قاعدة لا ضرر ولا ضرار

آية الله العظمى السيد علي السيستاني

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

المؤلف:

آية الله العظمى السيد علي السيستاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فربما يصح الاختصار ويكون مناسبأ في مورد لخلو التفصيل عن أي فائدة مهمة ، ولا يكون كذلك في مورد آخر ، والمقام من هذا القبيل فإنّ الاختصار في نقل التفاصيل الدائرة في القضية مما ليس لها اثر فقهي لا يقارن بالاختصار في نقل كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو في مقام القاء كبرى كلية بحذف بعض كلماته ، فالاجمال من الجهة الأولىٰ موافق لاصول الاختصار ، بخلافه من الجهة الثانية فلا يمكن قياس الثاني بالأَوّل.

الوجه الثاني : أن يرجح عدم ثبوت الزيادة ، ويخرّج ورودها في رواية ابن مسكان علىٰ انها كانت اضافة من الراوي لفهمه من مناسبات الحكم والموضوع ـ كما ذكره المحقق النائيني (قده) ـ وذلك بتصوّر أن المنع من الاضرار بالغير يمثل رحمة بالنسبة اليه ، ولا يناسب شمول ذلك للكافر الذي امرنا بالشدة معه كما في قوله تعالىٰ ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١) ، فلا محالة تختص كبرى لا ضرر ولا ضرار بالمؤمن فيزاد لفظ ( علىٰ مؤمن ).

وهذا الوجه هو الاقرب في النظر لرجحان رواية ابن بكير ، الخالية عن الزيادة المذكورة من عدة جهات يمكن بملاحظة مجموعها ترجيح الوجه المزبور وهذه الجهات هي :

الأولى : قرب الاسناد في رواية ابن بكير ، فإن بين الكليني وبين الامام عليه‌السلام في رواية ابن بكير ، عن زرارة خمس وسائط وبينه وبين الامام في رواية ابن مسكان ست وسائط ومعلوم أنّه كلما قلّ عدد الوسائط يقلّ معه احتمال مخالفة النقل للواقع ، لأنّ احتمال المخالفة يجيء في كل واحد من الرواة فيقل بطبيعة الحال فيما كان اقرب اسناداً إلىٰ الامام عليه‌السلام.

الثانية : تعدد الرواة في رواية ابن بكير دون رواية ابن مسكان ، فإن

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ / ٢٩.

١٠١

الرواة عن عبد الله بن بكير في كل طبقة لا تقل عن رجلين ، بملاحظة ضم طريق الصدوق في المشيخة إلىٰ طريق الكليني ، وأما في رواية إبن مسكان فالراوي في كل طبقة رجل واحد فقط.

هذا مضافاً إلىٰ انّ كتاب ( عبد الله بن بكير ) كان كثير الرواة كما ذكر ذلك النجاشي ، وأما كتاب ( عبد الله بن مسكان ) فلم يذكر ذلك بشأنه ، فلو استظهرنا أن مصدر الكلينى أو الصدوق فيما روياه عن عبد الله بن بكير نفس كتابه ، فلا تقاس حينئذٍ روايته برواية ابن مسكان ، من حيث الاعتبار.

ولكن لا سبيل إلىٰ هذا الاستظهار بالنسبة إلىٰ نقل الكليني كما هو واضح ، وقد يقال بثبوته بالنسبة إلىٰ نقل الصدوق لأنّه ابتدأ باسم ابن بكير وله طريق اليه في المشيخة ، فيعلم بذلك انّه اخذ رواياته من كتابه ، ولكن هذا ليس بصحيح ـ كما تقدمت الاشارة اليه ـ لأن الصدوق (قده) لم يتقيد في الفقيه بالابتداء باسم صاحب الكتاب الذي اخذ الحديث من كتابه بل يبتدأ باسم غيره كثيراً ، فمجرد الابتداء باسم شخص وإنّ كان له سند اليه في المشيخة ، أو كان كتابه مشهوراً لا يقتضي كون مصدره في النقل عنه نفس كتابه.

الثالثة : إنّ رواة الحديث في سند الصدوق إلىٰ ابن بكير اعظم شأناً وأجل قدراً من رواته في سند الكليني إلىٰ ابن مسكان ، فمن رواة الاوّل ( الحسن بن علي بن فضال ) الذي قال عنه الشيخ : كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهداً ورعاً ثقة في الحديث ، ومنهم ( احمد بن محمّد بن عيسى ) الذي قال عنه النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، ومن رواة الثاني ذلك المجهول الذي روى عنه محمّد بن خالد البرقي ولم يذكر اسمه ، وقد ذكر في شأن البرقي انّه كان ضعيفاً في الحديث يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، ومنهم احمد بن محمّد بن خالد الذي

١٠٢

قال عنه ابن الغضائري طعن عليه القميون وليس الطعن فيه وإنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن يأخذ علىٰ طريقه اهل الاخبار ، وقال الشيخ : كان ثقة في نفسه غير انّه اكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل. ونحوه كلام النجاشي.

