المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

الدكتور صائب عبد الحميد

المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-06-4
الصفحات: ١٢٥

ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الاسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتي يومنا هذا غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوى جهداً تحقيقّياً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها...
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الإسلام بهذا النوع من الحديث ، الحديث الدال على التشبيه والتجسيم ، كما في أحاديث كعب الأحبار الذي أكثر عنه أبو هريرة ونسب بعض أحاديثه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نسب ذلك رواة حديثه الذين سمعوه يحدّث عن كعب مرّة وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة ، فخلطوا ونسبوا بعض أحاديث كعب إلى الرسول ، فيكون التأثّر عن طريق متابعة أحاديث مدسوسة عن هذا أو عن غيره ، وهذا أرجح بكثير من التلقّي المباشر عن اليهود والنصارى.

الطائفة الثانية :

حملوا ما يتعلّق بصفات الباري تعالى على خلاف الظاهر ، إذا كان الظاهر مفضياً إلى التشبيه أو التجسيم.. وهم فريقان :

الفريق الأول : قَطَعَ بأنّ المراد لا يمكن أن يكون صفات خارجية ، من قبيل الحلول والتحيّز والأعضاء والانفعال ، لكنّهم لم يدخلوا في البحث عن المراد منها ، بل قالوا : الله أعلم بما أراد ، وقد عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يُشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك ، إلّا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (١) ، وقوله تعالى : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَجَاءَ رَبُّكَ ) (٣) إلى غير ذلك ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ،

_____________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٣) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.

١٠١
 &

بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له ، وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقيناً (١). وعدّ الشهرستاني من هؤلاء : مالك بن أنس ، إذ قال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة. كما عدّ منهم : أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي (الظاهري) (٢). والأصحّ أنّ كلام هؤلاء أقرب إلى الفرقة الثانية من الطائفة الاُولى ؛ الحشوية وأصحاب الحديث الذين تقدّم التعريف بهم آنفاً ، فهو ، إجراء على الظاهر دون تكييف ، لكن هذا الفريق من الحشوية وأصحاب الحديث و « السلفية » قد تقدّم على اُولئك في التفسير والبيان ولم يلتزم وقولهم : « السؤال عنه بدعة » فتورّط في التشبيه. وإلى هذا أشار الشهرستاني نفسه (٣).

الفريق الثاني : قطعوا أيضاً بأنّ المراد لا يمكن أن يكون صفات خارجية ، ثمّ ذهبوا إلى ضرورة تأويل ما يتعلّق بالصفات إلى المعاني اللائقة بجلاله تعالى والموافقة لما قطع به العقل وثبت به التنزيل المحكم من أنّه تعالى شأنه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٤) و ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٥) فهذه نصوص محكمة ليس فيها من التشابه شيء ، وقد قطع العقل بمعانيها ، فلا بدّ من ردّ المتشابهات إليها.

فهم لأجل ذلك اعتمدوا المجاز في اللغة وأحالوا إليه كلّ ما يتعلّق بالصفات من المتشابه الذي لا يستقيم ظاهره مع تلك المحكمات التي قطع بها العقل أيضاً.

_____________

(١) اُنظر : الملل والنحل ١ : ٨٤ ( الصفاتية ).

(٢) الملل والنحل ١ : ٨٥ ، ٩٥.

(٣) الملل والنحل : ٨٤.

(٤) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

١٠٢
 &

وعلى هذا المبدأ : جمهور « أهل السنّة والجماعة » أتباع الأشعري ، والمعتزلة ، وأتباع أهل البيت عليهم‌السلام « الشيعة » ، غير أنّ الجماعات الثلاث اختلفت في ما بينها في مدى اعتماد التأويل ، على ثلاث مراتب :

فكان الأشاعرة أقلّهم رجوعاً إلى التأويل ، لما اعتمدوه من الأخبار الواردة في الصفات ، فكأنّهم أجروا التأويل على القرآن دون الحديث ! فما ورد فيه الحديث تمسّكوا بظاهره غالباً ، فجوّزوا رؤية العباد ربَّهم جلّ شأنه يوم القيامة ، رجوعاً إلى أخبار عندهم ، فلم يؤوّلوا قوله تعالى : ( إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١).

أمّا الآيات التي فيها الوجه والأيدي والأعضاء فقد أوّلوها باعتماد المجاز ، ولم يجروها على ظواهرها المؤدّية إلى التشبيه (٢) ، ووافقوا فيها الجماعتين الاُخريين.

