الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

مجير الدين الحنبلي العليمي

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

المؤلف:

مجير الدين الحنبلي العليمي


المحقق: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة دنديس
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

بتكرير الرسالات الخداع متى يشتغل (١) المسلمون عنهم. وضعف الثغر من قوة الحصر.

ولما علم السلطان يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة بما عليه البلد من غلبة البلاء زحف بعسكره ودهم الفرنج ونهب من خيامهم ، وأمسى تلك الليلة ، ثم أمر بدق الكؤوس سحرا حتى ركب العسكر ، فجرى ذلك اليوم من القتال أشد ما كان من أمس. ووصل إلى السلطان مطالعة (٢) من البلد أنهم عجزوا ولم يبق إلا تسليم البلد.

فعظم الأمر على السلطان ، وفي هذا اليوم الأربعاء (٣) بعث العساكر وزحفوا (٤) إلى خنادقهم وخالطوهم وحصل بينهم قتال شديد.

ولما تكاثر الفرنج على عكا وقلّ المسلمون لكثرة من استشهد ، خرج سيف الدين علي المشطوب (٥) إلى ملك الإفرنسيس بأمان ، وقال له : قد علمتم ما عاملناكم به عند أخذ بلادكم من الأمان لأهلها ونحن نسلم إليك البلد على أن تعطينا الأمان ونسلم ، فقال : إن أولئك الملوك كانوا عبيدي وأنتم مماليكي أفعل فيكم (٦) ما يقتضيه رأيي. فقام المشطوب من عنده مغتاظا وأغلظ له في القول وقال : نحن لا نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا ونقتلكم قبلنا ، ولا يقتل منا واحد حتى يقتل خمسين.

ولما رجع المشطوب وعلم حاله هرب جماعة من الأمراء والأجناد ممن بالبلد وغضب عليهم السلطان وأخرج إقطاعهم (٧) ، ثم رجع بعضهم إلى البلد ، فحصل له الرضا (٨) ، ووقع في بعضهم شفاعة ، واستمروا على المقت عند السلطان.

وفي يوم الخميس حصلت وقعة عظيمة ، واشتد فيها الحرب ، وأصبح العسكر يوم الجمعة عاشر الشهر على أهبة القتال ، فلم يحصل شيء وانقضى النهار والعسكر محيط بالبلد (٩).

__________________

(١) يشتغل ب د : ليشغلوا أ ه : ـ ج.

(٢) مطالعة ب د ه : مطلعة أ : ـ ج.

(٣) الأربعاء أ د ه : ـ ب ج.

(٤) وزحفوا أ د ه : وزحف ب : ـ ج.

(٥) سيف الدين المشطوب : كان من أصحاب أسد الدين شيركوه ، حضر معه إلى مصر ثم صار من كبراء أمراء صلاح الدين وهو الذي كان نائبا على عكا لما أخذها الفرنج ، وكان من جملة الأسرى فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار ، وتوفي سنة ٥٨٨ ه‍ / ١١٩١ م ؛ ينظر : ابن شداد ٩١ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٥٢ ؛ اليافعي ٣ / ٣٨ ؛ ابن الوردي ٢ / ٥٩ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ١٠٦ ؛ ١٠٧.

(٦) أفعل فيكم أ د ه : أفعل بكم ب : ـ ج.

(٧) إقطاعهم أ ه : إقطاعاتهم ب د : ـ ج.

(٨) الرضا ب : الرضى أ د ه : ـ ج.

(٩) والعسكر محيط بالبلد أ : والعسكر محيط بالعدو والعدو محيط بالبلد ب د ه : ـ ج.

٥٢١

وأصبح يوم السبت والفرنج قد ركبوا وخرج منهم أربعون فارسا واستدعوا ببعض المماليك الناصرية ، فلما وصل إليهم أخبروه (١) أن الخارج صاحب صيدا في أصحابه وهو يستدعي نجيب الدين ، أحد أمناء السلطان ، لأنه كان يتردد في الرسالات للفرنج. فلما حضر أرسله إلى السلطان ليتحدث في خروج من بعكا بأنفسهم بحكم الأمان ، وطلبوا في مقابلة ذلك أشياء لا يمكن وقوعها وتعنتوا في الاشتراط ، فتردد من عند السلطان نجيب الدين مرارا.

وكان الفرنج اشترطوا إعادة جميع البلاد وإطلاق أسراهم (٢) فبذل السلطان لهم عكا بما فيها ، وأن يطلق لهم في مقابلة كل شخص أسيرا ، فلم يقبلوا. وسمح لهم برد صليب الصلبوت (٣) ، وانفصل الأمر على غير (٤) اتفاق وضعف البلد وعجز من فيه.

استيلاء الفرنج على عكا (٥)

وفي يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة اجتمعت الفرنج بجموعها وهجمت وطلعت في السور المهدوم ، فثار عليهم المسلمون وصدوهم ، وحصلت الوقعة حتى قلّت الرجال ، فخرج سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وحسام الدين حسين بازيك / / وأخذا أمان الفرنج على أن يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المجهولين وما أسر من المعروفين وصليب الصلبوت وأشياء ذكراها غير ذلك. فلم يشعرا إلا بالرايات الفرنجية قد نصبت على عكا وما عند السلطان علم بما جرى عليه الحال ، فانزعج السلطان والمسلمون لذلك. ونقل الثقل تلك الليلة إلى منزله الأول بشفا عمرو (٦) وأقام في الخيمة اللطيفة ، ثم انتقل سحر ليلة الأحد تاسع عشر الشهر إلى المخيم وهو في غم عظيم ، فسلاه أصحابه ، واستعطفوا بخاطره.

وخرج رسول بهاء الدين قراقوش لطلب ما قرروه من القطيعة ، وقال : أدركونا

__________________

(١) أخبروه ب : وأخبرهم أ د ه : ـ ج.

(٢) أسراهم أ د ه : أساراهم ب : ـ ج.

(٣) صليب الصلبوت : قطعة من الخشب اعتقد الفرنجة أنها من بقايا الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح ، وكان يحمل في المعارك تيمنا بالنصر ، ينظر : الأصفهاني ، الفتح ٨٤ ؛ عبد المهدي ١٥٢.

(٤) غير ب د ه : ـ أ ج.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٤ ؛ ابن شداد ١٥٤ ؛ أبو شامة ٢ / ١٨٤ ـ ١٨٧ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٤٢ ـ ٣٤٤ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٧٦ ؛ ابن الوردي ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٦) بشفا عمرو ه : بشفر عمر أ ب د : ـ ج / / الخيمة اللطيفة أ د : خيمة لطيفة ب ه : ـ ج.

٥٢٢

بنصف المال وجميع الأسارى وصليب الصلبوت قبل خروج الشهر ، وإن تأخر شيء (١) من ذلك أسرنا ، ونصف المال يصبرون به إلى شهر آخر.

فأحضر الأكابر وفاوضهم (٢) ، فأشاروا باستنقاذ إخوانهم المسلمين. فشرع السلطان في تحصيله ، وكتب إلى الأقطار يعلمهم بالحال ويستنفرهم للجهاد في سبيل الله تعالى (٣). وفي يوم الخميس سلخ جمادى الآخرة خرج الفرنج وانتشروا ، فضربت الكاسات السلطانية ، فانتدب العسكر واشتد الحرب وانهزم الفرنج ، فجاءت العرب وحالت بينهم وبين أسوارهم وصرعوا زهاء خمسين رجلا وكروا عليهم ، ثم كر الفرنج على المسلمين كرة عظيمة فثبتوا ، ثم عادوا عليهم حتى طردوهم إلى خنادقهم ، وانتصف الإسلام في ذلك اليوم بعض الانتصاف.

