قاعدة لا ضرر ولا ضرار

آية الله العظمى السيد علي السيستاني

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

المؤلف:

آية الله العظمى السيد علي السيستاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المتوفى سنة ٥٨١ ، واضاف هو علىٰ ذلك ما تيسر له ، وقد جعل لما اخذه من كل منهما علامة ، فكانت علامة الأَول ( ه‍ ) وعلامة الئاني ( س ) ، وما اضافه عليهما جعله مهملاً بلا علامة ، وكلامه المتضمن لشرح حديث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام مقرون بالعلامة الأولىٰ ، فيعلم أنه مأخوذ من كتاب أبي عبيد الهروي.

الملاحظة الثالثة : ان حصر مصدر الزيادة بنهاية ابن الأثير ـ كما جاء في كلامه (قده) ـ حيث قال :

( وانما توجد في نهاية ابن الأثير ) ليس بصحيح ، لانها توجد في جملة من كتب الحديث والفقه واللغة وغيرها.

اما في ( كتب الحديث ) فتوجد في مصادر العامة في عدة كتب علم بعضها مما سبق .. وفي ضمن ثلاث روايات :

١ ـ رواية ابي لبابة المروية في مراسيل ابي داود.

٢ ـ رواية جابر بن عبد الله المروية في المعجم الاوسط للطبراني.

٣ ـ رواية أبي جعفر عليه‌السلام المروية في المصنف لعبد الرزاق الصنعاني.

واما في مصادرنا فيوجد الحديث مع الزيادة في كتابين :

احدهما : الفقيه كما مر نقله عنه.

وثانيهما : عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الاحسائي الذي نقل الحديث عن الشهيد الأول ( ره ) في بعض مصنفاته عن أبي سعيد الخدري وهو أحد رواة العامة مما يظهر منه أنه نقل الحديث من مصادرهم ولا يبعد أن يكون الصدوق (قده) أيضاً قد أخذه من مصادرهم كما أنّه ذكر الحديث في مقام الاحتجاج علىٰ العامة ، مقروناً بعدة أحاديث اخرىٰ مروية من طرقهم.

وأما في ( كتب الفقه ) فيوجد في جملة من كتب فقه العامة :

٨١

منها : بدائع الصنائع (١) للكاساني الحنفي قال في كلام له ( وأمّا الذي يرجع إلىٰ المولَّى فيه فهو ان لا يكون من التصرفات الضارة بالمولَّى عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).

ومنها : المبسوط (٢) للسرخسي الحنفي حيث قال في كلام له ( فاذا كان تقديم الغرباء يضر باهل المصر قدّمهم علىٰ منازلهم عملاً بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).

ومنها : شرح الخراج (٣) لبعض متأخري الحنفية حيث قال في كلام له ( والضرر حرام لقوله : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).

ويوجد في بعض كتب فقه الزيدية أيضاً ككتاب البحر الزخار (٤) حيث قال في كلام له ( واذا باعه الراهن فباطل لابطاله حق المرتهن وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).

ويوجد في جملة من كتب الإماميّة أيضاً كالخلاف للشيخ الطوسي في كتاب الشفعة (٥) ، والتذكرة للعلاّمة في خيار الغبن (٦).

وأمّا في ( كتب اللغة ) : فيوجد في تهذيب اللغة للازهري (٧) وغريب الحديث والقرآن لابي عبيد (٨) واساس البلاغة للزمخشري (٩) وفي جملة من

__________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ٢٦٥.

(٢) المبسوط ١٦ / ٨١.

(٣) الرتاج ٢ / ١٢٠.

(٤) البحر الزخار ٥ / ١١٩.

(٥) الخلاف ٢ : ١٠٩.

(٦) تذكرة الفقهاء ١ / ٥٢٢.

(٧) تهذيب اللغة ١١ / ٤٥٧.

(٨) كما تقدّم عن نهاية الأثر ٣ : ٨١.

(٩) أساس البلاغة ٢٦٨.

٨٢

القواميس اللغوية المتأخرة كلسان العرب (١) وغيره.

هذا ما اطلعنا عليه من موارد ذكر الحديث مع الاضافة في كتب الفريقين ولعل المتتبع يجد اكثر من ذلك.

الملاحظة الرابعة : ان ما ذكره بعض الاعاظم (٢) من التشكيك في وجود زيادة ( في الإسلام ) في الفقيه محل نظر من وجهين :

الأَول : ان مجرد امكان تخريج زيادة كلمة خطأً علىٰ اساس التكرار أو غيره من مناشئ الخطأ في الكتابة لا يقوم حجة علىٰ وقوع الخطأ بالفعل ، بل لا بُدّ من قيام شاهد عليه ، ولا شاهد في المقام علىٰ ذلك بل بعض الشواهد يقتضي خلافه ، فان نسخ الكتب الاربعة كانت مقروءة علىٰ المشايخ من بدو تأليفها إلىٰ قريب هذه الاعصار وتوجد جملة من النسخ المقروءة عليهم بايدينا ، فيضعف مع ذلك ادعاء وقوع التحريف بالزيادة في مرحلة القراءة وان سلم انه يحصل في الكتابة ، مضافاً إلىٰ ان الجوامع الحديثية التي نقلت هذا الحديث عن الفقيه انّما نقلته مع تلك الزيادة كالوسائل وغيرها ولم ينقل احتمال ما ذكر من التصحيف عن احد من محشي الفقيه وشرّاحه.