ـ أمّا المعتزلة فكانوا على خلاف الأشاعرة ، إذ أطلقوا العنان للتأويل ، اعتماداً على : الدور الذي منحوه للعقل ، ومنهجهم في الحديث الذي يقتصر على قبول المتواتر فقط ، فيما اعتمد الأشاعرة أحاديث الآحاد التي لم ترد إلّا من طرق رجالها متّهمون غالباً عند المعتزلة على الأقلّ..

يقول البغدادي (من الأشاعرة) في الطعن على أبي الهذيل العلّاف (من أئمّة المعتزلة) : ومن فضائحه ! قوله إنّ الحجّة من طريق الأخبار في ما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم‌السلام وفي ما سواها لا تثبت بأقلّ من عشرين نفساً فيهم واحد من أهل الجنّة ، أو أكثر.. ولم يوجب بأخبار الكَفَرة والفَسَقة حجّة

_____________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٣.

(٢) الفرق بين الفِرق : ٩٠ ، واُنظر هذه المواضع في سائر تفاسيرهم ، كتفسير الطبري والبغوي ، والماوردي ، والرازي ، وأبي حيّان وغيرهم.

١٠٣
 &

وإن بلغوا عدد التواتر الذي لا يمكن معه تواطؤهم على الكذب ، إذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنّة.. وزعم أنّ خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكماً.. ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصحّ وقوع العلم بخبرهم ، وقد لا يقع العلم بخبرهم (١).

ومن هذا يظهر أنّ القسم الأعظم من الأحاديث التي تتعلّق بهذا الباب ويعتمدها الأشاعرة فيتوقّفون عن التأويل بسببها ، هي عند المعتزلة ساقطة الاعتبار ، مما وسّع من دائرة التأويل عندهم.

ولقد نُسب ، إلى بعض المعتزلة في هذا الباب ما لا يمكن تصديقه ، كالذي نسبه الذهبي إلى عمرو بن عبيد من أنّه عُرض عليه حديث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذّبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ، ولو سمعت ابن مسعود يقوله ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا لرددته ! ولو سمعتُ الله يقول هذا ، لقلتُ : ليس على هذا أخذت ميثاقنا (٢). والذهبي قد روى في عمرو بن عبيد حتّى الأشياء التافهة من أطياف الحانقين على عمرو بن عبيد وتعليقاتهم.. وحتّى لو صحّ عنه ما تقدّم فغلطه الفاحش إنّما هو في ما وجّهه إلى الرسول وإلى الله تعالى ، وكان الصواب أن يقول إنّ مثل هذا لا يصحّ عن رسول الله البتة.. ونحن لا ندري ما هو هذا الحديث الذي عُرض عليه ، ولعلّ الذهبي نفسه قد استحيا من ذكره ، لعلّه من أحاديث المجسّمة أو موضوعات الجبرية المكذوبة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ومهما كان فالمعتزلة قدّموا العقل على الحديث ، بخلاف الأشاعرة ، وجعل

_____________

(١) الفرق بين الفِرق : ٩٠.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ : ٢٧٨.

١٠٤
 &

بعضهم العقل هو الأصل الأوّل ، وهو الأصل للكتاب وللسنّة ، وقد شذّ النظّام وأتباعه فأسقطوا السنّة بالكامل (١).

وعلى هذا اتّسعت دائرة التأويل عند المعتزلة ، ولم يقفوا عند ما يدلّ على التحيّز والانفعال ، بل تعدّوا ذلك حتّى إلى الصفات الثبوتيه ، كالعالم ، القادر ، الحي ، السميع ، البصير ، وقالوا : ليس لهذه الصفات معنى أكثر من الوصف ، وهو قول القائل بأنّ الله عالم ، قادر... وأنّه ليس هناك صفات على الحقيقة هي العلم والقدرة والحياة.. وإنّما الصفات كلمات ملفوظة أو مكتوبة (٢).

ولأجل مقولتهم هذه عُرفوا بالمعطّلة لأنهم عطّلوا جميع الصفات حتّى الثبوتية منها.

وأوّل من قال بهذا : الجهم بن صفوان ، وتابعه واصل بن عطاء مؤسّس هذه الفرقة « المعتزلة » ـ فأصبح المعطّلة كلّهم ينتسبون إلى الجهم بن صفوان ، فيقال : « الجهيمة » كما يقال : « المعطّلة ».

