المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

الدكتور صائب عبد الحميد

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-06-4
الصفحات: ١٢٥

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الاسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتي يومنا هذا غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوى جهداً تحقيقّياً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها...
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

١
 &

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

٢
 &

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

٣
 &

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

٤
 &

كلمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين نبيّنا محمد ، وآله الطيّبين الطاهرين.. وبعد.

إنّ التطوّرات السياسية المتلاحقة التي طرأت على الأمّة قبل تدوين تاريخها ، ابتداءً من السقيفة وإلى نهاية القرن الثاني من الهجرة كان لها أكبر الأثر في تشويه معالم التاريخ الإسلامي ، لمحاولة السلطات السياسة ـ لا سيّما في العهدين الأموي والعباسي ـ توجيه حوادث التاريخ الإسلامي بما يخدم سياستها ويعزّز من وجودها ومن هنا أنزلت عقوبتها باتّباع الفكر المعارض ، ولجمت الأفواه عن قول الحقّ ، وسخّرت جملة ممّن عاشوا على موائدها لأنْ يضعوا لها تفسيراً يتلائم مع رغبتها ، وتبريراً يستر فصائحها على حساب المفاهيم الإسلامية سواء كان ذلك على مستوى رواية الحديث في تمجيد من يشاء الحاكم أو ذمّ من يريد ، أو على مستوى صياغة الحدث التاريخي أو روايته بما يناسب توجّه السلطة وطموحها ، الأمر الذي أدّى بطبيعته إلى وقوف السلطة إلى جانب الفكر المساعد على بقاء منهجها وديموميّة سياستها وتأييده بكلّ قوّة ولو كان شاذّاً.

وما تاريخ أمّتنا السياسي والثقافي إلّا حصيلة أدوار مختلفة بين انحراف واستقامة وخطأ وصواب ، ولهذا علقت بمسيرته خرافات وأساطير ، وشوائب كثيرة ، وألوان دخيلة حتى وصل إلينا وهو يجرّ خطواته في وهن وضعف مكبّلاً بأغلال المعطيات السياسية وتقلّباتها ، والمنعطفات المذهبية وطائفيّتها ، حاملاً أثقال ما جنته على حوادثه في القرون الثلاثة الأولى من عمره ، وبصورة أثّرت اكثيراً على فهم حقائقه ، ومن هنا وجب الاحتراز

٥
 &

من كتب التاريخ نفسها لأنّها قد أسهمت وبشكل مباشر في تصطيح الوعي العالم بجملة واسعة من الحقائق التاريخية لما لحقها من تزوير وتشويش.

ولا يعني هذا الحكم ببطلان مصادر التاريخ الإسلامي كلّها ، بل على العكس ؛ إذ تضمّنت حقائق كثيرة لم تطلها يد التحريف والتزوير ، بقدر ما يعني أنّ بحث أيّة فكرة على أساس تاريخي واقعي يستدعي قبل كلّ شيء التخلّي عن الهالة القدسية التي أحيطت بالتاريخ بكلّ ما فيه من انحرافات وأخطاء ، وتعريته عمّا علق به ، والنظر إليه على أساس كونه مادّة أوّلية لم تنقّح كما ينبغي ، وأنّه مجرّد أداة من أدوات وعي الفكرة موضوع البحث لا أن يكون خاضعاً لأصل الفكرة ، وإلّا ستكون نصوصه المعتمدة مشوّهة في مرحلة سابقة لنتائجه. فالمطلوب إذن هو القراءة الواعية للتحوّلات السياسية والفكرية التي طرأت في تاريخ امّتنا ، وكيف كان أثرها على المجتمع ، وأن يكون التعامل مع كلّ وضع بما يناسب حجمه في إطار موضوعي ، لا أن تختلط الأوراق بشكل عجيب كما نلاحظ في بعض الدراسات التاريخية التي لم تلتفت حتى إلى صدق قانون العلّية العامّة في ربط كلّ حادث بسببه وكل معلول بعلّتة. الأمر الذي يجب أن يلحظ في كلّ دراسة تاريخية خصوصاً إذا ما كان موضوع البحث هو تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية ، لما يختزنه هذا الموضوع من حسّاسيّة كبيرة وما يتطلّبه من إجابة علمية على كثير من التساؤلات ، من قبيل السؤال عن الأسباب الحقيقية في نشأة المذاهب والفرق ، ومعرفة علّة وجودها ، وما هي حركة المفاهيم الإسلامية بينها ، وما مقدار حيويّتها وحرارتها ، ودرجة نجاحها ، وقدرتها على التأثير أو إخفاقها ؟ وهل كانت تلك المذاهب والفرق كلّها ـ على التفاوت الملحوظ بينها ـ تمثّل تجربة عملية لمفاهيم الإسلام وإنزالها إلى الواقع اليومي في التطبيق ، وما هو التقييم العلمي الموضوعي لتلك التجارب من خلال الظروف التي أحاطت بها عند نشأتها ؟ وما مدى ارتباطها بالعوامل السياسية المعاصرة لها ، ونوعيّة الأساليب التي

