قاعدة لا ضرر ولا ضرار

آية الله العظمى السيد علي السيستاني

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

المؤلف:

آية الله العظمى السيد علي السيستاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وفي نيل الاوطار (١) : ( ان الزوج اذا اعسر عن نفقة امراته واختارت فراقه فرّق بينهما واليه ذهب جمهور العلماء على ما حكاه في فتح الباري ، وحكاه صاحب البحر عن الامام عليّ عليه‌السلام ، وعمر ، وابي هريرة ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وحماد وربيعة ، ومالك ، واحمد بن حنبل ، والشافعي ، والامام يحيى ، وحكى صاحب الفتح عن الكوفيين أنّه يلزم المرأة الصبر وحكاه في البحر عن عطاء ، والزهري ، والثوري ، والقاسمية ، وابي حنيفة واصحابه وأحد قولي الشافعي ).

وتعرض لنقل اقوال الصحابة والتابعين وفقهاء العامة ابن حزم أيضاً في كتاب المحلى (٢) ثم ان القائلين بهذا القول اختلفوا في انه هل للزوجة طلب الفسخ أو الطلاق أو هي مخيرة بينهما ؟ ففي نيل الأَوطار (٣) نقل للعامة في ذلك أقوالاً ثلاثة وفي المغني (٤) ( كل موضع يثبت لها الفسخ لاجل النفقة لم يجز الا بحكم الحاكم ... فاذا فرّق بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه وبهذا قال الشافعي وابن المنذر ، وقال مالك : هو تطليقة وهو احق بها ان أيسر في عدتها ... ).

فظهر بذلك انه لا اجماع هناك في عدم خيار تخلف الشرط الضمني الارتكازي والصريح في عقد النكاح ، لكنه مخالف للروايات الآتية ، ومع ذلك يمكن القول بأن الشرط المرتكز هو ان يكون الخيار لها بالرجوع إلى الحاكم وفسخه ، وان لم يتيسر فبنفس الزوج ، فلا مخالفة لمفاد الروايات

__________________

(١) نيل الاوطار ٧ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) ج ١٠ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) نيل الاوطار ٧ : ١٣٥.

(٤) المغني ٩ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٣٠١

المشار اليها. وعلى تقدير منع ذلك ، فالوجه في عدم الحاق النكاح عند الإعسار بخيار الغبن في استحقاق الفسخ انما هو الروايات الواردة في الموضوع.

البحث الثاني : في انه هل يثبت حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) ؟

اما ( قاعدة لا ضرر ) ، فلإثبات ذلك بها تقريبان :

التقريب الأَوّل : ما يماثل التقريب الذي يذكر لإثبات خيار الغبن في صورة عدم اقدام المغبون على الضرر ـ وهو ان يقال : إن حكم الشارع باستمرار الزوجية حتى بعد فسخ الزوجة لها من جهة حرمانها من حقها ـ المعبَّر عن هذا الحكم باللزوم ـ ضرر على الزوجة فهو منفي.

وعلى هذا التقريب يكون التمسك ب‍ ( لا ضرر ) تمسكاً به لنفي الحكم لا لإثباته ، كما انه انما يتجه في فرض انكار ارتكازية الشرط أو تأثير الشرط الارتكازي ونحو ذلك ـ كما يظهر مما سبق في التنبيه السابق ـ.

وقد يعترض على هذا التقريب بما عن شيخنا الحلِّي (قده) من ان الضرر المتوجه على الزوجة في حال عدم قيام الزوج بحقوقها ليس مسبباً توليدياً عن نفس لزوم النكاح لينتفي بالحديث المذكور اذ من المعلوم ان اختيار الزوج دخيل في البين (١).

وهذا الاعتراض مبني على ما ذهب اليه (قده) وفاقاً لشيخه المحقق النائيني من أن الضرر المنفي عنوان توليدي لنفس الحكم الشرعي ، كالاضرار فيكون الحكم الشرعي منفياً حيث ينطبق عليه الاضرار. وقد مرت مناقشة هذا المبنى في محله وذكرنا ان الصحيح في تخريج ما ذهب اليه

__________________

(١) بحوث فقهية : ٢٠٧.

٣٠٢

المشهور من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري هو ان مفاده نفي التسبيب الشرعي إلى تحمل ضرر من الغير.

وعلى هذا فيمكن التمسك به في المقام حيث يفرض سقوط الحكم بالانفاق لعدم قدرة الزوج أو ثبوته في حقه مع عدم عمله على وفقه ولو إجباراً ، إذ يصدق على جعل لزوم الزوجية وبقائها أنّه تسبيب إلى الضرر من قبل الشارع فينتفي بلا ضرر.

وبذلك يظهر ان هذا التقريب أيضاً تامّ لولا دلالة الروايات على خلافه ، حيث إنها تدل على ان ازالة الطلاق لا بُدّ ان يكون صادراً عن الولي الإجباري وهو الحاكم.

التقريب الثاني : انه يلزم من عدم جعل سلطنة لغير الزوج على الطلاق وازالة عقد الزوجية تسبيب الشارع إلى ضرر الزوجة ، فيستكشف من ( لا ضرر ) وجود هذا الحق للحاكم.