الثاني : ان مقتضىٰ كلام الصدوق (قده) في الاحتجاج بهذا الحديث وجود هذه الزيادة ، فانه ذكر هذا الحديث في سياق الاحتجاج علىٰ العامة في قولهم ان المسلم لا يرث الكافر فقال (٣) : ان الله عزوجل انما حرم علىٰ الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم ، كما حرم علىٰ القاتل عقوبة لقتله ، فأما المسلم فلأيّ جرم وعقوبة يحرم الميراث ؟! وكيف صار الإسلام يزيده شراً ؟! مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الإسلام يزيد ولا ينقص ، ومع قوله عليه

__________________

(١) لسان العرب ٤ / ٤٨٢.

(٢) الإمام الخميني في الرسائل : ٢٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٤٣ ح ٧٧٦ ـ ٧٧٨.

٨٣

وآله السلام : ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) فالاسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً ، ومع قوله عليه وآله السلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

فيلاحظ ان احتجاجه بحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) مبني علىٰ ان اسلام المرء لا يوجب ضرراً عليه ، وهذا يتوقّف علىٰ ثبوت تلك الزيادة لكن مع تفسير الإسلام بالاعتقاد بالدين ، دون نفس الدين وجعل كلمة ( في ) للتعليل كما في قولهم ( قتل فلان في دينه ) فيكون مؤدى الحديث إنّه لا ضرر علىٰ المرء باسلامه فلو فرضنا خلو الحديث عن الزيادة في ذيله لم يمكن الاحتجاج به للمدعىٰ المذكور.

فظهر بما ذكرناه ان التشكيك في وجود زيادة ( في الإسلام ) في الفقيه في غير محله.

هذا تمام الكلام في تحقيق وجود هذه الزيادة في المصادر الحديثية وغيرها وعدمه.

الامر الثاني : في تحقيق اعتبار هذه الزيادة وهل انها ثابتة في الخبر علىٰ وجه معتبر ام لا ؟

وجهان بل قولان ويمكن الاستدلال للوجه الأَول من ثبوتها واعتبارها بوجوه :

الوجه الأَول : ان حديث لا ضرر ولا ضرار مع هذه الاضافة مروي في كتب الحديث للفريقين ومشهور في السنة الفقهاء حتىٰ انه ذكر بهذا المتن في كتب اللغة وذلك مما يوجب الوثوق بثبوت الزيادة وصحتها.

ويرد عليه :

أوّلاً : انه لم يذكر مع الزيادة في كتب اصحابنا ـ فيما اطلعنا عليه ـ إلاّ في مقام الاحتجاج به علىٰ العامة من حيث وروده من طرقهم ، فلا يدل علىٰ نقله من طرقنا أيضاً ليقال انه مروي من طرق الفريقين فيمكن الوثوق

٨٤

بصحته.

وثانياً : ان تكرار الخبر مع الزيادة مرسلاً من قبل الفقهاء واللغويين أو المحدثين ، مما لا يوجب الوثوق به وإنما الذي يوجب الوثوق به تعدد طرقه واختلافها ليزداد بذلك احتمال صدوره حتىٰ يصل إلىٰ مرتبة الوثوق والاطمئنان وهذا ما لم يتحقق في المقام.

الوجه الئاني : ان هذا الحديث مع الزيادة مروي في الفقيه بصيغة جزمية اي ان الصدوق (قده) اسنده إلىٰ المعصوم عليه‌السلام بصورة الجزم حيث قال : ( ومع قوله عليه‌السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) وهو مما يستوجب الاعتماد عليه ، وإن كان النقل مرسلاً فانه وان لم تثبت حجية جميع مراسيله (قده) ـ كما ذهب اليه جمع ـ الا ان ما نسبه إلىٰ المعصوم عليه‌السلام علىٰ سبيل الجزم حجة ومعتمد عليه.

وهذا الوجه اعتمده السيد الاستاذ قدس‌سره في بعض دوراته الاصولية (١) ثم عدل عنه ، وردّه بان غاية ما يدل عليه هذا النحو من النقل هو صحة الخبر عند الصدوق ، وامّا صحته عندنا فلم تثبت لاختلاف المباني في حجية الخبر ، فان بعضهم قائل بحجية خصوص خبر العادل مع ما في معنىٰ العدالة من الاختلاف ، حتىٰ قال بعضهم العدالة هي اظهار الشهادتين مع عدم ظهور الفسق ، وبعضهم قائل بحجية خبر الثقة ، وبعضهم لا يرى جواز العمل الا بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة العلمية فمع وجود هذا الاختلاف في حجية الخبر ، كيف يكون اعتماد أحد علىٰ خبر مستلزماً لحجيته عند غيره (٢).

__________________

(١) الدراسات : ٣٢٢.

(٢) مصباح الأصول ٢ / ٥٢٠.

٨٥

ويمكن ان يناقش فيما افاده نقضاً وحلاً.

اما ( النقض ) فبتوثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم فانه قدس‌سره يعتمدها رغم تأتي هذا الاحتمال فيها أيضاً ولا موجب للتفريق بينها وبين ما نحن فيه ، اذ لا شاهد علىٰ انهم في مقام جرح الرواة أوتعديلهم يعتمدون علىٰ طريقة خاصة غير ما يعتمدونها في مقام نسبة القول إلىٰ المعصوم ، بل الظاهر ان اثبات المخبر به عندهم في المقامين علىٰ منهج واحد.

