الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

مجير الدين الحنبلي العليمي

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

المؤلف:

مجير الدين الحنبلي العليمي


المحقق: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة دنديس
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

جنده وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم (١) لهذا البيت من طيب التوحيد ، ونشر التقديس والتمجيد ، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث ، والاعتقاد الفاجر الخبيث ، فالآن تستغفر لكم أملاك السماوات ، وتصلى عليكم الصلوات المباركات ، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم ، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم (٢) ، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم ، واحذروا من أتباع الهوى ، ومواقعة الردى ، ورجوع القهقرى / / والنكول عن العدى ، وخذوا في انتهاز الفرصة ، وإزالة ما بقي من الغصة ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضا عبادته (٣) ، إذ جعلكم من خيار عباده ، وإياكم أن يستزلكم الشيطان ، وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد ، وخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد ، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل ، وخصكم بنصره المبين ، وأعلق أيديكم بحبله المتين ، أن تقترفوا كبيرا من مناهيه ، وأن تأتوا عظيما من معاصيه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(٤) ، (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) (٥) ، والجهاد الجهاد (٦) فهو من أفضل عباداتكم ، وأشرف عاداتكم ، أنصروا الله ينصركم ، احفظوا الله يحفظكم ، اذكروا الله يذكركم ، اشكروا الله يزدكم ويشكركم ، جدوا (٧) في حسم الداء ، وقطع شأفة الأعداء ، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله ، فقد نادت الأيام : يا للثارات (٨) الإسلامية ، والملة المحمدية ، الله أكبر فتح الله ونصر ، غلب الله وقهر ، أذل الله من كفر ، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها ، وفريسة فناجزوها ، وغنيمة فحوزوها ، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها ، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها ، فالأمر بأواخرها ، والمكاسب بذخائرها ، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون ، فكيف وقد

__________________

(١) أهديتم ب ج ه : أهديتم أ : ـ د.

(٢) سلم أ ج ه : وسلم ب : ـ د / / وعصم أ ب ج : واعتصم ه : ـ د.

(٣) رضا عبادته أ ج ه : رضاه ب : ـ د.

(٤) النحل : [٩٢].

(٥) الأعراف : [١٧٥].

(٦) والجهاد الجهاد أ ب ج : ـ د ه.

(٧) جدوا ج : فخذوا : خذوا ب ه : ـ د.

(٨) يا للثارات أ ج ه : بالثارات ب : ـ د.

٤٨١

أضحى قبالة الواحد منهم (١) عشرون وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦) (٢). أعاننا الله وإياكم على إتباع أوامره ، والازدجار بزواجره ، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)(٣). إذ (٤) أشرف مقال يقال في مقام ، وأنفذ سهام تمرق عن قسى الكلام ، وأمضى قول تحلى به الأفهام ، كلام الواحد الفرد (٥) العزيز العلام ، قال الله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٦). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وقرأ أول سورة الحشر (٧) : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) (٨).

ثم قال : آمركم وإياي عباد الله بما أمر الله به من حسن الطاعة فأطيعوه وأنهاكم وإياي عما نهى الله عنه من قبح المعصية فلا تعصوه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع (٩) المسلمين فاستغفروه.

ثم خطب (١٠) الخطبة الثانية على عادة الخطباء مقتصرة ، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر ثم قال :

اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك ، الشاكر لنعمتك ، المعترف بموهبتك سيفك القاطع وشهابك اللامع ، والمحامي عن دينك المدافع ، والذاب عن حرمك الممانع ، السيد الأجل ، الملك الناصر جامع كلمة الإيمان ، وقامع عبدة

__________________

(١) منكم منهم أ ج ه : منهم منكم ب : ـ د / / وقد قال أ ه : فقد قال ب ه : ـ د.

(٢) الأنفال : [٦٥ ـ ٦٦].

(٣) آل عمران : [١٦٠].

(٤) إذ أ ج ه : إن ب : ـ د.

(٥) الفرد ب ج ه : ـ أ د.

(٦) الأعراف : [٢٠٤].

(٧) وقرأ أول الحشر أ ج ه : ـ ب د.

(٨) الحشر : [١ ـ ٢].

(٩) ولجميع أ ج : ولسائر ب ه : ـ د.

(١٠) ثم خطب ... مقتصرة ب ج ه : ـ أ د.

٤٨٢

الصلبان صلاح الدنيا والدين ، سلطان الإسلام والمسلمين ، مطهر بيت المقدس من أسر (١) المشركين ، أبي المظفر يوسف بن أيوب محي دولة أمير المؤمنين ، اللهم عمر بدولته البسيطة ، واجعل ملائكتك براياته محيطة ، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه ، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه ، اللهم أبق للإسلام مهجته ، ووف للإيمان حوزته وانشر في المشارق والمغارب دعوته ، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون (٢) ، وابتلي المؤمنون ، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها وملكه صياصي / / الكفرة ونواصيها ، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها ، ولا جماعة إلا فرقها ، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها ، اللهم اشكر عن محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعيه ، وأنفذ في المشارق (٣) والمغارب أمره ونهيه ، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها ، وأرجاء الممالك وأكنافها ، اللهم ذلل به معاطس الكفار ، وارغم به أنوف الفجار ، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار ، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار ، اللهم اثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، واحفظه في بنيه الغر الميامين ، وإخوانه أولي العزم والتمكين ، وشد عضده ببقائهم ، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم ، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام ، وتتجدد على ممر الشهور والأعوام ، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفذ (٤) في دار المتقين ، وأجب دعاءه في قوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(٥). ثم دعا بما جرت به العادة ونزل وصلى.

ولما قضيت الصلاة انتشر الناس ، وكان قد نصب سرير الوعظ تجاه (٦) القبلة ، فجلس عليه الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجا الأنصاري الحنبلي ، المعروف بابن نجية (٧) ، وعقد مجلسا للوعظ ، وكان واعظا حسنا بليغا.

وصلى السلطان الجمعة في قبة الصخرة ، وكانت الصفوف ملء الصحن ، ثم رتب في المسجد الأقصى خطيبا.

__________________

(١) من أسر أ : من أيدي ب : من أثر ج ه : ـ د.

(٢) ظنت الظنون أ ب ج : طاشت الظنون ه : ـ د.

(٣) في المشارق أ ب ج : ـ د ه.

(٤) ينفذ أ ج : ينفد ب ه : ـ د.

(٥) النمل : [١٩].

(٦) تجاه أ ب : بجانب ج ه : ـ د.

(٧) ينظر : أبو شامة ، الذيل ٣٤ ؛ ابن العماد ٤ / ٣٤٠.