وفي يوم الجمعة ثاني رجب جاءت الرسل في تقرير القطيعة المقررة بخلاص الجماعة وأخبروا أن ملك الإفرنسيس توجه إلى صور لترتيب أموره ووكل المركيس في قبض ما يخصه. فجهز السلطان روسلا لكشف خبره وعلى يده هدية له ونقل خيمته يوم السبت إلى تل بإزاء شفا عمرو وراء التل الذي كان عليه ، وما زالت الرسل تتردد حتى أحضر مائة ألف دينار والأسارى المطلوبين وصليب الصلبوت ليوصل ذلك إلى الفرنج في الأجل المتعين (٤).

ووقع الخلف في كيفية التسليم ، فقال السلطان : أسلمه إليكم على أن تطلقوا جميع أصحابنا وتأخذوا بباقي المال قوما رهائن. فأبوا إلا أخذ الجميع بسرعة ويسلموا ، ويحلفون للمسلمين على تسليم من عندهم. فقيل لهم : تضمنكم الداوية (٥). فلم يضمنوا ، فتحير السلطان وقال : متى سلمنا إليهم من غير احتياط بالشرط كان على الإسلام غبن وعار ، فلو أيقنا بخلاص أصحابنا سمحنا لهم في الحال بصليب الصلبوت والأسارى والمال. ووقف الأمر إلى أن مضى الأجل وجاء الرسل ونظروا (٦) الأسارى قد حضروا المال موزونا فظنوا أن صليب الصلبوت قد أرسل إلى دار الخليفة (٧) ، فسألوا إحضاره لينظروه فلما أحضروه (٨) ، خروا له

__________________

(١) شيء أ ب د : بشيء ه : ـ ج.

(٢) وفاوضهم أ ب د : ـ ج ه / / المسلمين : أ د ه : من المسلمين ب : ـ ج.

(٣) تعالى أ د ه : ـ ب ج.

(٤) المتعين أ ه : المعين ب د : ـ ج.

(٥) الداوية أ د : الراوية ب ه : ـ ج.

(٦) ونظروا أ د ه : ورأوا ب : ـ ج / / قد حضروا ب د ه : حضور أ : ـ ج.

(٧) دار الخليفة أ : دار الخلافة ب د ه : ـ ج / / فسألوا : فسألوه ب د ه : ـ ج.

(٨) فلما أحضروه أ : فلما أحضر ب د ه : ـ ج.

٥٢٣

ساجدين واطمأنوا وظهر للسلطان منهم أمارات الغدر.

وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من رجب أخرج الفرنج ظاهر المرج خياما نصبوها وجلس فيها ملك الإنكثير ومعه خلق من جماعته.

غدر ملك الإنكثير وقتل المسلمين المأخوذين بعكا

وفي عصر يوم الثلاثاء سادس عشر من رجب ركب الفرنج بأسرهم وجاءوا إلى المرج الذي بين تل العياضية وتل كيسان ، فعلم السلطان بذلك فركبت (١) العساكر نحوهم ، وكانوا قد أحضروا أسارى المسلمين وهم واقفون في الجبال. وحملوا عليهم وقتلوهم جميعهم ، فحمل عليهم العسكر ، فقتل منهم خلقا وانصرف العدو إلى خيامه ، فلما وقع هذا الغدر تصرف السلطان في ذلك المال وأعاد أسارى الفرنج إلى دمشق وأعيد صليب الصلبوت (٢).

رحيل الفرنج صوب عسقلان (٣)

وفي سحر الأحد غرة (٤) شعبان عزم الفرنج على التوجه إلى عسقلان وساروا ، فعلم السلطان بذلك وكانت نوبة اليزك في ذلك اليوم للملك الأفضل ، فوقف في طريقهم وشتت شملهم وأرسل يستنجده والده أن يمده بعسكر حتى يقاتلهم ، فاستشار من حضره (٥) من عسكره ، فقيل للسلطان : إن العسكر لم يتأهب للقتال والفرنج قد فاتوا والحرب قائم عند قيسارية وقصده أولى. فصرف السلطان عزمه وتوجه نحو قيسارية ونزل على النهر الذي يجري إلى قيسارية وأقام هناك وأتي مرارا بأسارى فأمر بإراقة دمهم.

وقعة قيسارية (٦)

وفي يوم الاثنين تاسع شعبان وصل الخبر للسلطان برحيل الفرنج وأنهم سائرون في جمع ، فركب السلطان ومن معه ، وسار العدو بإزائه ، وكان هناك بركة

__________________

(١) فركبت ب د ه : فركب أ : ـ ج.

(٢) وأعيد صليب الصلبوت ب د ه : وأعيد صلبوت أ : ـ ج.

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٠٥ ؛ ابن شداد ١٥٨ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٠ ـ ١٩١ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٧٩ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٤) غرة ب د ه : غسرة أ : ـ ج.

(٥) حضره أ د ه : حضر ب : ـ ج.

(٦) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٥ ؛ ابن شداد ١٦٠ ـ ١٦١ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٠ ـ ١٩١ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٤٦.

٥٢٤

كبيرة مملوءة بالماء (١) والفرنج على عزم ورودها فصدهم عسكر الإسلام عنها وطردوهم. فولوا مدبرين وانصرفوا نحو الساحل ونزلوا على نهر يقال له نهر القصب (٢) بعد مشقة / / حصلت لهم من المسلمين ، ونزل العسكر بعد انقضاء الحرب على البركة ، ثم رحل ونزل على أعلى (٣) نهر القصب في أوله وهو الذي نزل العدو في أسفله ، فقربت المسافة.

وكان شخص من الأمراء اسمه عز الدين بن المقدم أبصر جماعة من الفرنج مقبلين لكشف حال العسكر فعبر إليهم (٤) النهر وقتل منهم عدة وأسر ثلاثة فركب الفرنج وحملوا عليه وكانت وقعة عظيمة ، وأحضر الأسارى عند السلطان ، ورحل وقت الظهر قاصدا نحو أرسوف ، ونزل على قرية بقربها وأقام بها يوم الأربعاء والعدو في مكانه الأول.

اجتماع الملك العادل وملك الإنكثير (٥)(٦)

كان في اليزك علم الدين سليمان بن جرد (٧)(٨) فراسله العدو أن يتحدث مع الملك العادل فاجتمعا يوم الخميس فتكلما (٩) في الصلح ، وإخماد الفتنة ، فقال له الملك العادل : ما الذي تريده؟ فقال : رد البلاد ، فقال العادل : هذا لا سبيل إليه ، وأغلظ له في القول. وكان الترجمان بينهما هنفري بن هنفري ، فلما سمع ملك الإنكثير ذلك غضب وتفرقا على غير شيء.

واقعة أرسوف (١٠)

لما عرف السلطان من أخيه الملك العادل ما جرى بينه وبين ذلك الملعون جمع يوم الجمعة العساكر وسير الثقل وركب ، فلما أسفر صباح السبت رابع عشر شعبان ركب العدو على صوب أرسوف ، فهجم عليهم عسكر الإسلام وأحاط بهم

__________________

(١) بالماء ب د ه : من الماء أ : ـ ج.

