزمان ، بشرط أن تكون متصرفة ، فتقول : «ما رأيته مذ الشتاء

١٥٨

والصيف» ، ولا يجوز : مذ سحر ، لأنّه لم يتمكن. و «مذ» توجب له الجر والرفع. وقد تقدّم العطف على ما دخلتا عليه.

فإن أبدلت من الاسم الذي يدخلان عليه ، فلا يخلو من أن يكون ماضيا أو حالا ، فإن كان ماضيا جاز ، نحو : «ما رأيته مذ يوم الجمعة أولّه» ، تريد : مذ أول يوم الجمعة.

فإن قيل : هل يجوز النصب بإضمار فعل ، فتقول : «أوّله» ، على تقدير : ما رأيته أوله؟ فالجواب : إنّه يجوز إذا كنت قد فارقته صدر النهار وآخره ، ورأيته وسطه. فإن كان الزمان حالا ، فقلت : «ما رأيته مذ يومنا أوله ، ومذ الليلة أولها» ، فالجر عندنا غير جائز ، لأنّ الحال لم تجعله العرب إلّا ما أضيف إلى النفس أو ما عرّف فأشير إليه. وأمّا ما أضيف إلى غير ذلك فلا.

ومن الناس من أجاز البدل هنا ، وذلك قليل جدا ، والنصب لا يجوز لأنّ ذلك عيّ ، لأنّك إذا قلت : «ما رأيته مذ يومنا أو مذ اليوم» ، فأنت فاقد له في اليوم بجملته ، فلا فائدة في قولك بعده إنك لم تره في أول يوم. ومن الناس من أنكر أن يكون الحال ما أضفته إلى نفسك بل لا بدّ فيه عنده من الإشارة ، فتقول : «ما رأيته مذ يومنا هذا ومذ شهرنا هذا».

والعرب لا تقول : أراه منذ كذا ، ولم تعمل فيه قطّ إلّا الفعل الماضي.

١٥٩

باب الجمع بين «إنّ» و «كان»

قصده في هذا الباب أن يبيّن أنّه لا يجوز فيه الإعمال ، لأنّه لا يجوز ذلك إلّا في الفعلين خاصة أو ما جرى مجراهما ، وأما إذا كان العامل الواحد فعلا والآخر حرفا ، فلا يجوز ذلك ، لأنّه لا يجوز الإضمار في الحرف. والإعمال قد يؤدي في بعض المسائل إلى الإضمار ، فامتنع الإعمال في هذا الباب ، لذلك لم يكن بد من تقديم «إنّ» لأنّ لها صدر الكلام ونصب الاسم بعدها وجعل «كان» وما بعدها في موضع خبر.

ويجوز في مسألة أبي القاسم وهي : «إنّ القائم أبوه كان منطلقة جاريته». تثنية «القائم» و «منطلقة» وجمعهما على لغة من قال : «أكلوني البراغيث» ، لأنّ اسم الفاعل إذا رفع الظاهر كان حكمه حكم الفعل إذا رفع فتقول : «إنّ القائمين أبوهما كانا منطلقين جاريتاهما» ، و «إنّ القائمين أبوهم كانوا منطلقات جواريهم». وما عدا ذلك من زيادة «كان» ، فأمرها واضح ، وقد تقدّم الكلام عليه في باب «كان».

١٦٠