٦
 &

استخدمت في سبيل دعمها وتمكينها أهي فكر السلطة ، أو سلطة الفكر وقوته ؟

وإذا كانت تلك التجارب بأسرها قد جعلت من الإسلام بكلّ مبادئه ومسلّماته مقياساً تقاس عليه الأشياء وميزاناً توزن به الأمور ، فلماذا نرى إذن في تلك الآراء (الإسلامية) مخالفات صريحة للإسلام في منعطفات شتّى ؟!

أليس من الضرورة إذن معرفة القواعد التي انطلقت منها الشرارة الأولى لتلك المذاهب والفرق ، وفهم الأسس التي شيّدت عليها بنيانها ، والدائرة التي اتّسعت لحركتها ، والعوامل التي شاركت في استمرار وجودها أو عدمه ، وعلاقة ذلك بالحاكم سلباً أو إيجاباً ، ودور السلطة السياسية في توفير القوّة الفاعلة في إيجاد الخلاف المذهبي ، وإثارة الحقد الطائفي الذي بلغ من الخسّة والوضاعة درجة أفرزت قول بعضهم : آكل ذبيحة اليهودي وآكل ذبيحة المسلم من المذهب الفلاني ؟!!

إنّ التفاوت المنظور بين المذاهب والفرق في النشأة والمعالم والمنهج والمحتوى يجب أن يكون محفّزاً قويّاً للمسلم على اكتشاف الأصلح منها ، وأمّا كيف يكون ذلك ، فبقياس درجة تقبّله فكر الآخر وسماعه وإن لم يكن صحيحاً في الواقع ، مع القدرة على التنازل عمّا يثبت له خطأ مذهبه بالدليل.

ويمكن للحقيقة أن تنمو في عقيدته من خلال تجربته مع الحلول التي قدّمها مذهبه لمشاكل الأمّة في إطار عقيدتها بالإسلام فكراً وسلوكاً ومقارنتها بالحلول الإسلامية الأخرى ، فإذا ما رآه مثلاً يربّي أتباعه على انخفاض درجة الإرادة في مقاومة الحاكم الظالم ، وتسميته بولي الأمر مثلاً سيدرك إخفاقات المذهب من خلال تجربته مع تلك الحلول وتلمّس نتائجها الوخيمة على أرض الواقع.

وهكذا سيدرك بأنّ تلك المذاهب والفرق لم تقدّم ـ كلّها ـ لاتّباعها مزيداً من الوعي الإسلامي بسبب ما أحدثته من تغيير ، وإنّ الضمانات التي قدّمتها لاتّباعها لم تكن

٧
 &

بتلك الدرجة المطلوبة لتجاوز الامتحان العسير المرتقب ، بل كان بعضها على درجة كبيرة من الضلال والإضلال كما رأينا ذلك في (مفتي الذبيحة).

والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القاري له مسوّغات كثيرة ناجمة عن طبيعة بعض الفرق المنتسبة للإسلام والتي تعثّرت خطوات مسيرتها كثيراً منذ نشأتها المتأخّرة وإلى يوم الناس هذا ، وقد عُرِفَت بتكفيرها سائر المسلمين لمجرّد الاعتقاد بالزيارة ، والتوسّل ، والشفاعة ، حيث اعتبرت كلّ هذا كفراً بواحاً ! وأباحت لاجله دماء المسلمين ! ولا زالت تتخبّط في تصرّفاتها حتى صارت سبباً مباشراً لاتّهام الإسلام بكلّ سماحته وإنسانيّته بالتعسّف والإرهاب !

وسيجد القارىء في هذا الكتاب جهوداً علمية كثيرة ونتائج جديدة تفرّد بها مؤلّفه المحترم ، وهي جديرة بالعناية والاهتمام ، والبحث ، والنقد بهدف التطوير ، والتأمّل أيضاً.