وما يقال من كثرة الكتب المؤلفة في الرجال المتضمنة لاحوال الرواة مما لم يصل الينا ، فيحتمل استناد الرجاليين اليها في الجرح والتعديل ، يأتي نظيره في كتب الحديث أيضاً ، بل ان كتب الحديث المؤلفة من زمان الامام الصادق عليه‌السلام إلىٰ زمن الصدوق ـ مما فقد في الاعصار المتأخرة ـ أزيد بكثير مما صنف في الجرح والتعديل.

واما الحل فبما ذكره قدس‌سره في غير هذا المقام (١) ـ بناءً على مختاره من حجية خبر الثقة ـ وهو انه اذا لم يعلم ان منشأ الإخبار هل هو الحسّ أو الحدس ، فالقاعدة الاولية وان كانت تقتضي عدم حجية هذا الاخبار ـ نظراً إلى ان ادلة حجية خبر الثقة لا تشمل الاخبار الحدسية ، فاذا احتمل ان الخبر حدسي كانت الشبهة مصداقية ولا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، الا ان هناك أصلاً ثانوياً حاكماً على هذه القاعدة وهو اصالة الحس الثابتة ببناء العقلاء ـ فان سيرتهم قائمة على حجية خبر الثقة في الحسيات فيما لم يعلم انه نشأ من الحدس ، وعلى ضوء هذا فيقال في المقام ان مجرد عدم العلم بمعنى المخبر في اخباره لا يوجب الحكم بعدم حجية خبره بعد وجود احتمال الحسّ في حقه ، ولا ريب في أن احتمال

__________________

(١) لاحظ معجم الرجال ١ : ٤١.

٨٦

الحس في خبر الصدوق ـ ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة ـ موجودٌ وجداناً فيلزم البناء علىٰ حجية خبره.

هذا والصحيح في الجواب عن الوجه المذكور ما اوضحناه في مبحث حجية الخبر الواحد.

أوّلاً : من أن التحقيق هو حجية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة ، ، وعليه فلا بُدّ من حصول الوثوق عندنا بثبوت المخبر به ، ولا يكفي مجرد وثوق المخبر بصحة خبره في ذلك ، إذا لم يستوجب الوثوق لدينا.

وثانيا : انه لو كان تصحيح الصدوق (قده) للخبر وجزمه به حجة علىٰ ثبوته فلا وجه لتخصيص ذلك بمراسيله التي جاءت بصيغة جزمية ، بل ينبغي القول بحجية جميع مراسيله ، بل جميع ما ابتدأ فيه باسم شخص لم يذكر طريقه اليه في المشيخة ، اذا كان هو ومن يروي عنه من الوسائط ـ ان وجدت ـ من الثقات ، والوجه في ذلك انه قدس‌سره قد شهد في مقدمة كتابه بصحة جميع ما رواه فيه ، حيث قال : ( ولم اقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت إلىٰ ايراد ما أُفتي به واحكم بصحته واعتقد فيه انه حجة فيما بيني وبين ربّي تقدس ذكره وتعالت قدرته ) (١). وعلى ضوء هذا فتفريقه بين الروايات في التعبير ، حيث يعبر تارة بالرواية ، واخرى بالقول ، وثالثة بالسؤال ، أو يستعمل صيغة المعلوم تارة ، وصيغة المجهول اخرى ... الخ ليس الا ضرباً من التفنن في التعبير ، حذراً من التكرار المملّ كما يشهد له اختلاف تعبيره في مورد راوٍ واحد ممّن اليه سند في المشيخة.

وبهذا يظهر بطلان كل مبنىً يستند إلى التفريق بين هذه التعابير ، كأن يقال (٢) مثلاً : ان اسانيد المشيخة لا تشمل الروايات التي وردت في الفقيه

__________________

(١) من لا يحضر الفقيه ١ / ٣.

(٢) مستند العروة الوثقىٰ ـ كتاب الصوم ٢ / ٢٠٣.

٨٧

بصيغة المجهول اعني ( روي ) ، او يقال : إنها لا تشمل ما عبّر فيه بصيغة السؤال ، لان الاسانيد انما هي إلى روايات الرجال وليست إلىٰ اسئلتهم ، او غير ذلك مضافاً إلى بطلان امثال هذه التفاصيل بوجوه اخرى تعرضنا لها في محل آخر.

وثالثاً : ان هذا الحديث ـ اي لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ـ قد اورده الصدوق كما ذكرنا سابقاً وسيأتي تفصيله ان شاء الله تعالى في مقام الاحتجاج على العامة ، وذكر الحديث في هذا السياق لا يعني الاعتراف بصحته ولو كان التعبير بظاهره جزمياً ، لأنه حينئذٍ في قوة ان يقول ( مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما رويتموه ... ) وعلى ذلك فلا يمكن تصحيح هذا الحديث وإن قلنا بصحة مراسيله المسندة إلىٰ المعصوم عليه‌السلام بصيغة جزمية في سائر الموارد.

وبذلك كله يظهر عدم تمامية الوجه المذكور.

الوجه الثالث : أن يقال : ان هذا الخبر مع هذه الزيادة وان كان ضعيفاً سنداً الا أنه منجبر ضعفه بعمل الاصحاب به واعتمادهم عليه ، كالصدوق في الفقيه والشيخ في الخلاف والعلاّمة في التذكرة وغيرهم.

ويمكن ان يناقش فيه ـ بعد تسليم الكبرى ـ.