٤٨٣

وكان الملك العادل نور الدين الشهيد قد عزم على فتح بيت المقدس ، وعمل منبرا بحلب وتعب عليه مدة وقال : هذا لأجل القدس ، فأدركته المنية ، وكان الفتح على يد من أراد الله ، فأرسل السلطان صلاح الدين من أحضر المنبر من حلب وجعله في المسجد الأقصى وهو الموجود في عصرنا هذا.

وأما الصخرة فقد كان الفرنج بنوا عليها كنيسة ومذبحا وجعلوا فيها الصور والتماثيل ، فأمر السلطان بكشفها ونقض البناء المحدث فيها ، وأعادها كما كانت ، ورتب لها إماما حسن القراءة ، ووقف عليها دارا وأرضا ، وحمل إليها وإلى محراب الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة ، ورتب للصخرة وللمسجد الأقصى خدمه ، وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعا (١) وحملوا منها إلى قسطنطينية ونقلوا منها إلى صقلية ، قيل : باعوها بوزنها ذهبا. ولما فتح السلطان القدس ، كان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب ، فتسلق المسلمون ، وقلعوه ، فسمع (٢) لذلك ضجة لم يعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور.

ثم شرع السلطان في العمارة ، وأمر بترخيم محراب الأقصى ، وكتب عليها بالفصوص المذهبة ما قراءته : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمر بتجديد هذا المحراب وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ٥٨٣ ه‍ (٣) ، وهو يسأل الله إيزاعه شكر هذه النعمة وإجزال حظه من المغفرة والرحمة.

وشرع ملوك بني أيوب في فعل الآثار الجميلة بالمسجد الأقصى منهم الملك العادل سيف الدين أبو بكر أخو السلطان.

وأما الملك المظفر تقي الدين بن عمر بن شاهنشاه فإنه فعل فعلا حسنا وهو : أنه حضر في قبة الصخرة (٤) مع جماعة وتولى بيده كنس أرضها ، ثم غسلها بالماء مرارا ، ثم اتبع الماء بماء الورد وطهر حيطانها وغسل جدرانها وبخرها ، ثم فرق مالا عظيما (٥) على الفقراء وكذلك الملك الأفضل نور الدين علي ، والملك العزيز

__________________

(١) قطعا ب ج ه : ـ أ د.

(٢) فسمع أ ب ج : سمع ه : ـ د.

(٣) ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م.

(٤) قبة الصخرة أ ب ج : القبة ه : ـ د.

(٥) عظيما ب ج ه : ـ أ د.

٤٨٤

عثمان ، فعلا فيه أنواعا من البر والخير ووضع الأسلحة ، برسم المجاهدين في سبيل الله.

محراب داود عليه‌السلام وغيره من المشاهد

أما محراب داود ، عليه‌السلام ، فهو خارج المسجد الأقصى في حصن عند باب المدينة وهو القلعة ، وكان الولي يقيم (١) بهذا الحصن ، ويعرف هذا الباب قديما بباب المحراب والآن بباب الخليل : فاعتنى السلطان بأحواله ورتب له إماما ومؤذنين وقواما ، وأمر بعمارة جميع المساجد والمشاهد ، وكان موضع هذه القلعة دار داود ، / / عليه‌السلام.

وكان الملك العادل نازلا في كنيسة صهيون وأجناده في خيامهم على بابها ، وفاوض (٢) السلطان جلساءه من العلماء في مدرسة الفقهاء الشافعية ، ورباط للصلحاء الصوفية. فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصندحنه (٣) ، فإنه يقال : إن فيها قبر حنة أم مريم وهي عند باب الأسباط ، وعين للرباط دار البطرك وهي بقرب كنيسة قمامة وبعضها راكب على ظهر قمامة ، ووقف عليهما أوقافا حسنة ، وأمر بإغلاق كنيسة قمامة ، ومنع النصارى من زيارتها ، وأشار عليه بعض أصحابه بهدمها ، ومنهم من أشار بعدم الهدم لأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، لما فتح القدس (٤) أقرهم عليها ولم يهدمها.

وأقام السلطان على القدس على تسلم ما بقي بها من الحصون. ورحل الملك الأفضل إلى عكا ثم تبعه الملك المظفر إلى عكا أيضا ، ثم إن السلطان فرق ما جمعه على ما مستحقيه من الجند والفقهاء والفقراء والشعراء ، فقيل له : لو ادخرت هذا المال لأمر يحدث ، فقال : أملي بالله قوي. وجمع الأسارى (٥) ، وكانوا ألوفا من المسلمين ، فكساهم وأحسن إليهم ، وذهب كل منهم إلى وطنه.

ومكث السلطان على القدس ينظر في مصالحه ، وكان في خدمته الأمير علي بن أحمد المشطوب ، وكان معه (٦) أهل صيدا وبيروت وهما بقرب صور ، وخاف أن يفوته فتحها ، وكان يحث السلطان على المسير إليها ، وكان المركيس عند

__________________

(١) يقيم بهذا أ ب : مقيما بهذا ج ه : ـ د.

(٢) وفاوض ب ج ه : وفوض أ : ـ د.

(٣) بصندحنة أ ج ه : بصندحة ب : ـ د / / فإنه أ ج ه : فيقال ب : ـ د.

(٤) القدس أ : بيت المقدس ب ج ه : ـ د.

(٥) الأسارى ب ج ه : الأسرار أ : ـ د.

(٦) وكان معه أ ج ه : + أهل ب : ـ د.

٤٨٥

اشتغال المسلمين بالقدس شرع في إحكام صور (١) وحصنها وجعل لها خندقا وضيق طريقها.

وكتب السلطان إلى الخليفة الناصر لدين الله يعلمه بالفتح ، وكتب أيضا إلى الآفاق رسائل من إنشاء العماد الكاتب فيها من البلاغة والألفاظ الفائقة ما لا يقدر عليه غيره.

ذكر رسالة السلطان للخليفة (٢)

وكانت الرسالة إلى الخليفة على يد ضياء الدين بن الشهرزوري (٣) بخط القاضي الفاضل من إنشائه وهي : أدام الله أيام الديوان العزيز النبوي ولا زال مظفر الجد بكل جاحد ، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد ، موقف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد ، مستيقظ النصر والنصل في جفنه راقد ، وارد الجود والسحاب (٤) على الأرض غير وارد ، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقي إلا بشكر (٥) واحد ، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غوى وريش راشد ، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المرابع وأنوار إلى المساجد ، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد ، كتب الخادم هذه الخدمة تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التباشير لصبح هذه الخدمة والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة فإنها بحر فيه للأقلام سبح طويل ، ولطف لتحمل الشكر (٦) فيه عبء ثقيل ، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب ، ويسرى للأسرار في إظهارها العزم لا مسارب (٧) ولله تعالى في إعادة شكره رضا ، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه هذا مضى ، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصائرها ، وقد (٨) استثبتت عقائد أهله على أبين بصائرها ، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط وصدق الله أهل دينه ، فلما وقع الشرط وقع المشروط ، وكان الدين غريبا فهو الآن في وطنه ، والفوز معروضا فقد

__________________

(١) إحكام صور وحصنها أ ج ه : إحكام سور حصنها ب : ـ د.