وعقيدتهم بأنّ الصفات كلمات ملفوظة نتج عنها اعتقادهم بأنّ الله تعالى كان في الأزل بلا صفة ولا اسم من أسمائه وصفاته العليا ، إذ ليس هناك ألفاظ وكلمات في الأزل ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يصف نفسه في الأزل.. من هنا أصبح كلامه تعالى مخلوقاً له كسائر المخلوقات.. ومن هنا ظهرت مقولة « أنّ القرآن مخلوق » التي دار حولها نزاع كثير جرّ إلى سفك دماءٍ كثيرةٍ وتعذيبٍ

_____________

(١) راجع : أصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية / د. عائشة يوسف المناعي : ٨٤ ـ ٩٣ ، وفي كلام الدكتورة نظر ، إذ لا يمكن نسبة النظام إلى الإسلام بحال فيما لو حُكم بإسقاط السنّة مطلقاً.

(٢) اُصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية : ١٤٦.

١٠٥
 &

وافتتان ، ظهر في « المعتزلة » في مظهر « مفتّشي العقائد » بلا مسوّغ من شرع ولا عقل ، فظهر منهم ظلم كثير على مدى حكومة المأمون والمعتصم والواثق.

ـ الجماعة الثالثة : اتّبعت في ذلك منهجاً وسطاً يقول : « ما دلَّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به واستضىء بنور هدايته.. وما كلَّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّةِ الهدى أثَرُه ، فكِلْ علمهُ إلى الله سبحانه » (١).

فهناك في القرآن الكريم محكمات يُستضاء بنورها ويؤتمّ بها ، وفي سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدى بيان صدق لا تشوبه شائبة وفيه تمام الهدى ، وليس وراء ذلك شيء إلّا إيكال العلم إلى الله تعالى.

ورأي هذه الجماعة في التوحيد : « إنّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : مذهب إثبات بتشبيه ، ومذهب النفي ، ومذهب إثبات بلا تشبيه.. فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز.. ومذهب النفي لا يجوز.. والطريق في المذهب الثالث : إثبات بلا تشبيه » (٢) إذن لا تعطيل ، إنّما هو إثبات ولكن بلا تشبيه.

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : « ما وحَدَّه من كيّفه.. ولا إيّاه عنى من شبّهه » (٣) في نفي التكييف التشبيه.

ويقول عليه‌السلام : « لا يجري عليه السكون والحركة.. ولا يوصَف بشيء من الأجزاء ولا الجوارح والأعضاء.. ولا يقال له حَدّ.. ولا أنّ الأشياء تحويه.. أو أنّ

_____________

(١) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.

(٢) التوحيد / الشيخ الصدوق : باب ٦ / ح ١٠.

(٣) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.

١٠٦
 &

شيئاً يحمله » (١) فهو ردّ صريح على من يُجري أخبار الصفات وآياتها على ظواهرها وعلى الحقيقة دون المجاز.

وعلى خطى هذا المنهج سار من اهتدى بهذا الهدي ، هدي الكتاب والسنّة ، فأثبتوا المحكمات اُصولاً للعقيدة ، وعمدوا إلى المتشابهات فردّوها إلى اُصولها المحكمة ، واتّبعوا فيها سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيانات أئمّة الهدى من آله عليهم‌السلام.. فقالوا إذن بوجود المجاز في اللغة واعتمدوه في إرجاع المتشابه إلى المحكم ، فعملوا بالتأويل في هذه الحدود مقتفين الأثر الصادق الذي وجدوه كلّه منسجماً مع المحكم ، رادّاً المتشابه إليه ، فنفوا كلّ ما يدلّ على التشبيه والتجسيم ، ثمّ أثبتوا له تعالى الصفات الثبوتية ، على أنّها صفات قائمة بذاته ، وليست هي أشياء منفصلة عنه زائدة عليه كما زعمت الأشاعرة.

كما نفوا جواز الرؤية التي أثبتها الأشاعرة في الآخرة ، عملاً بقوله تعالى : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٢) ورجوعاً إلى أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام القاطعة بهذا المعنى ، وتأكيداً بالبرهان العقلي وأدلّته المانعة لإحكام الرؤية (٣).

الطائفة الثالثة :

الذين اتخذوا السكوت عمّا يتعلّق في الصفات ، وهم فريقان :

الأول : يقول بجواز كون المراد منها هو الظاهر اللائق بجلال الله تعالى ، كما

_____________

(١) نهج البلاغة : ١٢٤ / خ ٩١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٣) راجع : التوحيد / أبو جعفر الصدوق : باب ٨ ، ابن المطّهر الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٨١ ـ ٣٠١ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٩٧٩ م.

