الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

مجير الدين الحنبلي العليمي

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

المؤلف:

مجير الدين الحنبلي العليمي


المحقق: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة دنديس
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

وذلك في أيام الإمام الأعظم ، والخليفة المكرم (١) ، أمير المؤمنين ابن عم سيد المرسلين ، ووارث الخلفاء الراشدين ، الإمام الناصر لدين (٢) الله ، هو أبو العباس أحمد بن الإمام المستضيء بالله بن محمد بن الحسن بن الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن الإمام المقتفي لأمر الله أبي عبد الله (أبي العباس) محمد بن الإمام المستظهر بالله أحمد بن الإمام المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن محمد الذخيرة بن الإمام القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن الإمام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن الإمام المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الإمام الرشيد أبي جعفر هارون بن الإمام المهدي أبي عبد الله محمد بن الإمام المنصور أبي جعفر عبد الله ، باني مدينة السلام بغداد ، ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، رضي‌الله‌عنه وعن أسلافه الطاهرين.

وقد حكي : أن السلطان لما كثرت فتوحاته بالسواحل (٣) ، وأوجع فيهم بسهامه وسطوته ، وكان لا يتجاسر على فتح بيت المقدس لكثرة ما فيه من الأبطال والعدة ، لكونه كرسي دين النصرانية ، وكان في بيت المقدس شاب (٤) مأسور من أهل دمشق ، كتب هذه الأبيات ، وأرسل بها إلى الملك صلاح الدين على لسان القدس فقال :

يا أيها الملك الذي

لمعالم الصلبان نكس

جاءت إليك ظلامة

تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طهرت

وأنا على شرفي منجس (٥)

فكانت هذه الأبيات هي الداعية له إلى فتح بيت المقدس ويقال : إن السلطان وجد في ذلك الشاب أهلية فولاه خطابة المسجد الأقصى. وكان السلطان الملك الناصر ، رحمه الله ، لما عزم على الفتح كتب يستدعي للجهاد من جميع البلاد وبرز (٦) من دمشق يوم السبت مستهل شهر الله المحرم

__________________

(١) المكرم أ ج ه : الأكرم ب : ـ د.

(٢) أحمد أبو العباس بن المستضيء ولد سنة ٥٥٣ ه‍ / ١١٥٨ م ، بويع بالخلافة يوم وفاة أبيه ومات سنة ٦٢٢ ه‍ / ١٢٢٥ م ، ينظر : ابن الجزري ١٢١ ـ ١٢٢ ؛ ابن كثير ، البداية ١٣ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ؛ أبو الفداء ، المختصر ٣ / ٦٢ ؛ ابن العبري ٢١٧ ـ ٢٤٢ ؛ الصفدي ١ / ٦٢ ـ ٦٨ ؛ السيوطي ٥١٣ ـ ٥٢٤.

(٣) بالسواحل أ : في السواحل ب ج ه : ـ د.

(٤) شاب ب : ـ ب ج د ه.

(٥) على شرفي منجس ب ج ه : ـ أ د.

(٦) ينظر : المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٧.

٤٦١

الحرام (١) سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة (٢) قبل اجتماع العساكر عليه ، وحضور من استنفره للجهاد عليه ، وسافر بمن معه من عسكره ، وخيم على قصر سلامة من بصرى على سمت الكرك خوفا على الحاج من صاحب الكرك البرنس (٣) أرناط (٤) ، فإنه كان شديد العداوة للمسلمين ، مقداما على الشر وإثارة الحروب ، وكان قد عزم على أسر الحجاج (٥) ، فلما أحس بنزول السلطان قريبا منه عاد وأقام بحصنه خشية على نفسه. فوصل الحجاج في أول صفر إلى وطنهم بدمشق. واطمأنت فكرة السلطان عليهم.

وانتظر السلطان وصول العسكر المصري ، فأبطأ عليه (٦) ، / / فأمر ولده الملك الأفضل نور الدين عليا أن يقيم برأس الماء ويجمع العساكر الواصلة إليه ، وتوجه السلطان ومن معه إلى الكرك وضياعه ، فأحرق ونهب فيها وأسر (٧) ، وسار إلى الشوبك ففعل كذلك ، ووصل إليه عسكر مصر واستمر على هذا الحال شهرين والملك الأفضل مقيم برأس الماء (٨) في جمع عظيم ينتظر ما يأمره به والده.

ثم قوي عزمه على طبرية فسار بمن معه (٩) ، ووصل إلى صفورية (١٠) ، فخرج إليهم الفرنج في جمع كبير والتقى الفريقان ، فنصر الله المسلمين وظفرهم بالمشركين ، فقتلوا منهم وأسروا ، وعد ذلك من حسن تدبير الملك الأفضل ، فوردت البشائر على السلطان بالكرك (١١).

ثم سار السلطان واجتمع به ولده ، وقد كثر عسكر الإسلام ، واجتمع واشتد عزمهم على الجهاد وقوي. وسمع الفرنج بما هم فيه من الكثرة ، وتحققوا أنهم

__________________

(١) الحرام ب : ـ ب ج د ه.

