المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

الدكتور صائب عبد الحميد

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-06-4
الصفحات: ١٢٥

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الاسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتي يومنا هذا غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوى جهداً تحقيقّياً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها...
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

للخلافة ؛ فاعتقدوا بخلافة أبي بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ علي ، واعتقدوا أنّ الخلافة شورى وانتخاب..

لكنّ المبدأ الآخر ، وهو أساسي لديهم مميّز لهم عن سواهم ، وهو الاعتقاد بكفر مرتكب الكبيرة ، قد ترك أثره على الصياغة الاُولى مع المحافظة على ترتيبها ، فبقي الإيمان بترتيب الخلفاء كما هو ، لكن قسموا حكومة عثمان إلى نصفين فآمنوا بالأول وكفروا بالثاني وتبرّأوا من عثمان في السنين الستّ الأخيرة من خلافته ، وكذا فعلوا مع خلافة عليّ عليه‌السلام فآمنوا بأوّلها وكفروا بآخرها منذ التحكيم ، ومن الكبائر عندهم عدم البراءة من عثمان وعلي في السنين الأخيرة من حكمهما ، ومثل هذا الذنب يستحلّون به الدماء والأموال !

ـ ثمّ أحدثوا مقولة جديدة في الخلافة ، تقضي بجوازها لكلّ مؤمن قادر على القيام بأعبائها ولا تشترط فيه القرشية.

والصحيح أنّ الذي ألجأهم إلى هذا الاعتقاد ، هو عدم وجود قرشي في رجالهم ، مع قلّة عددهم بالنسبة إلى غيرهم ، وسلوكهم نهج المواجهة بالسيف ، فاحتاجوا لأجل ذلك إلى نظمٍ شديد ودقيق لأمرهم ولجماعتهم ، فلو التزموا قاعدة « الأئمّة من قريش » لتبدّدوا وضاع أمرهم قبل أن يجتمعوا على قرشيّ يقوم بأعباء منهجهم.. فهذا الذي دعاهم إلى نقض شرط القرشية في الخلافة ، وليس هو « التطبيق الأول لروح فلسفة الإسلام في هذا المقام » كما صوّره الدكتور محمّد عمارة (١) رغبةً في تدعيم النهج « الديمقراطي » في الحكم ، والذي كان يركّز عليه بشكل بيّن ، ولأجله حضي « المارقون » بعطفه ، ونال « المعتزلة »

_____________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية : ١٤٢.

٦١
 &

المرتبة الاُولى في اهتمامه.. وإلّا فلقد جمع الأستاذ نفسه في مقدّمة الموضع المشار إليه من بحثه المادةَ الكافية في تحصيل الجواب الصحيح لتمرّد « المارقين » عن شرط القرشية ، إذ وضع جدولاً بأسماء زعماء هذه الفرقة ، فأحصى ثمانية عشر زعيماً لهم على الترتيب ، ليس فيهم قرشي واحد ، وقد التفت إلى ذلك فقال : فهم جميعاً ما بين عربيّ غير قرشي ، وما بين مولى من الموالي اشترك في البيعة له « بإمرة المؤمنين » العرب والموالي على حدٍّ سواء !

والذي ينبغي أن يُلتَفت إليه أنّهم لو وجدوا قرشياً يسندون أمرهم إليه لما خفيت عليهم المصلحة في تسويده آنذاك ، ولسار إلى البيعة له العرب منهم والموالي على حدٍّ سواء.. ألا ترى أنّ منهم من أجاز البقاء بلا إمام ، وقالوا : إنّ إقامة الإمام ليست واجبة بإيجاب الشرع ، بل جائزة ، وإذا وجبت فإنّما تجب بحكم المصلحة والحاجة ؟! هذا قول النجدات منهم (١).

فهل انتزعوا هذا من روح فلسفة الحكم في الإسلام ؟ أم أملاه عليهم واقعهم ، إذ كانوا قليلين خائفين متفرّقين في البلاد لا يستطيعون أن يجتمعوا على إمام لهم إلّا حين يجدون في أنفسهم قوة على القتال ، أو يرغمون عليه إرغاماً حين تبدأهم السلطة بالقتال ! فذلك هو الذي ألجأهم إلى التهرّب من وجوب نصب الإمام والانتظام في جماعة.

وصريح في هذا قول الإباضية : « الإمامة واجبة حفظاً للدين ، وإذا بلغ عددهم نصف عدد مخالفيهم وجب عليهم نصب الإمامة الإباضية ، وإلّا

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٠٦.

٦٢
 &

فأولى الاُمور الكتمان » ! (١) فذلك كلّه راجع إلى تقديرهم للمصلحة ، لا غير !