آملين أن يحقّق أهدافه في الثقافة المطلوبة ، والهداية إلى الصراط المستقيم

والله الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

٨
 &

المُقدَّمةُ

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتىٰ يومنا هذا. غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوىٰ جهداً تحقيقيّاً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها إلىٰ سائر ما كُتب في هذا الباب وكأنها ثوابت تاريخية لا نقاش فيها. إذ درجت سائر الكتابات على اعتماد أقوال الكثير من المتقدّمين ، من مؤرخين ومتكلّمين على أنها الحقائق النهائية في موضوع البحث ، بحجّة قول المؤرّخ أو المتكلّم الموثّق في قضايا اُخرىٰ دخلت في إطار تخصّصه. لكن كم من أمر مشهور وقضية استمرّ التعامل معها على أنها مسلّمة قد أثبت التحقيق في أصلها وعرضها على الأسئلة الجادّة أنها قضية لا أصل لها ، وأن الحقيقة في الأمر شيء آخر لم يأخذ نصيبه من الشهرة ولا حظّه في التداول ؟

وفي تاريخ نشأة المذاهب العيقيدية الإسلامية تواجهنا هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة ، وجدير بنا أن نتوقّع ذلك منذ الوهلة الأولىٰ ، فالتاريخ تاريخ مذاهب وفرق عاشت في ما بينها فترات طويلة ، وربّما متّصلة من النزاعات والخلافات التي تبلغ ذروتها أحياناً في حروب طاحنة ، وتقف أحياناً أخرىٰ عند مستوى التكفير والتفسيق والقذف بشتىٰ ألوان التُّهم والطعون. ومن ناحية اُخرىٰ فان الكتّاب الذين كتبوا في تواريخها هم كتّاب ينتمون سلفاً إلى إحداها ، ويتعصّبون لها ، ويذبُّون عنها ، ويصوبون مقولاتها ، ويقفون موقفاً سلبياً إزاء سائر الفرق الأخرىٰ التي تختلف معها في مقولاتها ، أو في تاريخها السياسي ، أو في الاثنين معاً. فكيف لا نتوقّع غياب الروح الموضوعية والانصاف في أحوال كهذه ؟

إنّ السبيل الوحيد للخروج من هذه الاشكالية هو اعتماد التجرّد والموضوعية والحياد في قراءة التاريخ ، لوضع كل شيء في محلّه ، واعطاء كلٍّ نصيبه ، ووضع كل قضية في إطارها الموضوعي الصحيح ، دون مزايدة أو تنقيص.

إنّ السجال والصراع العقائديين اللذين اتّسما بالعنف والخشونة غالباً في القرن الأول والثاني من الهجرة قد أفرزا الشيء الكثير مما ينبغي إعادة النظر فيه بروح موضوعية متجرّدة من دواعي ذلك النزاع ، لا سيّما مع ما ينبغي أن يكون تأثّره بتلك الأجواء

٩
 &

شديد الوضوح إلىٰ حدّ لا ينبغي التغافل عنه ، بل لا يتمّ التغافل عنه إلّا مع الخضوع لأدوات النزاع السالفة نفسها والتحزّب لها.

في تلك المرحلة أفرزت هذه النزاعات العديد من الأحاديث الموضوعة لرمي طائفة من الناس بسمة ما ، تنفّر الآخرين منها ، وتقصيها عن دائرة الإسلام والتوحيد. ولئن وضع الكثير من المحققين القدماء والمحدثين الأصابع علىٰ طائفة من هذه الأحاديث ، إلّا أنها ما زالت هي الأكثر رواجاً في تصنيف عدد غير قليل من الطوائف الإسلامية ، الأمر الذي يستدعي المزيد من التحقيق في إرجاع كلّ شيء إلىٰ أصله.

ولعلّ من أكثر القضايا وضوحاً ما نشهده من تسميات منفّرة للعديد من الفرق ، نقطع منذ اللحظة الأولى أنها تسميات أطلقت من الخارج ، ولم تكن منتخبة من أصحابها على الاطلاق.