وعلى هذا التقريب يكون التمسك ب‍ ( لا ضرر ) استدلالاً به في اثبات وجود حكم شرعي. وعليه يبتنى تمسك السيد الطباطبائي بهذه القاعدة وب‍ ( لا حرج ) لهذا المدعى. بل على هذا الاساس يبتنى تمسك العلامة ب‍ ( لا ضرر ) في اثبات حق الفسخ للزوجة ، وكذا استدلال ابن الجنيد ب‍ ( لا حرج ) لهذا المدعى فانه ليس نظرهم إلى دفع اللزوم. بل وكذا تمسك الشيخ والعلامة وغيرهما ب‍ ( لا ضرر ) لإثبات خيار الغبن الذي هو من الحقوق القابلة للارث.

ويلاحظ : ان بين رفع الحكم ب‍ ( لا ضرر ) واثباته به فرقاً ، فان الامر في الأوّل واضح لان المفروض تعيّن الحكم الموجب للضرر وهو ما يتوهّم بسبب عموم أو اطلاق أو غيرهما. ولكنه ليس كذلك في الثاني لأن الحكم الذي يراد استكشافه لا يكون متعيناً غالباً لامكان رفع الضرر بجعل عدة

٣٠٣

احكام ، كما أشار إلى ذلك الشيخ الانصاري (قده) في خيار الغبن فلا يمكن استكشاف حكم معين منها الاّ بمؤونة زائدة.

ففي المقام يدور الامر بين ان يكون الحكم المجعول لرفع الضرر عن الزوجة هو ثبوت حق الطلاق للحاكم عند وجود الشرائط التي منها مطالبة الزوجة بالطلاق ، وبين ان يكون ثبوت هذا الحق لنفس الزوجة وبين ثبوت حق الفسخ لأحدهما. وبين الطلاق والفسخ فرق فإنه على تقدير الطلاق قد يكون الطلاق رجعياً فيكون للزوج الرجوع في اثناء العدة اذا تمكن من الانفاق وهذا بخلاف الفسخ.

وتعيّن احد هذه الاحكام بحاجة إلى مزيد بيان.

ويمكن تقريب ثبوت حق الطلاق بأن المستفاد من الادلة العامة هو ان وظيفة الزوج احد الأَمرين اما إمساك بالمعروف أو تسريح باحسان ، ويشهد له بالخصوص معتبرة جميل ، عن أصحابنا ، أو عن عنبسة بن مصعب ، وسورة بن كليب ، عن احدهما قال : اذا كساها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها اقامت معه والاّ طلّقها ) (١).

واذا امتنع الزوج من الطلاق ولو بمراجعة الحاكم الشرعي يكون الحاكم هو المتصدي للطلاق لانه ولي الممتنع.

ويشهد لذلك ما ورد في المفقود من انه يطلقها الولي ولو باجباره على ذلك ، وإن لم يكن لها ولي طلقها السلطان (٢) وكذلك ما ورد في ان حق

__________________

(١) لاحظ الوسائل ـ كتاب النكاح. أبواب النفقات ـ الباب ١ ـ الحديث ٤ ج ٢١ / ٥١٠ ولاحظ ان الكافي الموجود عندنا يختلف مع ما نقله الشيخ عنه في سند الرواية لكن لا يسع المقام بيان ذلك ( منه ).

(٢) لاحظ المصدر السابق. كتاب الطلاق. أبواب أقسام الطلاق وأحكامه. الباب ٢٣ الحديث ٥ ج ٢٢ / ١٥٨.

٣٠٤

الطلاق لا يكون بيد الزوجة مطلقاً ولو بجعل الزوج ، ففي معتبرة محمّد بن قيس عن ابي جعفر عليه‌السلام انه قضى في رجل تزوج امرأة واصدقته هي واشترطت عليه ان بيدها الجماع والطلاق. قال : خالفت السنَّة ووليت حقاً ليست بأهله ، فقضى أن عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق وذلك السنّة (١).

فمن ذلك وغيره يعلم ان الحكم بعدم كون الطلاق بيد الزوجة ليس من باب اللا اقتضاء ، بل من باب اقتضاء العدم. هذا ما يتعلق باثبات حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة ( لا ضرر ).

واما اثبات حق الطلاق للحاكم بقاعدة لاضرار فيختص بالزوج الذي يكون مضارّاً قال تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ) (٢) ووجه استفادته منها : ما سبق في شرح مقطع ( لا ضرار ) من انه يستفاد منه ان للحاكم الشرعي الحق في المنع عن الاضرار حدوثاً وبقاءً بانسب وأخفّ الوسائل الممكنة ، وهو في المقام بعد سلسلة من الاجراءات طلاق الزوجة ، فيكون حكم طلاق الزوجة حكم نخلة سمرة بن جندب التي امر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلعها ، وعلى هذا فتثبت للحاكم هذه السلطة لانها من شؤون الولاية التنفيذية ، وقد أشير إلى هذا التقريب فيما عن شيخنا الحلي (قده) (٣).

البحث الثالث : في حكم المسألة على ضوء الروايات الواردة في المقام ، وهي روايات عديدة :

فمنها : ما رواه الصدوق ، عن ربعي بن عبد الله ، والفضيل بن يسار ،

__________________

(١) لاحظ الوسائل كتاب النكاح. أبواب المهور. الباب ٢٩ ـ الحديث ١ ج ٢١ / ٢٨٩.

(٢) البقرة ٢ / ٢٣١.

(٣) بحوث فقهية : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٣٠٥

جميعاً ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ ) (١) قال : ان انفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة والاّ فرق بينهما. وللصدوق سند صحيح إلى كل منهما في المشيخة. وقد رواه الشيخ بسند فيه محمّد بن سنان ، عنهما إلا انه قال ( ما يقيم صلبها ) (٢).