(٢) نهر القصب : يقع بالقرب من أرسوف ، ينظر : الأصفهاني ، الفتح ٥٣٨.

(٣) أعلى أ د ه : أعلا ب : ـ ج.

(٤) فعبر إليهم أ د ه : عبر عليهم ب : ـ ج.

(٥) ينظر : ابن شداد ١٦٦ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٣.

(٦) الإنكثير أ ب ه : الإنكلتار ابن الأثير : الإنتكار ابن شداد : ـ ج د.

(٧) جرد أ د ه : جندر ب : ـ ج.

(٨) ينظر : أبو شامة ، الذيل ١٣ ؛ ابن كثير ، البداية ١٣ / ١٧.

(٩) فتكلما ب ه : فتكلم أ د : ـ ج.

(١٠) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٦ ؛ ابن شداد ١٦٧ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩١ ؛ العقاد ٨٣ ـ ٩٢.

٥٢٥

واشتد القتال بينهم ، فحملوا على أطلاب المسلمين حملة واحدة فاستشهد جماعة من المسلمين ، ثم كر العسكر على الكفار فصدوهم وكسروهم وقتل منهم وأسر جماعة ، وهرب الفرنج ودخلوا أرسوف ونزلوا قريبا من الماء وبات السلطان تلك الليلة على نهر العوجا ، وأقام العدو يوم الأحد في موضعه ، ثم رحل يوم الثلاثاء سائرا إلى يافا ، وعارضهم (١) العسكر في طريقهم.

ثم رحل السلطان يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان ونزل بالرملة واجتمع عنده الأثقال كلها ، ثم رحل ونزل بظاهر عسقلان بعد العصر.

خراب عسقلان (٢)

لما نزل السلطان بالرملة أحضر عنده أخاه العادل وأكابر الأمراء وشاورهم في أمر عسقلان. فأشار بعضهم بخرابها للعجز عن حفظها فإن الفرنج نزلوا بيافا ، وهي مدينة بين القدس وعسقلان ، متوسطة ولا سبيل إلى حفظ المدينتين إلا بعدد كثير ، وتيقن أنهم إذا وصلوا إلى عسقلان تسلموها كما وقع في عكا ، واقتضى الحال هدمها ، ووصل السلطان إلى عسقلان وشرع في هدمها بكرة يوم الخميس تاسع عشر شعبان ، فنقض أسوارها وهدم منازلها ، وكانت من أحسن المدن وأظرفها ، فصارت خرابا ، داثره ، وحصل لأهلها مشقة زائدة بهدمها وباعوا أمتعتهم بأبخس الأثمان ، وتشتتوا في البلاد.

فصل

فلما هدمها رحل يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان ونزل على يبنا (٣) ونزل يوم الأربعاء ثالث الشهر بالرملة ، ثم خرج إلى لد وأشرف عليها وأمر بإخرابها وإخراب قلعة الرمل ، ففعل ذلك ، ثم توجه إلى بيت المقدس وأقام يوم الخميس ، ثم خرج منه يوم الاثنين ثامن شهر رمضان بعد الظهر ، وبات في بيت نوبة (٤). وعاد إلى المخيم يوم الثلاثاء ضحوة. وفي هذا التاريخ خرج ملك الإنكثير متنكرا فخرج عليه الكمين وجرى قتال عظيم حتى كاد يؤسر

__________________

(١) وعارضهم أ د : فعارضهم ب ه : ـ ج.

(٢) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٦ ؛ ابن شداد ١٧١ ـ ١٧٣ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٢ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٣) يبنا : بليد قرب الرملة به قبر يقال أنه لأبي هريرة ، رضي‌الله‌عنه ، وقيل لعبد الله بن أبي السرح ، دمرها اليهود سنة ١٩٤٨ م ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٣ / ١٤٧٣ ؛ شراب ٧١٠.

(٤) بيت نوبا : بليدة من نواحي فلسطين قرب بيت المقدس ، كان ينزلها صلاح الدين للوقوف على الأعمال العسكرية التي يقوم بها قواده ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٢٣٩ ؛ شراب ٢٠٦.

٥٢٦

الملك ، وقتل وأسر (١) منه جماعة.

وجرى يوم الجمعة في عاشر الشهر بين اليزكية وأهل الكفر وقعة (٢) قتل منهم مقدم كبير ورحل السلطان يوم السبت ثالث عشر ونزل على تل عال عند النطرون (٣) وهي قلعة منيعة فهدمها وأشاع الإقامة هناك ، وأفاض الأنعام على العسكر.

ذكر ما تجدد لملك الإنكثير (٤)

وصلت رسل ملك الإنكثير إلى العادل بالمصالحة وترددت الرسل وانتظم الحال على أن العادل يتزوج أخت ملك الإنكثير ويحكم العادل في البلاد وتكون المرأة مقيمة بالقدس ، ويوطن (٥) العادل مقدمي الفرنج والداوية والإسبتار (٦) ببعض القرى ولا يمكنهم من الحصون ولا يقيم معها في القدس إلا قسوس (٧) ورهبان. واستدعى العادل جماعة من الأعيان منهم العماد الكاتب وغيره وسألهم في المضي إلى السلطان وإعلامه بذلك وسؤاله في ذلك. فحضروا إلى السلطان وأخبروه بالحال ، فسمع ورضي ذلك في يوم الاثنين تاسع عشر (٨) من رمضان. وعاد الرسول إلى ملك الإنكثير.

ثم إن أكابر الفرنج عرضوا ذلك على قسوسهم فلم يرضوه وخبثوا المرأة وندموها وعنفوها بتزويجها بالمسلم ، فانثنى عزمها عن التزويج وقالت : أتزوجه بشرط أن يوافقني على ديني. / / فأنف العادل من ذلك واعتذر الملك بامتناع أخته وبطل الاتفاق ، وكان ذلك يوم العيد.

وفي يوم العيد خلع السلطان على أكابره ومد لهم سماطا ، ونزل السلطان بالرملة ليقرب من العدو. وتواتر الخبر بأن الفرنج على عزم الخروج فسار يوم الاثنين سابع شوال وخيم خارج الرملة ، وجاء الخبر أن العدو خرج إلى يازور (٩) ،

__________________

(١) وقتل وأسر أ : وقد أسر ب د ه : ـ ج.

(٢) وقعة ب ج د ه : وقفة أ.

(٣) النطرون : تحريف لبلدة اللطرون ، وكانت حصنا بين القدس والرملة ، وتقع على بعد ١٦ كم من الرملة ، ينظر : الدباغ ١ / ٢٩٧.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٦ ؛ ابن شداد ١٧٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٢٠٠ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٨٠.

(٥) ويوطن ب ج د ه : ويوحي أ / / والداوية أ ج د : والراوية ب ه.

(٦) والإسبتار أ ج د : والإستبار ب ه.

(٧) قسوس أ د ه : قسس ب ج / / واستدعى أ ج د ه : فاستدعى ب.

(٨) عشر أ ج د : عشري ب ه.

(٩) يازور : بليدة بسواحل الرملة من أعمال فلسطين بالشام ، هدمها اليهود عام ١٩٤٨ م ، ينظر : البغدادي ، ـ مراصد ١٤٧١٣ ؛ الحميري ٦١٦ ؛ شراب ٧٢٥.