مرحلة الانقسامات :

عاود هؤلاء نشاطهم الحربي بعد انتظام الملك لمعاوية ، وكانت لهم في العهد الاُموي حروب عديدة طاحنة كادت تفني وجودهم ، فتضعضع أمرهم بسبب ذلك كثيراً.

وزاد في تشتيت أمرهم وقوع الاختلاف الكثير في ما بينهم ، في مسائل كثيرة ألحّت عليهم حين أصبحوا يواجهون مباشرة مشاكل المجتمع المعقّد سياسياً وفكرياً ، فاختلفت إجاباتهم عليها ومواقفهم إزاءها فتفرّقوا على ذلك فرقاً ، اختلف فيها أصحاب تواريخ الفرق كثيراً (٢) ، إنّما بقي يجمعهم تحت عنوان رئيسي واحد جملة من عقائد المحكّمة الاولى ؛ كالبراءة من أصحاب الكبائر ، وتجويز الإمامة لغير القرشي ، وأنّ الإمامة بالانتخاب ، وإذا زاغ الإمام وجب عزله أو قتله.

أمّا أهمّ هذه الأقسام وأكثرها أثراً في التاريخ ، فهي ثلاثة :

١ ـ الأزارقة : أتباع نافع بن الأزرق الحنفي ـ من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذّاب ـ وهو صاحب الأسئلة المعروفة في غريب القرآن التي أجابه عليها ابن

_____________

(١) الإباضية مذهب إسلامي معتدل / علي يحيى بن معمر : ٢٥ ـ ٢٦ (ط ٢) بواسطة د. أحمد جلي / الخوارج والشيعة : ٩٧ ـ ٩٨ ـ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ـ ط ٢ ـ ١٤٠٨ هـ.

(٢) اُنظر : مقالات الإسلاميين / الأشعري : ١ / ١٦٣ ـ ١٩١ ـ ط ٢ ـ ١٤٠٥ هـ ، الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٠٥ ـ ١٢٤.

٦٣
 &

عباس رضي‌الله‌عنه (١) ، وكان لهؤلاء حروب شديدة مع الاُموييّن في البصرة وبلاد فارس ، حتّى فَنوا على يد المهلّب بن أبي صفرة في زمن عبد الملك بن مروان (٢).

٢ ـ النجدات : أصحاب نجدة بن عامر الحنفي ـ من قوم مسيلمة أيضاً ـ وقد تمكّنوا في عزّ قوّتهم من الاستيلاء على البحرين وحضرموت واليمن والطائف..

وأساس الافتراق بينهم وبين الأزارقة كان خلافهم في « التقيّة » و « القعود عن القتال ». فقال نافع : التقية لا تحلّ ، والقعود عن القتال كفر. فخالفهُ نجدة ، وقال : التقية جائزة ، والقعود عن القتال جائز ، والجهاد إذا أمكنه أفضل. فانترقا على ذلك ، فسمّي النجدات « العاذرية » لأنهم عذروا القاعد عن القتال لعذر. ثمّ قال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام إلّا إذا اقتضت المصلحة ، تمشّياً مع حالهم في التقية التي آمنوا بها (٣).

٣ ـ الإباضيّة : وهي الفرقة الباقية اليوم من بين سائر فرقهم الاُخرى. لذا رأينا التفصيل في أخبارها أكثر :

تاريخ تسميتهم بالإباضية : نسبة إلى عبد الله بن إباض ـ بكسر الهمزة أو بفتحها ـ ولم يكونوا في تاريخهم المبكّر يستعملون هذه التسمية بل كانوا يسمّون أنفسهم : « جماعة المسلمين » و « أهل الدعوة » ولم تظهر التسمية بالإباضية في مؤلّفاتهم إلّا بعد ثلاثة قرون تقريباً (٤).

_____________

(١) الاتقان في علوم القرآن / السيوطي ٢ : ٥٦ ـ ٨٨ ـ المكتبة المصرية ـ بيروت ـ ١٩٨٨ م.

(٢) اُنظر : الكامل في التاريخ ٤ : ٤٤٣.

(٣) اُنظر : الملل والنحل ١ : ١١٢.

(٤) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / مبارك بن عبد الله بن حامد الراشدي : ١٤٦ ـ

٦٤
 &

قال الراشدي ـ وهو محقّق إباضي ـ : لكنّ طغيان هذا اللقب عليهم جاء من خصومهم الاُمويين ومن جرى مجراهم.. فارتضوه لأنّهم لم يجدوا عيباً فيه ، بعكس كلمة « الخوارج » وإنْ أطلقها ـ أي كلمة الخوارج ـ المؤرّخون الإباضيون القدامى على أنفسهم في بادئ الأمر ، فإنّهم يعنون الخروج على الجور وهو الخروج في سبيل الله ، ويرادف الشراء عندهم (١).