ومنها : ما رواه الصدوق بسنده المعتبر عن عاصم بن حميد عن ابي بصير قال : سمعت ابا جعفر عليه‌السلام يقول : ( من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الامام ان يفرّق بينهما ).

ومنها : ما نقله في الكافي ـ بسند مخدوش ـ عن روح بن عبد الرحيم قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : قوله عزّ وجلّ : ( وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ ) قال : ( اذا انفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة والا فرق بينهما ).

والظاهر ان كلاً من الصدوق والكليني يفتون بذلك كما افتى به بعض آخر من فقهائنا ، فقد ذكر في الحدائق (٣) في عداد اقوال علمائنا انه ( قيل بان الحاكم يبينها وهذا القول نقله السيد السند في شرح النافع قال : نقل المحقق الشيخ فخر الدين عن المصنف انه نقل عن بعض علمائنا قولاً بان الحاكم يبينها ).

ويظهر من كلام المحقق النائيني المناقشة في الاستدلال بها بوجهين :

__________________

(١) الطلاق ٦٥ / ٧.

(٢) لاحظ الوسائل. كتاب النكاح ـ أبواب النفقات ـ الباب ١٠ الحديث ١ ج ٢١ / ٥٠٩.

(٣) ج ٦ ص ١٤١ ط الحجر.

٣٠٦

الأَوّل : انها غير معمول بها (١) وذلك لان قدماءنا بين من قال بلزوم صبرها وبين من قال بان لها فسخ العقد كابن الجنيد. لكن قد ظهر مما ذكرنا انه لا وجه لدعوى الاعراض عنها ، بل توقف من توقف في الموضوع قد يكون لعدم الاطلاع على صحة سند ما صح منها كما اشار اليه صاحب الحدائق (٢).

الثاني : معارضتها بمثل النبوي ( تصبر امرأة المفقود حتى يأتيها يقين بموته أو طلاقه ) والعلوي ( هذه امرأة ابتليت فلتصبر ) ونحو ذلك (٣).

ولعله يشير بنحو ذلك إلى ما رواه الشيخ عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن بنان بن محمّد ، عن ابيه ، عن ابن المغيرة ، عن السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام ان علياً عليه‌السلام قال في المفقود : لا تتزوج امراته حتى يبلغها موته أو طلاقه أو لحوقه بأهل الشرك ) (٤).

لكن لا يمكن الاعتماد على شيء من الاخبار الثلاثة : ( اما رواية السكوني ) فلأن في سندها بنان بن محمّد وهو عبد الله بن محمّد بن عيسى

__________________

(١ و ٢) تقريرات المحقق النائيني : ٢٢١ ، ومن الغريب ما أورده السيد الاستاذ على ذلك من ان الروايات الآمرة بالصبر واردة فيما إذا امتنع الزوج من الموافقة ( لاحظ مصباح الأصول ٢ : ٥٦١ ) فان نظر المحقق النائيني إلى النبوي والعلوي الآتيين وهما واردان في المفقود ولا يرتبطان بمن امتنع عن الموافقة.

(٣) قال في ج ٦ / ١٤١ ط الحجر وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف أيضاً حيث اقتصر على نقله الأقوال وادلتها ولم يرجح شيئاً في البين إلا أن الظاهر انه لم يقف على صحة الخبرين اللذين قدمناهما دليلاً لابن الجنيد فانه إنما نقل رواية ربعي والفضيل عارية عن وصفها بالصحة والظاهر انه اخذها من التهذيب فانها فيه ضعيفة وإلاّ فهي في الفقيه صحيحة وأما صحيحة أبي بصير فلم يتعرض لها والظاهر انه لو وقف على صحة هاتين الروايتين لما عدل عنهما بناء على عادته وطريقته كما علمته من سبطه في شرح النافع.

(٤) الوسائل ٢٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨ / ٢٨٢٦٦.

٣٠٧

الأَشعري ولم تثبت وثاقته (١).

واما الأَوّلان : فلم يتعرض لهما الا الشهيد الثاني حيث قال : ( لو تعذر البحث عنه من الحاكم اما لعدمه أو لقصور يده تعيّن عليها الصبر إلى ان يحكم بموته شرعاً ، أو يظهر حاله بوجه من الوجوه لاصالة بقاء الزوجية ، وعليه يحمل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وعن علي عليه‌السلام ... ومن العامة من أوجب ذلك مطلقاً عملاً بهاتين الروايتين ) (٢) وقد ذكر السيد الطباطباثي في مقام الجواب عن هذه الروايات الثلاث انه لا عامل بها مع ان الاولين عاميان (٣).

والظاهر انه لا اعتبار لهما سنداً حتى عند العامة وان كانا موافقين لفتاوى اهل الرأي وبعض الظاهرية كما تقدم.

اما النبوي : ففي المغني لابن قدامة (٤) متعرضاً للاستدلال به ( فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يثبت ولم يذكره اصحاب السنن ).