الرابعة : إن الكليني قد فرق بين روايتي ابن بكير وابن مسكان في كيفية النقل من وجهين يقتضيان أرجحية رواية ابن بكير وهما :

١ ـ إنّه نقل رواية ابن بكير في اوائل الباب ونقل رواية ابن مسكان في اواخره ، وفصل بينهما بجملة احاديث تختلف عنهما موضوعاً ، فهذا قد يدل علىٰ ان ذكر الثانية كان علىٰ سبيل الاستشهاد والتأييد لا علىٰ سبيل الاعتماد علىٰ ما هو دأبه ـ فيما عرفناه بالتتبع في كتابه ـ من ترتيب الروايات علىٰ حسب مراتبها عنده في الصحة والاعتبار ، وقد تنبه لهذا بعض المحققين أيضاً (١).

٢ ـ إنّه نقل رواية ابن بكير بتوسط العدة عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، ولكنه نقل رواية ابن مسكان بتوسط علي بن محمّد بن بندار عنه ، ولا يبعد أن يكون منشأ ذلك انّه قد نقل الرواية الأولىٰ عن النسخة المشهورة أو الاجزاء المشهورة من كتاب المحاسن للبرقي ، ولذا نقلها بتوسط العدة ، وأمّا الثانية فنقلها من غير كتاب المحاسن أو غير النسخة أو الاجزء المشهورة منه فلذا كان الراوي لها واحداً.

وتوضيح ذلك انّ كتاب المحاسن للبرقي وإن عدّ من الكتب المشهورة ـ كما في مقدمة الفقيه ـ إلا أن جميعه لم يكن كذلك ، وقد ذكر الشيخ والنجاشي : انّه قد زيد في المحاسن ونقص وقد اختلفت الرواة في عدد

__________________

(١) روضات الجنّات ٦ / ١١٦.

١٠٣

كتبه ، ومما يدل علىٰ عدم اشتهار جميعه ما في ترجمة محمّد بن عبد الله الحميري من انّه قال : كان السبب في تصنيفي هذه الكتب ـ اشارة إلىٰ بعض كتبه ـ اني تفقدت فهرست كتب الخاصة التي صنفها احمد بن ابي عبد الله البرقي ، ونسختها ورويتها عمن رواها عنه وسقطت هذه السنة عني فلم اجد لها نسخة ، فسألت إخواننا بقم وبغداد والري فلم اجدها عند أحد منهم فرجعت إلىٰ الأصول فاخرجتها والزمت كل حديث منها كتابه وبابه الذي شاكله.

وكيف كان فلا اشكال في ان كتب المحاسن لم يكن كلها علىٰ مستوىٰ واحد من الشهرة والنقل ، فلو كانت رواية ابن بكير مروية من الكتب المشهورة دون رواية ابن مسكان ، كما يومي اليه توسط العدة في نقل الأولىٰ ، وعلي بن محمّد بن بندار فقط في نقل الثانية ، كانت الأولىٰ اوثق واقرب إلىٰ الاعتبار.

الخامسة : إنّ زيادة ( علىٰ مؤمن ) لم ترد في سائر موارد نقل حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) في كتب العامة والخاصة سواء ما جاء في ضمن قضية خاصة وغيره ، وهذا مما يقرّب احتمال كونها من قبل الراوي.

فتحصل مما تقدّم انّ الاصح عدم ثبوت زيادة ( علىٰ مؤمن ) في ذيل حديث لا ضرر.

المقام الثالث : ممّا يتعلق بمتن الحديث : في تحقيق حال القسم الثاني منه وهو لفظ « لا ضرر » وقد اختلفت فيه مصادر العامة والخاصة ، امّا باختلاف الروايات أو باختلاف النسخ ـ وهذا هو الاكثر ـ.

أما في ( مصادر العامة ) فقد نقل الحديث فيها علىٰ انحاء :

١ ـ ما لا يتضمن القسم الثاني أصلاً كالمروي عن جامع الصنعاني باسناده عن الحجاج بن ارطأة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال :

١٠٤

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا ضرر في الإسلام ). وهذا يحتمل فيه السقوط للجملة الثانية.

٢ ـ ما يتضمه بصيغة ( لا ضرورة ) كرواية أبي هريرة المروية في سنن الدارقطني ، اذ جاء فيها ( لا ضرر ولا ضرورة ) وكرواية عبادة بن الصامت علىٰ ما في كنز العمال نقلاً عن زيادات عبد الله بن احمد بن حنبل في مسند أبيه ، وصحيح أبي عوانه والمعجم الكبير للطبراني ، ولكن سائر مصادر رواية عبادة ـ ممّا اطلعنا عليه ـ نقلت حديثه بصيغة ( لا ضرار ) وهي الموجودة في مسند احمد بن حنبل.

٣ ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا إضرار ) كرواية ابن عباس بنقل احمد بن حنبل ، والدارقطني ورواية أبي سعيد الخدري بنقل الدارقطني أيضاً ، ورواية عائشة بنقل الزيلعي عن معجم الطبراني.

٤ ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا ضرار ) وهذا هو الاكثر شيوعاً في مصادرهم الحديثية والفقهية.

وامّا ( مصادر الخاصة ) وما يلحق بها ككتاب دعائم الإسلام ، فهي مختلفة علىٰ النحوين الاخيرين : ( لا ضرار ) و ( لا إضرار ) كما يلي :

١ ـ رواية ابن بكير عن زرارة : ورد فيها في بعض نسخ الكافي ـ وهي النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول ـ بصيغة ( لا إضرار ) (١) ، ولكن ورد في الطبعة القديمة والحديثة من الكافي وكذا التهذيب بطبعتيه والفقيه بطبعته النجفية والوسائل والوافي جميعاً بصيغة ( لا ضرار ) (٢).