(٢) ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م.

(٣) البرنس أ ب : الإبرنس ج ه : ـ د / / أرناط أ ج ه : أرباط ب : ـ د.

(٤) البرنس أرناط هوPrince Renaulde Chatillon : صاحب الكرك والشوبك عرف بالمصادر الإسلامية بالبرنس أرناط ، قتله صلاح الدين بعد معركة حطين ، ينظر : الصوري ٢ / ٨١٤ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٦ ؛ الصفدي ٦ / ١٨٢ ؛ William of Tyre ٢ / ٤٤٢.

(٥) الحجاج أ ج ه : الحاج ب : ـ د.

(٦) ينظر : ابن شداد ٥٨.

(٧) فأحرق ونهب فيها أ : فأحرق فيها ونهب ب ج : فأحرق ونهب ه : ـ د.

(٨) موضع بالقرب من حوران ، ينظر : المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٧.

(٩) ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٢٠.

(١٠) صفورية : كورة وبلدة من نواحي الأردن بالشام قرب طبرية ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٢ / ٨٤٥ ؛ الحميري ٣٦٣ ؛ شراب ٤٨٧.

(١١) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٧٥ ـ ٧٦.

٤٦٢

مأخوذون ، وكان بينهم خلف وتنافر ، فشرعوا حينئذ في الصلح ، وتوافقوا على اجتماع الكلمة (١).

ثم إن السلطان سار بالعسكر إلى ديار الفرنج بعد أن رتب العسكر واستعرضه ، ورحل على هيئة عظيمة يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخر (٢) ، وخيم على جنين (٣) ، ثم أصبح سائرا ، ونزل على الأردن وهو نهر الشريعة ، والفرنج قد تأهبوا للحرب بصفورية ، ورتبوا جيوشهم ، ورفعوا صلبانهم ، وكانوا نحو خمسين ألفا وأكثر ، والسلطان في كل صباح يسير إليهم ويراميهم.

فتح طبرية (٤)

ثم قوي عزمه على طبرية فسار إليها ونزل عليها ، وأحضر الحجارين والنقابين وأمرهم بالهدم والنقب ، وكان ذلك يوم الخميس. فنقبوا في برج فهدموه ، وتسلقوا فيه ، وتسلموه ، ودخل الليل.

فلما بلغ الفرنج ذلك اعتدوا وشدوا عزمهم وعلموا أن طبرية متى أخذت تؤخذ منهم جميع البلاد ، فاجتمع الفرنج مع ملوكهم وساروا بفارسهم وراجلهم نحو السلطان ، فبلغ السلطان ذلك ، يوم الجمعة فما كذب الخبر واستخار الله تعالى وسار بعسكره ، وجاء يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر والفرنج سائرون إلى طبرية ، فرتب السلطان الأطلاب (٥) في مقابلتهم فحال الليل بين الفريقين.

وقعة حطين (٦) ـ وهي الوقعة العظمى (٧)

فلما أسفر الصباح (٨) ، ثار الحرب بين الفريقين ، وصاح المسلمون صيحة

__________________

(١) ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٢٠.

(٢) ينظر : ابن خلكان ٧ / ١٧٤.

(٣) جنين أ ج ه : جيبين ب : ـ د.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١٧٦ ـ ١٧٧ ؛ ابن شداد ٥٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٧٦ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٤ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٧.

(٥) الأطلاب : فرق الجيش وكتائبه وظهر هذا اللفظ أيام صلاح الدين الأيوبي ويذكر أن «الطلب» في لغة الغز هو أمير له لواء وبوق ومائتا فارس إلى مائة إلى سبعين. ينظر : ابن واصل ٢ / ١٥٧ ؛ جب ١٠٠.

(٦) حطين : قرية بين طبرية وعكا بالشام ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٢ / ٣١٥ ـ ٣١٦ ؛ القرماني ٣ / ٣٥٧.

(٧) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١٧٧ ـ ١٧٨ ؛ ابن شداد ٥٩ ـ ٦٣ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ ، ٧٦ ـ ٨٠ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٤ ـ ١٧٧ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٧.

(٨) الصباح أ : الصبح ب ج ه : ـ د.