٥٢٧

فتسارع العسكر إليهم وقربوا من خيامهم وأحاطوا بهم. فركب الفرنج وحملوا على الناس حملة واحدة ، فاندفعوا بين أيديهم ، فاستشهد ثلاثة ، وكان السلطان في كل يوم يركب ، ولا يخلو من وقعة (١) يقتل فيها الكفار.

وقعة الكمين (٢)

وفي ليلة الأربعاء سادس عشر شوال أمر السلطان رجال الحلقة المنصورة بأن يكمنوا في جهة يمينها. وخرج الفرنج للاحتشاش ، ولقيهم أعراب فتواقعوا معهم ، وخرج الكمين ، واقتتلوا معهم وقتل جماعة من الكفار ، واستشهد ثلاثة من المماليك الخواص ، وأسر من الفرنج فارسان ، وأحضرا للسلطان ، وانفصل الحرب وقت الظهر.

اجتماع الملك العادل بملك الإنكثير (٣)

وفي يوم الجمعة ثامن عشر شوال ضرب الملك العادل بقرب اليزك لأجل ملك الإنكثير ثلاث خيام وجهز فاكهة وحلوى وطعاما وحضر ملك الإنكثير وطالت بينهما المحادثة وافترقا عن غير موافقة ، ومضى الملك.

وكان قد وصل صاحب صيدا من صور برسالة المركيس لطلب الصلح مع السلطان حتى يقوي يده على ملك الإنكثير ، وبلغ ذلك ملك الإنكثير فوصل رسوله أيضا بنظير هذا الأمر ، ومضى القول مع صاحب صيدا إلى المركيس على شرائط شرطت عليه ، وأما مراسلة الملك فلم ينتج منها أمر ، وكلما حصل الاتفاق معه على شيء نقضه ، وكلما قال قولا رجع عنه ، فلعنة الله عليه.

وفي يوم الأحد سابع عشر (٤) من شوال عاد السلطان إلى المخيم بالنطرون ورحل الفرنج يوم السبت ثالث ذي القعدة ، وتقدموا إلى الرملة ونزلوا بها ولم يشك أنهم على قصد القدس.

وأقام السلطان في كل يوم سرايا ، وصار لهم في كل يوم وقعة ، وما يخلو من أسرى تقاد إليه. ثم هجم الشتاء وتوالت الأمطار فعزم على الرحيل.

__________________

(١) وقعة ب ج د ه : وقفة أ.

(٢) ينظر : ابن شداد ١٨٤ ـ ١٨٥ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٤.

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٧ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٤.

(٤) عشر أ ج : عشري ب د ه.

٥٢٨

رحيل السلطان إلى القدس (١)

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة ركب السلطان والغيث نازل وسار بمن معه حتى وصل إلى القدس قبل العصر ونزل بدار الأقساء المجاورة لكنيسة قمامة ، وشرع في تحصين المدينة ، وصلى يوم الجمعة مستهل ذي الحجة في قبة الصخرة ، وفي يوم الأحد ثالث ذي الحجة وصل إليه عسكر من مصر ، وتتابعت العساكر المصرية ، ووصل الخبر بنزول الفرنج بالنطرون فوقع الإرجاف في الناس.

وجرت يوم الخميس سابع الشهر وقعة قرب بيت نوبة من سرية جهزها السلطان فوقعوا على سرية الفرنج فأسروها وقتلوها ووصلوا بزهاء خمسين أسيرا إلى القدس وكانت بشرى عظيمة. ثم وقعت وقعة أخرى قتل من الكفار ستة وأسر أربعة.

وصلى السلطان عيد الأضحى (٢) بالقدس يوم الأحد ، وكانت الوقفة بمكة يوم الجمعة لكن لم ير الهلال بالقدس ليلة الخميس. وفي يوم الجمعة خامس عشر ذي الحجة وقعت وقعة بالرملة من أميرين أغارا على الفرنج وأخذا أموالا وأغناما وخيلا وجمالا وبغالا ، وأسرا ممن كان في القافلة ثلاثين وأحضراهم للسلطان. وأحاط بالفرنج البلاء ، وكثرت الغارات ، فرحلوا وعادوا إلى الرملة ، وطابت قلوب المسلمين.

ذكر ما اعتمده السلطان في عمارة القدس (٣)

وصل من الموصل جماعة للعمل في الخندق جهزهم صاحب الموصل صحبة بعض حجابه وسير معه ما لا يفرقه عليهم في رأس كل شهر ، وأقاموا نصف سنة في العمل وأمر السلطان بحفر خندق عميق وأنشأ سورا ، وأحضر من أسارى (٤) الفرنج قريبا من ألفين ورتبهم في ذلك ، وجدد أبراجا حربية من باب العمود إلى باب المحراب ، وباب المحراب هو المعروف الآن بباب الخليل ، وأنفق عليها أموالا جزيلة وبناها بالأحجار الكبار ، وكان الحجر يقطع من الخندق ويستعمل في بناء السور ، وقسم بناء السور على أولاده وأخيه العادل وأمرائه ، وصار يركب كل يوم ويحضر على بنائه ، وكان يحمل الحجر على قربوس (٥) سرجه ويخرج الناس

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٦ ؛ ابن شداد ١٨٥.

(٢) الأضحى أ ج د ه : الأضحية ب / / الوقفة ب ج د ه : الوقعة ب.

(٣) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٤ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٨٣.

(٤) أسارى أ ه : أسرى ب : أسراء ج د / / قريبا من ألفين ب : قريب ألفين أ ج د ه.

(٥) القربوس : الخشبة الصغيرة في مقدم السرج ، يونانية معربة ، ينظر : الحسيني ٤٥٦.

٥٢٩

لموافقته على حمل الحجر إلى مواضع (١) البناء ، ويتولى ذلك بنفسه وبجماعة خواصه والأمراء ، يجتمع (٢) لذلك العلماء والقضاة والصوفية والأولياء (٣) وحواشي العسكر والأتباع وعوام الناس. فبنى في أقرب مدة ما يتعذر بناؤه في سنين.

وأرسل السلطان لصاحب الموصل يشكره على تجهيز الرجال لحفر الخندق بمكاتبة أنشأها العماد الكاتب ، رحمه الله تعالى.

ودخلت سنة ٥٨٨ ه‍ (٤) والسلطان مقيم بالقدس في دار الأقساء بجوار قمامة لتقوية البلد وتشييد أسواره ، وجد في عمارة (٥) الصخرة المقدسة وأكمل السور والخندق ، وصار في غاية الإتقان ، واطمأن أهل الإسلام.

ذكر الحوادث مع الفرنج

رحل الفرنج يوم الثلاثاء ثالث المحرم من الرملة إلى بلد عسقلان ونزلوا بظاهرها يوم الأربعاء وتشاوروا في إعادة (٦) عمارتها ، وكان اثنان من الأمراء نازلين في بعض أعمالها.

فركب ملك الإنكثير عصر يوم الخميس فشاهد دخانا على البعد فساق متوجها إلى تلك الجهة ، فما شعر المسلمون إلا بالكبسة عليهم فلم ينزعجوا فإنه كان وقت المغرب وهم مجتمعون ، فلم ير العدو إلا أحد القسمين من المسلمين فقصده ، فعرف القسم الآخر هجوم العدو فركبوا إلى العدو فدفعوه حتى ركب رفقاؤهم المقصودون واجتمعوا وردوا العدو ، ثم تكاثر الفرنج وتواصلوا ووقعت الوقعة فلم يفقد من المسلمين إلا أربعة ونجا الباقون ، وكانت نوبة عظيمة ولكن الله سلم فيها.