١٠٧
 &

يجوز أن يكون المراد خلاف الظاهر كما يذهب أصحاب التأويل ، ولكن لا يقول أنّ المراد هذا أو ذاك.

قال ابن تيمية : هذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم (١). فهي ليست مقولة لفرقة من الفرق بل مذهباً لأشخاص بأعيانهم.

والثاني : أمسك عن الكلام فيها بالكلية ، ولا يزيد على تلاوة القرآن وقراءة الحديث.. وهؤلاء أيضاً لا يشكّلون فرقة ، بل أفراد لم تهتدِ قلوبهم إلى الحقيقة ، فآثروا السكوت على الخوض بما نهى عنه الشرع المقدّس.

_____________

(١) مجموع الفتاوى ٥ : ١١٦.

١٠٨
 &

الفصل الرابع

دور التطرّف الديني في تكوين بعض المذاهب والفرق

من أخطر المشكلات التي تعرض لها الفكر الديني هي مشكلة تطرّف أتباعه في تفسير معانيه وفي تطبيق أحكامه ، فيتجاوزون الضوابط الثابتة في تفسير نصوصه ومفرداته ، والحدود المعلومة في تطبيق أحكامه.

هذا التطرّف هو الذي سمّاه الدين « غلوّاً » وهو يقابل التقصير في معرفة الدين وتطبيق أحكامه.

والغلوّ إنّما تصاب به النفوس الوالهة المتعلّقة بشيء من الدين غير أنّها لم تكن تفقه روح الدين ، ولم تتذوق معانيه ، ولا أدركت مقاصده وأهدافه الكبرى ، ولا قرأت القرآن الكريم كلّه قراءةً واعيةً وعلى مستوىً واحد من الاهتمام ، ولا تذوّقت جمال القرآن ولا وقفت عند خطابه اللاذع للمغالين ، ولا لفت انتباهها اُسلوب القرآن الحكيم في سدّ جميع منافذ الغلوّ.. فبعد أن فقدت كلّ هذا جنحت مع أهوائها فجاوزت الحدّ في معشوقها ، وكثيراً ما وقعت في تأليهه بشكل سافر ، أو على درجة أقلّ من ذلك.

ومنذ أقدم مراحل التاريخ البشري ، وقبل نوح عليه‌السلام ، بلغ الغلوّ بالناس أن عبدوا سَلَفهم الصالح واتّخذوهم آلهةً من دون الله ، فلمّا دعاهم نوح عليه‌السلام إلى التوحيد قالوا : ( لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ

١٠٩
 &

وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) (١) ! وهذه الأسماء (ودٌّ) و (يغوث) و (سواع) و (يعوق) و (نَسْر) إنّما هي أسماء عباد صالحين كانوا قبلهم بأجيال فكانوا يعظّمونهم ، ويزداد التعظيم جيلاً بعد جيل حتى بلغ الأمر أن اتخذوا لهم تماثيل بأسمائهم ليعبدوها ! (٢).

وظهر الغلوّ عند أتباع الديانتين اليهودية والمسيحية ، وبلغ بالنصارى أن ألَّهوا عيسي بن مريم عليه‌السلام ، قالوا : ابن الله ! وقالوا : ثالث ثلاثة ! كلّ ذلك من فرط حبٍّ معه جهالة ، ونزعة وثنية في اتّخاذ الوسائط إلى الله تعالى والتوجّه إليها بالعبادة ولو عن طريق مجاوزة الحدّ في تعظيمها وإضفاء الصفات الإلهية عليها ، من قبيل الخالقية والرازقية والإحاطة علماً وقدرةً ، فقالت النصارى إنّ المسيح يصنع المعجزات بقدرته الذاتيه وليس بإذن الله !

وجاء الإسلام فكان أكثر دقّةً في تشخيص الغلو وسدّ الأبواب دونه ، فكان القرآن يخاطب الأنبياء مخاطبة العبيد الفقراء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، ويعاتبهم وينذرهم إنذار من لم يكن له مع الله عهد ، كلّ ذلك ليصرف أفئدة المؤمنين وأرواحهم من مسالك الغلوّ.. فيتلو علينا نبأ آدم عليه‌السلام ، فيقول : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ! (٣).

_____________

(١) سورة نوح : ٧١ / ٢٣.