٤٦٣

رجل واحد ، فألقى الله الرجفة (١) في قلوب الكافرين ، ووقع البطش في الفرنج ، وأمكن (٢) الله المسلمين منهم ، فأووا إلى جبل حطين ، وهي قرية عندها قبر النبي شعيب ، عليه الصلاة والسلام ، وانهزم القمص (٣)(٤) حين أحس بالكسرة ، وذلك قبل اضطراب الجمع ، فدهمهم المسلمون ، ومالوا عليهم من كل جانب ، فتثبتوا فأحاط بهم عسكر الإسلام أوقدوا حولهم النيران ، فإنه كان تحت أقدام خيولهم حشيش ، فأمر السلطان بإلقاء النار فيه فاجتمع عليهم حر النار وحر الشمس (٥) واشتد بهم العطش ، وضاق بهم الأمر ، ووقع السيف فيهم ، واشتد القتال ، فنصر الله المسلمين ، وأطلقوا عليهم السهام. وحكموا فيهم السيوف وأبادوا الفرنج قتلا وأسرا. وأسروا ملكهم ومن معه ، وسميت هذه الوقعة : وقعة حطين ، وهي من الوقعات المشهورة ، وقتل من الفرنج ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم ورؤي (٦) بعض الفلاحين وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا قد ربطهم في طنب خيمته ، وباع منهم واحد بنعل لبسه في رجله ، فقيل له في ذلك ، فقال : أحببت أن يقال باع أسيرا بمداس.

وجلس السلطان لعرض أكابر الأسارى ، فأول من قدم إليه مقدم الداوية وعدة كثيرة منهم ومن الإسبتارية (٧) ، وأحضر الملك كي (٨) ، وأخيه جفري (٩) وأود (١٠) صاحب جبيل وهنفري (١١) والبرنس أرناط صاحب الكرك. وهو أول من أسر ، وكان السلطان قد نذر دمه ، وأقسم أنه إذا ظفر به يعجل بإتلافه ، وذلك لأنه كان قد عبر به

__________________

(١) الرجفة أ : الرعب ب ج ه : ـ د.

(٢) وأمكن أ ج ه : ومكن ب : ـ د.

(٣) القمص  Comes : هو ريموند صاحب طرابلس : ورث كونتية طرابلس عن أبيه بعد مقتله ، ينظر : الصوري ٢ / ٩٧٦ ؛ رنسيمان ١ / ٢٤٣ ؛ William of Tyre ٢ / ٢٠٤.

(٤) القمص أ ج ه : القمس ب : ـ د.

(٥) حر النار وحر الشمس أ : حر الشمس وحر النار ب ج ه : ـ د.

(٦) ورؤي أ ج ه : رؤي ب : ـ د.

(٧) الإسبتار أو الإسبتارية ، هو تعريب لكلمةLEs Hospitoliers الفرنسية ، وقد أنشأ الفرنجة مشافي في القدس يشرف عليها الرهبان ، ونجم عنها تأسيس ثلاث منظمات رهبانية عسكرية هدفها إيواء ومداواة المرضى والجرحى من الجنود والحجاج المسيحيين ، وهذه المنظمات هي : منظمة فرسان سان القديس يوحنا ومنظمة فرسان الهيكل ، ومنظمة الفرسان الألمان ، ينظر : هامش المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٧ ؛ هامش ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٢٩ ؛ الموسوعة الفلسطينية ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ؛ المغربي ١٧٩.

(٨) يعرف باسم كي أو جي ، وهو الابن الأصغر لهيو الثامن سيد بيت لوزيمان ينظر : الصوري ٢ / ١٠٥٩ ؛ ابن شداد ٧٧ ؛ William of Tyre ٢ / ٦٤٢.

(٩) ينظر : رنسيمان ٨٠٧.

(١٠) المصدر نفسه.

(١١) المصدر نفسه.

٤٦٤

بالشوبك قوم من الديار المصرية في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم ، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين (١) ، فقال : ما يتضمن الاستخفاف بالنبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقصد المسير إلى المدينة الشريفة ومكة المشرفة ـ كما تقدم ذكره ـ وبلغ ذلك السلطان فحملته حمية دينه (٢) / / على أن نذر دمه.

ولما فتح الله عليه بنصره وجلس في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد ، وعرضت عليه الأسارى ، فلما حضر بين يديه أجلسه إلى جنب الملك والملك بجنب السلطان ، وقرعه على غدره وقصده الحرمين الشريفين ، وذكره بذنبه من حلفه وحنثه ونقضه العهود والمواثيق. فقال الترجمان : أنه يقول : قد جرت بذلك عادة الملوك وكان الملك كي يلهث من الظمأ ، فآنسه السلطان ، وسكن رعبه ، وأتى بماء مثلوج فشرب منه ، ثم ناوله الإبرنس (٣) فأخذه من يده وشرب ، فقال السلطان للملك : إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أمانا له.

ثم نصبت له الخيام ، فلما جلس في خيمته أحضر الإبرنس (٤). فلما أقبل عليه أوقفه بين يديه فقال (٥) : ها أنا أنتصر لمحمد منك ، ثم عرض عليه الإسلام ، فلم يفعل (٦) فبادره وضربه بالسيف فصرعه ، ثم أمر برأسه فقطع وجر برجله قدام الملك. فارتاع وانزعج ، فعرف السلطان منه ذلك فاستدعاه وأمنه وطمنه. وقال : لما غدر غدرنا به لأنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء ، صلوات الله عليهم وسلامه (٧) ، وكانت هذه النصرة للمسلمين في يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر ، وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور (٨) ، وترفع أصواتهم بحمد الله تعالى وشكره وتهليله وتكبيره حتى طلع الفجر.