واما العلوي : ففيه أيضاً بعد ذكر نقله عن الحكم ، وحماد ، عن علي ( وما رووه عن علي فيرويه الحكم وحماد مرسلاً والمسند عنه مثل قولنا )

__________________

(١) نعم في موثقة سماعة قال سألته عن المفقود فقال إن علمت أنه فهي ارضٍ في منتظرة له ابداً حتىٰ يأتيها موته او يأتيها طلاق .. ( الوسائل ج ٢٠ ص ٥٠٦ حديث ٢٦٢١٤ ) ولكن موردها خصوص المفقود الذي يعلم حياته ولا مانع من العمل بها في موردها وجعلها مخصصة لتلكم الروايات والحكم بلزوم الصبر على المرأة وإن لم يكن للمفقود مالٌ ينفق عليها منه ولا ولي ينفق عليها من مال نفسه.

(٢) لاحظ الجواهر ط الحديث ٣٢ ص ٢٩٠.

(٣) ملحقات العروة ص ٢٧٠.

(٤) ج ٩ ص ١٣٥.

٣٠٨

وغرضه بالمسند عنه ما ذكره من انه قد روى الجوزجاني وغيره باسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ، وتعتد بعد ذلك أربعة اشهر وعشراً فان جاء زوجها المفقود بعد ذلك خيِّر بين الصداق وبين امراته.

وقال الزيلعي (١) : ( قلت رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق : اخبرنا محمّد بن عبيد الله العرزمي عن الحكم بن عتيبة : ان علياً قال في امرأة المفقود : هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق انتهى. اخبرنا معمر عن ابن ابي ليلى عن الحكم : ان علياً قال مثل ما سبق. اخبرنا ابن جريح قال : بلغني ان ابن مسعود وافق علياً على انها تنتظره أبداً. انتهى.

ونقل المحدث النوري في المستدرك (٢) عن ابن شهرآشوب في المناقب ( وروي أن الصحابة اختلفوا في امرأة المفقود فذكروا ان علياً عليه‌السلام حكم بانها لا تتزوج حتى يجيء موته وقال : هي امراة ابتليت فلتصبر. وقال عمر : تتربص اربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص اربعة أشهر وعشراً. ثم رجع إلى قول علي ).

وعلى اي حال فلا حجية للنبوي ولا للعلوي.

فظهر أن الصحيح هو الاعتماد على ما يدل على ان الحاكم يفرق بينهما ، والظاهر أنّه على نحو الطلاق ، ولا فرق بين كونه موسراً أو معسراً ، خلافاً لصاحب الحدائق حيث فصل بينهما فحمل هذه الروايات على الموسر ووافقه بعض المتأخرين.

__________________

(١) نصب الراية ج ٣ ص ٤٧٣.

(٢) المستدرك للنوري ١٥ : ٣٣٧ / ١٨٤٣٠.

٣٠٩

التنبيه السادس : في تعارض الضررين :

ولذلك صور عديدة تعرض لها بعض الاصوليين في المقام ونحن نتعرض لتحقيقها تبعاً رغم عدم ارتباط بعضها بهذه القاعدة ، وهي ترجع إلى صور أصلية ثلاث :

الصورة الأُولى : ما اذا دار أمر شخص بين ضررين بالنسبة اليه بحيث لا بُدّ له من الوقوع في احدهما ، ومنشأ حدوث هذه الحالة أحد عوامل ثلاثة لانه اما ان يكون بفعل نفس المتضرر او بعامل طبيعي أو بفعل شخص آخر والفروض الثلالة تختلف بعض الشيء في حكم المسألة ـ على ما سيتضح خلال تحقيقها ـ ويتصورجميعها فيما اذا وقع شخص من السطح ودار امره بين ان يقع على أحد شيئين يستوجب تلفه ، أو ادخل شخص راس بعيره في قدر ثم تعذر اخراجه الا بتلف احدهما.

ولهذه الصور كما ذكر فروع ثلاثة :

الفرع الأَوّل : ان يدور الامر بين ضررين مباحين.

والحكم التكليفي في هذه الحالة واضح اذ المفروض اباحة ارتكاب كل من الضررين تكليفاً فيبقى كل منهما على اباحته بلا اشكال فنتيجة ذلك تخيّر المكلف عقلاً في ارتكاب ايهما شاء.

واما الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ فلا معنى لتحقّقه فيما كان العامل في هذا الاضطرار نفس المكلف أو جهة طبيعية واما اذا كان العامل شخصاً آخر فاذا كان الضرران متساويين ، او كانا مختلفين ولكن ارتكب المضطر اخفهما فانه لا اشكال في ضمان الغير لما ارتكبه المضطر بخصوصه لأَن وقوعه في ذلك يستند إلى الغير ، وموضوع الضمان اعم من تحقيق الضرر مباشرة أو تسبيباً.

واما اذا كان الضرران مختلفين وارتكب المضطر أشدّهما فها هنا وجوه :

٣١٠

الأَوّل : ان يضمن الضرر الأَشد نظراً إلى ان الغير قد سبب إلى الضرر ـ حسب الفرض ـ والضرر الواقع انما هو الضرر الأَشد دون الأَخف ليكون ضامناً له ، فيكون ضامناً له لما وقع لا محالة.

الثاني : ان يضمن الجامع بين الضررين ؛ نظراً إلى انّ الغير انما سبب إلى وقوع المضطر في احدهما ، وانما كان وقوعه في الأَشد باختيار منه لا بتسبيب من الغير فيكون ضامناً ايّاه.

الثالث : ان يقال انه اذا كان المضطر عالماً بأشدية أحد الضررين من الآخر ، أو احتمله احتمالاً معتداً به عقلاءً فانه لا يضمنه الغير أصلاً ، واما اذا كان جاهلاً بأشدية احد الضررين أو احتمله احتمالاً ضعيفاً لا يجب الاعتناء به عقلاءً ، فان حكمه حكم صورة التساوي ويكون الغير ضامناً لما ارتكبه المضطر منهما.