(٢) اُنظر : تفسير القمّي ٢ : ٣٨٧ ، وتفسير الطبري م ١٤ ج ٢٩ : ٩٨ ـ ٩٩ ، وتفسير الزمخشري ٤ : ٦١٩ ، ومجمع البيان ١٠ : ٥٤٧ ، تفسير البغوي ٤ : ٣٩٩ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ هـ ، وتفسير البرهان / البحراني ٤ : ٣٨٨ ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ ١٤١٦ هـ ، وغيرها.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١١٥.

١١٠
 &

ويخاطب داود عليه‌السلام فيقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ... ) (١) وبعد هذا ، بعد أن يخبر عن خلافته لله تعالى في الأرض ، لا بالغَلَبة ، ولا بالشورى ، ولكن بجعل من الله تعالى ، يقول على الفور : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ! (٢).

ويخاطب سيد البشر وخاتم النبييّن بما يغلق أمام الناس بعده كلّ منافذ الغلوّ لو أنّهم يعقلون ، فيقول : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ) (٣).. وهو قادر أن يقول : « قل أنا بشر » ويتمّ المعنى ، ولكن هذا التأكيد ثمّ الحصر بـ « إنّما » ثمّ التمثيل بـ « مثلكم » أبلغ تعبير في تثبيت المعنى وقطع كل الطرق أمام الشبهات والجهالات.

وإلى أكثر من هذا ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأكّد أنّ الغلوّ لا ينحصر بعبادة البشر ، بل هو حاصل حتّى في التشدّد والتطرّف بالعبادات ، فما جاوز فيها السنّة فهو غلوّ.. حدّث الفضل بن العباس ، فقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غداة يوم النحر : « هات فالتقط لي حصىً » فلقطت له حُصيّات مثل حصى الخذف ، فوضعهنّ في يده فقال : « بأمثال هؤلاء ، بأمثال هؤلاء ، وإيّاكم والغلوّ ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين » ! (٤)

_____________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١١٠.

(٤) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، السنن الكبري / البيهقي ٥ : ١٢٧ ، السيرة النبوية / ابن كثير ٤ : ٣٧١.

١١١
 &

ظهور الغلوّ بين المسلمين :

الغلوّ بمعناه الواسع ، الشامل لكلّ ما جاوز الحدّ ، كثير جدّاً بين المسلمين ، دخل في كافة مجالات الاعتقاد والعبادات وحتّى المعاملات والأعراف ، ممّا يصعب الوقوف معه على حدّ.. ومن حالاته الظاهرة هذا الكمّ الهائل من الخرافات والأكاذيب المصنوعة في مناقب وفضائل الأولياء والصالحين ، وقلّما تجد رجلاً تعلّقت به طائفة لم تنسج حوله الأساطير ! وكتب المناقب عامّة طافحة بهذا اللون من الغلوّ.

أمّا الغلوّ في العبادات ؛ فهو كثير عند أهل الانقطاع ، كما قد يقع فيه المتنطّعون الذين يجاوزون الحدّ في التدقيق والتشدّد في السنن.

والذي سوف يتوجّه إليه البحث من أصناف الغلوّ هو ما اتّخذ شكل المقالة ، أو صحّ أن يسمّى مقالة يدعو إليها رجل أو طائفة.

وقد ظهر هذا النوع من الغلوّ مبكّراً جداً ، منذ ساعة وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ خرج عمر بن الخطاب مكذّباً بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرخ بالناس : « إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله توفّي ، وأنّ رسول الله ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثمّ رجع بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعنّ رسول الله ليقطعَنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّ رسول الله مات » (١) !

فهذه أوّل مقولة غالية في الإسلام ، ظهرت ثمّ انطفأت من ساعتها.

_____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، واُنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

١١٢
 &

وفي تلك الأيّام ظهر تكذيب بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى بأصحابه إلى الردّة ! أولئك « بنو عبد القيس » قوم من البحرين لمّا بلغهم نبأ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : لو كان محمّد نبيّاً لما مات ! وارتدّوا !! فجمعهم سيدهم الجارود بن المعلّى ، فقال لهم : إنّي سائلكم عن أمر فأخبروني به.. قالوا : سل عمّا بدا لك. قال : اتعلمون أنّه كان لله أنبياء في ما مضى ؟ قالوا : نعم. قال : تعلمونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه. قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا. قال : فإنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله مات كما ماتوا ، وأنا أشهد ألّا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. فعادوا إلى رشدهم ودينهم (١).