وأما الصليب الأعظم عندهم فإن المسلمين استولوا عليه يوم المصاف ، ولم يؤسر الملك حتى أخذ صليب الصلبوت ، وهو الذي إذا رفع ونصب يسجد (٩) له كل نصراني وركع ، وهم يزعمون أنه من الخشبة التي صلب عليه معبودهم ، وقد غلفوه

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٥ / ١٧٨ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٦ ؛ المقريزي ، السلوك ٢٠٧.

(٢) حمية دينه أ ه : الحمية الدينية ب : حميته ودينه ج : ـ د.

(٣) الإبرنس أ ج ه : البرنس ب : ـ د / / وشرب أ : فشربه الملعون ب ج ه : ـ د.

(٤) الإبرنس أ ج ه : البرنس ب : ـ د.

(٥) فقال أ ه : وقال له ب : قال له ج : ـ د.

(٦) فلم يفعل أ ج ه : فلم يقبل ب : ـ د.

(٧) ينظر : ابن شداد ٦٢ ؛ ابن أيوب ٢٧٢.

(٨) سرور أ ج ه : ـ ب د.

(٩) يسجد أ ج : سجد ب ه : ـ د.

٤٦٥

بالذهب ، وكللوه بالجوهر (١) ، وكان أخذه عندهم أعظم من أسر الملك ، وعظمت مصيبتهم بأخذه.

ثم نزل السلطان على صحراء طبرية (٢). وندب إلى حصنها من تسلمه بالأمان وكانت الست صاحبة طبرية قد حمته ونقلت إليه جميع (٣) ما تملكه ، فأمنها على أصحابها وأموالها ، وخرجت بمن معها إلى طرابلس بلد زوجها القمص. وصارت طبرية للمسلمين ، وعين لولايتها صارم (٤) الدين قايماز النجمي. وكان من الأكابر والسلطان نازل ظاهر طبرية.

فلما أصبح يوم الاثنين سابع عشر من ربيع الآخر طلب السلطان الأسارى من الداوية والإسبتارية. فأحضر العسكر (٥) في الحال مائتين وأمر بضرب أعناقهم ، وكان عنده جماعة من أهل العلم والتصوف ، فسأل كل واحد ، في قتل واحد ، فقتلوا بحضرة السلطان. ثم سير ملك الفرنج وأخاه وهنفري وصاحب جبيل ومقدم الداوية (٦) وجميع أكابرهم المأسورين إلى دمشق وسجنهم (٧).

فتح عكا (٨)

ورحل السلطان ظهر يوم الثلاثاء بمن معه من العساكر الإسلامية ، ونزل عشية بأرض لوبية (٩) ، فلما أصبح سار ، وكان في صحبته الأمير عز الدين أبو فليسة القاسم المهدي (١٠) الحسيني (١١) ، أمير المدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وكان حضر تلك السنة صحبة الحاج (١٢) وهو ذو شيبة نيرة ، وحضر مع السلطان هذا الفتح جميعه.

__________________

(١) بالجوهر أ ب ج : بالجواهر ه : ـ د.

(٢) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٩ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٧.

(٣) جميع أ ج ه : كل ب : ـ د.

(٤) صارم الدين قايماز النجمي أ ه : صارم الدين قيمازا صنجي ب : صارم الدين قليمان النجمي : ـ د.

(٥) العسكر أ ه : منهم ب ج : ـ د.

(٦) الداوية أ ج : الرواية ب ه : ـ د.

(٧) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨١ ـ ٨٢.

(٨) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٩ ؛ ابن شداد ٦٢ ؛ أبو شامة ٢ / ٨٥ ـ ٨٦ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٢٢ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٩) لوبية أ ج ه : لوبيا ب : ـ د.

(١٠) المهدي أ ه : ابن المهني ب ج : ـ د.

(١١) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٦.

(١٢) الحاج أ ج ه : الحجاج ب : ـ د.

٤٦٦

فأقبل السلطان على عكا وخيم قريبا منها ، وأصبح يوم الخميس ركب لحربها فخرج أهل البلد يطلبون الأمان ، فأمنهم وخيرهم بين المقام والانتقال ، وأمهلهم أياما حتى ينتقل من يختار النقلة فأسرع الفرنج للخروج (١) منها ، ودخل الجند واستولوا على الدور ، ونزلوا بها وغنموا منها شيئا كثيرا.

وكان السلطان جعل للفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري (٢) كل ما يتعلق بالداوية (٣) من منازل وضياع ، فأخذها بما فيها ، ووهب عكا لولده الملك الأفضل ، ودخلها المسلمون يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى وصلى بها الجمعة (٤) ، وجعلت الكنيسة العظمى مسجدا جامعا ، ورتب فيه القبلة والمنبر ، وخطب جمال الدين عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب (٥) السهروردي (٦) ، وتولى بها القضاء والخطابة.