وقال السيابي : هذه التسمية جاءتنا من مخالفينا ، فقبلناها غير متبرّمين منها (٢).

النشأة والتكوين : ينفي الإباضيّون صحّة نسبتهم إلى ابن إباض ، ويعدّونه واحداً من رؤسائهم فقط ، أما مبادئهم التي ميّزتهم فقد كانت قبل ابن إباض ، فقد أعلنها أولاً أبو بلال ، مرداس بن حدير ، وهو أحد المحكّمة الاُولى وممّن نجا من أصحاب النهروان ، وانفصل عن المارقة في البصرة ، قائلاً : « والله إنّ الصبر على هذا ـ يعني الظلم الاُموي ـ لعظيم.. وإنّ تجريد السيوف وإخافة السبيل لعظيم.. ولكنّنا ننتبذ عنهم ، ولا نجرّد سيفاً ، ولا نقاتل إلّا مَن قاتَلنا » (٣).

_____________

١٤٧ ـ ط ١ ـ ١٤١٣ هـ ، واُنظر : الإباضية عقيدة ومذهباً / د. صابر طعيمة : ٤٦ ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ١٤٠٦ هـ فقد نقل مثل هذا عن المؤرّخ الإباضي علي يحيى بن معمر في كتابه / الإباضية بين الفرق الإسلامية : ٣٥٤ ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة ـ ط ١ ـ ١٩٧٦ م.

(١) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / الراشدي : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية / عدّون جهلان : ٣٦ ـ مكتبة الضامري ـ ط ٢ ـ سلطنة عمان ـ ١٤١١ هـ.

(٣) مصدر سابق / الراشدي : ٥٨٩ ، الكامل / المبرّد ٢ : ٢٠٢ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٩ م.

٦٥
 &

وهذا هو المبدأ الذي ميّز هذه الطائفة عن غيرها من المارقة ، وهو الذي حفظ لها وجودها وبقاءها.

وقد روي عن أبي بلال اعتقاده هذا قبل انفصاله ، فحين بلغه أنّ قريب الأزدي وزحّاف الطائي يخيفان السبيل ويقتلان من صادفهما ، قال : « قُريب ، لا قرّبه الله ! وزحّاف ، لا عفا الله عنه ! ركباها عشواء مظلمة » (١).

وكان أصحاب مرداس أربعين رجلاً ، قتلوا جميعاً قبل ظهور ابن إباض ، فيكون ابن إباض هو الرجل الذي جدّد هذه الدعوة ، فنسبت إليه.

ـ أمّا مرجعهم في الفقه والاُصول والعقيدة فإلى جابر بن زيد بن أبي الشعثاء الأزدي (٢) ، وهو تابعيّ ، خرّج أحاديثه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ، واتّفقوا على توثيقه ، وصرّح يحيى بن معين بنسبته إلى الإباضية ، لكن المزّي ذكر رواية تنسب إليه القول بالبراءة منهم ؛ قيل له : إن هؤلاء القوم ـ الإباضية ـ ينتحلونك. فقال : أبرأ إلى الله منهم ! (٣).

ـ أمّا مصدر هم المعتمد في السنن والأحكام ، فهو : مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري ، ويسمّونه « الجامع الصحيح » ويعتقدون بصحّة كلّ ما فيه سواء كان مسنداً أو مرسلاً ، وهو عندهم أصحّ كتاب بعد القرآن العزيز (٤).

_____________

(١) الكامل / المبرّد ٢ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) الإمام أبو عبيدة وفقهه / الراشدي : ١٤٨ ، الفكر السياسي عند الإباضية / عدّون جهلان : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) اُنظر ترجمته في : تهذيب الكمال ٤ : ٤٣٦ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٤.

(٤) الجامع الصحيح / عبد الله بن حمد السالمي ـ المقدمة / التنبيه الأول : ٢ ـ مكتبة مسقط ـ ط ١ ـ ١٤١٥ هـ.

٦٦
 &

وقد ضمّ المسند أكثر قليلاً من ألف حديث (١) ، ومعظم هذا المسند هو من رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وفيه أحد عشر حديثاً ومسألة عن عليّ عليه‌السلام.

الانتشار : كان لهذا المذهب انتشار مبكّر في عُمان ، تأثّراً بجابر بن زيد صاحب المسند الجامع ، كنا انتقل هذا المذهب من البصرة إلى المغرب العربي بواسطة سلمة بن سعد في سنة ١٠٠ هـ ، في نفس الوقت الذي انتقلت فيه مقولة الصفرية ـ إحدى فرق المارقة ـ إلى هناك بواسطة عكرمة مولى ابن عبّاس.