ـ ثمّ اتخذ الغلوّ أشكالاً ، مختلفة ، وأصبح يؤلّف فرقاً وأحزاباً تتعصّب لمقولاتها أشدّ التعصّب حتّى تموت دونها ! وكان أبشع تلك المقولات ما انتهى إلى تأليه البشر وهدم النبوّة والإمامة.

غلو المارقين وآثاره :

كان أكثر أنواع الغلوّ خطراً على تاريخ الإسلام ومستقبله غلوّ المارقة ، الذي كان أساسه : السذاجة ، والسطحية في التفكير ، مع تطرّف شديد في ما يظنّونه الموقف الديني ! ذلك الذي بلغ بهم أن مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية مع أنه ليس في الأمّة أحد يجتهد في العبادة اجتهادهم ، كما وصفهم الحديث النبوي الشريف « تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم » !

فكان أوّل مظاهر سطحيّتهم في التفكير ، تأويلهم الفاسد لقوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ) (٢) فظنّوا أنّ تحكيم شخص في قضية بين اثنين شرك بالله تعالى !

_____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٥٧.

١١٣
 &

وكان أوّل مظاهر تطرّفهم : تكفير خصومهم واستباحة دمائهم وأعراضهم. وبقيت هاتان الخصلتان ملازمتان للتطرّف الديني أيّاً كان اتّجاهه : السطحية في التكفير المتمثّلة بالتأويلات الفاسدة ، وتفكير الخصوم واستباحة دمائهم وأعراضهم.

تعدّد طوائف الغلاة :

لقد توزّعت طوائف الغلاة على المذاهب الإسلامية كافّة ، حتّى لم يبقَ مذهب من المذاهب إلّا وظهر الغلو بين أصحابه أو من يُحسب عليه.

ـ فمن بين المارقين أنفسهم ظهرت طوائف غلت في الدين فوق غلوّهم الأوّل ، فقال بعضهم إنّ الصلاة ركعة واحدة بالغداة وركعة بالعشيّ فقط.. وآخرون استحلّوا نكاح المحرّمات من بنات البنين وبنات البنات ، وبنات بني الأخوة والأخوات ، وقالوا : سورة يوسف ليست من القرآن..

وطوائف كانوا من المعتزلة ثمّ غلوا وقالوا بتناسخ الأرواح..

وطوائف من المرجئة ، قالوا : إن إبليس لم يسأل قطّ النظرة ، ولا أقرّ بأنّ خلقه من نار وخلق آدم من تراب..

وآخرون كانوا من « أهل السنّة » فقالوا : قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة عليهم‌السلام ، وأنّ من عرف الله حقّ معرفته فقد سقطت عنه الأعمال والشرائع ، وقال بعضهم بحلول الباري في أجسام..

وطوائف عُدّت من الشيعة والتشيّع برئ منهم لغلوهم ، فقال بعضهم بأُلوهيّة عليّ بن أبي طالب والأئمّة عليهم‌السلام من بعده ، ومنهم من قال بنبوّته ، وبتناسخ الأرواح ، وقالت طائفة منهم بأُلوهية أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب مولى بني

١١٤
 &

أسد ، وقالت طائفة بنبوّة المغيرة بن سعيد مولى بني بجيلة ، وبنبوّة أبي منصور العجلي ، وبزيغ الحائك ، وبيان بن سمعان التميمي وغيرهم (١) وقد كفرهم أئمّة الشيعة وتبرّأ الشيعة منهم.

ومن العباسية طائفة ألّهت أبا جعفر المنصور ، فشهدوا أنّه هو الله ، وأنّه يعلم سرّهم ونجواهم (٢).

كما يُعدّ التشبيه والتجسيم غلوّاً في إثبات الصفات ، يقابله غلوّ آخر في التعطيل الذي قد يعدّ أيضاً طرف التقصير المقابل للغلوّ.. ومثله الغلوّ في القدر عند الجبرية الكاملة ، ويقابله التقصير في القدر عند المفوّضة ، الذي هو غلوّ في الاختيار ونفي القدر.

وهكذا تعدّدت أوجه الغلوّ ومقولاته على يمين الصراط المستقيم وشماله..