فلا نستطيع أن نقبل أن طائفة تنسب إلى الإسلام تطلق علىٰ نفسها اسم « الشيطانية » مثلاً ، بل حتى تسميات مثل : « المسجمة » و « المعطلة » و « الرافضة » و « الخشبية » هي تسميات لا يمكن أن تكون مختارة ، بل لا يمكن إلّا أن تكون من وضع فئة قوية لها كلمة نافذة ، استطاعت تعميم هذه التسميات لتكون مفروضة على أصحابها. بل لنا أن نتوقّع أنه لو ترك الأمر لفرقة « المعتزلة » لما اختاروا لأنفسهم هذه التسمية وهم يعتقدون ـ كسائر الفرق ـ أنهم على الحق ، دون سواهم ، أو أنهم على الأقل أقرب إلى الحق من سواهم ، فإذا علمنا من ناحية أخرىٰ أن المؤرّخين يضعون ستة أسباب لنشأة « المعتزلة » وحدها ، علمنا كم دخلت في هذا الموضوع من آراء واتجاهات جديرة بالبحث والتحقيق.

وهذه الدراسة التي نقدّمها في هذا الكتاب ، بتقسيم جديد ، بعد أن كانت قد توزّعت علىٰ مباحث في كتابنا « تاريخ الإسلام السياسي والثقافي ـ مسار الإسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب » ، تأخذ علىٰ عاتقها هذه المهمة ، على أمل أن تكون قد قدّمت للقارئ أقرب الصور إلى الحقيقة في موضوع نشأة المذاهب والفرق وفي معالمها الأساسية.

وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكلت وإليه أُنيب.

١٠
 &

الفصل الأول

في تسمية المذاهب والفرق

لقد اجتهد الكثير ممّن كتب في الفِرَق الإسلامية والملل والنحل أن يقسّم المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقةً ، تمشّياً مع الحديث الوارد بافتراق الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة (١).

ولأجل هذا فقد وضعوا قواعد ، وأصّلو اُصولاً اعتمدوها في تمييز الفِرَق ليبلغوا بها هذا العدد ، ظانّين أنّهم إن لم يبلغوه ويَقِفوا عنده فقد أخطأوا في الإحصاء ، وطعنوا في الحديث المذكور ! وكأنّهم تعجّلوا قيام الساعة ، فحين أخبر الحديث بحصول هذا العدد فلا بدّ أن يكون قد تمّ ذلك على عهد هذا المصنّف أو ذاك ! وهذا تعجّل ، فالزمن لم يتوقّف عندهم والأحقاب التي أعقبتهم قد أفرزت فِرقاً جديدة لم يعرفوها ، فإذا كان تقسيمهم صحيحاً فقد زاد العدد بعدهم على الثلاث والسبعين !

_____________

(١) أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة ، من حديث أبي هريرة ، ونصّه : « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ». سنن الترمذي : ح / ٢٦٤٠ ، دار إحياء التراث ـ بيروت ، سنن ابن ماجة : ح / ٣٩٩١ ، دار الفكر ـ بيروت ، المستدرك ١ : ١٢٨ ، حيدرآباد ـ الهند.

١١
 &

إنّهم لم يعرفوا البابيّة (١) ، ولا البهائيّة (٢) ، ولا القاديانيّة (٣) ، بل لم يعرفوا اليزيديّة والعَدَوية التي نجمت في أواخر القرن السادس الهجري ، وربّما أتى الزمان بعدهم بفرق جديدة اُخرى كالوهابية التي لم تدخل ـ وقتئذ ـ في حساباتهم.

اُسس خاطئة في التمييز :

وثَمَّ خطأ آخر قادهم إليه هذا الظنّ ، إذ وجدوا أنفسهم مضطرّين إلى التوسّع في التفريع ، حتى عدّوا فِرقاً وميّزوها في حين لم تكن تملك شيئاً من مقوّمات الفِرقة المستقلّة ، وغالباً ما تكون قول رجل واحد أو بضعة رجال (٤).

وقد طعن الشهرستاني هذه الطريقة ، فقال : من المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كلّ من تميّز عن غيره بمقالةٍ من عُدَّ صاحب مقالة ، وإلّا فتكاد تخرج المقالات عن حدّ الحصر والعدّ ، فلا بدَّ من ضابط في مسائل هي اُصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافاً يعتبر مقالةً ، ويُعدّ صاحبه صاحب مقالة (٥).