وهذا الوجه هو الصحيح وذلك لان ما سبب اليه الغير أوّلاً وبالذات انما هو أحد الضررين ، ولكن هذا العنوان الانتزاعي انما ينطبق عقلاءً على خصوص الأَخف فيما اذا كان المضطر عالماً باشدية احد الضررين ، أو محتملاً لها احتمالاً معتداً به ، فلا يكون ارتكاب الأَشد مستنداً إلى تسبيب الغير في هذه الحالة لكي يكون ضامناً له ، وهذا بخلاف ما اذا كان جاهلاً بها أو محتملاً لها احتمالاً ضعيفاً فان العنوان الانتزاتي في هذه الحالة ينطبق على ما ارتكبه المضطر منهما .. كما في حالة تساوي المحتملين ـ فيكون ضامناً لذلك.

وتوضيح هذا المعنى بحاجة إلى الرجوع إلى كيفية تطبيق الحكم بالضمان في مورد التسبيب إلى احد الضررين ، لكي يتضح تخريج هذا الوجه في ضوء ذلك فنقول : ان التسبيب إلى أحد الضررين لا يستوجب الضمان بهذا العنوان لان عنوان الأحد عنوان انتزاعي جامع بين الضررين ،

٣١١

والحكم بالضمان في كل ضرر انما يقتضي ثبوت الضمان بالنسبة إلى كل ضررٍ ضررٍ معيناً ـ لا الاصل الجامع بين ضررين أو اكثر ـ لأَن العام ينحل بحسب الافراد المعينة دون المنتزعة ، ولا سبيل إلى الالتزام بثبوت الضمان بالنسبة إلى كلا الضررين كما هو واضح ، ولا بالنسبة إلى واحد منهما معيناً لأن نسبة الأَحد اليهما على حدّ سواء ، فتعيين واحد منهما ترجيح من غير مرجّح ، وعلى ضوء هذا : يعرض الابهام في كيفية تطبيق الحكم بالضمان على ذلك.

وكلما طرأ الابهام في متعلق الحكم أو موضوعه من ناحية التطبيق ، فانه تدعو الحاجة إلى خطاب متمم يطبق الماهية على شيء معين ليرتفع الابهام بذلك ، ونحن نعبر عن هذا الخطاب ب‍ ( متمم الجعل التطبيقي ) تمييزاً له عن سائر انحاء متمم الجعل. وانما يعرض الابهام في مرحلة الجعل في أحد موردين :

المورد الأَوّل : الماهيات الاعتبارية بنحو عام كالصلاة والحج والزكاة ـ على المختار فيها ـ وذلك لان المعنى الاعتباري لا ينطبق على شيء خاصّ قهراً ، بل لا بُدّ في تطبيقه من توسط اعتبار آخر ، مثلاً مجرد وجود السلام والتحية في عرف اجتماعي لا يعين عملاً خاصاً ينطبق عليه قهراً ، وهكذا وجود ( الدينار ) في القانون المالي لدولة لا يعين نقداً خاصاً يتعين انطباقه عليه كما هو واضح ، بل ذلك منوط بتطبيق الماهية الاعتبارية ممّن بيده الامر ، وذلك قد يختلف من دين إلى دين أو من مجتمع إلى مجتمع ، أو من دولة إلى دولة وهكذا ... على ما هو ملحوظ في هذه الأَمثلة.

المورد الثاني : ان تكون هناك خطابات متعددة ( بالذات أو بالانحلال من خطاب واحد ) وفعلية كل واحد أو تنجزه مشروط بشرط ـ مشترك بينها ـ

٣١٢

بالنسبة إلى موضوعها ، ففي هذه الحالة تعرض الحاجة إلى متمم الجعل مع توفر شرطين :

احدهما : ان يتحقق المعنى المجعول شرطاً بالنسبة إلى احد الموضوعات لا بالنسبة إلى كل واحد منها لكي يصير الحكم بالنسبة اليها فعلياً أو منجزاً قهراً.

الثاني : ان لا يمكن الالتزام بعدم فعلية شيء من الحكمين أو تنجزه للعلم بتحقق ملاك الحكم بالنسبة إلى احد الموضوعين.

لكن كيف يمكن صيرورة احد الحكمين فعلياً أو منجزاً ـ ابتداءً ـ لان كلاً منهما مشروط بتحقق الشرط بالنسبة إلى خصوص متعلقه ولم يتحقق ذلك بالنسبة إلى شيء منهما ، فلا يكون شيء منهما فعلياً أو منجزاً في هذه الحالة دون عناية زائدة.

وحل ذلك : ان ينشأ هنا خطاب آخر يطبق الأَحد الانتزاعي على واحد بخصوصه. وحينئذ ينحلّ الاشكال ويصير الحكم الذي طبّق الأَحد على موضوعه أو موضوع تنجزه فعلياً أومنجزاً قهراً.

وكيفية تطبيق ذلك وضابطه انه متى كان الطرفان متساويين يطبّق الأَحد على كل منهما بشرط عدم تحقّق الآخر واذا كانا مختلفين فيطبق الأَحد على ذي المزية ـ على اختلاف بين الموارد بحسب تناسباتها لها ـ.

ولهذا المورد تطبيقات كثيرة متعددة خلال المباحث الاصولية والفقهية.