__________________

(١) في النسخة التي بين ايدينا من المرآة ١٩ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥ ح ٢ لا ضرار. ولكن في الطبعة الحجرية ٣ / ٤٣٣ فيها : لا إضرار.

(٢) الكافي ط قديم ١ / ٤١٤ ، ط حديث ٥ / ٢٩٢ ح ٢ ، التهذيب ط قديم ٢ / ١٥٨ ، ط حديث ٧ / ١٤٦ ، الفقيه ٣ / ١٤٧ ، ح ٦٤٨ ، الوسائل ٢٥ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٣٢٢٨١ ، الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٠.

١٠٥

٢ ـ رواية ابن مسكان عن زرارة : ورد فيها بصيغة ( لا إضرار ) في الكافي المطبوع بهامش مرآة العقول ، وكذا في الوافي (١) ولكن في الطبعتين القديمة والحديثة من الكافي وكذا في الوسائل بصيغة ( لا ضرار ) (٢).

٣ ـ رواية عقبة بن خالد في الشفعة : ورد فيها بصيغة ( لا اضرار ) في الفقيه ـ الطبعة الحديثة ـ وكذا في الوافي نقلاً عن الكافي والتهذيب والفقيه (٣) ، ولكن في غيرهما من المصادر ورد بصيغة ( لا ضرار ) (٤).

٤ ـ رواية عقبة بن خالد في منع فضل الماء : ورد فيها في الوافي بصيغة ( لا إضرار ) (٥) ولكن في غيره ورد بصيغة ( لا ضرار ) (٦).

٥ ـ مرسلة الصدوق : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في المطبوعة النجفية من الفقيه (٧) ، ولكن في الوسائل بصيغة ( لا ضرار ) (٨).

٦ ـ مرسلة ابن أبي جمهور : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في النسخة المخطوطة التي اطلعنا عليها من عوالي الللآلي (٩).

٧ ـ مرسلة دعائم الإسلام في حديث هدم الحائط : ورد فيها بصيغة

__________________

(١) الكافي ط قديم ١ / ٤١٤ ، مرآة العقول ٣ / ٤٣٣ ، الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٤٣.

(٢) الكافي ط حديث ٥ / ٢٩٤ ح ٨ ، الوسائل ٢٥ / ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٠٣ ، الكافي ط قديم ١ / ٤١٠.

(٤) الكافي ٥ : ٢٨ / ٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٧ ، التهذيب ط قديم ٢ / ١٦٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ح ٣٢٢١٧.

(٥) الوافي المجلد ٣ الجزء ١٠ / ١٣٦ ، مرآة العقول ٣ / ٤٣٤ وط قديم ١ / ٤١٤.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٤٢٠ / ٣٢٢٥٧ ، الكافي ٥ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ح ٦ ، الكافي المطبوع في المرآة ١٩ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٧) الفقيه ٤ / ٢٤٣ ح ٧٧٧.

(٨) الوسائل ٢٦ / ١٤ ح ٣٢٣٨٢.

(٩) وهي من موقوفات مقبرة فقيه عصره السيد ابو الحسن الاصفهاني (قده) في النجف الأَشرف.

١٠٦

( لا إضرار ) ـ علىٰ ما في مطبوعته المصرية ، ـ ولكن في المستدرك عنه بصيغة ( لا ضرار ) مع جعل ( لا إضرار ) نسخة بدل عنها (١).

٨ ـ مرسلة دعائم الإسلام الأُخرىٰ : ورد فيها بصيغة ( لا إضرار ) في جملة من نسخها المخطوطة التي اعتمدها محقق الطبعة المصرية ، وفي واحدة منها بصيغة ( لا ضرار ) كما هو كذلك في المستدرك أيضاً (٢).

٩ ـ المصادر الفقهية وغيرها كالخلاف والتذكرة والتبيان والغنية (٣) ونحوها : ورد فيها بالصيغتين تارة ( لا ضرار ) وأُخرى ( لا إضرار ) والاكثر هي الاولى.

وبعد ملاحظة اختلاف لفظ الحديث باختلاف النسخ أو الروايات فما هو الارجح من بينها ؟!

الظاهر انّ الأمر دائر بين صيغتي ( لا ضرار ولا إضرار ) ، وأمّا ما ورد في بعض مصادر العامة من حذف القسم الثاني من الحديث رأساً أو ثبته بصيغة ( لا ضرورة ) فلا يمكن الاعتماد عليه أصلاً كما هو واضح ، والارجح في النظر من الصيغتين المذكورتين هي الأولىٰ منهما أي ( لا ضرار ) ـ كما استقربه في مجمع البحرين أيضاً ـ وذلك لوجوه.

الأَوّل : إنّه ورد في عنوان الكافي ( باب الضرار ) (٤) وهو يناسب كون الصيغة المستعملة في الحديث ( لا ضرار ) لا لفظ ( لا إضرار ) كما لا يخفى.

الثاني : إنّه قد جاء في قضية سمرة توصيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ / ٥٠٤ ح ١٨٠٥ ، مستدرك الوسائل ١٧ / ١١٨ ح ٢٠٩٢٧.

(٢) دعائم الإسلام ٢ / ٤٩٩ ح ١٨٨١ ، مستدرك الوسائل ١٧ / ١١٨ ح ٢٠٩٢٨.