(٢) ينظر : ابن خلكان ٧ / ١٨٠ ـ ١٨٦.

(٣) أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم ، كان رسولا بين صلاح الدين والخليفة في بغداد ، سمع الحديث ، وتسلم القضاء أكثر من مرة ، وتوفي في حماة سنة ٥٩٩ ه‍ / ١٢٠٢ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ٣٥ ـ ٣٦ ؛ ابن كثير ، البداية ١٣ / ٣٥.

(٤) والسحاب ب ج ه ابن خلكان : والسحايب أ : ـ د.

(٥) بشكر ب ج ه : بشاكر أ : ـ د.

(٦) لتحمل الشكر ب ج ه : ـ أ د.

(٧) مسارب أ ج ابن خلكان : مشارب ب ه : ـ د.

(٨) وقد أ ج ه : ولقد ب : ـ د.

٤٨٦

بذلت الأنفس في ثمنه وأمر أمر الحق وكان مستضعفا ، وأهل ربعه ، وكان قد عيف حين عفا ، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة ، وأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة (١) ، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين ، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها حسان الجبين ، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا ، وظفروا يقظة بنا لم يتصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا ، واستقرت على الأعلام أقدامهم ، فخفقت على الأقصى أعلامهم ، وتلاقت (٢) على الصخرة قلوبهم ، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما يشفي بالماء غليلهم ، ولما قدم الدين عليها عرق منها سويداء قلبه وهنا كفؤها الحجر الأسود بيت عصمتها من الكافر بحربه ، وكان الخادم لا يسعى بسعيه (٣) إلا لهذه العظمى ، ولا يقاسي البؤس إلا رجاء هذه النعمى ولا يحارب من يستظلمه في حربه ولا يعاقب بأطراف القنا من يتفادى (٤) في عتبه إلا لتكون الكلمة مجموعة فتكون كلمة الله هي العليا ، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا ، / / وكانت الألسن ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار ، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار ، ومن طلب خطيرا (٥) خاطر ، ومن رام صفعة رابحة جاسر ، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر ، وإلا فإن العقود تلين تحت نيوب الأعداء المعاجم ، فيعظها وتضعف في أيديها مهز القوائم فيفضها هذا إلى كون القعود لا يقضي به فرض الله في الجهاد ، ولا يراعي به حق الله في العباد ، ولا يوفي به واجب التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون ، وخلفاء الله كانوا في مثل هذا اليوم لله يسألون ، لا جرم أنهم أورثوا أسرارهم وسريرهم خلفهم الأطهر ، ونجلهم الأكبر ، وبقيتهم الشريفة ، وطليعتهم المنيفة وعنوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد القلم وبياض الصحيفة ، فما غابوا لما حضر ولا غضوا لما نظر بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا ، وشاطروه العمل لما كان عنه مسؤولا ومنه مقبولا ، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنت به جنوبها ، وإلى الصفائح ما عبقت به جيوبها ، وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميرا ، والنهار به بصيرا والشرق يهتدي بأنواره ، بل إن أبدى نورا في ذاته هتف به الغرب بأنواره فإنه نور لا تكفه أغساق السدف (٦) ، وذكر لا توازيه أوراق الصحف ، وكتب

__________________

(١) وهي نائمة ب ج ه : ـ أ د.

(٢) وتلاقت أ ج ه : وتلاقي ب : ـ د / / قلوبهم ج : قبيلتهم أ : قبيلهم ب ه : ـ د.

(٣) بسعيه أ ج : سعيه ب ه : ـ د.

(٤) يتفادى أ ب ج : يتبارى ه : ـ د / / كلمة الله ب ج ه : ـ أ د.

(٥) خطيرا أ ب ج : ـ د ه.

(٦) أغساق السدف أ ب ج د : ـ أ د.

٤٨٧

الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شققا ، وطارت من فرقه فرقا وفل سيفه فصار عصا ، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا وحصا وكلت حملاته فكانت قدرة الله تصرف (١) فيه العنان بالعنان ، وعقوبة من الله ليس لصاحب يد فيها (٢) يدان ، وعثرت قدمه ، وكانت الأرض لها حليفة ، وغضت عينه وكانت السيوف دونها كثيفة ، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق لطف الكرى من الجفون ، وجدعت أنوف رماحه ، وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون ، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث ، والرب الفرد الواحد ، وكان عندهم الثالث ، وبيوت الكفر مهدومة ، ونيوب الشرك مهتومة ، وطوائفه الحامية (٣) مجمعة على تسليم القلاع الحامية ، وشجعانه المتوافية مذعنة لبذل القطائع الوافية ، لا يرون في ماء الحديد لهم عصره ، ولا في نار الأنفة لهم نصره قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وبدل الله مكان السيئة الحسنة ، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة ، وقد كان (٤) الخادم لقيهم اللقاءة الأولى فأمده الله بمداركته ، وأنجده بملائكته فكسرهم كسرة ما بعدها جبر ، وصرعهم صرعة لا تنتعش بعدها بمشيئة الله كفر ، وأسر منهم من أسرت به السلاسل وقتل منهم من فتكت به المناصل ، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار ، وعن المصاف بخيل فإنه قتلهم (٥) بالسيوف الأفلاق والرماح ، الإكسار ، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضا بثأر ، فكم أهلة سيوف تقارض الضراب بها حتى عادت كالعراجين ، وكم أنجم قنا تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين ، وكم فارسية ركض عليها فارسها الشهم إلى أجل فاختلسه وفغرت تلك النفوس (٦) فاها ، فأذاقوها قد نهش القرن على بعد المسافة وافترسه ، وكان اليوم مشهودا ، وكانت الملائكة شهودا وكان الصليب صارخا ، وكان الإسلام مولودا وكانت ضلوع الكفار لنار جهنم وقودا ، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه وأكد وصله بالدين وعلائقه وهو صليب الصلبوت ، وقائد أهل الجبروت ما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دمائهم يبسط لهم باعه ، فكان مد اليدين في هذه الوقعة وداعه ، لا جرم أنه تتهافت على ناره فراشهم ، ويجتمع في ظل ظلاله خشاشهم ، ويقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه ، ويرونه

__________________

(١) فكانت قدرة الله تصرف أ ج ه : وكان قدرا يضرب ب : ـ د.

(٢) يد فيها أ ج ه : يد بها ب : ـ د.

(٣) الحامية أ ج ه : المحامية ب : ـ د.

(٤) وقد كان أ ج : وكان ب ه : ـ د.

(٥) فإنه قتلهم ... بثأر أ ب ج : ـ د ه.