وفي يوم الثلاثاء عاشر المحرم ركب السلطان على عادته في نقل الحجارة والعمارة ومعه الملوك وأولاده والأمراء والقضاة والعلماء والصوفية والزهاد والأولياء ، وخرج كل من بالبلد وهو قد حمل على سرجه والناس ينقلون معه ، ولما دخل الظهر نزل في خيمة بالصحراء ومد السماط ، ثم صلى الظهر وانصرف إلى منزله.

__________________

(١) مواضع أ : موضع ب ج د ه.

(٢) يجتمع أ ه : ويجتمع ج د : ويجمع ب.

(٣) والأولياء ب ج د ه : ـ أ / / العسكر أ ج ه : العساكر ب د.

(٤) سنة ٥٨٨ ه‍ أ : سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ب د : ـ ج.

(٥) عمارة ب د ه : حماية أ : ـ ج.

(٦) إعادة ب ه : أعمدة أ : ـ ج ب.

٥٣٠

وأما سراياه فكان لا تزال تغير على الكفار ، فمن ذلك : سرية أغارت يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم على يبنا وفيها الفرنج وغنمت اثني عشر أسيرا وخيلا ودواب وأثاثا كثيرا.

وفي يوم الثلاثاء ثاني صفر أغارت السرية على ظاهر عسقلان وغنمت ثلاثين أسيرا سوى الخيل والبغال.

وفي ليلة الأحد رابع عشر صفر أصبحت (١) سرية على يبنا وظهرت على قافلة الفرنج فأخذتها بأسرها مع رجالها وبغالها وأحمالها ، ثم أغارت على يافا فقتلت وفتكت وعادت بالغنيمة والسبايا ، وعجز جماعة من الأسارى عن المشي فضربت أعناقهم ، وأوجب ذلك عتق الباقين.

ولما خرج سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب من الأسر ، قرر على نفسه قطيعة خمسين ألف دينار ، فأدى منها ثلاثين ألفا وأعطى رهائن على عشرين ألفا ، ووصل إلى القدس ، واجتمع بالسلطان يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر. فقام (٢) واعتنقه وتلقاه وأقطعه نابلس وأعمالها ، وعاش إلى آخر شوال من هذه السنة ، وتوفي رحمه الله فعين السلطان ثلث نابلس وأعمالها لصالح البيت المقدس وعمارة سورها وأبقى باقيها لولده ، رحمه الله (٣).

هلاك المركيس بصور (٤)

أضافه الأسقف بصور يوم الثلاثاء ثالث عشر ربيع الآخر فأكل وخرج وركب فوثب عليه رجلان وقتلاه بالسكاكين فأمسكا وسئلا من هو الآمر لكما بقتله؟ فقالا : ملك الإنكثير ، فقتلا شر قتلة.

ولما هلك المركيس تحكم ملك الإنكثير في صور وولاها الكندهري ، فأرسل (٥) الملك يطلب من السلطان نصف البلاد سوى القدس فإنه يبقى للمسلمين بمدينته وقلعته سوى كنيستهم قمامة ، فأبى السلطان ولم يرض.

__________________

(١) أصبحت أ : صبحت ب ه : ـ ج د.

(٢) فقام أ : + إليه ب د ه : ـ ج / / نابلس ب د ه : نابلوس أ : ـ ج.

(٣) رحمه الله أ : ـ ب ج د ه.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٩ ؛ ابن شداد ١٩٢ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٦.

(٥) فأرسل أ ج د : وأرسل ب ه.

٥٣١

استيلاء الفرنج على قلعة الداروم (١)

وقلعة الداروم (٢) هذه على حد مصر خلف غزة وكانت منها مضرة كبيرة ، فلما شرع الفرنج في عمارة عسقلان ترددوا إليها مرارا ، ثم نزل (٣) الفرنج عليها واشتد زحفهم إليها عشية السبت تاسع جمادى الأولى بعد أن نقبوها ، وطلب أهلها الأمان فلم يؤمنوا ، ولما عرف الوالي بها أنهم مأخوذون عمد إلى الخيل والجمال والدواب فعرقبها (٤) وإلى الذخائر فأحرقها. وفتحوها بالسيف وقتلوا من بها وأسروا منهم عدة يسيرة. وكانت نوبة كبيرة على الإسلام.

ثم رحل الفرنج عنها ونزلوا على ماء يقال له الحسي يوم الخميس رابع عشر الشهر ، ثم تركوا خيامهم وساروا على قصد قلعة يقال لها مجدل الجبان ، فخرج عليهم المسلمون وقاتلوهم قتالا شديدا ، وقتل منهم خلق كثير وانهزموا.

ثم رحلوا من الحسي يوم الأحد سابع عشر الشهر وتفرقوا فريقين فبعضهم عاد إلى عسقلان وبعضهم جاء إلى بيت جبريل ، فتقدم السلطان إلى العساكر لمبارزتهم (٥).

وفي يوم السبت الثالث والعشرين نزلوا بتل الصافية (٦). / / ونزلوا يوم الثلاثاء السادس والعشرين بالنطرون ، فأرجف بقصدهم القدس ، ثم ضربوا خيامهم يوم الأربعاء على بيت نوبة.

وأظهر السلطان الإقامة بالقدس ، وفرق الأمراء على الأبراج ، وجرت وقعات وكبسات. وفي يوم السبت نزل الناس إليهم وقاتلوهم في خيامهم. وركب العدو وساق إلى قلونية (٧) وهي ضيعة من القدس على فرسخين وعاد منهزما.

وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة خرج كمين في طريق يافا على قافلة

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢١٩ ؛ ابن شداد ١٩٤ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٦ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٢٣.

(٢) الداروم : قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر ، بينها وبين الساحل مقدار فرسخ ، خربها صلاح الدين لما ملك الساحل وتعرف اليوم بدير البلح ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٢ / ٥٨ ؛ شراب ٣٦٩.

(٣) نزل أ ه : نزلت ب : ـ ج د.

(٤) فعرقبها ب : فعرقبوها أ ه : ـ ج د.

(٥) لمبارزتهم أ ج د ه : بمبارزتهم ب.

(٦) تل الصافية : حصن من أعمال فلسطين تقع بين الخليل والرملة ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٢٧١ ؛ الدباغ ٩ / ٢٩٦ ؛ أبو حمود ٤٥ ؛ شراب ٢٣١.

(٧) قلونية : إحدى قرى بيت المقدس ، دمرها اليهود عام ١٩٤٨ م ، وأقاموا عليها المستعمرات ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٣ / ١١٥٩ ؛ شراب ٥٩١.

٥٣٢

فأخذوها وأسروا من فيها.

كبسة الفرنج على عسكر مصر الواصل (١)

كان السلطان يستحث عسكر مصر بكتبه ورسله ويدعوه نجدة لأهل القدس فضرب خيامه على بلبيس مدة حتى اجتمعوا وانضم إليهم التجار فاغتروا بكثرتهم والعدو منتظر قدومهم. وجاء الخبر للسلطان يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أن ملك الإنكثير ركب في جمع كبير وسار عصر يوم الأحد. فجرد السلطان أميرا وجماعة لتلقي الواصل وأمرهم بأن يأخذوا بالناس في طريق البرية ، فعبروا على ماء الحسي قبل وصول العدو إليه.