ومن هنا فقد ظهرت لديهم أحاديث عجيبة في فضل البربر وأهل عمان ؛ فجبريل يوصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتقوى الله وبالبربر ! وعلي وابن مسعود يُكثران الوصاية بهم ويفسّران غير واحدةٍ من آي القرآن فيهم ، كقوله تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) وقوله تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (٣) فهم البربر !

وقد سئل شيخهم المعاصر عن هذه الأحاديث ، فقال : الأحاديث التي وردت في فضائل أهل عمان وفي فضل عمان ذاتها أخرجها مسلم في صحيحه ! وأمّا التي ذكرها أبو زكريّا في البربر فلا يُعلَم صحّتها من عدمها ، أمّا الجامع

_____________

(١) ينتهي تسلسل أحاديثه برقم ١٠٠٥ ، لكن كثيراً من الأرقام قد وضع وراءها أكثر من حديث واحد مختلفة سنداً ومتناً كما في الرقم (٧٨٨) و (٧٩٢) و (٨٠٥) وغيرها.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٣) سورة محمّد : ٤٧ / ٣٨.

٦٧
 &

الصحيح فليس فيه شيء لا في عمان وأهلها ، ولا في البربر ! (١).

المبادئ : المبادئ التي ميّزتهم عن سائر طوائف المارقين ، هي :

أ ـ استنكارهم الحكم على دار الإسلام كلّها بأنّها دار حرب ، وقولهم بأنّها دار توحيد ، إلّا معسكر السلطان فإنّه دار بغي.

ب ـ تحريمهم قتال مخالفيهم وسبيهم في السرّ غيلةً ، إلّا بعد نصب القتال وإقامة الحجّة.

ج ـ الحكم على مخالفيهم من المسلمين بأنّهم كفّار نعمة ، لا كفّار في الاعتقاد ولا مشركين.. وقال المعاصرون منهم : إن لفظ (كفّار نعمة) يطلقه الإباضيون حتّى على العصاة منهم ، دون تمييز بين أبناء جماعتهم وبين مخالفيهم.

د ـ إنّهم يعاملون مخالفيهم في القتال معاملة الفئة الباغية ، فلا يستحلّون شيئاً من أموالهم كغنيمة (٢).

هـ ـ في موقفهم من الإمام علي عليه‌السلام ومن عثمان اختلفوا كثيراً عن غيرهم ، فقالوا : « إنّ ممّا يميّز الإباضيّة : حبّهم لأبي بكر وعمر ، وكفّ ألسنتهم عن عثمان وعليّ لما ألمّا به من الفتن وتقلّب الأحوال ، وقبولهم عمر بن عبد العزيز ، وتركهم ما سواه من بني اُميّة وإعراضهم عنهم وعن بني العبّاس » (٣). ونسبوا هذا القول

_____________

(١) الإمام أبو عبيدة التميمي وفقهه / الراشدي : ٣٣٥.

(٢) راجع في ذلك كلّه : الملل والنحل ١ : ١٢١ ، المذاهب الإسلامية : ١٢٧.

(٣) أصدق المناهج في تمييز الإباضية من الخوارج / سالم بن حمود السمائلي : ٢٩ ـ القاهرة ـ ١٩٧٩ م ، فصل الخطاب في المسألة والجواب / خلفان بن جميل السيابي : ٢٠ ـ ٢١ ، ٣٧ ـ وزارة التراث القومي والثقافة ـ سلطنة عمان ـ ١٤٠٤ هـ.

٦٨
 &

إلى سَلَفهم الأوّل ، كأبي عبيدة التميمي وشيخه جابر بن زيد (١).

وقد استنكروا على بني اُميّة شتمهم أمير المؤمنين والسبطين عليهم‌السلام وعدّوه من بدعهم في الدين ، ونقلوا عن أسلافهم أنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم لئلّا يسمعوا هذا الشتمّ في خطب الاُمويّين (٢). وزادوا على ذلك أنّ أصحابهم هم الذين طلبوا من عمر بن عبد العزيز ترك ذلك والنهي عنه ، ففعل ! (٣)

وأجاب السيابي عن سؤال في الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فقال : « أمّا الحسن والحسين فهما سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه ، وهو يُحبّهما ، ووردت فيهما أحاديث ، أمّا الأحداث التي جرت بين الصحابة فكلّهم مجتهد وملتمس للحقّ ـ فيذكر المتقدّمين الذين شهدوا الأحداث فحكموا بما شهدوا ، ثمّ يقول ـ أمّا اليوم فلسنا نحن مثلهم ولا علمنا في ذلك كعلمهم ، ولا نقلّد ديننا الرجال ، وما كلّفنا الله التنقيب والتفتيش عن عيوب الناس وعن حال من مضى ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤).