(٦) النفوس أ ج ه : القوس ب : ـ د.

٤٨٨

ميثاقا يبنون عليه أشد عقد وأوثقه ، ويعدونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه ، وفي هذا اليوم أسرت سراتهم ، ودهيت دهاتهم ، / / ولم يفلت منهم معروف إلا القومص ، وكان لعنه الله مليا يوم الظفر بالقتال ، ومليا يوم الخذلان بالاحتيال ، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه من الرمح أو جناح السيف ، ثم أخذه الله بعد أيام بعده ، وأهلكه (١) لموعده وكان من عدتهم كذلك وانتقل من ملك الموت إلى مالك ، وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد ، فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا ، البيضاء صنعا ، الخافقة هي وقلوب أعدائها الغالية هي وعزائم أوليائها المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها النشر ، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر ، فافتتح بلاد كذا (٢) وكذا ، وهذه أمصار ومدن ، وقد تسمى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن ، وكل هذه ذوات معاقل ومعاقر ، بحار وجزائر ، وجوامع ومنابر ، وجموع وعساكر يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها (٣) ، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ، ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا ، ويحط من منابر جوامعها صلبانا (٤) ويرفع آذانا ويبدل المذابح منابر ، والكنائس مساجد ، ويبوىء أهل القرآن بعد أهل الصلبان للقتال عن دين الله مقاعد ، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن يلق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور ، وأن يظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله ولا زيالة إلا يوم ينفخ (٥) في الصور ، ولما لم يبق إلا القدس ، وقد اجتمع إليها كل شريد وطريد ، واعتصم بمنعتها (٦) كل قريب منهم وبعيد وظنوا أنهم من الله مانعتهم وأن كنيستها إلى الله شافعتهم ، فلما نزلها الخادم رأى بلدا كبلاد ، وجمعا كيوم التناد ، وعزائم قد تألبت وتألفت على الموت ، فنزلت بعرصته ، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته فداور البلد من جانب فإذا أودية عميقة ، ولجج وعر غريقة ، وسور قد انعطفت عطف السوار وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار ، فعدل إلى جهة أخرى ، كان للطالع عليها معرج وللخيل فيها متولج ، فنزل عليها وأحاط بها ، وقرب منها ، وضرب خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه ، وزاحمه السور أكتافه وقابلها ثم قاتلها ، ونزلها ثم نازلها ، برز إليها ثم بارزها ، وحاصرها (٧) ثم ناجزها ، وضمها

__________________

(١) وأهلكه ب ج ه : وأهلك أ : ـ د.

(٢) بلاد كذا ب ج ه : بلد كذا أ : ـ د.

(٣) يحرزها أ ب ج : ـ د ه.

(٤) صلبانا ب ج ه : ـ د ه.

(٥) إلا يوم ينفخ أ : إلى يوم النفخ ب ج ه : ـ د.

(٦) بمنعتها أ ج ه ابن خلكان : بمنعته ب : ـ د.

(٧) وحاصرها ب د : وحاجزها أ ج ه.

٤٨٩

ضمة ارتقب بعدها الفتح ، وصدع (١) جمعها ، فإذا هم لا يبصرون على عبودية الحد عن عنق الصفح فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة ، وعقدوا نظرة. (٢) من شدة ، وانتظار النجدة فعرفهم الخادم في لحن القول ، وأجابهم بلسان الطول وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها ، وأوتر لهم قسيها التي ترمي ولا تفارقها سهامها ، ولكن تفارق سهامها نصالها ، فصافحت السور ، فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك ، وقدم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ، ويعلو علوه إلى السماك ، وأناخ (٣) مرابع أبراجها ، وأسمع صوت عجيجها صم أعلاجها ، ورفع المدارع ما بين العنق إلى المرفق مثار عجاجها ، فأخلي السور من السيارة ، والحرب من النظارة ، فأمكن النقاب أن يسفر للحرب النقاب ، وأن يعيد الحجر إلى سيرته الأولى من التراب ، فتقدم إلى الصخرة فمضغ سرده بأنياب معوله ، وحل عقده بضربة الأخرق الدال على لطافة أنمله ، وأسمع الصخرة الشريفة أنينه واستغاثته (٤) إلى أن كادت ترق لمقالته وتبرأ بعض الحجارة من بعض وأخذ الخراب عليه موثقا فلن يبرح الأرض ، وفتح من السور بابا سد من نجاتهم أبوابا ، وأخذ يفت في حجره فقال عنده الكافر : يا ليتني كنت ترابا ، فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور كما يئس الكفار من أصحاب القبور ، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان (٥) سائلا أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة ، وبالأمان لا بالسطوة وألقي بيده إلى التهلكة ، وعلاه ذل الهلكة (٦) بعد عز المملكة ، وطرح جنبه على التراب ، وكان جنبا لا يتعاطاه طارح وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح إليه أمل طامح ، وقال ها هنا أسارى مسلمون يتجاوزون الألوف وقد تعاقد الفرنج على أنه أنى هجمت عليهم الدار ، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار بدىء بهم فعجلوا ، وثنى بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا ، ثم استقتلوا بعد ذلك فلا يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف ، ولا يفك سيف من يد إلا بعد أن تقطع أو ينقصف / / وأشار (٧) الأمراء بأخذ الميسور من البلد المأسور ، فإنه لو أخذ حربا فلا بد أن يقتحم الرجال الأنجاد ، وتبذل نفوسها في آخر أمر قد نيل من أوله المراد ، وكانت

__________________

(١) وصدع أ ج د ه : وصدء ب.

(٢) نظرة ب ج د ه : نظيره أ.

(٣) وأناخ أ : فأناخ ب ج د ه.

(٤) واستغاثته أ ج د ه : باستقالته ب.

(٥) يعني هناBalean ينظر : ابن خلكان ٨ / ١٨٥ ؛ رنسيمان ٦٧٣.

(٦) ذل الهلكة ب ج د ه : ذل الملك أ.

(٧) وأشار أ : فأشار ب ج د ه.