وكان مقدم العسكر المصري فلك الدين أخو العادل فلم يسأل عن المنزلة وقصد الطريق الأقرب وترك الجمال (٢) على طريق أخرى ونزل على ماء يعرف بالخويلفة (٣) ، ونادى تلك الليلة أنه لا رحيل إلى الصباح وناموا مطمئنين ، فصبحهم العدو عند انشقاق الصبح في الغلس. فلما بغتهم ركب كل منهم على وجهه ، وفيهم من ركب بغير عدة وانهزموا وتركوا العدو وراءهم. فوقع العدو في أمتعتهم وما معهم (٤) ، وتفرق العسكر في البرية فمنهم من رجع إلى مصر ومنهم من توجه على طريق الكرك ، فأخذ الكفار من الجمال والأحمال ما لا يعد ولا يحصى ، وكان نكبة عظيمة (٥). ووصل الجند مسلوبين منكوبين فسلاهم السلطان ووعدهم بكل جميل. واشتغل الكفار بالمال عن القتل والقتال

رحيل ملك الإنكثير صوب عكا مضمرا (٦) أنه على قصد بيروت (٧)

لما تعذر على الفرنج قصد بيت المقدس (٨) ورأوا أن بيروت تنزع (٩) منهم ، وقطع عليهم طريق البحر ، فقالوا : هذا البلد أخذه هين ، وإذا قصدناه جاء السلطان وعسكره إلينا وخلا القدس ، فنبادر إليه من يافا وعسقلان ونملكه.

__________________

(١) ينظر : ابن شداد ١٩٧ ـ ١٩٨ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٧.

(٢) الجمال أ ه : الأحمال ب : ـ ج د.

(٣) الخويلفة : موضع بنواحي فلسطين ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٣٩٢.

(٤) وما معهم أ ه : ـ ب ج د.

(٥) عظيمة ب : ـ أ ج د ه.

(٦) مضمرا أ ه : مظهرا ب : ـ ج د.

(٧) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢١ ؛ ابن شداد ٢٠٨.

(٨) بيت المقدس أ ج ه : القدس ب د.

(٩) تنزع أ ه : فزع ب : ـ ج د.

٥٣٣

فلما عرف السلطان ما عزموا عليه أمر ولده الملك الأفضل بمبادرتهم في الرحيل وسبقهم إلى مرج عيون حتى إذا تيقن قصدهم سبقت العساكر إلى بيروت ودخلتها. وكتب السلطان إلى العساكر الواصلة إلى دمشق أن يكونوا مع ولده فنزل بمرج عيون والفرنج بعكا لم تخرج منها.

نزول السلطان على مدينة يافا وفتحها (١)

لما رحل ملك الإنكثير وترك في مدينة يافا وعسقلان جمعا من العسكر انتهز السلطان الفرصة لغيبته ونهض السلطان (٢) بعسكره الحاضر ، ونزل على يافا وحاصرها (٣) ورماها بالمناجيق وزحف عليها ، وهجم على المدينة وقتل من بها ، ووجدت الأحمال المأخوذة من قافلة مصر فأخذت ، وامتلأ البلد بالمسلمين (٤) وبقيت القلعة وطلب أهلها الأمان ويسلموها ، وكان قرب الاستيلاء عليها.

فلما طلبوا الأمان كف الناس عنها ، وخرج (٥) البطرك الكبير ومعه جماعة من المقدمين والأكابر على أن يدخلوا تحت أمر السلطان (٦) ويسلموا المال والذخائر حتى دخل الليل فاستمهلوا (٧) الصباح وطلبوا من يحفظهم من المسلمين.

وما زال يخرج من يستدعي زيادة التوثقة. حتى وصل ملك الإنكثير في البحر في مراكب في الليل ودخل القلعة من الجانب البحري ، ونادوا بشعار الكفر فاكتفى منهم بمن أسر ، وندم المسلمون على ما وقع من الأمان ولو أن السلطان توقف في تأمينهم لأخذت القلعة ، وكان ذلك فتحا عظيما وأخذ المسلمون (٨) من الأموال والغنائم ما لا يحصى واستعادوا من الكفار ما نهبوه من الكبسة المصرية ، وقتل من أقام بالبلد وأسر ، وحصل في أيدي المسلمين من مقدمي القلعة نيف وسبعون ، وكان القصد في الأول رجوع الكفار عن قصد بيروت وضعف الفرنج من هذه الوقعة.

وعاد السلطان وخيم على النطرون وأقام السلطان حتى تكامل

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢١ ؛ ابن شداد ٢٠٨ ـ ٢١٢.

(٢) السلطان أ : ـ ب ج د ه.

(٣) وحاصرها أ ه : وحصرها ب : ـ ج د / / بالمناجيق أ ه : بالمجانيق ب : ـ ج د.

(٤) وبالمسلمين أ ه : من المسلمين ب : ـ ج د / / ويسلموها أ د : ويسلمونها ب ه : ـ ج.

(٥) وخرج أ ج د : فخرج ب ه.

(٦) أمر السلطان أ ه : طاعة السلطان ب د : ـ ج.

(٧) فاستمهلوا إلى الصباح أ ب د : ـ ج ه.

(٨) وأخذ المسلمون ب ج د ه : ـ أ.

٥٣٤

العسكر (١) / / ورحل ونزل بالرملة وقد اجتمع العسكر (٢) من سائر البلاد وقوي واشتد عزم المسلمين ، وحصل لهم السرور (٣) بفتح يافا وأخذ ما فيها وتباشروا بالنصر وخذلان العدو.

الهدنة العامة (٤)

لما عرف ملك الإنكثير اجتماع العساكر واتساع الخرق عليه ، وأن القس قد امتنع أخذه قصر عما كان فيه وخضع وأظهر أنه لم يهادن السلطان (٥) ، وأقام وجد في القتال ، ثم طلب المهادنة وكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح. فلم يجب السلطان لذلك ، وأحضر السلطان الأمراء وشاورهم ، وقال لهم : نحن بحمد الله في قوة وقد ألفنا الجهاد وما لنا شغل إلا العدو ، وحرضهم على التثبت والتصميم وحثهم على الجهاد ، فقالوا له : رأيك سديد والتوفيق في كل ما تريد ، غير أن البلاد تشعثت (٦) وقلت الأقوات وإذا حصلت الهدنة ففي مدتها نستريح ونستعد للحرب والصواب القبول عملا بقول الله عز وجل : (* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(٧) ، وتعود البلاد (٨) إلى العمارة واستيطان أهلها وتكثر في مدة الهدنة الغلة ، وإذا عادت أيام الحرب عدنا. وما زالوا بالسلطان حتى رضي وأجاب.

ثم حصل الصلح والمهادنة بين السلطان وبين الفرنج بشفاعة جماعة من أعيان جماعة السلطان ، وعقدت هدنة عامة (٩) في البر والبحر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شعبان سنة ٥٨٨ ه‍ (١٠)(١١) الموافق لأول أيلول وحسبوا أن وقت الانقضاء يوافق وصولهم من البحر ، واستقر

__________________

(١) تكامل العسكر أ ج د ه : تكاملت العساكر د.

(٢) العسكر أ ج د ه : العساكر ب.