الخلاف ٣ / ٤٢ ذيل المسألة ٦٠ وص ٨١ ذيل المسألة ١٣١ وص ٨٣ ذيل المسألة ١٣٦.

(٣) التبيان ١ / ٣٧٩ والغنية الطبعة ألحجرية غير مرقمة.

(٤) الكافي ط حديث ٥ / ٢٩٢.

١٠٧

لسمرة بانّه رجل مضار ـ كما تضمن ذلك خبر ابن مسكان وخبر أبي عبيدة وبعض اخبار العامة ، ـ ولفظ ( مضار ) صفة من باب المفاعلة كلفظ ( ضرار ) ، فيناسب أن تكون الكبرىٰ المذكورة في القضية بصيغة المفاعلة أيضاً ليسانخ الصفة المذكورة فيه.

الثالث : إنّ الشهيد في القواعد (١) اعتنى بضبط الكلمة وذكر انّها بكسر الضاد وحذف الهمزة.

الرابع : إنه ورد في رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة قوله عليه‌السلام ( هذا الضرار ) وهو يناسب أن تكون الكبرىٰ التي يبدو ان الامام عليه‌السلام كان بصدد تطبيقها بهذا اللفظ أيضاً دون غيره.

الخامس : إن كتب اللغة اتفقت علىٰ ضبط الكلمة بصيغة ( ضرار ) وضبطها للالفاظ اكثر اعتباراً من ضبط كتب الحديث والفقه لتركيزها علىٰ هيئة الكلمة بحسب طبعها مما يبعدها عن التحريف اكثرمن غيرها.

فبمجموع هذه الوجوه يطمئن بأن لفظ الحديث هو ( لا ضرار ) لا لفظ ( لا إضرار ).

فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الصيغة الثابتة للحديث إنّما هي ( لا ضرر ولا ضرار ) كما هو المعروف دون نقص أو تغيير أو زيادة وبذلك يتم الكلام في الفصل الاول وهو البحث عن سند الحديث ومتنه.

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ / ١٢٣.

١٠٨

( الفصل الثاني في تحقيق مفاد الحديث )

وقبل الدخول في البحث لا بأس بذكر بعض كلمات اللغويين في شرح معنىٰ الحديث وتوضيح المراد به.

قال أبو عبيد كما في النهاية : وفيه ـ أي في الحديث ـ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّاً وضراراً ، وأضرّ به يضر إضراراً ، فمعنى قوله ( لا ضرر ) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه ، والضرار فعال من الضرّ : أي لا يجازيه علىٰ إضراره بادخال الضرر عليه. والضرر : فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه ، وقيل الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به انت ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع به وقيل هما بمعنىٰ وتكرارهما للتأكيد.

وقال الازهري : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه قال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ولكل واحدة من اللفظتين معنىٰ غير الآخر ، فمعنى قوله ( لا ضرر ) اي لا يضر الرجل أخاه فينقص شيئاً من حقه أو مسلكه ، وهو ضد النفع ، وقوله ( لا ضرار ) أي لا يضار الرجل أخاه مجازاة فينقصه ويدخل عليه الضرر في شيء فيجازيه بمثله ، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد ، ومعنى قوله ( ولا ضرار ) أي لا يدخل الضرر والنقصان علىٰ الذي ضرَّه ولكن يعفو عنه كقول الله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١).

هذا والكلام في تحقيق معنىٰ الحديث يقع تارة في مفاد المادة اللغوية

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ / ٣٤.

١٠٩

للضرر والاضرار والضرار ، وأُخرى في مفاد هيئتها الافرادية ، وثالثة في مفاد الهيئة التركيبية للجملتين فهنا ثلاثة مقامات.

المقام الأَوّل : في مفاد مادة ( ض ر ر ) وقد ذكر اللغويون لها معان كثيرة ، كالنقص والضيق وسوء الحال والزمانة والعمىٰ والمرض والهزال والحاجة والقحط والايذاء والعلة وغير ذلك.

ولكن لا اشكال في انّ هذه المادة ليس لها هذه الكثرة من المعاني ، بل المفهوم منها بحد ذاتها ليس إلا معنىٰ واحداً أو اثنين أو ثلاثة وأما البواقي فليست معان للمادة وتوضيح ذلك :

إنّ المعاني المذكورة تنقسم باعتبار سعتها وضيقها إلىٰ فئتين : فئة المعاني العامة ، وفئة المعاني الخاصة. أمّا فئة المعاني العامة فهي المفاهيم التي تكون ابعد عن الخصوصيات واكثر تجرداً عنها واقرب إلىٰ الشمول والسعة بالنسبة إلىٰ سائرها ، وهي ثلاثة معاني من بين المذكورات ( النقص ـ ضد النفع ـ ، والضيق ، وسوء الحال ) وأمّا فئة المعاني الخاصة فهي سائر المعاني المذكورة التي هي ذات حدود ضيقة وتعتبر مصاديق للفئة الأولىٰ كالعمى والزمانة والمرض.