وأقام السلطان في مخيمه (٧) بباب عكا على التل ، وكتب لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر وهو بمصر يعلمه بالفتح ، فوصلت البشائر للسلطان بوصوله ، وأنه فتح في طريقه حصن مجدل يابا (٨) / / ومدينة يافا عنوة ، وغنم ما فيها (٩) ، فتوجه إليه القصاد من أخيه السلطان الملك الناصر (١٠) ، وأنعم عليهم مما غنمه وسباه بشيء كثير واستمر السلطان مقيما بمخيمه ، وفرق الأمراء لفتح البلاد المجاورة ، وأمدهم بالعساكر (١١).

فتح الناصرة وصفورية (١٢)

فسار مظفر الدين كوكبوري (١٣) صاحب اربد ، الملقب بالملك المعظم ، إلى

__________________

(١) للخروج أ ج : في الخروج ب ه : ـ د.

(٢) ينظر : المقدسي ، الذيل ١٦١ ؛ ابن خلكان ٣ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٩.

(٣) بالداوية أ ج : بالراوية ب ه : ـ د.

(٤) وصلى بها الجمعة أ : وصليت الجمعة بها ب ج ه : ـ د.

(٥) النجيب أ ج ه : نجيب ب : ـ د.

(٦) ينظر : المقدسي ، الروضتين ٢ / ٨٧.

(٧) في مخيمه أ ج هت : في خيمه ب : ـ د.

(٨) مجدل يابا : قرية قرب الرملة بها حصن محكم ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ؛ أبو الفداء ، تقويم ١٥٨ ؛ البغدادي ، المراصد ٣ / ١٢٣٠.

(٩) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٧ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٩.

(١٠) الناصر أ ج ه : ـ ب د.

(١١) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٧٩ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٢٢.

(١٢) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٧ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٩.

(١٣) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٧.

٤٦٧

الناصرة ومعه حسام الدين بن طومان ، وفتحها وأخذ ما فيها ، وسبى نساءها ، وأسر رجالها.

وأما صفورية فهرب أهلها ، فلم يجدوا بها أحدا ، وكان بها من الأموال والذخائر ما لا يحصى.

فتح قيسارية (١)

وتوجه بدر الدين يلدرم (٢) وغرس الدين فلج وجماعة من الأمراء إلى قيسارية فافتتحوها (٣) بالسيف واستولوا على ما فيها ، ثم تسلموا أرسوف (٤).

فتح نابلس (٥)

وسار حسام الدين بن محمد بن عمر بن لاجين (٦) على سمت نابلس ، ووصل إلى سبسيطية فتسلمها ووجد مشهد زكريا ، عليه‌السلام ، وقد اتخذه القسوس كنيسة فأعاده مشهدا كما كان ، ثم قصد نابلس ونازلها وحاصرها ، وطال حصارها (٧) ، ولم يزل مقيما عليها حتى استأمنوه ، ووثقوا بأمانه ، ثم سلموها وخلصت له نابلس وأعمالها ، وكان معظم أهلها وجميع سكان نواحيها مسلمين ، وكانوا في شدة عظيمة من الفرنج.

فتح الفولة (٨) وغيرها (٩)

وكانت الفولة من أحسن الحصون ، وفيها من العدو والأموال شيء كثير ، وكانت مجمعهم ، فلما كان يوم المصاف خرجوا بأجمعهم ، وحصل لهم ما حصل من القتل والأسر (١٠) ، ولم يبق بها إلا الأراذل ، فسلموا الحصن بما فيه إلى

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٩.

(٢) هو الأمير بدر الدين يلدرم الياروقي صاحب تل باشر توفي سنة ٦١١ ه‍ / ١٢١٤ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ٨٧.

(٣) فافتتحوها أ ج ه : ففتحوها ب : ـ د.

(٤) أرسوف : مدينة على ساحل الشام بين قيسارية ويافا ، بناها الكنعانيون ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٣٩ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٥٦ ؛ شراب ١١١ ؛ العقاد ١٨.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٠ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٧.

(٦) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨.

(٧) وطال حصارها أ : ـ ب ج د ه.

(٨) الفولة : بلدة بفلسطين من أجناد الشام وهي قرية في قضاء الناصرة ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٢ / ١٠٤٧ ؛ شراب ٥٨٩.

(٩) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨ ؛ ابن أيوب ٢٧٢.

(١٠) القتل والأسر أ ج ه : القتل والحصر والأسر ب : ـ د / / بها أ ج : فيها ب ه : ـ د.

٤٦٨

السلطان. وتسلموا جميع ما في تلك (١) الناحية مثل : دبورية (٢) وجنين (٣) وزرعين (٤) والطوالية (٥) واللجون وبيسان والقيمون (٦) ، وجميع ما لطبرية وعكا من الولايات والزيب (٧) ومعليا (٨) والبعنة (٩) وإسكندرية.