وما مضى قبلك لو بساعة

دعه فليس البحث عنه طاعة » (٥)

فهذا أثر واضح للتحرّر نسبيّاً من قيد التقليد ، ولقد جاوز الإباضية التقليد الأعمى في عهد مبكّر ، كما هو ظاهر جدّاً عند ابن سلام الإباضي المتوفّى بعد سنة

_____________

(١) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٦.

(٢) بدء الإسلام وشرائع الدين / ابن سلّام الإباضي : ٩٩ ـ ١٤٠٦ هـ ، الإمام أبو عبيدة وفقهه : ٩٠.

(٣) الإمام أبو عبيدة وفقهه : ١٥٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣٤.

(٥) فصل الخطاب في المسألة والجواب : ٢٠.

٦٩
 &

٢٧٣ هـ في كتابه (بدء الإسلام وشرائع الدين) (١).

وقال شيخهم المعاصر أحمد الخليلي يصف ما كتبه الإباضية في هذا الشأن بأنّه « يتّسم بالأدب والحشمة وتعظيم مقام الإمام عليّ واحترام قرابته من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى في مقام العتاب » (٢).

وهذه ظاهرة يجدها الباحث في غالب كتبهم ، وقد شذَّ عنها بعضهم ، لا سيّما محمّد بن سعيد الأزدي القلهاني الإباضي ، من أعلام القرن الحادي عشر الهجري ، في كتابه (الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان) (٣).

من عقائدهم في الصفات : إنّ أغلب عقائدهم في الصفات مطابق للثابت عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذه أهم أركانها :

أ ـ تنزيه الله تعالى ، بنفي التشبيه والتعطيل والتجسيم ، خلافاً للحشوية ، والمجسّمة ، والجهمية المعطّلة.

ب ـ نفي رؤية العباد لربّهم تعالى شأنه ، في الدنيا وفي الآخرة ، خلافاً للأشعرية والحشوية.

جـ ـ القول بأنّ صفات الله عين ذاته ، وليست بزائدة عليها ، خلافاً للأشعريّة والحشوية (٤).

ولأجل هذه العقائد وصفهم بعض المؤرّخين بأنّهم (معتزلة) في العقائد ،

_____________

(١) شارك في تحقيقه : فيرنر شفارتس ، والشيخ الإباضي سالم بن يعقوب ، طبع سنة ١٤٠٦ هـ ، ١٩٨٦ م.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٦.

(٣) طبع في تونس عام ١٩٨٤ بتحقيق محمّد بن عبد الجليل.

(٤) الفكر السياسي عند الإباضية : ٦٨ ـ ٧٢.

٧٠
 &

وقَلَبَ آخرون : القول مع إقذاع في الكلام ، فوصفوا المعتزلة بأنّهم (مخانيث الخوارج) ! (١).

لكنّ الإباضية خالفوا المعتزلة ـ كما خالفوا أهل البيت عليهم‌السلام ـ ووافقوا الحشوية والأشعرية في مسألة خلق القرآن (٢).

الجبرية :

لقد احتاج الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّى مناصبهم هذه فهي من الله تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك ! وليكونوا مخوّلين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك.. وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم بعدهم علماء كبار !! يقول ابن العربي في معرض « تأسّفه ! » على مصرع الحسين عليه‌السلام : « ولو لا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الاُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البيت... وما أسلموه أبداً » ! (٣)

_____________

(١) الفكر السياسي عند الإباضية : ٨٢. ونسبه إلى ابن تيمية ! والصواب أنّه كلام معروف قبل ابن تيمية (٧٢٨ ه‍) بقرون ، فقد نقله البغدادي (٤٢٩ هـ‍) بنصّه في كتاب / الفرق بين الفِرق : ٨٢.

(٢) الفكر السياسي عند الإباضية : ٧٩.

(٣) العواصم من القواصم ـ بتعليق محب الدين الخطيب : ٢٤٥.

٧١
 &

والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لوجدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً وأراد الله شيئاً غيره ؟!

وفي الحالين كان (نظام الغَلَبة) هو الباعث إلى هذه المقولة !

ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقلٍ حرّ أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (١) فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!

فقال له الأحنف بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (٢)

عندئذٍ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جداً.

ـ قيل لابن عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي !

فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر اللهُ على المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد

_____________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.

(٢) ربيع الأبرار / الزمخشري : ٦٨٣ ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ هـ.