٤٩٠

الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات ، وأثقل الحركات ، فقبل منهم المبذول عن يد وهو صاغرون ، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون ، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان ، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان ، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم ، وأرضى أهل الحق وأسخطهم فإنهم خذلهم الله حموها بالأسل والصفاح وبنوها بالعمد والصفاح ، وأودعوا الكنائس بها وبيوت الداوية (١) والاسبتارية فيها كل غريبة من الرخام الذي يطرد ماؤه ، ولا ينطرد للألاؤه وقد لطف الحديد في تجريعه وتفنن في توشيعه إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد ، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد ، فما نرى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق ، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت (٢) أوراق ، وأوعز الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود ، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود ، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان ، وكادت السموات ينفطرون للنجوم لا للوجوم والكواكب منها تنتثرن للطرب لا للرجوم ، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طريقها مسدودة ، وظهرت قبور الأنبياء وكانت (٣) بالنجاسات مكدودة ، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها ، وجرت الألسن بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها ، وجهر باسم أمير المؤمنين في وطنه الأشرف من المنبر ، فرحب به ترحيب من بر لمن بر وخفق علماه في حافيته ، فلو طار سرور الطائر بجناحيه ، وكتاب الخادم وهو مجد في استفتاح بقية الثغور ، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور ، فإن قوي العساكر استنفدت مواردها ، وأيام الشتاء قد قربت مواردها ، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها ، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها ، فهي بلاد ترفد ولا تسترفد ، وتجم ولا تستنفد ، ينفق عليها ولا ينفق منها ، وتجهز لأساطيل لبحرها وتقام المرابط لساحلها ، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها ، وكل مشقة بالإضافة إلى نعمة الفتح محتملة ، وأطماع الفرنج بعد ذلك مراهبها غير مرجئة ولا معتزلة ، فإن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع ، ولن يفكوا أيديهم من أطراف (٤) البلاد حتى تقطع ، وهذه الألفاظ لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص ، ولا بما سوى المشافهة تتلخص ، فلذلك نفذ

__________________

(١) الداوية أ ج د ه : الديوية ب.

(٢) التنبيت ب ج د ه : التغبيت أ.

(٣) وكانت أ ج د ه : وكان ب.

(٤) أطراف ب ج د ه : ـ أ.

٤٩١

الخادم لسانا شارحا ، ومبشرا صادحا (١) ، يطالع بالخير على سياقته ، ويعرض بجيش المسرة من طليعته إلى ساقته ، وهو فلان فليسمع منه وليرو عنه ، والرأى أعلى إن شاء الله تعالى ، والله الموفق.

هذا آخر الرسالة الفاضلية (٢).

ورحل السلطان عن القدس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان (٣) وودعه ولده الملك العزيز وسار معه قدر مرحلة ثم وصاه وشيعه ، وصحب أخاه الملك العادل فوصل إلى عكا في أول شهر رمضان فخيم بظاهرها.

ثم سار فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان يوم الجمعة فنزل بعيدا من سورها ، ومكث حتى ورد عليه العسكر وتكامل ، ثم تقدم إليها في يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وحاصرها. وحضر إليه ولده الملك الظاهر غياث الدين غازي فشدا أزره. وزحفوا على الكفار ، وقطعت الأشجار ، ورمى عليهم بالمجانيق (٤) ، واشتد الأمر وتعسر الفتح.

ذكر ما تم على الأسطول (٥)

وكان السلطان قد تقدم من صور وأحضر إليها من عكا ما كان بها من مراكب الأسطول ، فوصلت منها عشر شواني مشحونة بالرجال والعدد ، واتصلت بها مراكب المسلمين من بيروت وجبيل ، فاستشعر المركيس الضرر ، وعمر الآخر مراكب.

وكانت مراكب المسلمين بالساحل محفوظة بالعسكر ولا يتمكن الفرنج منها وكل من الفريقين يعالج الآخر (٦) ، فاطمأن المسلمون واغتروا بالسلامة ، وبات ليلة خمس شوان (٧) ، وربطوا بقرب ميناء صور وسهروا إلى قريب الصبح ، فغلب عليهم القوم فما انتبهوا إلا وسفن الفرنج محيطة بهم ، فأخذت شواني المسلمين ، وأسروا منها جماعة ، فاغتم السلطان.

لذلك وكانت هذه أول حادثة حدثت للمسلمين / / فانزعج العسكر الإسلامي

__________________

(١) صادحا ابن خلكان : صالحا أ ج د ه.

(٢) الفاضلية ب : ـ أ ج د ه.

(٣) الخامس والعشرين من شعبان أ ج د ه : الحادي والعشرين من شهر ب.

(٤) بالمجانيق أ : بالمناجيق ب د ه : ـ ج.

(٥) ينظر : ابن شداد ٦٦ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٦) الآخر ب د ه : ـ أ ج.

(٧) خمس شوان أ د ه : خامس شوال ب : ـ ج.

٤٩٢

واشتد حزن المسلمين ، وأشار الناس بإبعاد الشواني ، فسيرت إلى بيروت ، وركبت العسكر في الساحل يباريها وهي بحذائه في البحر ، فظهر عليها شواني الفرنج ، فخرج المسلمون إلى البر على وجوههم وتواقعوا إلى الماء خوفا على أنفسهم ، وكانوا لا معرفة لهم بالقتال ، وكان في جملة الشواني قطعة رئيسها له خبرة بالأمور ، فأسرع وفات الفرنج فلم يدركوه فنجا بالمركب ومن فيه ، وبقيت المراكب الباقية خالية ممن كان فيها فدفعها المسلمون إلى البر ، هذا والقتال مشتد بين الفريقين.

ولما عبر الفرنج على تلك المراكب ظنوا عجز المسلمين وخرجوا للقتال في جمع كبير واشتد الأمر وارتفعت الأصوات ووقع المسلمون في الكفار فولوا مدبرين وعادوا إلى البلد ، وأسر منهم مقدمان ، وأسر قمص عظيم عندهم.

وكان الملك الظاهر غازي لم يحضر شيئا مما تقدم من الوقعات ، فبادر وضرب عنقه ، وكان القومص يشبه المركيس فظنوا أنه هو فلما رأى المسلمون هذا الحال وأن السلطان مصمم على ما هو فيه وله قدرة وثبات على القتال ، اجتمع بعض الأمراء وشرعوا في تدبير أمر يعرض على السلطان يتضمن أن هذا الأمر عسر والأولى تركه والرحيل عن هذا المكان ، فاطلع السلطان على ما هم فيه (١) فتلطف بهم ووعظهم وقال : كيف نخلي هذا المكان ونذهب؟ وإذا سئلنا عنه ماذا نجيب؟ ثم أخرج الأموال وفرقها على العسكر وأمرهم بالثبات فامتثلوا أمره.

فتح حصن هونين (٢)(٣)

كان السلطان قد وكل بها بعض أمرائه ، فاستمر يحاصرها حتى طلب أهلها الأمان ، فورد الخبر على السلطان بذلك وهو على محاصرة صور فندب بدر الدين يلدرم البارزي ـ وهو من أكبر عظمائه ـ فمضى إليهم ، وتسلمت هونين بما فيها ، وتسلمها بيرم أخو صاحب بانياس وأقام السلطان على صور يحاصرها ، فدخل الشتاء وضجر العسكر وكثرت الجرحى ، وتوالت الأمطار ، والسلطان يحرضهم على القتال والثبات وكثر القتل واشتد الأمر ، وما زالوا يراجعون السلطان ويشيرون عليه بالرحيل.