موقف أهل البيت عليهم‌السلام من الغلو والغلاة :

منذ البداية كان موقف الإمام علي عليه‌السلام من الغلاة أبعد من أن يقاس به موقف من ألدّ أعدائه وأشدّهم خوضاً في الفتن ، وذلك كاشف عن أنّ الغلوّ كان أقبح أنواع التحريف ، بل هو الشرك والارتداد عن الدين الذي يبقى متلبّساً بالدين فيُضلّ أقواماً من البسطاء والجهّال والمغفّلين. ثمّ كان نشاط الغلاة وتكاثرهم وظهور مقالاتهم الجديدة قد ابتدأ أيّام الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام ، لذا

_____________

(١) إلى هنا في تعدّد طوائف الغلاة مأخوذ من : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ : ١١٤ ، الغلوّ والفرق الغالية / الدكتور عبد الله سلوم السامرائي : ٨١ و٨٢ ـ دار واسط ـ بغداد ـ ١٩٨٢ م.

(٢) المقالات والفِرق : ٦٩ ـ ٧٠.

١١٥
 &

كان كلامهما في الغلاة كثيراً ومواقفهما منهم شهيرة ، لا يقاس بها موقف من خصم لهم أو منازع ، وقد توزّع موقف أهل البيت عليهم‌السلام عامّة من الغلاة على ثلاثة أساليب :

الأول ـ البراءة واللعن : فحين أظهر أبو الجارود بدعته ، تبرّأ منه الباقر عليه‌السلام ، وسمّاه باسم الشيطان سرحوب ، مبالغة في التنفير منه (١) ، ولعنه الإمام الصادق عليه‌السلام ولعن معه كثير النوّاء وسالم بن أبي حفصة ، وقال : « كذّابون مكذّبون كفّار ، عليهم لعنة الله » (٢).

وهكذا لعنوا المغيرة بن سعيد ، وأبا الخطّاب ، وبياناً وغيرهم (٣) ، ولمّا وقفوا على بدعة ابن كيّال تبرّأوا منه ولعنوه (٤)..

الثاني ـ التحذير منهم وكشف أكاذيبهم : فإذا أظهر رجل غلوّاً أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه ، ثمّ أمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته (٥). ثمّ نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غيرهم إلى أنّ هؤلاء كذّابون يفترون على أهل البيت الأباطيل وينسبون إليهم ما لم يقولوا به :

قال الصادق عليه‌السلام : « كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب علي أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتستّرون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩٥ ح / ٤١٣ ـ مطبعة جامعة مشهد ـ ١٣٤٨ هـ. ش.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٩٦ ح / ٤١٦.

(٣) رجال الكشي ح / ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٠٣ ، ٤٠٧.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٦١ ، وهو أحمد بن كيّال ، وأصحابه الكيّالية ، من فرق الغلاة.

(٥) الملل والنحل ١ : ١٦١ ، رجال الكشي ٢ : ٩٣ ح / ٤٠٥.

١١٦
 &

أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ، ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوا في الشيعة ، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم » (١) !

وقال عليه‌السلام : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلّا ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزّوجلّ ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

فكان أصحابهم من ذوي البصيرة وذوي التحقيق يدقّقون النظر في كتب الحديث ، فربّما تحسّسوا الدخيل فيها ، وربّما عرضوها على الأئمّة أنفسهم فأثبتوا الصحيح منها وأسقطوا الدخيل ؛ يقول يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال لي : « إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إذا

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩١ ح / ٤٠٢.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ ح / ٤٠١.

١١٧
 &

تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة ، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وقال فلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصدّق كلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان » (١).

وكان ذوو الذوق السليم والإيمان الصحيح يتحسّسون ذلك أيضاً ؛ جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقر عليه‌السلام فأنشده :

أبا جعفر أنت الوليّ اُحبّهُ

وأرضى بما ترضى به وأتابعُ

أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ

أحاديث قد ضاقت بهنّ الأضالعُ

أحاديث أفشاها المغيرةُ فيهمُ

وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (٢)

الثالث ـ الردّ على مقالاتهم الباطلة : لقد كان اُولئك الغلاة يكذبون على أهل البيت عليهم‌السلام من ورائهم ويخشون أن يظهروا مقولاتهم الفاسدة أمامهم ، بل حتّى الزنادقة كانوا يتحاشون ذلك ، فلمّا أراد ابن أبي العوجاء الزنديق أن يناظر الإمام الصادق عليه‌السلام حذّره ابن المقفّع ، وقال له : لا تفعل ، فإنّي أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك (٣). وكان أهل البيت عليهم‌السلام إذا بلغتهم المقالة الفاسدة من الغلاة فيهم خاصّة ردّوها جهرة وأثبتوا للناس الحقّ الذي في خلافها..