فتح تبنين (١٠)

ثم أمر السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه يقصد حصن (١١) تبنين ، فقصده وأخذ في مضايقته وطال حصاره ، فراسلوا السلطان (١٢) وسألوه الأمان واستمهلوا خمسة أيام ، فأمهلوا بعد أن بذلوا رهائن وأطلقوا ما عندهم من الأسرى (١٣). فسر السلطان بذلك وأحسن إلى المأسورين ، وكان هذا دأبه في كل بلد يفتحه ، فخلص في تلك السنة من الأسرى أكثر من عشرين ألف أسير ، وأخلوا القلعة ، ثم ساروا إلى صور صحبة جماعة من عسكر السلطان ورتب في الموضع مملوكه سنقر (١٤) الدوري وأوصاه بحفظها. وكان النزول على تبنين يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى ، وتسلمها يوم الأحد الثامن عشر منه.

فتح صيدا (١٥)

نزل السلطان عليها يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى ، وهي

__________________

(١) ما في تلك أ ج : من بتلك ب ه : ـ د.

(٢) دبورية : بلد قرب طبرية من أعمال الأردن إلى الشرق من الناصرة ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٢ / ٩٣ ؛ شراب ٣٧٢.

(٣) جنين أ ج ه : جبين ب : ـ د.

(٤) زرعين : قرية بالقرب من الناصرة ، ينظر : الدباغ ٧ / ٥٨٤.

(٥) الطوالية : قد تكون هي وسابقاتها من قرى الناصر المندثرة.

(٦) القيمون : حصن قرب الرملة بفلسطين ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٣ / ١١٤٠.

(٧) الزيب : قرية كبيرة على بحر الشام قرب عكا دمرها الإسرائيليون عام ١٩٤٨ م ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٢ / ٦٧٨ ؛ شراب ٤٣٥.

(٨) معليا : من نواحي الأردن بالشام بالقرب من عكا ، ينظر : البغدادي ، مراصد ٣ / ١٢٩٠ ؛ شراب ٦٨٢.

(٩) البعنة : قرية من قرى مدينة عكا احتلت عام ١٩٤٨ م ، ينظر : العارف ، فلسطين ١ / ٣١٢ ؛ شراب ١٦٣.

(١٠) تبنين : بلدة بين دمشق وصور ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٢ / ١٦ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٢٥٣.

(١١) حصن ب ج ه : حصون أ : ـ د.

(١٢) فراسلوا السلطان أ ه : فأرسلوا إلى السلطان ب : فراسلوا إلى السلطان ج : ـ د.

(١٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٠.

(١٤) ينظر : أبو شامة ، الذيل ٦٦.

(١٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٠ ؛ ابن أيوب ٢٧٢ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٧.

٤٦٩

مدينة لطيفة على الساحل بها أنهار وأشجار ، فجاءت رسل صاحبها بمفاتيحها ، وقد أخلاها وتسلمها السلطان ، ونصبت عليها رايات الإسلام (١) ، وأقيمت بها الجمعة والجماعة.

فتح بيروت (٢)

ثم سار السلطان إلى بيروت وكان النزول عليها يوم الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى ، ووقع القتال واشتد ، ثم نقب السور حتى كاد يقع البرج ، وضاق الأمر بهم ، فطلبوا الأمان وأن يكتب لهم السلطان مثالا بذلك ، فكتب لهم وأمنهم ، وتسلم السلطان بيروت يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى.

فتح جبيل (٣)

ولما كان السلطان على بيروت وصل إليه كتاب الصفي بن القابض من دمشق يتضمن أن أود (٤) صاحب جبيل أذعن بتسليمها ويطلق ، فرسم السلطان بإحضاره وهو مقيد ، فأحضر بين يديه ، وسمح بتسليم بلده ، وتسلمها السلطان وأطلقه (٥) ، ولم تكن عاقبة إطلاقه حميدة ، فإنه كان من أعظم الفرنج أشدهم عداوة ، وكان معظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مسلمين ، وكانوا في ذل كبير من الفرنج. ففرج الله عنهم.

وكان تسليم جبيل في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى والسلطان يومئذ على بيروت ، وكان كل من استأمن من الكفار مضى إلى صور ، وصارت منزلتهم وهي التي فر القمص إليها يوم كسرتهم على حطين.

هلاك القومص (٦) ودخول المركيس إلى صور (٧)

لما عرف / / القومص (٨) قرب السلطان منها أخلاها وتوجه إلى طرابلس ،

__________________

(١) رايات الإسلام أ ب ج : الرايات الإسلامية ه : ـ د.

(٢) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٠ ؛ ابن أيوب ٢٧٢ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٨٨ ؛ ابن خلكان ٥ / ١٧٧ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٠٩.

(٣) جبيل : بلد في سواحل دمشق شرقي بيروت على ثمانية فراسخ من بيروت ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٣١٤.

(٤) ينظر : رنسيمان ٢ / ٨٠٧.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٠.

(٦) القومص أ ج ه : القمس ب : ـ د.

(٧) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨١ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٩٠ ؛ ابن أيوب ٢٧٢ ؛ المقريزي ، سلوك ١ / ٢١٠.