اولاً : بان هذا المقدار لا يكفي في جبر الخبر الضعيف ، فإن الجبر عند القائل به انما يتم في موارد عمل المشهور به لا بمجرد عمل البعض كما هو الحال في المقام.

وثانياً : انه لم يظهر اعتماد هذا البعض أيضاً على حديث ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ، لأَن ما يستدلّ به علماؤنا في المسائل الخلافية من الروايات المروية بطرق العامة ، ليس من باب الاعتماد عليها وانما هو من باب الاحتجاج على الخصم بما يعترف بحجيته ، ونقل الرواية في الخلاف

٨٨

والتذكرة انما هو من هذا القبيل.

بل الامركذلك في نقل الفقيه أيضاً لأَن هذا الكتاب وان لم يكن قد وضعه شيخنا الصدوق (قده) للمحاجة مع العامة في الفروع ، الاّ أنه قد تعرض لرد كلامهم في عدة مسائل خلافية ، وقد كان منهجه في هذه المسائل نقل اخبار العامة التي تؤيد رأي الإماميّة وتقوم حجة عليهم.

وكانت من تلكم المسائل مسألة إرث المسلم من الكافر ، وهي التي ذكر فيها حديث ( لا ضرر ولا ضرار مع زيادة في الإسلام ) فقد ذهب اكثر العامة إلىٰ ان المسلم لا يرث الكافر ، وذهب الإماميّة إلىٰ انه يرثه ، ولكن الكافر لا يرث من المسلم وقد وافقهم في ذلك جمع من العامة أيضاً ، ونسبوا ذلك إلىٰ معاذ ، ومعاوية ، ومحمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين ، ومسروق ، وعبدالله بن معقل ، والشعبي ، والنخعي ، ويحيى بن معمر ، واسحاق ، وهو رواية عن عمر (١) ، وذكر الشوكاني في نيل الاوطار في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا يتوارث اهل ملتين ) انه لا يرث اهل ملة كفرّية ، من اهل ملة كفريّة اخرى ، وبه قال الاوزاعي ومالك واحمد والهادوية ، وحمله الجمهور علىٰ أن احدى الملتين هي الإسلام والاخرى هي الكفر ولا يخفى بعد ذلك (٢).

ونحن ننقل فيما يلي عبارة الصدوق في هذه المسألة مع تعقيبها بشيء من الشرح لكي يتضح ما ذكرناه قال (٣) (قده) : « باب ميراث اهل الملل : لا يتوارث اهل ملتين والمسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم ‍» ويلاحظ ان تعقيب الجملة الأولىٰ التي هي موضع استدلال العامة بالجملة الثانية ، بيان

__________________

(١) المغني ٧ : ١٦٧.

(٢) نيل الأوطار ٦ : ١٩٤.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٤٤ / ٧٨٢.

٨٩

للجواب عن هذا الاستدلال بأن المراد هو نفي التوارث من الطرفين متخذاً ذلك من بعض الاخبار التي نقلها بعد ذلك ، وهو خبر عبدالرحمن بن اعين عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال لا يتوارث اهل ملتين نحن نرثهم ولا يرثونا ؛ ونفي التوارث لا يستلزم نفي الإرث من أحد الطرفين للآخر.

ثم قال (قده) ( وذلك ان أصل الحكم في اموال المشركين أنها فيء للمسلمين وان المسلمين احق بها من المشركين ) (١) والمقصود بهذه العبارة بيان أن رجوع أموالهم إلىٰ المسلمين أمر علىٰ وفق القاعدة ، إلا أن الذمة منعت عن استحلال اموالهم من قبل المسلمين ، وهذا نوع استحسان ذكره احتجاجاً علىٰ العامة.

ثم قال ( ره ) ( وان الله عز وجل انما حرم علىٰ الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم ، كما حرم علىٰ القاتل عقوبة لقتله ) (٢) وهذا من قبيل استنباط العلّة للحكم ـ بملاحظة ما يشترك معه في ذلك ـ لمنع تعميمه لميراث المسلم من الكافر وهو من قبيل القياس.

ثم قال (قده) ( فأما المسلم فلأَيّ جرم وعقوبة يحرم الميراث ) وهذا أيضاً مبني على استنباط ان موانع الارث انما هي من قبيل العقاب على فعل قبيح ـ لا محالة ـ كالقتل والكفر ، فلا معنى لحرمان المسلم من الميراث ، وهذا نوع من الاجتهاد بالرأي أيضاً ذكر احتجاجاً على العامة.

ثم ذكر (قده) ( وكيف صار الإسلام يزيده شراً ) وهذا الاستبعاد إذا كان استبعاداً للموضوع في نفسه ـ كما يظهر من لحنه ـ بغض النظر عن توجيهه بملاحظة الاخبار التي نقلها بعد ذلك ـ فهو أيضاً نوع من الاجتهاد بالرأي.

ثم قال ( ره ) مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) وهذا احد إدلة من قال بقولنا من العامة وهو جزء من رواية ابي الاسود

__________________

(١ و ٢) الفقيه ٤ : ٢٤٣.

٩٠

التي نقلها (قده) بعد ذلك ، وهي مروية في كثير من كتبهم كما سيجيء ، وقد اجاب عنه ابن حجر في فتح الباري بانه محمول على انه يفضل عن غيره من الاديان ولا تعلق له بالارث.