لكنّ الشهرستاني حين وضع هذا الضابط ، خرج عليه بالنحو الذي ينتهي بالفِرق إلى ثلاث وسبعين فرقة !! في حين أن بعضها لا يمتلك من الأصول

_____________

(١) فرقة أنشأها الميرزا علي بن محمّد الشيرازي سنة ١٨٤٣ م ، وهو آنذاك ابن تسع عشرة سنة ، وتلقّب بالباب.

(٢) فرقة أسّسها خليفة الباب صاحب البابيّة ، وتَلقَّب بالبهاء ، وتوفّي سنة ١٨٩٢ م.

(٣) فرقة أسّسها ميرزا غلام أحمد القادياني ، المتوفّى سنة ١٩٠٨ م.

(٤) اُنظر مثلاً : فِرق الشيعة / للنوبختي ـ من أعلام القرن الثالت الهجري ، الفرق بين الفِرق / للإسفرائيني (٤٢٩ هـ).

(٥) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ٢١ ـ مكتبة الانجلو مصرية ـ القاهرة.

١٢
 &

والقواعد ما يبرّر عدّه فرقة مستقّلة.

تحديد اُصول المذاهب وتاريخ تسميتها :

ثمّ ظهرت ألوان خطيرة من التعسّف حين ذهب المتكلّمون والمؤرّخون إلى تحديد تأريخ نشأة كلّ واحدة من الفِرق ، وتعيين الاُصول التي استقت منها عقائدها.

فعند غياب المعالم الثابتة لذلك التاريخ ، وغياب الأدلّة القطعية على انتسابها إلى تلك الاُصول ، فسوف يُضطرّ هؤلاء إلى إقحام آرائهم الشخصيّة في ذلك ، ولم تخلُ الآراء دائماً من ميلٍ إلى فئة ، وهوىً مع طائفة ، وتحامل على اُخرى.

فأدّى ذلك إلى ظهور أخطاء كثيرة ، وقاد إلى مزيد من الغموض ، كما حمّل كثيراً من الفرق أبعاداً غريبةً عليها.

ومن أمثلة ذلك : ما ذهب إليه البعض من إرجاع الكثير من الفِرق الإسلامية إلى اُصول غريبة عن الإسلام ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية واليونانية والهندية.

وقد ظهر هذا الاتّجاه قديماً في كتب الملل والنحل ، ومضى عليه ابن تيميّة وتطرّف فيه (١).

وأخذ به الكثير من المتأخّرين ، وأكثر المستشرقين (٢).

_____________

(١) كما في : (الحمويّة الكبرى) و (اقتضاء الصراط المستقيم) و (منهاج السنّة : ج ١) ومن عباراته المتكرّرة في وصف بعضهم قوله : (هؤلاء أفراخ الفلاسفة ، وأتباع الهند واليونان ، وورثة المجوس والمشركين وضلّال اليهود والنصارى والصابئين).

(٢) من أمثال : فلهاوزن ، وجولد تسهير ، ونيكلسون.

١٣
 &

بينما ذهب بعض المتأخّرين إلى نظرية مضادّة نفت ذلك النوع من التأثّر ، ورأت أصالة الفِرق الإسلامية على اختلافها ، فقال الدكتور النشّار ملخّصاً وجهة نظره في هذه المسألة : إنّ فلسفة أيّة اُمّة من الاُمم هي انبعاث داخلي عقلي يعبّر عن الروح الحضارية لهذه الاُمّة ، وأنّه ليس من المعقول أن تتشابه الانبعاثات الداخلية العقلية لاُمّتين مختلفتين أشدّ الاختلاف جنسياً وعقلياً ولغوياً ، وإنّ فلسفة اُمّةٍ ما من الاُمم لا تخرج عن دائرة السنّة التي تضعها هذه الاُمّة ، ومن خرج عن هذه الفلسفة لُفظ حتماً من الدائرة العقلية ، ولم يَعُد يمثّل فلسفياً سوى فكره الذاتي (١).

وقال الدكتور محسن عبد الحميد : إنّنا لو راجعنا بدء تحرّك الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى في صدر الإسلام ، لحصل عندنا يقين كامل أنّه هو الذي ولّد الحركة الفكريّة التي حدثت في ما بعد ، والتي أرادت أن تلتمس من القرآن الكريم اُسس انطلاقها في المجتمع (٢).