(٨) القومص أ ج ه : القمس ب : ـ د.

٤٧٠

فهلك بها وكان المركيس (١) من أكبر طواغيت الكفر ولم يكن وصل إلى بلاد الساحل قبل هذا العام ، واتفق وصوله إلى ميناء عكا ، ولم يعلم بفتحها ولا ما فيها من المسلمين ، فلما قدم عليها تعجب من أهلها لكونهم لم يتلقوه ، ورأى من فيها غير هيئة النصارى ، فارتاب لذلك وسأل عن الحال ، فأخبر (٢) بما وقع ، ففكر في النجاة وقصد الفرار ، فلم تهب له ريح ، وسأل عن البلد ومن إليه أمره ، فقيل له : الملك الأفضل ، فقال : خذوا لي منه أمانا ، حتى أدخل فجيء إليه بالأمان ، فقال : ما أثق إلا بخط يده. فما زال يرد (٣) الرسل ويدبر الحيل حتى وافقته الريح فأقلع وتوجه إلى صور وضبطها بمن فيها ، وأرسل رسله إلى الجزائر يستعدي ويستنفر. وثبت في صور وبقي كلما فتح السلطان بلدا بالأمان يسير أهلها في حفظ السلطان إلى صور ، فاجتمع إليه أهل البلاد المفتوحة بأجمعهم ، وشرع المركيس (٤) يحفر الخندق ويحكمه ، وسنذكر ما كان من أمره ، إن شاء الله تعالى.

فتح عسقلان وغزة والرملة والداروم (٥) وغيرها (٦)

وكان النزول على عسقلان يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة ، ولما فرغ السلطان من فتح بيروت وجبيل ، عاد عابرا على صيدا وصرفند ، وجاء إلى صور ولم يكترث بأمرها ، وكان قد استحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية ، وشرط معهما ، واستوثق منهما أنه يطلقهما من الأسر إذا تمكن من بقية البلاد ، فانزعج المركيس بصور واشتد خوفه.

واجتمع السلطان بأخيه الملك العادل واتفقا على السير (٧) ، ونزل على عسقلان وحصرها (٨) ورماها بالمنجنيقات ، واشتد القتال ، وراسلهم عند ذلك الملك المأسور ، وأشار عليهم بعدم مخالفته ، وترددت الرسل. ثم أذعنوا للتسليم (٩)

__________________

(١) المركيس أ ب : المركيش ج ه ابن الأثير : ـ د.

(٢) فأخبر أ : فأخبروه ب ج ه : ـ د.

(٣) يرد أ : يردد ب ج ه : ـ د.

(٤) المركيس أ ب : المركيس ج ه : ـ د.

(٥) الداروم : قلعة بعد غزوة للقاصد من مصر الواقف فيها يرى البحر ، خربها صلاح الدين لما ملك الساحل ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٢ / ٤٢٤ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٥٠٨ ؛ شراب ٣٦٩.

(٦) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨١ ؛ ابن أيوب ٢٧٢ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٠.

(٧) السير أ : المسير ب ج ه : ـ د.

(٨) وحصرها أ : وحاصرها ب ج ه : ـ د / / المنجنيقات ابن الأثير : المجانيق أ : المناجيق ب ج ه : ـ د.

(٩) للتسليم وسلموا عسقلان أ ج ه : يسلمون عسقلان ب : ـ د.

٤٧١

وسلموا عسقلان على أن يخرجوا بأموالهم بعد أخذهم الميثاق واليمين ، وذلك يوم السبت سلخ جمادى الآخرة ، فكان حصارها أربعة عشر يوما ، وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة ، فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ٥٤٨ ه‍ ، وممن استشهد على عسقلان من الأمراء الكبار : إبراهيم بن حسين المهراني ، وهو أول أمير استشهد ، وكان السلطان قد أخذ في طريقه إليها الرملة ويبنى وبيت لحم والخليل ، وأقام بها حتى تسلم حصون الداروم وغزة والنطرون (١) وبيت جبريل (٢) ، واجتمع بالسلطان ولده صاحب مصر الملك العزيز عثمان بعسقلان ، فقرت عينيه بقدومه واعتضد به. وكان قد استدعى الأساطيل فحضرت والحاجب لؤلؤ (٣) مقدمها ، وشرع بقطع الطريق على سفن العدو ومراكبه ، ويقف له في جزائر البحر ، وسنذكر ذلك في محله ، إن شاء الله تعالى.

فتح بيت المقدس (٤)

ثم رحل السلطان من عسقلان إلى بيت المقدس (٥) وسمع خبره من في القدس (٦) ، فاشتد رعبهم ، وكان بها من مقدمي الفرنج باليان بن بارزان والبطرك الأعظم ومن كلا الطائفتين الإسبتارية والداوية ، وضاقت بهم منازلهم ، فأخذوا في تدبير أنفسهم وأيسوا وصاروا في هرج ومرج ، واشتد بهم الكرب.