ثم ذكر (قده) ومع قوله ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) وقد مضى تخريج هذا الحديث بهذا اللفظ من مصادرهم. ويلاحظ أيضاً انه لم يحتج بهذا الحديث على مذهب الإماميّة في هذه المسألة السيد المرتضى في الانتصار ، والشيخ الطوسي في الخلاف ، ولعل منشؤه أن مبنى الاستدلال به هنا علىٰ حمل كلمة ( الإسلام ) على الاعتقاد بالدين ، وجعل كلمة ( في ) للتعليل ليكون المعنى ( لا ضرر ولا ضرار على المرء باسلامه ) وهذا مخالف لظاهر الحديث من كون الإسلام بمعنىٰ الدين وكون ( في ) للظرفية كما سيجيء توضيحه ان شاء الله تعالى.

ثم ذكره ( قد ) ( فالاسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً ) وهذا استنتاج من الخبرين فهو من كلام الصدوق نفسه وليس في الروايات كما ظنه صاحب الوسائل ( ره ).

ثم قال (قده) ( ومع قوله عليه‌السلام الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ) ، وهذا الحديث مروي أيضاً من طرق العامة رواه البخاري في صحيحه (١) وقد استدل به في نيل الاوطار (٢) على هذا القول.

ثم ذكر ( ره ) ( والكفار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون ) وهذا تقريب للموضوع.

ثم قال (قده) ( وروي عن ابي الاسود الدؤلي أن معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا اليه ، وقالوا : يهودي مات وترك اخاً مسلماً ، فقال معاذ

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٧ ( فيه عن ابن عباس وباسقاط قوله عليه عن آخره ).

(٢) نيل الأوطار ٦ : ١٩٣.

٩١

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول الإسلام يزيد ولا ينقص ، فورث المسلم من اخيه اليهودي ) وهذه الرواية مذكورة في مسند احمد (١) ، والمستدرك للحاكم (٢) ، ونقلت عن سنن ابي داود والبيهقي (٣) ، وقد أوردها السيد المرتضى في الانتصار (٤) ، وقال ( علىٰ ان هذه الاخبار معارضة بما يرويه مخالفونا وقال : حدثني ابو الاسود الدؤلي : ان رجلاً حدثه ان معاذاً قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ( الإسلام يزيد ولا ينقص فورث المسلم ) ، ومنه يظهر أن نقل ابي الاسود عن معاذ مرسل ، ولا اشكال في ان الصدوق (قده) إنما نقل هذا الحديث من مصادر العامة ، أو من كتب بعض قدمائنا ممّن الّف في الرد عليهم كالفضل بن شاذان وغيره.

فظهر مما تقدّم ان الصدوق (قده) إنما نقل حديث ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) من كتب العامة وأورده احتجاجاً به عليهم ، وذلك لقرينتين :

الأُولى : انه نقل هذا الخبر في مقام الاحتجاج علىٰ العامة في مسألة خلافية بيننا وبينهم.

الثانية : ان سائر الروايات التي نقلها في هذا المقطع من كلامه ، انما نقلها عن العامة ولا توجد في شيء من كتبنا ، بل ان سائر الادلة التي ذكرها انما هي من قبيل الاجتهاد بالرأي من القياس والاستحسان ونحوهما مما لا حجية له لدى الإماميّة ، وقد استعملها في مقام الالزام ، فهذا يكشف عن أن منهجه الاستدلالي في هذا الموضع ، انما كان علىٰ البحث مع العامة وفق مبادئهم واسسهم ، ولا ينفع في هذا السياق ذكر خبر مروي من طرق

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٣٠.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٤ : ٣٤٥.

(٣) سنن أبي داود ٣ : ١٢٦ / ٢٩١٣.

(٤) الانتصار : ٣٠٤.

٩٢

الامامية ، كما هو واضح.

فبهاتين القرينتين يحصل الوثوق بان الصدوق (قده) قد أورد خبر ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) من طرق العامة وانما احتج به عليهم في مسألة خلافية ، كما فعل من بعده كالشيخ الطوسي في الخلاف والعلامة في التذكرة.

وبذلك يظهر عدم تمامية دعوىٰ انجبار الحديث مع الزيادة بعمل الاصحاب ، فلا دليل علىٰ ثبوت هذه الزيادة واعتبارها.

المقام الثاني : في تحقيق زيادة ( علىٰ المؤمن ) في آخر الحديث ، إن هذه الزيادة قد وردت في رواية ابن مسكان ، عن زرارة في قضية سمرة ، لكنها لم ترد في معتبرة ابن بكير ، عن زرارة ، التي نقلت نفس القضية ، كما لم ترد في سائر موارد نقل الحديث ، من طرق الخاصة والعامة ، فهل تثبت هذه الزيادة في الحديث برواية ابن مسكان ، كما ذهب اليه العلاّمة شيخ الشريعة (١) وغيره أم لا ؟ كما اختاره المحقق النائيني (٢) وآخرون ؟

والقول بثبوت هذه الزيادة يتوقّف علىٰ الالتزام بامرين :

الأَوّل : حجية رواية ابن مسكان في نفسها.

الثاني : تقديمها ـ بعد حجيتها ـ علىٰ ما لا يتضمن تلك الزيادة.