وهذه الفئة لا اشكال في انّها ليست من معاني المادة ، لأن المفهوم. من المادة بحسب طبيعة معناها إنّما هو مفهوم عام لا يدخل فيه شيء من تلك الخصوصيات ، فمفهوم الضرر ومشتقاته لا يرادف العمى والزمانه والمرض والهزال ونحوها بل هي مصاديق له جزماً ، وإنّما ذكرت في كلمات اللغويين في عداد معافي المادة بسببين أمّا خلطاً للمفهوم بالمصداق بمعنىٰ خلط المعنىٰ الوضعي المدلول عليه بنفس اللفظ بالمعنى التأليفي المستفاد من الكلام علىٰ نحو تعدد الدال والمدلول ، وأمّا بغرض بيان ما اطلق عليه اللفظ سواء أكان معنىٰ له أو مصداقاً لمعناه ، لأن ذكر المصاديق يعين علىٰ معرفة

١١٠

معنى المادة وحدوده.

وكيف كان فلا اشكال في أن فئة المعاني الخاصة المتقدمة خارجة عما يحتمل أن يكون ، معنىٰ لمادة ( ض ر ر ) ، ولكن المعاني الثلاثة العامة وهي النقص والضيق وسوء الحال هل هي جميعاً معاني لمادة تطلق عليها بالاشتراك اللفظي أو ان للمادة معنىٰ واحداً فقط ، وان المذكورات مرشحات لتمثيل هذا المعنىٰ العام ؟!

ربما يستظهر الوجه الاول من كلمات كثير من اللغويين ، ولكن الصحيح هو الوجه الثاني ، لأن المنساق من هذه المادة علىٰ اختلاف مشتقاتها وفى مختلف موارد استعمالها ليس إلا معنىٰ عاماً واحداً ، لا يختلف باختلاف الموارد فينبغي طرح المعاني الثلاثة المتقدمة كاقتراحات في تعيين هذا المعنىٰ العام الوحداني فههنا عدة اقتراحات :

الأول : أن يجعل المعنىٰ الاصلي ، ( سوء الحال ) ويرجع المعنيان الآخران اليه ، وهذا هو الذي اختاره الراغب في مفرداته قال ( الضر سوء الحال امّا في نفسه كقلة العلم والفضل والفقه وامّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، أو في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ).

والملاحظ عليه انّ سوء الحال من المفاهيم المعنوية المحضة ـ بخلاف الضيق والنقص فإنّهما من المعاني المحسوسة ، وفرض الامور المعنوية المحضة معنىٰ اصيلاً للفظ يخالف طبيعة اللغة ، فإنّ أُصول اللغة معاني محسوسة وإنما ارتبطت الالفاظ بالمفاهيم غير المحسوسة ـ متاصلة كانت أو اعتبارية ـ بالتطور في المفاهيم الاصلية المحسوسة ، ولذلك قلنا في محله في الأصول إنّ الاعتبارات المتأصلة كالاعتبارات القانوية مثل الملكية والزوجية متأخرة في حدوثها عن الاعتبارات الادبية كالاستعارات والمجازات ، كما انّ الاعتبارات الادبية متأخرة عن المعافي الحسية ، فالمعاني الحسية هي بمثابة رأس ، المال

١١١

للمفاهيم اللغوية ، حتىٰ أن لفظ ( العقل ) المعبر عن القوة المفكرة للانسان اصله من ( عقال البعير ) وهو الحبل الذي يشدّ به ليمنعه عن الحركة وهو امر محسوس ، وهذا يشير إلىٰ مدى اصالة المفاهيم الحسية في تكوين اللغة ، وعليه فتفسير اللفظ بمعنىٰ حسي أو أعم من الحسي وغيره ـ بحيث يكون اصيلاً في الحسّ ثم يتطور إلىٰ معنىٰ أعم ـ هو الاقرب إلىٰ طبيعة اللغة وما يعرف من مبادئ تكوينها ، ففي المقام يكون تفسير مادة ( ض ر ر ) بالضيق أو النقص أولى واقرب من تفسيرها بمفهوم تجريدي كسوء الحال.

والحاصل إن تفسير الضرر بسوء الحال بعيد عن المعنىٰ اللغوي والراغب الاصفهاني الذي فسره به يغلب عليه النزعة الفلسفية في تفسير المفردات اللغوية ، فهو يفسر اللغة بالمنظار الفلسفي وانتزاعه لمعنى اللفظ متأثر في حالات كثيرة ـ بهذه النظرة ، كما انّ بعضاً آخر من اللغويين ، كالفيومي في المصباح المنير متأثر بالمصطلحات الفقهية في ذكر معاني الالفاظ ، وقد اوضحنا اختلاف حال اللغويين وتأثرهم بالعوامل الدخيلة في تفسير معاني الالفاظ في البحث عن حجية قول اللغوي في الأصول فلاحظ.

الثاني : أن يجعل المعنىٰ الاصلي ( الضيق ) سواءاً كان حسياً مكانياً أو معنوياً حالياً ، بحيث يكون استعمال الضرر في موارد النقص وسوء الحال إنما هو بلحاظ تسبيبها للضيق.

ويرد عليه : انّ الملاحظ كثرة استعمال الضرر في موارد النقص وان لم يستوجب ضيقاً علىٰ الشخص ، مضافاً إلىٰ أن الضيق قد جعل في الآية الكريمة : ( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (١) غاية للاضرار فلا ينسجم مع

__________________

(١) سورة الطلاق ٦٥ / ٦.

١١٢

كون الضرر بمعنىٰ الضيق إذ لا معنىٰ لجعل الشيء غاية لنفسه فتدبر.