(٣) لهم السرور أ ب ج د : ـ ه.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ؛ ابن شداد ٢١٥ ـ ٢١٧ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٤ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٨٢ ـ ٨٣ ؛ ابن الوردي ٢ / ١٥٨ ـ ١٦٠ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٢٤ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٤٤.

(٥) يهادن السلطان ب ج د ه : ـ أ.

(٦) البلاد تشعثت أ ب ج د : ـ ه.

(٧) الأنفال : [٦١].

(٨) وتعود البلاد أ ب ج د : وتعود البلدة ه.

(٩) هدنة عامة أ ج د ه : الهدنة العامة ب.

(١٠) سنة ٥٨٨ أ ه : سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ب ج د.

(١١) ٥٨٨ ه‍ / ١١٩٢ م.

٥٣٥

أمر الهدنة وتحالفوا على ذلك. ولم يحلف ملك الإنكثير بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون ، وقنع السلطان بذلك ، وحلف الكندهري ابن أخته وخليفته في الساحل ، وحلف غيره من عظماء الفرنج ، ووصل ابن الهنفري وباليان (١) إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين ، وأخذوا يد السلطان على الصلح ، واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان ، والملكين الأفضل والظاهر ابني السلطان ، والملك المنصور صاحب حماة محمد بن تقي الدين بن عمرو ، والملك المجاهد شيركوه صاحب حصن حمص ، والملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك ، والأمير بدر الدين يلدرم البارقي صاحب تل باشر (٢) ، والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب سرمين (٣) ، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب ، وغيرهم من المقدمين الكبار.

وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج من يافا إلى قيسارية إلى عكا إلى صور وأن تكون عسقلان خرابا ، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته ، واشترط الفرنج دخول أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم وأن تكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين.

فاستقرت القاعدة (٤) على ذلك وحضر العماد الكاتب لإنشاء عقد الهدنة وكتبها ونادى المنادي بانتظام الصلح وأن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة فمن شاء من كل طائفة يترددوا إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور.

وكان يوما مشهودا نال الطائفتان فيه من المسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان ذلك مصلحة في علم الله تعالى ، لأنه اتفقت وفاة السلطان بعد الصلح بيسير فلو اتفق ذلك أثناء وفاته كان الإسلام على خطر.

ذكر ما جرى بعد الصلح (٥)

عاد السلطان إلى القدس واشتغل في إكمال السور والخندق ، وفسح للفرنج

__________________

(١) وباليان أ ج د ه : وماليان ب.

(٢) تل باشر : قلعة حصينة وكورة واسعة شمالي حلب ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٣٢ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٢٦٩.

(٣) سرمين : بليدة مشهورة من أعمال حلب ، أهلها إسماعيلية ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٦٥ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٧١٠.

(٤) القاعدة أ ه : المهادنة ب د : المعاقدة ج.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢٢ ؛ ابن شداد ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٢٤ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٤٤ ـ ٤٥.

٥٣٦

كافة في زيارة قمامة فجاءوا وزاروا وقالوا : إنما كنا نقاتل على هذا الأمر. وكان ملك الإنكثير أرسل للسلطان يسأله منع الفرنج من الزيارة إلا من وصل معه كتابه أو رسوله ، وقصد بذلك رجوعهم إلى بلادهم بحسرة الزيارة ليشتد حنقهم على القتال (١) إذا عادوا. فاعتذر السلطان إليه بوقوع الصلح والهدنة وقال له : أنت أولى بردهم وردعهم فإنهم إذا جاءوا لزيارة كنيستهم ما يليق بنا ردهم.

ومرض ملك الإنكثير ، وركب البحر وأقلع وسلم الأمر إلى الكندهري (٢) ابن أخته من أمه وهو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه.

وعزم السلطان على الحج وصمم عليه ، وكتب إلى مصر واليمن بذلك. فما زال الجماعة به حتى انثنى عزمه ، فشرع في ترتيب / / قاعدة القدس في الولاية والعمارة ، وكان الوالي بالقدس حسام الدين شاروخ ، وهو تركي ، وفيه دين وخير ، وكان حسن السيرة ، وفوض ولاية القدس إلى عز الدين جرديك ، وكان أميرا معتبرا شجاعا. وولى علم الدين قنصو أعمال الخليل وعسقلان وغزة والدراوم وما وراءها. وسأل الصوفية عن أحوالهم ، وزاد في أوقاف المدرسة الصلاحية والخانقاه ، وجعل الكنيسة المجاورة لدار الإسبتارية بقرب قمامة بيمارستان للمرضى ووقف عليه مواضع ووضع فيه ما يحتاج من الأدوية والعقاقير ، وفوض القضاء والنظر (٣) في هذا الموقف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم المشهور بابن شداد لعلمه وكفاءته (٤).

رحيل السلطان إلى دمشق (٥)

خرج السلطان من القدس ضحوة الخميس خامس شوال ونزل على نابلس ضحوة يوم الجمعة ، فشكى أهلها على صاحبها سيف الدين علي المشطوب أنه ظلمهم ، فأقام السلطان بها إلى ظهر يوم السبت حتى كشف ظلامتهم (٦) ، ورحل بعد الظهر أصبح على جنين (٧) ، ثم وصل إلى بيسان ، ثم إلى قلعة كوكب ، ثم سار ونزل

__________________

(١) القتال أ د ه : الجهاد والقال ب ج.

(٢) الكندهنري أ ج ه : الكندهري ب د.

(٣) القضاء والنظر أ ج ه : النظر والقضاء ب د.

(٤) وكفاءته أ ج د ه : بكفاءته ب.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢٢ ؛ ابن شداد ٢٢٨ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٨٣ ؛ ابن الوردي ٢ / ١٥٩.

(٦) كشف ظلامتهم أ ب ج د : كشف ظلمتهم ه.

(٧) جنين أ : جينين ب ج د ه / / وصل أ ج د : رحل ب ه.

٥٣٧

بظاهر طبرية ولقيه هناك بهاء الدين قراقوش وقد خرج من الأسر ، ثم رحل ونزل بقرب قلعة صفد تحت الجبل وصعد السلطان إليها وأمر بعمارتها. ثم سار إلى أن خيم على مرج تبنين (١) وتفقد أحوالها وأمر بعمارة قلعتها ، ثم سار ونزل على عين الذهب (٢) ورحل وخيم بمرج عيون ، ثم سار وعبر من عمل صيدا. وكلما نزل في مكان يدبر أمره ويرتب أحواله ويأمر بعمارته ، إلى أن وصل إلى بيروت ، فتلقاه واليها عز الدين أسامة (٣) وقدم للسلطان ولأركان دولته الهدايا والتحف النفيسة.

وصول الإبرنس صاحب أنطاكية (٤)

لما أراد السلطان الرحيل من بيروت في يوم السبت الحادي والعشرين من شوال قيل له : إن الإبرنس الأنطاكي قد وصل إلى الخدمة. فأقام السلطان وأذن للإبرنس في الدخول عليه فلما تمثل لديه أكرمه وأظهر له (٥) البشاشة وسكن روعه ، وكان معه من مقدمي فرسانه أربعة عشر باروشا (٦). فخلع عليه وعليهم وأجزل لهم العطاء ، وودعه يوم الأحد وفارقه وهو مسرور محبور.