منها : في مورد قاعدة الاضطرار وهي ما ورد في الحديث ( وكل شيء ، اضطر اليه ابن ادم فقد احله الله ) فاذا فرضنا اضطرار المكلف بالنسبة إلىٰ أحد محرمين لم يوثر الاضطرار ابتداءً في حلية شيء منهما ، إذ خطاب الحلية إلى كل محرم محرم فان الجامع بين محرمين ليس بمحرم ، لكن حيث لا

٣١٣

يمكن الالتزام بعدم تأثير الاضطرار في رفع الحرمة لحجة انه قد تعلق بالأَحد الجامع ، وهو ليس بمحرم ـ لكي يصير حلالاً ، ولم يتعلق بشيء من الطرفين فتبقى حرمة كل منهما على حالها فلا بُدّ من تعيين المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي ليتأتى رفع حرمته بمعونة قاعدة الاضطرار وبموجب هذا المتمم يكون المضطر اليه في مورد التساوي احتمالاً ومحتملاً ما ارتكبه المضطر بشرط عدم سبق ارتكاب الآخر او مقارنته اياه.

وفي مورد التفاوت يكون المضطر اليه هو الأَخف محتملاً والأَضعف احتمالاً ، وعلى هذا لا يجوز اتكاب الأَشد أو الاقوى بحجة الاضطرار إلى احدهما ـ كما يظهر من كلمات الاصوليين في تنبيهات بحث الاشتغال في الكلام على الاضطرار إلى بعض غير معين من اطراف العلم الاجمالي ـ لان الأَشد ليس بمضطر اليه كما هو واضح عقلاءً وانما مثل ارتكاب الأَشد في هذه الحالة كارتكاب الحرام فيما اضطر إلى أحد شيئين احدهما محرم والآخر مكروه.

ومنها : في باب تزاحم الخطابين من جهة قصور القدرة عن الجمع بين امتثالهما بناء على أخذ القدرة الثابتة في موضوع الحكم في مرحلة الانشاء ، فانه حيث لا تتوفر هذه القدرة بالنسبة إلى كل من المتعلقين ، فلا يمكن الحكم بعدم توجه شيء من الخطابين ـ أيضاً ـ للزوم فوت الملاكين المعلومين باطلاق المادة أو بجهة اخرى بعد كون القدرة عقلية لا شرعية دخيلة في الملاك ، فلا بُدّ من اعتبار هذه القدرة لواحد منهما معيناً ليصير احد الحكمين فعلياً ، فاذا كانا متساويين اعتبرت القدرة لكل منهما بشرط عدم الاتيان بالآخر. واذا كانا مختلفين اعتبرت القدرة قدرة على الاهم وعلى المهم أيضاً على تقدير ترك الأَهم.

وبناء على المختار ـ في هذا الباب ـ من أخذ القدرة التامة في موضوع

٣١٤

الحكم الجزائي في مرحلة تنجز الخطاب ، ففي مورد المتساويين يحكم بكون الموضوع للحكم الجزائي هو احد الأَمرين فيكون العقاب عليه أيضاً لعدم موافقة العقلاء على تعدّد العقوبة ولا حاجة إلى اعتبار القدرة لكل واحد منهما مشروطا ، واما في المختلفين فتعتبر القدرة قدرة على الأَهم ، وعلى المهم على تقدير ترك الأَهم.

ومنها : غير ذلك مما ذكرناه في محله ـ ولا يناسب ذكره في المقام ـ.

ومما يندرج تحت هذا المورد الثاني : مقامنا هذا حيث ان التسبيب انما هو إلى احد الضررين بينما الحكم بالضمان منصب على التسبيب إلى كل ضرر من الاضرار معيناً.

فكيفية تخريج الحكم بالضمان على ضوء ما ذكرنا ان يعين الأَحد بمتمم الجعل التطبيقي ، فاذا كان الضرران متساويين احتمالاً ومحتملاً ـ او ما هو في حكم التساوي كما لو كان التفاوت في مستوى من القلة والضعف لا يعتنى به عقلاءً ـ فينطبق الاحد المسبّب اليه على ما ارتكبه المضطر منهما اياً كان ويكون المسبّب ضامناً له. واما اذا كانا مختلفين اختلافاً معتداً به اما احتمالاً أومحتملاً مع علم المضطر بذلك او ما في حكمه فان الاحد حينئذٍ ينطبق على الاخف والاضعف فيكون هو الذي سبب اليه الغير فان ارتكبه المضطر ضمنه الغير واذا ارتكب الأَشد فان ارتكابه اياه لا يستند إلى تسبيب الغير عقلاءً فلا يوجب ضماناً عليه.

وبما ذكرنا يظهر النظر في الوجه الأَوّل والثاني.

اما الأَوّل : فلأَن الغير وان كان قد سبب إلى الضرر وكان الضرر الواقع هو الأَشد ، الا ان الضرر الذي سبب اليه الغير ليس هو الأشد لينتج ضمانه اياه ، وانما هو أحد الأَمرين المنطبق بمعونة متمم الجعل التطبيقي على الأَخف ، فلا يكون الأشد مستنداً إلى الغير أصلاً ، بل ما سبب اليه الغير لم

٣١٥

يقع خارجاً ، وذلك نظير ما لو اضطر المكلّف إلى ارتكاب احد محرمين كشرب النجس والخمر ، وكان احدهما اشدّ ـ كالخمر في المثال ـ فارتكب الاشد حيث لا ترتفع عقوبته عنه لعدم كونه مضطراً اليه عقلاءً وإن كان مضطراً إلى احد الامرين وهذا واضح.