وكان السلطان أنفق في تلك المدة أموالا كثيرة على آلة القتال ، ولا يمكن نقلها وإن تركها تقوى بها الكفار فنقضها ، وفك بعضها ، وأحرق ما تعذر حمله ،

__________________

(١) على ما هم فيه ب ج د ه : ـ أ.

(٢) هونين أ ج د ه : هرنين ب.

(٣) هونين : بلد في جبل عاملة مطل على فلسطين ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٥ / ٤٨٢.

٤٩٣

وحمل بعضها إلى صيدا وإلى عكا (١) ، وتأخر السلطان عن قرب صور ، فشرع العسكر في الانصراف ، وأخذ (٢) في المعاودة إلى أوان الربيع ، وودع الملك المظفر تقي الدين من هناك ، وبقي السلطان يتأسف على الفتح فسار إلى عكا وخيم على بابها ، ثم اشتد البرد فدخل السلطان المدينة وسكن بها وشرع في التأهب للجهاد (٣) وإصلاح العدد ، وإكرام من يغدو إليه ، وكانت رسل الآفاق من الروم وخراسان والعراق عاكفين على بابه فما مر يوم ولا شهر إلا ويصل إليه رسول ، ورتب أحوال عكا وأمورها ، ووقف نصف دار الاسبتار رباطا (٤) للمتصوفة (٥) ونصفها مدرسة للفقهاء ، وجعل دار الأسقف بيمارستان (٦) للمرضى (٧).

ودخلت سنة ٥٨٤ ه‍ (٨) ، والسلطان مقيم بعكا : فلما دخل فصل الربيع سار ونزل على سمت حصن كوكب (٩) في العشر الأوسط من المحرم قبل تكامل العسكر ، وحصره (١٠) فرأى أن فيه صعوبة ويطول أمره ، ثم وكل بها قايماز (١١) النجمي (١٢) في خمسمائة مقاتل ، ورتب على صفد خمسمائة فارس وجهزهم إليها.

ذكر حال الكرك من أول الفتح

قد مضى ذكر إبرنس الكرك وقتله ، وكانت زوجته ابنة فيليب صاحب الكرك مقيمة بالقدس ، وممن أسر ولدها هنفري بن هنري.

فلما فتح بيت المقدس حضرت إلى السلطان ، وتخضعت له وتذللت ، وسألت

__________________

(١) وإلى عكا أ ج د ه : وبعضها إلى عكا ب.

(٢) وأخذ أ : وواعد ب : وأوعد د ه.

(٣) للجهاد أ ج : إلى الجهاد ب د ه.

(٤) الرباط : جمع ربط ورباطات وهو في الأصل مكان إقامة الحامية المرابطة عند ثغور العدو ، ثم صار اللفظ يطلق على بيت الصوفية حيث يرابطون للزهد والعبادة ، ينظر : السهروردي ٩٩ ؛ ابن منظور ، لسان ٧ / ٣٠٣ ؛ غالب ١٩٥ ؛ عاشور ٤٤٠.

(٥) للمتصوفة أ : للصوفية ب د ه : ـ ج.

(٦) البيمارستان : مستشفى لعلاج المرضى وإقامتهم ، ينظر : عاشور ٤٦٨.

(٧) للمرضى أ ه : للضعفاء ب د : ـ ج.

(٨) ٥٨٤ ه‍ / ١١٨٨ م.

(٩) حصن كوكب : اسم قلعة على الجبل المطل على مدينة طبرية ، حصينة رصينة ، تشرف على الأردن ، افتتحها صلاح الدين فيما افتتحه من البلدان ثم خرجت بعد ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٤ / ٤٩٤ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١١٨٨ ؛ الحميري ٥٠١ ؛ شراب ٦٣٤.

(١٠) وحصره أ د : وحاصره ب ه : ـ ج.

(١١) قايماز أ د ه : قائما ب : ـ ج.

(١٢) ينظر : أبو شامة ، الذيل ١٧.

٤٩٤

في فك ولدها (١) من الأسر ، وصحبتها زوجة ولدها ابنة الملك ، وحضرت الملكة مع صاحبة الكرك تسأل في زوجها الملك ، فأكرمهن السلطان وأحسن إليهن.

وأما الملكة فجمع شملها بالملك ، وتقرر مع صاحبة الكرك إطلاق ابنها على تسليم قلعتي الشوبك والكرك ، فاستحضر هنفري من دمشق ، واجتمع بوالدته وسارا مع جماعة من الأمراء لتسليم القلعتين.

فلما وصلت هي وولدها لم يطعها أهل الكرك ، ولم يسلموا وأفحشوا في الخطاب لها ، ثم وقع لها كذلك بالشوبك ، فرجعت إلى السلطان فقبل عذرها واطمأن (٢) قلبها على ولدها ، فتوجهت إلى عكا ، ثم انتقلت إلى صور.

وجهز السلطان العساكر لحصار الكرك والشوبك ، ثم وصل إلى السلطان وهو على كوكب بهاء الدين قراقوش ، فندبه لعمارة عكا لعلمه بكفاءته وأمره بالأموال والرجال ، فسار إلى عكا وشرع في عمارتها وتحصين أسوارها ، وورد على السلطان الرسل من ملك (٣) الروم وغيره ، وأقام السلطان على كوكب إلى آخر صفر فتعسر فتحها.

ثم رحل السلطان إلى دمشق ودخل إليها في يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول ، فنشر العدل وفصل الحكومات ، فوصل الخبر بوصول العسكر من الشرق ، وأصبح السلطان بكرة يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول على الرحيل ، ثم سار إلى بعلبك ورحل على سمت اللبوة ووصل إليه عماد الدين صاحب سنجار بالعساكر (٤) ، فتلقاه السلطان أحسن لقاء وأكرمه. وأجمعوا على دخول بلاد الساحل وتجردوا عن الأثقال ، وساروا فنزل السلطان على حصن يحمور (٥) وفتحه ، وغنم ما فيه ، ثم عاد إلى مخيمه وانقضى شهر ربيع الآخر وقد وصل قاضي جبلة يحث على قصدها ، وكان بها خلق من المسلمين.

ورحل السلطان (٦) يوم الجمعة رابع جمادى الأولى إلى جهة الساحل فوصل إلى أنطرسوس ، وحصرها (٧) ونهبها وسبى أهلها. فاحتمى جماعة ببرجين هناك ،

__________________

(١) ولدها أ : ابنها ب د ه : ـ ج.

(٢) واطمأن أ : وطمن ب د ه : ـ ج.

(٣) ملك أ : ملوك ب د ه : ـ ج / / وغيره أ : وغيرها ب د ه : ـ ج.

(٤) بالعساكر أ : بالعسكر ب د ه : ـ ج.

(٥) يحمور أ د ه : غور ب : ـ ج.

(٦) ورحل السلطان ... إلى جهة أ ب د : ـ ج ه.