ـ فبينما ذهب أصحاب الرأي الأوّل إلى أنّ عقيدة الجبريّة ؛ التي دعا إليها الجهم بن صفوان ، ترجع إلى أصل يهودي ، وأنّ أول من تكلّم بها : طالوت بن أعصم اليهودي ، وقد بثّها إلى إبان بن سمعان ، وبثّها إبان إلى الجعد بن درهم ، وأخذها الجهم بن صفوان من الجعد بن درهم (٣).

_____________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام / سامي علي النشار ١ : ٢١١ ـ الطبعة الثانية ، وعنه الدكتور أحمد محمود صبحي / نظرية الإمامة : ١٠ ـ دار المعارف بمصر.

(٢) تطوّر تفسير القرآن / الدكتور محسن عبد الحميد : ١٠٠ ـ جامعة بغداد ـ ١٤٠٨ هـ.

(٣) مجموع فتاوى ابن تيمية / جمع وترتيب : عبد الرحمن بن قاسم النجدي

١٤
 &

وأنّ عقيدة القدرية ؛ التي دعا إليها معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، إنّما ترجع إلى أصل نصراني ، فإنّ رجلاً نصرانيّاً يدعي سوسن كان قد أظهر الإسلام فأخذ عنه غيلان الدمشقي هذه العقيدة ، وأخذها معبد عن غيلان ، ثمّ إنّ ذلك النصراني قد ارتدّ وعاد إلى نصرانيّته (١).

فإنّ أصحاب الرأي الثاني القائل بالأصالة قد ذهبوا إلى غير ذلك ، فقالوا : إنّ ظهور الجبرية والقدرية معاً كان من داخل المجتمع الإسلامي ، ومن أثر الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى فيه ، وذلك : أن انتهاء حكم الخلافة وانتقاله إلى الاُمويّين وتسلّطهم على العباد وابتعادهم عن تطبيق العدالة الإسلامية ، كان مقدّمة منطقية للحركات المضادّة التي قامت ضدّهم ، ممّا دفعهم إلى العنف الدموي ، فاحتاجوا حينئذٍ إلى تأويل بعض الآيات القرانية التي يدلّ ظاهرها على الجبر لتسويغ أعمالهم والقول بإن الإرادة الإلهية اقتضت أن يفعلوا ذلك ، وأنّهم مجبورون في أعمالهم.. أو أنّ تلك الإرادة هي التي قدّرت أن يأتوا إلى الحكم ليفعلوا ما يفعلوا..

ثمّ إنّ دعوة الاُمويين لتثبيت دعائم هذه النظرية ، كانت سبباً مهمّاً لظهور الاتّجاه القدري الذي أنكر الجبر ونادى بحرية الاختيار الانساني ، وأوّل من نادى بذلك : التابعي الجليل والمحدّث الصدوق مَعبد الجهني (٢) !

فمعبد الجهني حسب النظرية الاُولى واحد من فراخ النصارى ، وأمّا في هذه

_____________

٥ : ٢٠ ، المذاهب الإسلامية / محمّد أبو زهرة : ١٧٤ـ المطبعة النموذجية ـ القاهرة.

(١) المذاهب الإسلامية : ١٨٧.

(٢) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ١ : ٣١٤ ـ ٣٣٦ ، تطور تفسير القران : ١٠١.

١٥
 &

النظرية فهو التابعي الجليل والمحدّث الصدوق !

ـ ويذهب أصحاب الرأي الأوّل إلى أنّ التصوّف يعود إلى اُصول غير إسلامية ، إذ صنّف أحمد أمين الصوفيّة إلى ثلاثة أصناف : صنف تأثّر بالفلسفة اليونانية ، وصنف تأثّر بالفلسفة الهندية ، وأخذ الصنف الثالث اُصوله من النصرانية.

وعن الصنف الثالث يقول : أخذوا : (شيخ الطريقة) و (المريد) كما عند النصارى : (الكاهن) و (المهتدي) ! وأخذوا منهم نظام الرهبنة ، وأخذوا منهم أيضاً حلقات الذكر ونظامها (١).

وهذا التصنيف أقرب إلى تصنيف المستشرقين منه إلى تصنيف ابن تيميّة ، فابن تيميّة يستثني طائفة من الصوفية فيصحّح عقائدهم وسلوكهم ، ويذكر من أمثلتهم : الجُنيد ، وعبد القادر الجيلي ، وسهل التستري (٢).