واما الثاني : فلأَنّ احد الأمرين وان كان قد سبب اليه الغير ، الا ان الضمان لا يتعلق به كما عرفت وانما يتعلق بالضرر المعيّن ، فلا بُدّ من تطبيقه على معين بمتمم الجعل لكي يتحقق موضوع الحكم بالضمان في إثر ذلك.

الفرع الثاني : ان يدور الامر بين ضرر مباح وآخر محرم.

وفي هذه الحالة يكون الحكم التكليفي بعد عروض الاضطرار إلى ارتكاب احد الضررين نفس الحكم المفروض قبل عروض ذلك ـ كما في الفرع الأَوّل ـ فما كان مباحاً أولاً يكون مباحاً كذلك بعد الاضطرار ، كما أن ما كان محرماً يبقى على حرمته بعد ذلك. ولا ترتفع الحرمة أو تنجزها بالاضطرار فان الاضطرار انما يؤثّر في احدى حالتين :

الأُولى : ان يتعلق بامر محرم.

الثانية : ان يتعلق بأحد امرين وينطبق علىٰ المحرم بمتمم الجعل التطبيقي.

والمقام ليس من قبيل الحالة الأولى لان احد الأَمرين ـ حتى فيما كان الامران جميعاً محرمين ـ ليس بمحرم فضلاً عما اذا كان احدهما حلالاً والآخر حراماً ، ولا من قبيل الحالة الثانية ؛ لان الاضطرار وان تعلق بأحد الامرين الا انه لا ينطبق على الحرام الذي يكون طرفه حراماً اخف من الأَوّل حرمة ـ كما اتضح مما ذكرناه في الفرع الأَوّل ـ فضلاً عما اذا كان طرفه مباحاً كما في المقام ، فالمضطر اليه هنا بمقتضى متمم الجعل انما هو خصوص المباح ، ولا مبرر لارتكاب الحرام في ذلك.

٣١٦

واما الحكم الوضعي : فهو واضح فانه اذا كان الغير هو السبب للوقوع في الضرر وارتكب المضطر الضرر المباح كان الغير ضامناً له لانه المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي واما اذا ارتكب المضطر الضرر المحرم فلا يكون ضامناً له لانه لم يسبب اليه الغير.

الفرع الثالث : ان يدور الأَمر بين ضررين محرمين.

وحينئذٍ يكون المضطر اليه في حالة التساوي ونحوه كل منهما بشرط عدم ارتكاب الآخر سابقاً أو مقارناً ، وفي حالة التفاوت ما كان اخف محتملاً واضعف احتمالاً ، وذلك بمؤونة متمم الجعل التطبيقي على ما سبق شرحه في الفرع الأَوّل.

وعليه فبالنسبة إلى الحكم التكليفي ترتفع الحرمة عن المضطر اليه ـ بناء على ان مقتضى قاعدة الاضطرار رفع حرمة المضطر اليه ـ واما ان قلنا بان مفادها رفع تنجزها على ما قربناه في محله فتبقى الحرمة ولكن لا يُستحق العقاب بمخالفتها إلا اذا كان الاضطرار بسوء الاختيار.

واما بالنسبة إلى الحكم الوضعي : فاذا كان الضرر بتسبيب الغير فينطبق احد الأَمرين ( المسبّب اليه ) على المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي فيكون الغير ضامناً له لو ارتكبه المضطر ، واما لو ارتكب غيره كان يرتكب ما هو أقوى محتملاً فلا يكون الغير ضامناً لعدم تسبيبه اليه عقلاءً كما عرفت توضيحه.

الصورة الثانية : ان يدور امر الضررين بشخصين عكس الصورة الأولى ، ومثاله المعروف ما اذا دخل رأس دابّة شخص في قدر شخص آخر ولم يمكن تخليصها منه الا بكسر القدر او ذبح الدابة.

ويخرج عن محل البحث ما اذا كان مال الغير نفساً محترمة كالعبد المسلم أو ما بحكمه فان الضرر حينئذٍ يكون دائراً بين اشخاص ويتعين فيه

٣١٧

اتلاف المال الآخرتحفظاً على نفس العبد.

ولهذه الصورة أيضاً فروع ثلاثة :

الفرع الأَوّل : ما اذا كان ذلك بفعل احد المالكين.

وقد ذكر السيد الأَستاذ (قده) ان الحكم فيه وجوب اتلاف ماله وتخليص مال الآخر مقدمة لرده على مالكه لقاعدة اليد ولا يجوز اتلاف مال الغير ودفع مثله او قيمته إلى مالكه ، لانه متى امكن ردّ العين وجب ردّها ولا تصل النوبة إلى المثل أو القيمة والانتقال إلى المثل والقيمة انما هو بعد تعذّر العين (١).

والتحقيق أن يقال : انه اما ان يأذن له مالك المال الآخر بايقاع الضرر المادي علىٰ ماله ولو بشرط الضمان أو لا يأذن له في ذلك.