أمّا الامر الأَوّل : فيشكل الالتزام به من جهة ان الرواية مرسلة ، ولا سيّما أن مرسلها البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء ، ولكن مع ذلك فقد يقال بحجيتها لاحد وجهين :

الوجه الاول : وجود الرواية في الكافي فلا يضرها الارسال بعد ذلك ، وذكر هذا المحقق النائيني قدس‌سره (٣) وقد حكي عنه انه قال ( ان الخدشة

__________________

(١) رسالة لا ضرر ١٥.

(٢ و ٣) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ١٩.

٩٣

في اسناد روايات الكافي من حرفة العاجز ) (١) ، ويبدو أن العلاّمة شيخ الشريعة أيضاً اعتمد علىٰ هذا الوجه ، ولعل تأثره بالوجوه التي ذكرها المحدث النوري في خاتمة المستدرك في تصحيح احاديث الكافي.

ولكن تلك الوجوه ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها كما اوضحنا ذلك في بعض ابحاثنا الرجالية.

الوجه الثاني : ان يقال إن اصل هذه القضية التي ذكرت في رواية ابن مسكان عن زرارة قد ثبتت أيضاً برواية ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وبرواية أبي عبيدة عنه عليه‌السلام أيضاً ، فمطابقة رواية ابن مسكان في اصل القضية لتلك الروايتين مما يوجب الوثوق بصدورها.

ويرد عليه :

أوّلاً : إنّه إذا كان مبنىٰ الاعتماد علىٰ رواية ابن مسكان توافقها في المضمون مع روايتي ابن بكير وأبي عبيدة ، فاللازم الاقتصار في ذلك علىٰ موارد الاتفاق فيما بينها ، ولا يمكن التعدي عنها إلىٰ موارد الاختلاف ، فإن قضية سمرة بنقل ابن بكير عن زرارة لم تتضمن زيادة ( على مؤمن ) وان تضمنت أصل حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) كما أنها بنقل أبي عبيدة لم تتضمن اصل الحديث ، فكيف يمكن الالتزام باعتبار رواية ابن مسكان في مورد الاختلاف بينها وبين تلك الروايتين بسبب التوافق بينها في اصل القضية ؟!

وثانياً : إن رواية ابن بكير غير متضمنة لهذه الزيادة ، ولا يمكن توجيه عدم تضمنها لها بأنه من باب الاختصار ـ مع أنه حذف لما يخل بالمعنى حذفه ـ لان الاختصار في مثل ذلك لا يوافق اصول الاختصار المعمولة في باب الروايات كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا فالقول

__________________

(١) معجم الرجال ١ : ٨٧.

٩٤

باعتبار رواية ابن مسكان في هذا الموضع ، مع منافاتها مع مصدر اعتبارها ، وهو خبر ابن بكير ممّا لا محصل له ، لأنّ مرجعه إلىٰ انّه إذا كان هناك خبران متعارضان يشتركان في جزء من مضمونهما ، وكان احدهما حجة في نفسه دون الآخر ، فإنّ الثاني يكون حجة في جميع مضمونه بملاحظة اشتراكه مع الاول في جزء من مضمونه ، ثم يتعارضان في نقطة الاختلاف بينهما ، وربما يتقدم الثاني علىٰ الاول ـ الذي اكتسب منه الحجية ـ ببعض الوجوه والاعتبارات ، ! وهذا أمر لا ريب في بطلانه.

فتحصل مما تقدّم ان رواية ابن مسكان لم يثبت اعتبارها في نفسها لتكون حجة علىٰ ثبوت زيادة ( علىٰ مؤمن ) في آخر الحديث.

وأمّا الامر الثاني : وهو تقديم هذه الرواية المتضمنة للزيادة ـ علىٰ تقدير حجيتها ـ علىٰ ما لا يتضمن الزيادة وهي رواية ابن بكير ، فربما يحتج له : بأن مقتضىٰ الاصل في دوران الامربين الزيادة والنقيصة هو البناء علىٰ الزائد والاخذ به واعتبار الخلل في مورد النقص.

وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي البحث في مقامين :

المقام الأَوّل : في ثبوت الاصل المذكور وهو بحث مهم جداً ، لانه يتضمن مسألة سيّالة كثيرة الدوران في الفقه.

والمقام الثاني : فيما يقتضيه الموقف علىٰ تقدير عدم ثبوت هذا الاصل.

أما المقام الأَوّل : فيلاحظ ان مقتضىٰ القاعدة الاولية هو اعمال قواعد المتعارضين من الترجيح أو التساقط ، لان الدليلين هنا من قبيل المتعارضين بالنسبة إلىٰ كيفية النقل فيجري فيهما القواعد العامة في باب التعارض وهي تقتضي ملاحظة المزايا في الجانبين فإن اقتضت رجحان احدهما أو أوجبت الوثوق به ـ علىٰ القولين في باب التعارض من كفاية الرجحان في الترجيح أو

٩٥

اعتبار الوثوق كما هو المختار ـ أُخذ بالجانب الراجح ـ سواءاً كان هو الزيادة أو النقيصة وإلاّ تساقط الدليلان ولم يمكن الاعتماد علىٰ أي منهما. هذا بحسب الأَصل الأَولي.

وأمّا الأصل الثانوي المقتضي لتقديم جانب الزيادة علىٰ جانب النقيصة كقاعدة عامة في موارد دوران الامر بينهما ففي حقيقته احتمالان :

الاحتمال الأَوّل : أن يكون صغرى وتطبيقاً للقاعدة العامة للترجيح الصدوري ـ لا أصلاً موضعياً يرجح جانب الزيادة مستقلاً عن تلك القاعدة ـ وذلك بان يكون المقصود به التعبير عن وجود مزية نوعية قائمة في طرف الزيادة دائماً أو غالباً بحيث توجب أقربية الزيادة إلىٰ الصدور من النقيصة ، في فرض عدم رجحان طرف النقيصة في القيمة الاحتمالية للصدور ، وإلاّ لم يرجح جانب الزيادة ولم يؤخذ بها.