٧٢
 &

عاملون ! (١)

ـ ولقد أدرك ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً ، قال فيه : أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون ؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون ؟! يا أبناء سَلَف المنافقين ، وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين ! هل منكم إلّا مفترٍ على الله ، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه ؟! (٢)

ـ واقتحمت هذه العقيدة البصرة ، ورقت إلى مجلس الحسن البصري ، فزجر أصحابها وقال : « إنّ الله خلقَ الخلق للابتلاء ، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغَلَبة ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه ، والمالك لما ملكهم إيّاه ، فإن يأتمروا بطاعة الله لم يكن لهم مثبّطاً ، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم ، وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادراً على صرفهم ، إن شاء حال بينهم وبين المعصية ، فمن بعد إعذار وإنذار » (٣).

ورغم تلك المواجهات فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام ، حتّى انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً جديدة ، بعد تعديل لفظي أدخله بعنوان (الكسب) (٤) وهو مفهوم اعتباري ليس له أيّ قيمة حقيقية ، وإنّما

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٧٣ عن (المنية والأمل) للمرتضى.

(٢) المذاهب الإسلامية : ١٧٢.

(٣) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٢ : ٨٣ ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ ١٩٨٦ م ، ونحوه في المذاهب الإسلامية : ١٧٢ ـ ١٧٣ عن المنية والأمل.

(٤) اضطربوا في تعريف الكسب كثيراً ، والمحصل أنّ بين قدرة الله المؤثرة على العبد

٧٣
 &

اُريد به التميّز عن الجبرية الخالصة التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً.

ومنذ زمن عبد الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروّجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره ، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها ، إذ كانوا يقولون : إنّ الله إذا استرعى عبداً رعيّته كتبَ له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات !. لكنّها كانت مقولة هزيلة تردّد حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (١).

وبقيت هذه المقولة تَتّهم الله تعالى بإكراه العبد على المعاصي ، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه المعاصي التي تجري على أيدي العباد ، ثمّ هو يعذّبهم عليها ! بحجّة ساذجة يردّدونها دوماً ، مفادها أنّ الله تعالى لا يُعصى مكرَهاً ، فهو إذن لا يعصى إلّا وهو يريد هذه المعصية أن تقع من العاصي ، ثمّ هو الذي يخلقها فيه

_____________

وبين إيجاد الله لأفعال العبد ، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة الله ، وهي الكسب.. وقد اعترف متأخروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له ، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أي دور إلّا الاقتران ؟ [اليواقيت والجواهر / الشعراني ١ : ١٤٠ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٩٥٩ م] وقد طعن أكثر الناس بنظرية « الكسب » وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظّام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري ! وأنشد بعضهم في ذلك :

مما يقالُ ولا حقيقة تحته

معقولة ، تدنو إلى الأفهام

الكسبُ عند الأشعري والحالُ عنـ

ـدَ الهاشمي ، وطفرةُ النظّام

[منهاج السنّة / ابن تيمية ١ : ١٢٧].

(١) اُنظر استفساره من الزهري عنها ، وجواب الزهري في إبطالها : العقد الفريد ١ : ٤٦.

٧٤
 &

لأنّه ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) ! هكذا دون تمييز بين إرادة تكوينية وإرادة تشريعية ، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة الله تعالى وقدرته.

المفوّضة « القدريّة » :

إنّ دعوة الاُمويّين لتثبيت دعائم الجبرية كانت السبب المباشر في ظهور الاتجاه العقيدي المعاكس الذي أنكر الجبر ، ونادى بحرية الاختيار الإنساني..

وفي نفس الموطن الذي نبتت فيه عقيدة الجبر وترعرعت نشطت العقيدة المعاكسة ، وإن كان أول ظهور لها في العراق على يد التابعي معبد الجهني ، وعنه أخذها صاحبه غيلان الدمشقي..

فكانت هذه العقيدة ردّ فعل صريح للقول بالجبر.. ففي أول لقاء لمعبد الجهني بالحسن البصري في البصرة ، قال له : يا أبا سعيد ، إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قَدَر الله !

فقال له الحسن البصري : كذبَ أعداءُ الله ! (٢)

وثار معبد على الاُمويين في حركة القرّاء أيام عبد الملك بن مروان ، فأخذه الحجّاج بعد فشل الحركة فعذّبه ثمّ قتله (٣).

ومضى غيلان في دمشق يشنّع على الاُمويين وأنصارهم في استنكار مقولتهم الجبرية ، حتّى أحسّ أنّهم طلبوه ، فهرب منهم حتّى زمن عمر بن عبد العزيز ، فلمّا رأى منه عدلاً كتب إليه كتاباً يذكّره فيه ويعظّم عليه مقولة سَلَفه ، مما جاء

_____________

(١) سورة الصافّات : ٣٧ / ٩٦.

(٢) اُنظر : تطوّر تفسير القرآن : ١٠١.