فعلى الأَوّل : يلحق هذا الفرع من ناحية الحكم التكليفي بالصورة. الأُولى وهو ما اذا كان الضرر يدور بين مالين لشخص واحد ، فلا بُدّ من ملاحظة ان اتلاف كل من المالين هل هو في نفسه عمل مباح فيتخير ، أو ان اتلاف احدهما مباح والاخر محرم ولو من جهة صدق الاسراف ونحوه ، فيتعين اختيار المباح ، أو ان اتلاف كل منهما محرم فيجوز ارتكاب المضطر اليه منهما وهو في المتساويين ما اختاره المضطر ، وفي المختلفين ما كان اخف محتملاً واضعف احتمالاً كما سبق بيانه ؟

وعلى الثاني حيث لا يأذن مالك المال الآخر بايقاع الضرر على ماله ويطالب بدفع النقيصة الحاصلة من الحالة الطارئة على ماله بسبب محل الآخر.

فان كان ايقاع الضرر على مال نفسه مباحاً فلا بُدّ من ايقاع الضرر

__________________

(١) لاحظ مصباح الأصول ٢ : ٥٦٣.

٣١٨

عليه دون مال الغير وذلك لا من جهة قاعدة اليد فانه ربما لا يكون تحت يده ، بل مقدمة لدفع العيب الطارئ على مال الآخر ، ولا يجوز ايقاع الضرر الذي يتوقّف عليه التخليص بمال الغير لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه.

واما ان كان ايقاع الضرر على مال نفسه محرماً فيندرج في باب تزاحم الحكمين ويلحقه احكام هذا الباب.

الفرع الثاني : ان يكون بفعل شخص ثالث غير المالكين.

وقد ذكر السيد الاستاذ (قده) ان في مثله يتخير في اتلاف مال أيهما شاء ويضمن مثله أو قيمته لمالكه اذ بعد تعذر إيصال كلا المالين لمالكهما فعليه ايصال احدهما بخصوصه ، والآخر بماليته من المثل أو القيمة ، لعدم امكان التحفظ على كلتا الخصوصيتين. الا اذا كان التصرف في احدهما اكثر عدواناً في نظر العرف فيجب عليه اتلاف الآخر (١).

لكن الظاهر انه لا وجه للحكم بجواز ايقاع الضرر في احد المالين مخيراً في ذلك مطلقاً بحسب الوظيفة العملية ولو بحكم العقل ، بل عليه استئذان كل من المالكين في التصرف في ماله.

فان اذن له في ذلك احدهما دون الآخر فيتعين ايقاع الضرر على ماله وان كانت اباحته مشروطة باعطاء قيمته أو مثله أو الأَرش فلا بُدّ من بذله له.

وان اذن له كل منهما فلا مانع له من هذه الجهة في ايقاع الضرر على أيّهما شاء.

واما ان لم يأذن له كل منهما وطالبه برفع الحالة الطارئة الموجبة لنقص ماله ، فلا محالة يقع النزاع بينهما وبين هذا الأَجنبي فيرجع في حلّ النزاع إلى الحاكم الشرعي ، والظاهر انه ليس له الامر بايقاع الضرر على مال

__________________

(١) لاحظ الدراسات : ٣٤٦. ومثله في مصباح الأصول ٢ : ٥٦٣ لكن لم يذكر فيه قوله ( إلاّ اذا كان ... ).

٣١٩

احدهما بلا مرجح ، بل يرجع إلى القرعة لانها مرجح عقلائي حيث لا مرجح عند تزاحم الحقوق والرغبات كما في المقام اذ المفروض ان كلا منهما يرغب في ارجاع نفس ماله اليه على ما كانت عليه من الحالة الأَولية وقد اوضحنا ذلك في رسالة القرعة.

واما القول بثبوت الاختيار للجاني في ايقاع الضرر على مال كل منهما اراد وضمانه ، فليس له وجه يعتمد عليه وربما يكون له غرض خاص في اتلاف مال احد المالكين كما اذا كانت البقرة في المثال حلوباً وتعلق غرض شخصي منه بذبحها.

الفرع الثالث : ان يكون الحالة الطارئة لعامل طبيعي كالزلزلة ونحوها.

وفي هذه الحالة : ( تارة ) لا يريد احدهما تخليص ماله كما لو قال صاحب القدر اني لا احتاج إلى القدر فعلاً ولكن الآخر أراد تخليص ماله ـ وهو البقرة ـ وحينئذٍ فللأَول ان يأذن للثاني في اتلاف ماله مع الضمان فيستقر الضمان عليه ، ولو لم يأذن له في ذلك فلا يبعد ان يجوزتكليفاً لمن يريد تخليص ماله ان يوقع الضرر في مال الآخر مع بذل الغرامة له.

واخرى : يريد كل منهما تخليص ماله عن هذه الحالة الطارئة. وحينئذٍ اذا تراضى الطرفان في طريق رفعها بايقاع الضرر على احد المالين مع بذل غرامته ـ ولو على وجه القرعة ـ فالصلح خير ، وان لم يتراضيا بذلك فيحصل بينهما تخاصم لا بد لرفعه من الرجوع إلى الحاكم. وللحاكم بماله من السلطنة والولاية ان يرفع الخصومة بينهما بايقاع الضرر على أحد المالين ، لكن في ايقاعه على واحد معين منهما لا بُدّ من مرجح طبيعي أو جعلي :

والأَوّل : فيما اذا كان ايقاع الضرر على أحد المالين أقل ـ من حيث زوال المالية أو تنقيصها من ايقاعه على الآخر ـ فيتعين عليه في هذه الحالة اختيار أخف الضررين تقليلاً للخسارة التي يتحملها المتخاصمان ـ على ما

٣٢٠