وبناءاً علىٰ تفسير القاعدة المذكورة بهذا الاحتمال فيمكن الاستدلال عليها بوجهين.

الوجه الأَوّل : أن يقال إنّ احتمال الغفلة في جانب الزيادة أبعد من احتمالها في جانب النقيصة فيلزم الاخذ به ، ولعل وجه الابعدية أن الغفلة ـ بمعنىٰ الذهول ـ إنما تتناسب بحسب طبيعتها لأَن تكون سبباً لترك شيء ثابت لا لإثبات شيء غير واقع كما هو مشاهد وجداناً.

ويرد عليه :

أوّلاً : بأن الأَمر لا يدور بين الغفلتين ، ليرجح احتمال عدم الغفلة في جانب الزيادة علىٰ احتمال عدم الغفلة في جانب النقيصة ، فإن لكل من الزيادة والنقيصة مناشئ أُخرى غير ذلك ، فقد تتحقق الزيادة لاجل النقل بالمعنى على اساس أن الراوي يستفيد قيداً للكلام من القرائن المحتفة به حسب فهمه فيتبعه ولا يثبته غيره لأنّه لم يستفده منها ، وقد تتحقق النقيصة

٩٦

من جهة الاختصار في النقل ، أو تصور كون القيد توضيحياً لا احترازياً مثلاً ، فلا بُدّ من ملاحظة مجموع الاحتمالات ودرجة كل احتمال بحد ذاته ثم الحكم علىٰ ضوء ذلك.

وثانياً : بانّه لو فرض دوران الامر بين الغفلتين فإن أبعدية الغفلة في جانب الزيادة لا تقتضي إلا أرجحية احتمال الغفلة في جانب النقيصة بمعنىٰ الظن بوقوعها ولكن قد حقق في محله انّه لا يكفي الرجحان بمعنىٰ الظن في تقديم أحد المتعارضين علىٰ الآخر ، لعدم الدليل علىٰ حجية الظن بالصدور لا تعبداً ولا عقلاً ، بل العبرة في ذلك بالوثوق بأحد الطرفين ، بنحو يوجب انصراف الريبة الحاصلة من العلم الاجمالي بخطأ احدهما إلىٰ الطرف الآخر دون هذا الطرف.

الوجه الثاني : أن يقال : إنّ الزيادة ليس لها تفسير ـ علىٰ تقدير صدق الراوي ـ إلا الغفلة فينفى هذا الاحتمال بأصالة عدم الغفلة ، وأما النقيصة فيمكن تفسيرها بوجوه أُخر ، من قبيل الاختصار في النقل أو توهم تساوي وجود الزيادة وعدمها في المعنىٰ وغير ذلك ، ومن هنا يرجح احتمال وقوع النقيصة في الناقص ويبنى علىٰ ثبوت الزيادة.

ويرد عليه :

أوّلاً : أن سبب الزيادة ـ كما تقدّم ـ لا ينحصر بالغفلة ، بل قد تكون الزيادة من جهة النقل بالمعنى بعد فهم الزائد من لحن الكلام ومناسبات الحكم والموضوع ، أو بلحاظ ما اعتقده الراوي من القرائن المقامية المحتفة بالكلام او لغير ذلك ، فالنسبة بين مناشئ الزيادة والنقيصة ليست عموماً وخصوصاً مطلقاً بأن تكون مناشئ الزيادة مناشئ للنقيصة أيضاً ولا عكس كما ذكره بعض الاعاظم (١).

__________________

(١) الإمام الخميني (قده) في الرسائل ٢٦ ـ ٢٧ نحوه.

٩٧

وثانياً : انّه لا عبرة بمجرد زيادة المحتملات في احد الجانبين بالنسبة إلىٰ الجانب الآخر ، بل لا بُدّ من ملاحظة درجة الاحتمال في كل واحد منهما علىٰ ضوء جهات اخرى من قبيل وحدة الراوي وتعدده أو قرب الاسناد وبعده ، أو اوثقية رواة احد النقلين بالنسبة إلىٰ رواة الآخر وهكذا ، فمجرد زيادة المحتملات في جانب النقيصة لا يوجب أرجحية احتمال وقوعها في مقابل احتمال وقوع الزيادة.

وثالثا : لو سلمنا أرجحية احتمال وقوع النقيصة من احتمال وقوع الزيادة إلا أنه لا يستوجب الاخذ به لعدم حجية الظن في هذا الباب كما تقدّم آنفاً.

الاحتمال الثاني : في تفسير الاصل المذكور : أن يكون أصلاً موضعياً يرجح جانب الزيادة علىٰ النقيصة من جهة الصدور ـ مستقلاً عن القاعدة العامة للترجيح ـ بمعنىٰ لزوم الاخذ بالزيادة والبناء علىٰ صحتها بغض النظر عن تكافؤ الاحتمالين أو أرجحية جانب الزيادة أو أرجحية جانب النقيصة ما لم تصل إلىٰ درجة الاطمئنان والوثوق ، وإلاّ كان العمل بالخبر الموثوق به دون الآخر وإن كان متضمناً للزيادة أو النقيصة.