الثالث : أن يجعل المعنىٰ الاصلي ( النقص ) وهذا هو الصحيح لأنه. انسب للتدرّج في توسعة دائرة مفهوم اللفظ من الامور المحسوسة إلىٰ غيرها ، واقدر علىٰ استيعاب الموارد المختلفة التي استعملت فيها هذه المادة من دون عناية وتنزيل.

والمقصود بالنقص نقص الشيء عما ينبغي أن يكون عليه سواءاً كان النقص في الكم المتصل كما في مورد ضيق المكان ، أم في الكم المنفصل كما في نقص النقود وما ماثلها من اقسام العروض ، أم في الكيف كما في سوء الحال بالمرض ، أم في العين كما في المركبات الخارجية كنقص العضو ، أم في مورد الاعتبار القانوني كعدم مراعاة حق من حقوق الآخرين كما في قضية سمرة حيث لم يراع حق الانصاري في أن يعيش حراً في بيته بدخوله عليه من غير استيذان.

هذا وقد يفصل في المقام فيقال : إنّ معنىٰ المادة في المجرد وفي باب الافعال أي في لفظ الضرر والاضرار وتصاريفهما ، هو النقص في الاموال والانفس ـ كما هي أيضاً مورد مقابله أي النفع ـ فلا يطلق الضرر والاضرار في موارد التضييق علىٰ الشخص واحراجه بسلب حقه وايذائه ونحو ذلك كما يشهد به العرف ، وأما في باب المفاعلة كالضرار والمضارة فهو عكس ذلك ، فإنّه يستعمل في التضييق علىٰ الشخص وايقاعه في الحرج والمشقة دون النقص ، كما يظهر ذلك بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا الباب في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ

١١٣

مِن قَبْلُ ) (١) فإنّ الكفار كانوا يقصدون باتخاذهم هذا المسجد تضعيف المسلمين وتفريقهم وتقوية اعدائهم كما يظهر من تتمة الآية ، لا ادخال الضرر المالي والنفسي عليهم ، ومن ذلك استعمال الضرار في مورد قضية سمرة فإنّ سمرة لم يكن يضر بالانصاري مالاً أو نفساً وإنّما كان يضيق عليه حياته ويحرجه في بيته كما هو ظاهر.

ولكن ملاحظة موارد الاستعمال تشهد ببطلان هذا التفصيل لاستعمال الضرر والاضرار في موارد التضييق والنقص معاً ، واستعمال الضرار في موارد النقص المالي أو النفسي كما يستعمل في موارد التضييق ، ومن الاول قوله تعالىٰ : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ) (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( من اضرّ بامرأته حتىٰ تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار ) ومن الثاني قوله تعالىٰ : ( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) (٣) وقوله عليه‌السلام في صحيحة الغنوي ( هذا الضرار ) اشارة إلىٰ مطالبة الشريك بذبح الحيوان مع إباء الشريك الآخر عن ذلك.

هذا فيما يتعلق بتشخيص المعنىٰ العام لمادة ( ض ر ر ).

المقام الثاني : في مفاد الهيئة الافرادية للضرر (٤) والضرار والاضرار.

__________________

(١) سورة التوبة ٩ / ١٠٧.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١١١.

(٣) سورة النساء ٤ / ١٢.

(٤) قد يقال لا وجه للبحث حول هيئة ـ الضرر ـ فإنها إن كانت مصدراً فلا توجد هيئة نوعية موضوعة لمصدر الثلاثي المضاعف الافعل بسكرن العين لا بفتحها ، وإن كانت اسم مصدر فاسم المصدر موضوع بوضع شخصي بمادته وهيئته لمعنى خاص وليست له هيئة نوعية ذات دلالة مستقلة عن دلالة المادة ؟

وجواب ذلك ان المراد بمفاد الهيئة مطلق الدلالة التي تكون منوطة بها ، وان كان ذلك

١١٤

أما ( الضرر ) فهو بحسب الهيئة اسم حدث واسماء الاحداث يمكن تقسيمها إلىٰ ثلاثة اقسام :

الأَوّل : ما يدل علىٰ المعنىٰ المصدري.

الثاني : ما يدل علىٰ المعنىٰ الاسمي.

الثالث : ما يشترك بين المعنىٰ المصدري والمعنىٰ الاسمي والفرق بين المصدر واسمه معنىٰ ـ علىٰ ما هو المحقق في محله ـ انّ المعنىٰ المصدري يتضمن نسبة تقييدية ناقصة كالنسبة التي تحتويها الاوصاف علىٰ احد قولين ، واما المعنىٰ الاسمي فهو نفس المعنىٰ دون نسبة تقترن به ، فنسبة المصدر إلىٰ اسم المصدر نسبة الايجاد إلىٰ الوجود فهما متحدان خارجاً مختلفان بالاعتبار ، فمثلاً اذا لوحظ ( العلم ) كمعنى خاص من غير لحاظه منسوباً إلىٰ عالم أو معلوم كما في المفعول المطلق حيث يقال ( علمت علماً ) كان معناه معنىٰ اسمياً ، وإذا لوحظ منسوباً إلىٰ العالم مثلاً كما في قولنا ( علم زيد بكذا محرز ) كان معناه معنىٰ مصدرياً.