(٧) وحصرها أ د : وحاصرها ب ه : ـ ج.

٤٩٥

فهدم أحدهما وامتنع الآخر ، ونقض أسوار أنطرسوس (١) ، وترك البرج الممتنع ، ورحل العسكر عنها ونزل على مرقية وقد أخلاها أهلها ، وكان الفرنج (٢) قد صنعوا المراكب في البحر ، وسار السلطان بالعسكر. ووقع بين المسلمين والفرنج وقعات وأمور يطول شرحها (٣) ، وقصد جبلة.

فتح جبلة (٤)

أشرف السلطان على جبلة بكرة يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى ، وأحاط (٥) بها العساكر فطلبوا الأمان على أن يعيدوا ما استرهنوه من أنطاكية (٦) من أهلها ويسلموا كل مالهم من سلاح وعدة وخيل (٧).

وكان قاضي جبلة هو المتوسط لهم في أخذ الأمان ، وسلمت إلى المسلمين يوم الخميس ، وأقام السلطان بها أياما يقرر أموره ، وكان يعظم قاضي جبلة وأحسن إليه (٨) ووقف عليه ملكا نفيسا وأقره على ولايته بمنصب القضاء ، وكان حصن (٩) بكرائل قد سلم من قبل.

فتح اللاذقية (١٠)

ورحل السلطان ثالث عشر من جمادى الأولى يوم الأربعاء ، وبات تلك الليلة بالقرب من اللاذقية بجبل عاصم.

__________________

(١) انطرسوس : بلد من سواحل الشام من عمل حمص ، حصينة عليها سوران ، وهي مدينة كبيرة كثيرة المتاجر والعمارة والخصب ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٤ / ٢٨ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ١٢٤ ؛ الحميري ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

(٢) وكان الفرنج ... وقعات أ ب د : ـ ج ه.

(٣) ينظر عن هذه الوقعات : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٨ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٨٩ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٣.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٠ ؛ ابن شداد ٦٨ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٢٧ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٩٠ ؛ المقريزي ١ / ٢١٣.

(٥) وأحاط ب : وأحتاط أ د ه : ـ ج.

(٦) أنطاكية : مدينة هي قصبة العواصم من الثغور الشامية ، موصوفة بالتراهة وطيب الهواء وعذوبة الماء وبها كانت مملكة الروم ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٥٥ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ١٢٥ ؛ الحميري ٣٨.

(٧) من سلاح وعده وخيل أ د ه : من السلاح والعدة والخيل ب : ـ ج.

(٨) وأحسن إليه أ : ويحسن إليه ب : ـ ج د ه.

(٩) وكان حصن ... من قبل أ ب د : ـ ج ه.

(١٠) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩١ ؛ ابن شداد ٧٠ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٩٠ ـ ١٩١ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٣.

٤٩٦

فلما أصبح (١) يوم الخميس كان حصارها واشتد القتال ونقب أسوارها ، فطلبوا الأمان في يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الأولى ، وصعد إليهم قاضي جبلة يوم السبت وفتحت صلحا ، وسلموا القلاع بما فيها ورحل منهم جماعة ، ودخل جماعة في عقد الذمة.

ورتب السلطان فيها جماعة من مماليكه ، وركب السلطان وطاف بالبلد وقرر أمورها ورحل عنها.

فتح حصن صهيون (٢) وغيره (٣)

رحل السلطان من اللاذقية ظهر يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الأولى ، وأخذ على سمت صهيون وخيم عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين ، وأحاط العسكر بها يوم الأربعاء ، وحصرها (٤) فملكوا ثلاثة أسوار بما فيها ، فطلبوا الأمان وسلموا البلد ، ثم سلم حصن صهيون بجميع أعماله وما فيه من الذخائر ، وتسلم يوم السبت قلعة العبد ، ويوم الأحد قلعة الجماهريين ، ويوم الاثنين حصن البلاطنس.

وسار السلطان ثاني يوم فتح صهيون ونزل على العاصي ، وتسلم حصن بكاس (٥) يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة ، ثم حصر (٦) قلعة الشعر وطال القتال حتى أيس منه فخرج من الحصن من يطلب الأمان في ثالث عشر يوم الثلاثاء ، وتسلم قلعة الشعر.

ثم سار ولد السلطان الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية ، فحصرها (٧) وخربها وفتحها يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.

__________________

(١) فلما أصبح ... ونقب أسوارها أ ب د : ـ ج ه.

(٢) صهيون : حصن من أعمال سواحل بحر الشام من أعمال حمص وله ثلاثة أسوار ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٣ / ٦٣٦ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢٥٧ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٨٥٩.

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٢ ؛ ابن شداد ٧١ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٢٩ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٩١ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٣.

(٤) وحصرها أ د : وحاصرها ب ه : ـ ج.

(٥) بكاس : قلعة حصينة لها مسجد جامع ومنبر تقع بين أفامية وأنطاكية ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٦١ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٩١.

(٦) ثم حصر أ د : ثم حاصر ب ه : ـ ج.

(٧) فحصرها أ ه : فحاصرها ب د : ـ ج.

٤٩٧

فتح حصن برزية (١)

وسار السلطان إلى قلعة برزية وهي من أحصن القلاع ، فنازلها في يوم السبت رابع عشر من الشهر ، ثم تجرد يوم الأحد فرقي (٢) إلى الجبل فرآها قلعة على سن من الجبل عالية ، فأحدق بها وبالجبل ، وزحف عليها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر ، ورتب عليها الأمراء نوبا فقاتلوا واشتد القتال ، وتقدم السلطان بنفسه في النوبة الثانية ، فلما أيقنوا بأنهم ملكوا طلبوا الأمان وسلموا الحصن ، فلما حصل الفتح عاد السلطان إلى خيامه.

وكانت صاحبة حصن برزية أخت زوجة الإبرنس صاحبة أنطاكية قد سبيت فأمر بإحضارها ، وأعتقها وكذلك زوجها ، وأحضر أيضا ابنة لهما وزوجها وعدة من أصحابهم وأدخلهم معهم في الإطلاق ، وقلدا الحصن ، لأمير من جماعته ، وكان فتح هذا الحصن من آيات الله تعالى لحصانته وعدم القدرة عليه ، فيسر الله بفتحه (٣) في أسرع وقت.

فتح (٤) حصن دربساك (٥)

رحل السلطان وأقام أياما على جسر الحديد (٦) ثم قصد دربساك (٧) وهو حصن مرتفع ، وكان عش الداوية فنزل عليه يوم الجمعة ثامن رجب وحصره ورمى برجا من السور بالنقب ، فلما كان يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب طلبوا الأمان وتسلم الحصن بما فيه يوم الجمعة ثاني عشر من الشهر.

فتح حصن بغراس (٨)

توجه بكرة السبت إلى بغراس (٩) ، وهي قريبة من أنطاكية وهي على رأس جبل

__________________

(١) برزية : قلعة صغيرة مستطيلة لها منعة مطلة على أفامية ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٣ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢٦١.