_____________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ ـ ٤٩١.

(٢) عيون الأخبار / ابن قتيبة م ١ ـ ج ٢ : ١٥١ (كتاب العلم والبيان) ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(٣) الكافي / الكليني ـ كتاب التوحيد ـ ١ : ٧٤ ح / ٢ ـ المكتبة الإسلامية.

١١٨
 &

وهنا سنذكر نماذج من هذه الردود بحسب موضوعاتها ، لنقف في آن واحد على نماذج من الموضوعات التي انزلق فيها الغلاة ، وعلى كلمات أهل البيت عليهم‌السلام وكلمات علماء الشيعة في مواجهة الانحراف وتصحيح الاعتقاد :

١ ـ التأليه : ادّعى كثير من الغلاة تأليه الأئمّة ، أو حلول الروح الإلهية فيهم ، فكان من ردّهم على هذه الدعوى قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا » (١).

٢ ـ التفويض : دعوى اُولئك الذين قالوا إنّ الله خلق الأئمّة ثمّ جعل بأيديهم الخلق والرزق ؛ قيل للإمام الصادق عليه‌السلام : « زعم أبو هارون المكفوف أنّك قلت له : إن كنتَ تريد القديم فذاك لا يدركه أحد ، وإن كنت تريد الذي خلق ورزق فذاك محمّد بن عليّ ! يعني الباقر عليه‌السلام ».

فقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « كذب عليَّ ، عليه لعنة الله ، والله ما من خالق إلّا الله وحده لا شريك له ، حقّ على الله أن يذيقنا الموت ، والذي لا يهلك هو الله خالق وبارئ البرية » (٢).

٣ ـ منازل لم يدّعها أهل البيت عليهم‌السلام لأنفسهم : من غير التأليه والتفويض أظهر الغلاة كلاماً في منازل عجيبة لم يصدق منها شيء :

ـ فمن ذلك : قول بعضهم في جواب أمير المؤمنين عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر في خبر ماريّة ، فقال له : يا رسول الله ، أكون فيه كالسكّة المحماة ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل الشاهد يرى ما لا

_____________

(١) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٩ ح / ٤٠٠.

(٢) رجال الكشّي ٢ : ٤٨٨ ح / ٣٩٨.

١١٩
 &

يرى الغائب ».. فتأول هؤلاء كلمتي « الشاهد » و « الغائب » بأنّ هذا رمز من أمير المؤمنين بأنّه شاهد جميع الأشياء ، وأنّ الأمر له في الباطن والتدبير ، دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

وصف الشيخ المفيد أصحاب هذا القول بأنّهم الغلاة المنتحلين للزيغ (١).

ـ وقال أصحاب التناسخ : إنّ مقام النبوّة ومقام الإمامة استحقاق على الله تعالى ! وأنكر ذلك جمهور الإمامية ، وقالوا : هو تفضّل من الله تعالى ومعهم في هذا كافّة المعتزلة وأصحاب الحديث (٢).

وفي ردّ تلك المقالات كلّها ونظائرها نقف على قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا » (٣).

٤ ـ في مفاهيم العقيدية : لقد سخّر الغلاة كثيراً من القضايا العقيدية في خدمة أهوائهم ، كما سخّروا التأويل والباطن ، وكما استفادوا من العقيدة بالمهدى الموعود وغيبته ـ كما استفاد غيرهم أيضاً ـ حتّى صارت عشرات الفرق منهم تدّعي مهدياً وتقول بغيبته ! فواجه أهل البيت عليهم‌السلام ذلك كلّه ، فأثبتوا حجيّة ظواهر القرآن : في تفسيرهم له ، وفي أمرهم بعرض الحديث عليه فما وافقه فهو صحيح عنهم ، وما خالفه بالتباين فهم منه براء.. وركّزوا الحديث عن مهديّ أهل البيت عليهم‌السلام بما يكفي لبيان بطلان دعاوى اُولئك المنتحلين ، وذلك ببيان اسمه ونسبه الشريف.

_____________

(١) رسالة حول خبر مارية القبطية / الشيخ المفيد : ١٨ (مصنفات الشيخ المفيد / م ٣).

(٢) أول المقالات / الشيخ المفيد : ٦٤ / ٣٥ ، ٣٦ (المصنفات / م ٤).

(٣) رجال الكشّي : ح / ٤٠٠.

١٢٠