وأما الفرق بينهما لفظاً فهو موجود في بعض اللغات كاللغة الفارسية حيث ان المصدر فيها غالباً مختوم بالنون دون اسم المصدر كما يقال ( رفتن

__________________

بوضع شخصي ، ولا أشكال في ان معنىٰ المصدر او اسم المصدر انما يستفاد بملاحظة الهيئة والمادة باعتبارهما جزئين من الكلمة ، إذ مادة ( ض ر ر ) لا تدل علىٰ ذلك كما هو واضح ، بل ثبوت الوضع النوعي مطلقاً حتىٰ في الهيئات العامة كالأفعال والصفات مما لم بثبت عند السيد الاستاذ (قده) كما تعرض له في مباحث الأَلفاظ من علم الأصول ، بملاحظة طبيعة تكون اللغة فإن اللغة باعتبار انطلاقها من المجتمعات البدائية ، فلا يتصور في مفرداتها الوضع النوعي ، لأَن الوضع النوعي مفاده تجريد الذهن لصورة لفظية عامة متحررة من جميع المواد ووضعها لمعنى خاص ، وهذا إبداع عقلي لا يتصور في الوضاع البدائي كما لا يخفى.

١١٥

ورفتار ، كفتن وكفتار ، كشتن وكشتار ، كردن وكردان ، كتك وزدن ، كردش ، كرديدن ... ) ولكن في اللغة العربية لا امتياز بينهما في اللفظ غالباً ، فيستعمل اللفظ الواحد في كلا المعنيين ، نعم ربما يختص احدهما بلفظ خاص.

والظاهر انّ لفظة ( الضرر ) اسم مصدر ـ كما عدّها بعض علماء اللغة ـ لأن المعنىٰ المنساق منها لا يتضمن النسبة التقييدية فلاحظ.

وأمّا ( الضرار ) فهو مصدر علىٰ وزن ( فعال ) لباب ( فاعل يفاعل ) والمصدر الآخر لهذا الباب هو ( المفاعلة ) يقال : ضاره يضاره مضارة وضراراً ، ويعبر عن هذا الباب بباب المفاعلة نسبة إلىٰ أشهر مصادرها ، وقد نسب إلىٰ جمع من اللغويين القول بأن باب المفاعلة موضوع للمشاركة ، بمعنىٰ انّ كلاً من الطرفين فعل بالآخر مثل ما فعله الآخر به ك‍ ( ضارب زيد عمرواً ) ، ولكن احدى النسبتين في ذلك اصلية والأخرى تبعية.

ولكن من لاحظ موارد الاستعمالات القرانية وغيرها لا يجد تمثل معنىٰ المشاركة فيها.

‌كقوله‌‌ تعالىٰ : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (١).

وقوله تعالىٰ : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ) (٢).

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٣١.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٣٣.

١١٦

وقوله تعالىٰ : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) (١).

وقوله تعالىٰ : ( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ ) (٢).

وقوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ) (٣). وقوله تعالىٰ : ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً لسمرة ـ كما في خبر أبي عبيدة ـ ما أراك يا سمرة إلا مضاراً ، وقوله عليه‌السلام في حديث عتق بعض الشركاء حصة من العبد ( وإن اعتق الشريك مضاراً وهو معسر ) إلىٰ غير ذلك من الموارد التي لا يلاحظ في شيء منها تمثل معنىٰ المشاركة.

ولكن ربما يحاول تأويل بعض هذه الموارد تحقيقاً لمعنى المشاركة فيها فيقال مثلاً في جملة منها : إنّ المشاركة إنّما هو بلحاظ ان الاضرار بالغير يستتبع الضرر علىٰ النفس ضرراً اجتماعياً أو أخروياً فيتحقق معنىٰ المفاعلة ، أو يقال ـ في مورد قضية سمرة ـ ان العناية الموجبة لاستعمال هذا الباب فيه هو اصرار سمرة علىٰ الاضرار بالانصاري ، فكأنّ اصراره علىٰ الاضرار صار بمنبزلة صدور الفعل بين الاثنين منه فإضراره بمنزلة إضرارين ، أو يقال فيه أيضاً : إنّ الرجل الانصاري وإن كان لم يضر سمرة حقيقة إلا أن منعه إياه عن الدخول إلىٰ نخلته كان مضراً به في نظره ، إلىٰ غير ذلك من

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨٢.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٢.

(٣) سورة التوبة ٩ / ١٠٧.

(٤) سورة الطلاق ٦٥ / ٦.

١١٧

الوجوه التي ذكرت في تأويل جملة من الموارد التي لم يتضح فيها معنىٰ المشاركة.

ويرد علىٰ هذه الوجوه ـ مضافاً إلىٰ وضوح ضعفها في انفسها ، وعدم علاجها لجميع موارد استعمال هذا الباب ـ إنّه لا مبرر للاصرار علىٰ تأويل هذه الموارد ، بعد أن ثبت مجيء باب المفاعلة لغير المشاركة ، بل كثرة مجيئها لذلك كما يظهر بالتتبع في القواميس اللغوية ، لاحظ : شاور وسافر وجادل وسارع وساور وخادع ونافق وناجى وبادر وعاند وسامح وراجع وعاين وشاهد وكابر وزاول وضارب وآجر وزارع .. إلىٰ غير ذلك ، وقد اعترف بهذا علماء اللغة في علم الصرف حيث ذكروا لباب المفاعلة عدة معان كما سيأتي ان شاء الله.