وقد يستظهر هذا الاحتمال من كلام العلامة شيخ الشريعة (قده) حيث قال (١) بعد نقل اختلاف الروايات في هذه الزيادة : وبناءً على القاعدة المطردة المسلمة إنّ الزيادة إذا ثبتت في طريق قدمت على النقيصة ، وحكم بوجودها في الواقع وسقوطها عن رواية من روى بدونها ، وانّ السقوط إنما وقع نسياناً أو اختصاراً أو توهماً بأنه لا فرق بين وجودها وعدمها إلاّ التأكيد ، أو غير ذلك من وجوه ما يعتذر به للنقص في قضية شخصية ثبتت في طريق آخر مع

__________________

(١) رسالة لا ضرر ١٥.

٩٨

الزيادة ، فينتج ما ذكر أن الثابت في قضية سمرة هو قوله ( لا ضرر ولا ضرار علىٰ مؤمن ) لا هما مجردين. انتهى.

ولكن يرد عليه ـ على تقدير تمامية الاستظهار المذكور ـ :

أولاً : انّه لم يثبت هناك اصل عقلائي في خصوص المقام يقتضي البناء على صحة الزيادة ، وإنّما العبرة عند العقلاء بقيام القرائن الموجبة للوثوق بأحد الطرفين ، كما في سائر الموارد الأخرى ، فمتى حصل الوثوق باحدهما بعد تجميع القرائن في كل واحد منهما بنوا عليه ، سواء أكان هو ثبوت الزيادة أو عدم ثبوتها ، وإلا تساقطا معاً ، ودعوى اطراد تقديم الزيادة في تعارض الطرق ممنوعة جداً ، فهل ترى أنّ احداً إذا كان في مقام استلام الف دينار من غيره ، فأمر اثنين بعد المبلغ فعدّه احدهما ألفاً ، والآخر ألفاً وخمسة وعشرين ، فهل تراه يقدّم قول الاول بالبناء علىٰ اصالة ثبوت الزيادة ويرجع خمسة وعشرين ديناراً إلى صاحب المال ؟!

وثانياً : انّ ما ذكره قدس‌سره من كون ذلك مسلماً عند الكل في غير محله ، بل وقع الاختلاف فيه بين العامة والخاصة ، ونقتصر على الاشارة إلى آراء بعضهم ، فالمحقق النائيني قدس‌سره مثلاً يرى أن مبنى الاصل المذكور هو ابعدية احتمال الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن احتمالها بالنسبة إلى النقيصة ، وهذه الأَبعدية لا تتم فيما لو كان الراوي للزائد واحداً وللناقص متعدداً (١) ، فهذا يدل على أنّه (قده) لا يرى البناء على الزيادة أصلاً برأسه ، بل يراه مبنياً على محاسبة الاحتمالات واختلاف درجتها في الجانبين.

والزيلعي من محدثي العامة ذكر في كلام له في نصب الراية (٢) ما نصّه

__________________

(١) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : ١٩٢.

(٢) نصب الراية ١ / ٣٣٦.

٩٩

( إن قيل إن الزيادة من الثقة مقبولة ، قلنا ليس ذلك مجمعاً عليه بل فيه خلاف مشهور ، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً ، ومنهم من لا يقبلها والصحيح هو التفصيل : وهو أنّها تقبل في موضع دون موضع فتقبل اذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً ، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الوثاقة وتقبل في موضع آخر بقرائن تحفّها ومن حكم حكماً عاماً فقد غلط ).

وهكذا اتضح مما تقدّم أنه لا وجه لترجيح جانب الزيادة علىٰ جانب النقيصة علىٰ اساس قاعدة عامة تقتضي ذلك ، سواءاً كانت تطبيقاً للقاعدة العامة للترجيح الصدوري أو أصلاً مستقلاً برأسه ، وعلىٰ ضوء ذلك فلا يمكن اثبات زيادة ( علىٰ مؤمن ) في الحديث استناداً إلىٰ هذا الاصل.

هذا تمام الكلام في المقام الأَوّل.

وأمّا المقام الثاني : وهو فيما يقتضيه الموقف بعد عدم تمامية الاصل المذكور ، ففيه وجهان :

الوجه الأول : أن يرجح ثبوت الزيادة في هذه الحالة أيضاً بتقريب : أن من لاحظ رواية ابن مسكان المتضمنة لزيادة ( علىٰ مؤمن ) ، وقارن بينها وبين روايتي ابن بكير وأبي عبيدة يجد انّ سياقها قائم علىٰ التفصيل وذكر خصوصيات ما دار بين الرجل الانصاري وبين سمرة ، ثم ما دار بينهما وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما الروايتان الأخريان ليس سياقهما في ذكر تمام الخصوصيات ، فرواية ابن مسكان ليست في مستوى الروايتين اجمالاً وتفصيلاً حتىٰ يتوقع تضمنهما لما تضمنته ، ليكون عدم تضمنهما لشيء جاء فيها موجباً للتشكيك في ثبوته ، بل إنها تمثل الصورة التفصيلة للقضية بينما هما يتضمنان الصورة الاجمالية لها فعدم ذكر كلمة ( على مؤمن ) فيهما لعدم كونهما في هذا السياق.

ويرد عليه : أنّ للاختصار اصولاً وقواعد لا تأتي في جميع الموارد ،

١٠٠