وصول السلطان إلى دمشق (٧)

لما خرج السلطان من بيروت يوم الأحد بات بالمخيم على البقاع ، ثم سار ووصل إليه أعيان دمشق لتلقيه (٨) ، وجاءه فواكه دمشق وأطايبها ، وأصبح يوم الأربعاء فدخل دمشق لخمس بقين من شوال سنة ٥٨٨ ه‍ (٩)(١٠) ، وزينت البلد

__________________

(١) تبنين : بلدة بين دمشق وصور ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٢٥٣.

(٢) عين الذهب : تقع على مسيرة كيلومتر واحد للشمال من قرية الخالصة شمالي فلسطين ، ينظر : الدباغ ٦ / ٥٢ ؛ جبر ١٧٤.

(٣) أسامة بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري ، أبو المظفر ، مؤيد الدولة ، من أكابر بني منقذ ومن العلماء الشجعان ، له كتاب الاعتبار ، توفي سنة ٦١٣ ه‍ / ١٢١٦ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ٦٣ ؛ ابن خلكان ١ / ١٩٥ ـ ١٩٩ ؛ الجابي ٩٣.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢٢ ؛ ابن شداد ٢٢٨.

(٥) له أ ج د ه : ـ ب.

(٦) باروشا أ ب : بارونيا ج ه : بردوينا د.

(٧) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢٢ ؛ ابن شداد ٢٢٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٢٠٧ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٨٣ ؛ ابن الوردي ٢ / ١٥٩ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٢٤ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٤٦.

(٨) لتلقيه أ ج د : لتلاقيه ب : ـ ه.

(٩) سنة ٥٨٨ أ ج ه : سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ب : سنة خمسمائة وثمان وثمانين د.

(١٠) ٥٨٨ ه‍ / ١١٩٢ م.

٥٣٨

وخرج كل من بالمدينة (١) ، وفرح الناس به ، وكانت غيبة السلطان عن دمشق أربع سنين في الجهاد ، فحصل لهم الفرح والسرور ، وكان يوما مشهودا لدخوله.

وجلس السلطان في دار العدل ونظر في أحوال الرعية وأزال المظالم ، وأقام بهاء الدين قراقوش إلى أن خلص أصحابه من الأسر ، ثم توجه إلى مصر ، واطمأن الناس في أوطانهم ، وخرجت السنة والأمر على ذلك.

ودخلت سنة ٥٨٩ ه‍ (٢)(٣) والسلطان مقيم بدمشق في داره ورسل الأمصار واردون عليه وهو يجلس في كل يوم وليلة بين أخصائه ويجالسه العلماء والفضلاء والظرفاء والأدباء ، وسار إلى الصيد شرقي دمشق وصحبته الملك العادل ، ثم عاد يوم الاثنين حادي عشر صفر ووافق عود الحاج الشامي ، فخرج لتلقيه ، فلما رآه فاضت عيناه لفوات الحج ، وسألهم عن أحوال مكة وأميرها وسر بسلامة الحاج ، ووصل إليه من اليمن ولد أخيه سيف الإسلام (٤) فتلقاه وأكرمه ، وتوجه الملك العادل إلى الكرك.

ذكر وفاة السلطان رحمة الله عليه (٥)

جلس ليلة السبت سادس عشر صفر في مجلسه على عادته وحوله خواصه منهم العماد الكاتب حتى مضى من الليل ثلثه وهو يحدثهم ويحدثونه ، ثم صلى وانصرفوا. فلما بات لحقه كسل عظيم وغشيه نصف الليل حمى صفراوية ، وأصبحوا يوم السبت وجلسوا في الإيوان لانتظاره ، فخرج بعض الخدام (٦) ، وأمر الملك الأفضل أن يجلس موضعه على السماط وتطير الناس من تلك الحال ودخلوا إليه ليلة الأحد لعيادته.

وأخذ المرض في التزايد وحدث به في السابع رعشة وغاب ذهنه ، واشتد الإرجاف في البلد ، / / وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن شرحه واشتد به المرض ليلة الثاني عشر من مرضه فتوفي ، رحمه الله تعالى ، صبح تلك الليلة وهي المسفرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة ٥٨٩ ه‍ (٧) بعد

__________________

(١) من بالمدينة أ ب ج : من في المدينة ب د.

(٢) ٥٨٩ ه‍ / ١١٩٣ م.

(٣) سنة ٥٨٩ أ ج ه : سنة تسع وثمانين وخمسمائة ب د.

(٤) ينظر : أبو شامة ، الذيل ٨٦ ؛ اليافعي ٣ / ٤٩٤ ؛ ابن كثير ، البداية ١٣ / ٦٨.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٦) الخدام أ ب ج د : الخدم ه.

(٧) سنة ٥٨٩ أ ه : سنة تسع وثمانين وخمسمائة ب ج د.

٥٣٩

صلاة الصبح وغسله الفقيه ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن يزيد الدولعي (١)(٢) الشافعي ، خطيب جامع دمشق ، وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء في تابوت مسجى بثوبه (٣) ، وجميع ما احتاج إليه في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفة ، وصلى عليه الناس ، وكثر عليه التأسف من الخلق واشتد حزنهم لفراقه ، ودفن في قلعة دمشق في الدار التي كان مريضا فيها ، وكان نزوله إلى قبره وقت صلاة العصر.

وكان يوم موته لم يصب الإسلام بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين ، رضي‌الله‌عنهم ، وغشي القلعة والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. قال العماد الكاتب : مات بموت السلطان رجاء الرجال ، وفات بفواته الاتصال ، وغاصت الأيادي ، وفاضت الأعادي ، وانقطعت الأرزاق ، وادلهمت الآفاق ، وفجع (٤) الزمان بواحده وسلطانه ، ورزىء الإسلام بمشيد أركانه (٥). وأرسل الملك الأفضل الكتب بوفاة (٦) والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر وإلى أخيه الظاهر غازي (٧) بحلب وإلى عمه الملك العادل بالكرك.

ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع (٨) الأموي ، وكانت دارا لرجل صالح ـ ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء ، سنة ٥٩٢ ه‍ (٩)(١٠) ، ومشى الأفضل بين يديه تابوته وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد ، وإدخل إلى الجامع ووضع قدام الستر ، وصلى عليه القاضي محي الدين بن القاضي زكي الدين بالجامع الأموي ، ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء.

__________________

(١) ضياء الدين أبو القاسم بن زيد ... الدولعي الشافعي ، خطيب جامع دمشق ، توفي سنة ٥٩٨ ه‍ / ١٢٠١ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ٣١ ؛ ابن خلكان ٧ / ٢٠٣ ؛ ابن كثير ، البداية ١٣ / ٣٣ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ١٦٢ ؛ ابن العماد ٣٣٦.

(٢) الدولعي أ ب ج د : الدولقي ابن خلكان.

(٣) بثوبه أ : بثوب ب ج د ه / / ما احتاج إليه ب ج د ه : احتياجه أ.

(٤) وفجع أ ج د ه : فجع ب.

(٥) ينظر : الأصفهاني ، الفتح ٦٢٨.

(٦) الكتب بوفاة والده إلى أخيه أ ب ج د : ـ ه.

(٧) الظاهر غازي أ ج د ه : الظاهر الغازي ب.

(٨) قرب الجامع أ : بالقرب من الجامع ب ج د ه.

(٩) سنة ٥٩٢ أ ه : اثنتين وتسعين وخمسمائة ب ج د.

(١٠) ٥٩٢ ه‍ / ١١٩٥ م.

٥٤٠