وكيف كان فبعد وضوح عدم تمامية الاتجاه المذكور في تفسير صيغ المفاعلة ـ وهو القول بدلالتها علىٰ المشاركة دائماً ـ فهناك اتجاهان رئيسيان في هذا المجال يبتني احدهما علىٰ تعدد المعنىٰ والآخر علىٰ وحدته.

أمّا الاتجاه الأَوّل : فهو الذي سلكه علماء الصرف حيث جعلوا لهيئة باب المفاعلة عدة معان :

منها : التكثير كباب ( فعّل ) كضاعف الشيء وضعفته بمعنىٰ كثرت اضعافه ، وناعمه الله ونعمه بمعنىٰ إنّه اكثر نعمه عليه.

ومنها : أن يكون بمعنىٰ المجرد كسافرت بمعنىٰ سفرت أي خرجت إلىٰ السفر ، وربما يقال إنّه في ذلك يفيد المبالغة في الإسفار.

ومنها : جعل الشيء ذا صفة كأفعل وفعّلَ نحو راعنا سمعك وارعنا أي اجعله ذا رعاية لنا ، وصاعر خدّه وصعره ، وعافاك الله أي جعلك ذا عافية ، وعاقبت فلاناً أي جعلته ذا عقوبة.

١١٨

وممن ذهب إلى هذا الاتجاه المحقق الرضي الاسترآبادي (قده) في شرح الشافية ، وعليه يمكن القول بأن معنىٰ المضارة هنا هو معنى المجرد ـ ولو مع افادة المبالغة والتأكيد ـ فيقال ( ضره ضرراً ، وضاره ضراراً ) بمعنى واحد بلا فارق جوهري بينهما.

ولكن هذا الاتجاه إنّما يتعين الاخذ به إذا لم يمكن الاتجاه الثاني ـ المبني على وحدة معنىٰ هذا الباب ـ من تقديم معنى عام يصلح لجمع شمل الموارد المذكورة ، وإلاّ يتعين الأخذ بالاتجاه الثاني إذ لا مبرر لدعوى تعدد المعنى حينئذٍ ، فإنها تكون كدعوى تعدد معنى المادة لغة.

وأما الاتجاه الثاني : فيضم عدة مسالك :

المسلك الأَول : ما اختاره جمع من المحققين من أنّ هيئة المفاعلة تقتضي السعي إلى الفعل ، فإذا قلت ( قتلت ) فقد اخبرت عن وقوع القتل وإذا قلت ( قاتلت ) فقد اخبرت عن السعي إلى القتل ، فربما يقع وربما لا يقع ، ولا تقتضي المشاركة ، نعم ربما تكون المادة في نفسها مقتضية للمشاركة ـ من غير ارتباط لها بالهيئة ـ وذلك كما في المساواة والمحاذاة والمشاركة والمقابلة ، والشاهد على عدم استفادة المشاركة من الهيئة عدة آيات.

منها : قوله تعالىٰ : ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ ) (١) ، فذكر سبحانه انّ المنافقين بصدد ايجاد الخدعة لكن لا تقع خدعتهم إلا على انفسهم ، ومن ثم عبر في الجملة الأولى بهيئة المفاعلة ، لأن الله تعالى لا يكون مخدوعاً بخدعتهم لأن المخدوع ملزوم للجهل

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٩.

١١٩

وتعالى الله عنه علواً كبيراً ، وعبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد لوقوع ضرر خدعتهم علىٰ أنفسهم لا محالة.

ومنها : قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) (١) حيث ذكر تحقّق القتل الفعلي من الجانبين بعد ذكر تحقّق القتال معطوفاً عليه بالفاء ، ممّا يدل علىٰ المغايرة بينهما ، وأن معنىٰ القتال هو السعي إلىٰ القتل دون نفس القتل الذي فصله بعد ذلك.

ويلاحظ عليه :

اولاً بالنقض : فإنّ السعي إلىٰ الفعل وان كان يستفاد في بعض موارد هذا الباب كما ذكر ، إلا إنّه لا يطرد في اغلب امثلته لعدم صدقها دون تحقّق المعنىٰ فعلاً ، فلا يقال سافر أو جادل أو طالع أو سارع أو شاهد أو عاوض لمجرد محاولة السفر أو الجدل أو المطالعة أو السرعة أو الشهود أو التعويض ، وهكذا في موارد كثيرة أُخرى ، مضافاً إلىٰ انّ هناك بعض الموارد التي تقتضي معنىٰ آخر ـ غير السعي إلىٰ الفعل أوتحققه فعلاً ـ كما في باب المغالبة يقال ( كارمه فكرمه ) بمعنىٰ فاخره في الكرم فغلبه فيه و ( شاعره فشعره ) أي حاول غلبته في الشعر فغلبه ونحو ذلك.

وثانياً بالحل وهو : إنّ استفادة السعي إلى الفعل من بعض امثلة هذا الباب لا يستند إلى الهيئة بل إلى المادة ، وليس المقصود بالمادة هنا المبدأ الجليّ ـ كالغلبة في المغالبة والخدعة في المخادعة ـ لوضوح انّه لا يستبطن معنى السعي ، وإنّما المراد بها المبدأ الخفي الذي اوضحناه فكرة وتطبيقاً في مبحث المشتق ، ونكتفي هنا بذكر امرين اختصاراً لما اوردناه هناك :

__________________

(١) سورة التوبة ٩ / ١١١.

١٢٠