أمّا المستشرقون : فمنهم من ذهب إلى أنّ الصوفية اُخذت عن النصرانية (٣) ، ومنهم من جعلها يونانيّة الأصل حتّى من حيث التسمية ، حين رأى مناسبةً بين كلمة (صوفية) وكلمة (سوفيا) اليونانية التي تعني : الحكمة. فهي تُشابه الصوفية لفظاً ومعنىً (٤) !

_____________

(١) يوم الإسلام / أحمد أمين : ٨٦ ـ ٨٧ ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة.

(٢) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان / ابن تيمية : ٩٨ ، جماعة الدعوة إلى القران والسنّة ـ بيشاور ، وغيره.

(٣) مثالهم نيكلسون ، اُنظر : تطوّر تفسير القرآن : ١٠٠.

(٤) اُنظر : التصوّف في الإسلام / عمر فرّوخ : ٢٤ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ ١٤٠١ هـ.

١٦
 &

لكن هذه النظرية الأخيرة بالخصوص تعرّضت للنقض من قِبَل مستشرق آخر ـ تيودور نولدكه ـ حين رأى أنّ السين اليونانيّة تثبت عند التعريب سيناً ، ولا تقلب صاداً ، فكلمة (فيلوسوفيا) تصبح بالتعريب (فلسفة) لا (فلصفة) (١).

بينما ذهب أصحاب الرأي الثاني إلى أنّ حركة الزهد والتصوّف الإسلامي كانت ثمرة طبيعية للمبادئ الأخلاقية التي رسمها القرآن الكريم للحياة البشرية وطبّقها الرسول الكريم وصحابته في حياتهم (٢).

والحقّ أنّه ينبغي أن يضاف إلى هذا ما كان للأوضاع السياسية من أثر كبير في لجوء الكثير من أهل العلم إلى طلب العزلة وحياة الزهد ، والذي يعدّ النواة الاُولى لحركة التصوّف في الإسلام.

وقد أشار الغزالي إلى هذا إشارة واضحة في قوله : إنّه لمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قومٍ تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمرّ على الطراز الأوّل وملازم صفو الدين ، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا (٣).

كما ساعد على نموّ التصوّف اليأسُ الذي أصاب الناس من الحكومات المتعاقبة المتطاحنة ، والبعدُ عن حقيقة الفقه في الدين ، فدفعهم كلّ ذلك إلى الانزواء عن حياة يرونها مليئة بالمظالم والمفاسد ، مع غياب الأمل في

_____________

(١) التصوّف في الإسلام : ٢٤.

(٢) تطوّر تفسير القرآن : ١٠٠.

(٣) حجّة الله البالغة / الدهلوي ١ : ٣٢٢ ـ دار الكتب الحديثة ـ القاهرة.

١٧
 &

الإصلاح ، فوجدوا في الصوامع والتكايا اُنساً في العبادة ينقذهم من كلّ اضطراب يبعثه في النفوس أزيز الدنيا وتناقضاتها.

بين التأصيل والتهجين :

إنّ النظرية الاُولى وإن بدت وكأنّ لها شواهد من الواقع ، إلّا أنّها لم تكن موفّقة تماماً ؛ لأنّها جاوزت حدّ الاعتدال أحياناً كثيرة ، إذ إنّ ما اعتمدته من شواهد واقعيّة هو في الغالب لا يصلح دليلاً على ما قطعت به تلك النظرية من قول ، كما أنّه كثيراً ما يكون من رصيد النظريه الثانية ، نظرية التأصيل.

ـ فإذا كانت السبئيّة (١) والراوندية من آثار الديانات القديمة (٢) ، فإنّ مصيرهما هو النبذ والطرد من الدائرة العقلية الإسلامية..

ـ وإذا كان المعتزلة قد تأثّروا بالفلسفة القديمة ، فهم لم يأخذوا عقائد اليونان والهنود والفرس ، وإنّما أخذوا مناهج البحث والاستنباط ، فتأثّروا مثلاً بالمنطق الأرسطي ، والمنطق لغة نافعة في البحوث العقلية ، وليس هو لغة عقيدة ، أي أنّهم أخذوا آلة البحث ، ولم يأخذوا سَيره ونتائجه.

ولكن كلّ هذا لا يعني انعدام التأثّر بالعقائد الغريبة بالكامل ، وأظهر ما يكون هذا التأثّر لدى الفرق الغالية على وجه الخصوص ، ومع هذا فالغلو ليس كلّه اقتباس ، بل لمّا كان الغلوّ هو منتهى التطرّف الديني ، فقد يصيب الشذّاذ من كلّ ملّة دون أن يقتبس بعضهم من بعض.