(٢) فرقي أ د ه : ورقى ب : ـ ج.

(٣) بفتحه في أسرع أ د هت : فتحه في أيسر ب : ـ ج.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٤ ؛ ابن شداد ٧٣ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٣٢.

(٥) دربساك : حصن بين أنطاكية وحلب ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٦١ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٥٥٤.

(٦) جسر الحديد : موقع على نهر العاصي بالقرب من أنطاكية ، ينظر : ابن أيوب ٢٧٥.

(٧) دربساك ابن شداد ، ابن خلكان : ديرساك البغدادي ؛ دربساك أ ب د ه : ـ ج.

(٨) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٤ ؛ ابن شداد ٧٤ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٣٣ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٣.

(٩) بغراس ب : بفراس أ د ه ابن شداد : ـ ج.

٤٩٨

عالية حصينة ، وهي للداوية فخيم بقربها في المرج ، وتقدم جمع كثير من العسكر بينهما وبين أنطاكية ، وصار يركب كل يوم ويقف تجاه أنطاكية.

وصعد السلطان متجردا في جماعة من عسكره إلى الجبل بإزاء الحصن ونصب عليه المجانيق (١) من جميع جهاته ورمي عليه وحصره ، فطلبوا الأمان ، وتسلم القلعة في ثاني شعبان وحرز ما في بغراس من القلعة فكان تقديرا اثني عشر ألف غرارة.

عقد الهدنة مع أنطاكية

ولما فرغ السلطان من فتح هذه الحصون قصد أنطاكية ، وكانت قد تلاشت أحوالها وقل ما فيها من القوت ، وكان الإبرنس صاحبها قد أرسل أخا زوجته يسأل في عقد الهدنة ، وطلب الأمان على ماله وولده لثمانية أشهر من تشرين إلى آخر أيار.

وأجابه السلطان لذلك (٢) وشرط عليه إطلاق من عنده من الأسارى وسار رسول السلطان ومعه شمس الدولة ابن منقذ لأجل الأسارى.

ورحل السلطان ثالث شعبان إلى سمت حلب ، ولما رحل السلطان من بغراس (٣) ، ودع عماد الدين زنكي وعساكر البلاد ، وخلع عليه منحه بالتحف النفيسة ، وأنعم على العسكر بأشياء خلاف ما غنموه.

وسار في عسكره ووصل إلى حلب ثم سار منها ووصل إلى حماة ، وبات بها ليلة واحدة ، ثم سار على طريق بعلبك فجاءها قبل رمضان بأيام. وكان العسكر قصدهم الصوم في أوطانهم بدمشق.

فلما وصل السلطان إلى دمشق اشتد عزمه وتحرك للجهاد من أجل صفد وكوكب وغيرهما وخرج من دمشق أوائل شهر رمضان.

فتح الكرك وحصونه (٤)

وردت البشرى (٥) بتسلم حصن الكرك ، فإن السلطان لما كان في بلاد أنطاكية لم يزل الحصار على الكرك ، وكان أخوه الملك العادل بمن معه على

__________________

(١) المجانيق أ د : المناجيق ب ه : ـ ج / / وحصره أ د ه : وحاصره ب : ـ ج.

(٢) لذلك أ د : إلى ذلك ب ه : ـ ج.

(٣) بغراس ب : بفراس أ د ه ابن شداد : ـ ج.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٦ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٣٤ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٣٠ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٤ ؛ ابن العماد ٤ / ٢٧٩.

(٥) البشرى أ د ه : البشائر ب : ـ ج.

٤٩٩

تبنين (١) لحفظ البلاد ، وكان صهره سعد الدين كمشبه بالكرك موكلا بحصاره ، فراسل الفرنج الملك العادل في الأمان فتمنع ثم صالحهم وسلموا الحصن.

محاصرة صفد وفتحها (٢)

ثم سار السلطان حتى نزل على صفد وجاء الملك العادل وشرعوا في حصار القلعة ورميها بالمجانيق (٣) ، واستمر الحال على ذلك إلى ثامن شوال وصعب فتحها حتى أذن الله تعالى وسهل ، فأذعنوا وأخرجوا من عندهم من أسارى (٤) المسلمين ليشفعوا لهم من طلب الأمان ، وسلمت للمسلمين وخرج فيها من الكفار إلى صور.

ولما أشرفت صفد على الفتح شرع الفرنج في تقوية قلعة كوكب ، وأجمعوا على تسيير مائتي رجل من الأبطال المعدودين ليكمنوا للمسلمين في الطريق ، فعثر بواحد منهم بعض جند المسلمين ، فأمسكه وأتى به إلى صارم الدين قايماز (٥). فأخبر بالحال وأن الكمين بالوادي ، فركب إليهم في أصحابه والتقطهم عن آخرهم وأحضرهم إلى السلطان وهو على صفد ، وكان فيهم مقدمان على (٦) الإسبتارية فأحضرا عند السلطان ، فأنطقهما الله وقالا : ما نظن أننا بعدما شاهدناك يلحقنا سوء. فمال إلى كلامهما وأمر بإعتاقهما ، فإن تلك الكلمة أوجبت عدم قتلهما ، فإنه كان لا يبقي على أحد من الإسبتارية (٧) والداوية ، وفتح الله صفد في ثامن شوال.

حصار كوكب وفتحها (٨)

وسار السلطان إلى كوكب وهي في غاية الحصانة فحاصرها وقاتل من فيها أشد قتال ، وحصل الضيق الزائد لوقوع البرد الشديد وقوة الشتاء ، وما زال السلطان ملازما للحصن بالرمي حتى تهدم غالب بنيانه (٩) ونصر الله المسلمين وملكوا كوكب

__________________

(١) تبنين : بلدة بين دمشق وصور ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٢٥٣.

(٢) ينظر : الأصفهاني ، الفتح ٢٦٨ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٦ ؛ ابن شداد ٧٥ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٣٥ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٣٠.

(٣) المجانيق ب د : المناجيق أ ه : ـ ج.

(٤) أسارى أ ه : أسرى ب : الأسرى د : ـ ج.

(٥) صارم الدين قايماز بن عبد الله النجمي ، كان من أكابر الدولة الصلاحية وكان عند صلاح الدين بمنزلة الأستاذ ، توفي سنة ٥٩٦ ه‍ / ١١٩٩ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ١٧.

(٦) على أ ج د ه : من ب / / الاسبتارية ب ه : الإسبتارية أ : ـ ج د.

(٧) الإسبتارية أ : الإستبارية ب ه : ـ ج د.

(٨) ينظر : الأصفهاني ، الفتح ٢٧٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٩٦ ؛ ابن شداد ٧٦ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٣٢ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٤.

(٩) بنيانه أ د ه : بنائه : ـ ج.

٥٠٠