(٣) البداية والنهاية ٩ : ٤٣.

٧٥
 &

فيها ، قوله : « هل وجدتَ يا عُمر حاكماً يعيبُ ما يصنع ؟ أو يصنع ما يُعيب ؟ أو يعذّب على ما قضى ؟ أو يقضي ما يُعذِّب عليه ؟! أم هل وجدتَ رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ؟ أو يعذّبهم على الطاعة ؟! أم هل وجدت عدلاً يحمل الناسَ على الظلم والتظالم ؟ وهل وجدتَ صادقاً يحمل الناس على الكذب والتكاذب ؟! كفى ببيان هذا بياناً ، وبالعمى عنه عمى ! (١)

فدعاه عمر بن عبد العزيز فسأله عن عقيدته ليناظره فيها ، وكان عمر جبرياً ، وكان من وراء عمر حاجب له يشير إلى غيلان بالذبح ! فعلم غيلان أنّ عمر قد عزم على قتله ، فأجابه إلى ما أراد ، وقال له : « لقد جئتك ضالاً فهديتني ، وأعمى فبصّرتني ، وجاهلاً فعلّمتني ، والله لا أتكلّم في شيء من هذا الأمر » ! (٢) لكنّه عاد إلى الكلام فيه بعد موت عمر ، حتّى قبض عليه هشام بن عبد الملك فقتله بعد مناظرة قصيرة أدارها معه الأوزاعي بدعوة من هشام لتكون ذريعةً إلى القتل الفوري (٣).

والخطأ الذي ارتكبه هؤلاء أنّهم حين قالوا بالإرادة والاختيار فوّضوا كلّ شيءٍ إلى الإنسان ونفوا كلّ أثر لمشيئة الله تعالى وإذنه ، ففرّطوا في مشيئة الله في مقابل إفراط الجبريين الذي عطّلوا أيّ دور وأثر للإنسان في أقواله وأفعاله !

وانتقل هذا المذهب من معبد وغيلان إلى المعتزلة ، فبقي ببقائهم ، ثمّ اضمحلّ باضمحلالهم.

_____________

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٨.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٠ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٣) راجع : مختصر تاريخ دمشق ٢٠ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، المذاهب الإسلامية : ١٩٠.

٧٦
 &

ـ أمّا ما يتناقله أصحاب الفِرَق وتواريخها من نسبة هذه المقولة إلى النصارى وأنّ معبد الجهني أخذها من رجل نصراني ، فهو كلام ليس له قيمة علمية ، ولا يعدو كونه لوناً من ألوان التراشق بالتُّهم بين الخصوم ، مع ملاحظة أنّ هذا الفريق كان يواجه تيار السلطة وأنصارها !

ولهذا السبب نفسه تجد كتب الحديث مليئة بالأحاديث التي تؤيّد عقيدة الجبر ، وتحذّر من « القدرية » ومقولتهم في نفي القدر ! وتعدّت الأحاديث تسمية القدرية إلى تسمية غيلان الدمشقي باسمه الصريح ونسبته الدمشقية ، تدينه وتحذّر منه ، وتثني على وهب بن منبّه الذي كان يخاصمه دفاعاً عن عقيدة السلطان (١) !! الحديث يقول : « سيكون في اُمّتي رجلان : أحدهما يقال له وهب ، يؤتيه الله الحكم ، والآخر يقال له غيلان هو شرّ على اُمّتي من إبليس » (٢) !!

بل ولهذا السبب نفسه لُقّب هؤلاء بالقَدَرية وهم نفاة القَدَر ، وهذا اللقب أولى أن يطلق على من أثبت القدر اللازم ، وسرّ ذلك أنّ القويّ المتغلّب لمّا علم بالحديث المروي في ذكر مجوس هذه الاُمّة وقد سمّاهم (القدرية) سارع إلى تطويق خصومه به والاحتيال في تبريره (٣) ! وسوف تأتي شهادة الإمام علي عليه‌السلام أنّ القدرية الذين شبّههم الحديث بالمجوس إنّما هم القائلين بالجبر ، والذين سُمّوا جبرية ! (٤).

_____________

(١) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٥ : ٥٤٣ ـ دار صادر ـ بيروت ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٥٤٦.

(٢) اُنظر : دلائل النبوة / البيهقي ٦ : ٤٩٦ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٩٨٥ م.

(٣) راجع ص ٤٣ من كتابنا : تاريخ الإسلام الثقافي ـ مركز الغدير ـ ط ١ ـ ١٤١٧ هـ.

(٤) اُنظر : الملل والنحل : ٤٩.