ربما نرى في النقطة اللاحقة بعض آثار التأثّر والاقتباس عند غير الغلاة..

_____________

(١) السبئيّة كما يصوّرها المؤرّخون ليس لها حقيقة تثبت أمام التحقيق.

(٢) اُنظر : المذاهب الإسلامية : ١٨.

١٨
 &

أين يُصنّف أصاب التجسيم ؟

اتّفق أصحاب النظريّتين الاُولى والثانية على أنّ القول بالتجسيم دخل إلى المسلمين من عقائد اليهود واليونان وغيرهم (١). وقد تجسّد هذا القول كمذهب خالص لدى الكرّامية ، أتباع محمّد بن كرّام (٢). وقد اخترنا هذا الاتّفاق على أصل عقيدة المجسّمة بالذات لأنّه أمر يثير الاستغراب حقّاً..

إذ إنّ القائلين بالتجسيم هم أكثر الناس رجوعاً إلى الحديث ، حتى عُدّ التجسيم من خصائص الحشوية من أصحاب الحديث ، والظاهرية المتمسّكين بظواهر النصوص (٣) !

فإذا كانت اُولى العقائد التى دُوّنت على المجسّمة قولهم : إنّ الله تعالى على العرش اسقراراً ، وأنّه بجهة الفوق لا غير ، مماسّ للعرش من جهته العليا ، وأنّه قد امتلأ به العرش ، أو أنّه ـ تعالى شأنه ـ على بعض أجزاء العرش ، على قولين لهم ، كما جوّزوا عليه تعالى الانتقال والتحوّل والنزول (٤)..

إذا كانت تلك هي عقائد المجسّمة ، فهذه جميعها داخلة في عقائد أصحاب الحديث والظاهرية ، بل قد تطرّقت إلى الفقهاء من أصحاب الحديث ! ولعلّ

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٤ ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ١ : ٣٣١ ، تطوّر تفسير القرآن : ١٠٢.

(٢) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٩٩.

(٣) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٩٦ ، تلبيس إبليس / أبو الفرج ابن الجوزي : ١٣٤ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤٠٧ هـ.

(٤) الملل والنحل ١ : ٩٩.

١٩
 &

أشهرهم في ذلك ابن تيميّة..

لقد نصر ابن تيميّة تلك العقائد بكلّ قوّة وكافح عنها طويلاً ، وصنّف فيها كثيراً ، وأثبت القول بالجهة والاستواء والانتقال والنزول (١). ودافع عن القول بامتلاء العرش به تعالى ، ومع ذلك فهو لم ينكر القول بأنّه تعالى على بعض العرش ، ولا عدّه في الأباطيل والموضوعات !

واحتجّ ابن تيميّة لتلك العقيدة برواية عبد الله بن خليفة التي تنصّ على : « أنّ كرسيّه وسع السماوات والأرض ، وأنّه ليقعُد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ، وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب ، من ثقله » !

فقال ابن تيميّة : يروي هذا الحديث بالنفي ـ أي « ما يفضل منه أربع أصابع » ـ ويروي بالإثبات ـ أي « ما يفضل منه إلّا أربع أصابع » ـ قال : ولفظ النفي لا يَرِد عليه شيء (٢) !

غيبة المعايير الثابتة :

ومنهجيّاً : إنّ هنا حقيقة مهمّة ، وهي أنّه حين تُفتح الأبواب لإقحام الآراء من غير أن تكون هناك ضوابط محدّدة يتمّ التزامها ، فسوف تغيب معالم الحقيقة ، وتظهر للتاريخ وجوه شتّى قد لا تتشابه في شيء ، بل قد تكون متنافرة تماماً.

نعرض هنا اُنموذجاً واحداً خالياً من التعقيد يعطينا صورة عن تلك الوجوه المتنافرة لحقيقة واحدة ، ومثالنا هذا عن المعتزلة :

ـ ففي تفسير نشأة المعتزلة ، قال بعض الكتّاب : إنّ منشأ الاعتزال كان على

_____________

(١) اُنظر له : الحموية الكبرى ، شرح حديث النزول ، مجموع الفتاوى ج ٥ ، ٦.

(٢) منهاج السنّة / ابن تيميّة ١ : ٢٦٠ و ٢٦١ ـ المكتبة العلمية ـ بيروت.

٢٠