٧٧
 &

هَديُ الكتاب والسنّة في الفعل والإرادة :

ـ عن عليّ عليه‌السلام وهو يردّ شبهة علقت في ذهن أحدهم ، قال : « لعلّك تظنّ قضاءً حتماً وقَدَراً لازماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم يكن علي مسيءٍ لائمة ، ولا لمحسن محمدة.. تلك مقالةُ عَبَدةِ الأوثان وخصماء الرحمن ، وقَدَرية هذه الاُمّة ومجوسها.. » ! فهو إلى هنا ينقض مقولة الجبرية ويسمّيهم بالاسم الذي هو أوفق بهم « القَدَرية » لأنّهم الذين أثبتوا القدر اللازم.. ثمّ يُخبر بأنّ هؤلاء هم المرادون في حديث « القدرية مجوس هذه الاُمّة » وليس خصومهم القائلين بالتفويض !

ثمّ يواصل عليه‌السلام كلامه قائلاً :

« إنّ الله عزّوجلّ كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل ، ولم يُعْصَ مكرَهاً ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار » ! (١) وهذا ردّ على الفريقين : الجبرية والمفوضة معاً.

ـ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الله عزّوجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا ظَلَمَ الله في حكمه ، فهو كافر.. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهَنَ الله في سلطانه ، فهو كافر.. ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما

_____________

(١) نهج البلاغة / تحقيق الدكتور صبحي الصالح : ٤٨١ / الحكمة ٧٨ ـ منشورات دار الهجرة ، والتوحيد / الصدوق : باب ٦٠ / ح ٢٨ ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

٧٨
 &

لا يطيقون وإذا أحسنَ حمدَ الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » (١).

ـ الإمام الرضا عليه‌السلام ، قال : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه : إنّ الله عزّوجلّ لم يُطَع بإكراه ، ولم يُعْصَ بغَلَبة ، ولم يُهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمرَ العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينَهم وبين ذلك فَعل ، وإن لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه » (٢).

وعشرات النصوص في هذا المعنى عن سائر الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم يشرحون العقيدة الصحيحة ، ويردّون الانحرافات.. ولقد رأينا مثل هذا المعنى عند ابن عبّاس والحسن البصري كما تقدّم ، وعلى هذه العقيدة أتباع أهل البيت عليهم‌السلام.

المرجئة :

أمّا مصدر التسمية بالمرجئة ؛ فهو الاشتقاق ؛ إمّا من الإرجاء بمعنى التأخير ، كما في قوله تعالى : ( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ) (٣) أي أمهله وأخّره ، وذلك لأنّهم يؤخّرون العمل عن الإيمان ، أي يقولون إنّ الإيمان إنّما هو معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، ولا يضرّ مع الإيمان ذنب.. أو لأنّهم أرجأوا الحكم في مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى ، كما في قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ

_____________

(١) التوحيد / الصدوق : باب ٥٩ / ح ٥.

(٢) التوحيد : باب ٥٩ / ح ٧.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١١١ ، سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٦.

٧٩
 &

اللَّـهِ ) (١).

أو هو مشتقّ من الرجاء ، بمعنى رجاء الثواب لأهل المعاصي ، لقولهم : لا تضرّ مع الإيمان معصية (٢).

أمّا أقسام المرجئة ، فالرئيسية المتّفق عليها تقريباً ثلاثة :

أ ـ مرجئة القدرية : الذين قالوا بالقَدَر (التفويض) مع الإرجاء.

ب ـ مرجئة الجبرية : الذين قالوا بالجبر مع الإرجاء.

ج ـ المرجئة الخالصة : الذين لم يخلطوا الإرجاء بالجبر ولا بالتفويض (٣).

وقسم رابع ذكره الشهرستاني بعنوان : مرجئة الخوارج. كما ذكر أنّ (غيلان الدمشقي) أحد زعماء الإرجاء ، قد جمع خصالاً ثلاثاً : الإرجاء ، والقَدَر ، والخروج (٤).

إذن هذه أقسام يجمعها القول بأنّ الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، ولا يضّر معه معصية ، وأنّ الحكم على المذنبين مُرجىً إلى الله تعالى ، وعامّتهم قالوا : إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص..

ثمّ اختلفوا بعد ذلك في عقائد اُخرى على أساسها جرى تقسيمهم المذكور.

ـ وثمّة أصل آخر مذكور ، جامع لكلّ تلك الأقسام ، وهو ما ذكره الشهرستاني من أنّ الإرجاء قد يطلق على من أخّر أمير المؤمنين عليّاً عن

_____________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.

(٢) اُنظر : الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، الخطط المقريزية ٢ : ٣٤٩.

(٣) الفرق بين الفِرق : ١٥١ ، الملل والنحل ١ : ١٢٥.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٢٥ ، ١٢٧.

٨٠