وأقبل السلطان بعساكر الإسلام وهو في أبهته وهيئته المرهبة ، ونزل على القدس من جهة الغرب يوم الأحد خامس عشر رجب ، وكان في القدس حين الفتح (٧) من الفرنج ستون ألف مقاتل وقد وقفوا دون البلد للمبارزة ، وقاتلوا أشد

__________________

(١) والنطرون ب ج ه : البطرون أ : ـ د.

(٢) بيت جبريل : بلد بين القدس وغزة عند السفوح الغربية لجبال الخليل ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٢٣٧.

(٣) قد يكون لؤلؤ الأتابك وهو لؤلؤ بن عبد الله الأتابكي ، أبو الفضائل بدر الدين ، الملقب بالملك الرحيم صاحب الموصل طالت أيامه وكان من أجل الملوك وأعلاهم همة ، وأسهرهم على رعاياه ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ٢٠٣ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٧ / ٧ ؛ الزركلي ٥ / ١١.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٨٢ ـ ١٨٦ ؛ ابن شداد ٦٣ ـ ٦٥ ؛ ابن أيوب ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٩٢ ـ ١١٩ ؛ ابن خلكان ٧ / ١٧٨ ـ ١٨٨ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٧ ؛ اليافعي ٣ / ٤٢٤ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢١٠ ـ ٢١١ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٩٤.

(٥) بيت المقدس أ : القدس الشريف ب ج : القدس ه : ـ د.

(٦) القدس أ ج ه : + الشريف ب : ـ د.

(٧) حين الفتح أ : يومئذ ب ج ه : ـ د.

٤٧٢

القتال. واستمر الحرب بين الفريقين ، فانتقل السلطان يوم الجمعة لعشرين من رجب إلى جانب الشمال (١) ، وخيم هناك وضيق على الفرنج ونصب المجانيق (٢) ورمى بها حتى تهدم غالب السور ، ثم أخذ المسلمون في نقب السور مما يلي وادي جهنم ، واشتد القتال وتباشر أهل الإسلام بالفتح وكان يوما عسيرا على الكافرين غير يسير (٣) ، فبرز من الفرنج ابن بارزان ليطلب الأمان من السلطان فلم يجبه السلطان / / إلى ذلك ، وقال (٤) : لا آخذها إلا بالسيف مثل ما أخذها الفرنج من المسلمين.

فتعرضوا للتضرع وعاودوه في طلب الأمان وعرفوه ما هم عليه من الكثرة ، وأنهم إن أيسوا من الأمان قاتلوا خلاف ذلك ، ولا يجرح منهم واحد (٥) حتى يجرح عشرة ، ويخربوا الدور وقبة الصخرة ويقتلوا كل من عندهم من أسارى المسلمين ـ وهم ألوف ـ ويعدموا ما عندهم من الأموال وكذلك الذراري.

فعقد السلطان محضرا للمشورة وأحضر أكابر دولته وأكثر عساكره (٦) وشاورهم في الأمر ودار الكلام بينهم على الصلح بشرط أن يؤدي كل من بها من الرجال عشرة دنانير ومن النساء خمسة ، ويؤدي عن الطفل ديناران وأي من عجز عن الأداء كان أسيرا.

فأجاب الفرنج إلى ذلك ودخل ابن بارزان والبطرك ومقدم الداوية (٧) والاسبتارية في الضمان ، وبذل ابن بارزان ثلاثين ألف دينار عن الفقراء وسلموا البلد يوم الجمعة قبيل الظهر (٨) وقت الصلاة السابع والعشرين من رجب على هذا الشرط ، ولم تتفق صلاة الجمعة يومئذ لضيق الوقت ، وكان فيه أكثر من مائة ألف إنسان من الرجال والنساء والصبيان ، وأغلقت أبواب المدينة ورتب النواب لعرضهم واستخراج المال منهم ، ووكل بكل باب أمين ومقدم كبير يضبط من يدخل ويخرج فمن أدى ما عليه يمكن (٩) من الخروج ومن لم يؤد قعد في الحبس ، وحصل التفريط من العمال في المال وشرعوا يواطئون الفرنج في ذلك لارتشائهم منهم ، فمنهم من

__________________

(١) جانب الشمال أ : الجانب الشمالي ب ج ه : ـ د.

(٢) المجانيق أ : المناجيق ب ج ه : ـ د.

(٣) ينظر : الأصفهاني ، الفتح ١١٦.

(٤) وقال ب ج ه : فقال أ : ـ د.

(٥) منهم واحد أ ج ه : أحد منهم ب : ـ د.

(٦) وأكثر عساكره أ ب ج : ـ د ه.

(٧) الداوية أ ج ه : الراوية ب : ـ د.

(٨) قبيل الظهر أ ب ج : قبل الظهر ه : ـ د.

(٩) يمكن أ ج ه : مكن ب : ـ د.

٤٧٣

دلي من السور بالحبال ، ومنهم من ظهر مختفيا ، ومنهم من وقعت فيه شفاعة.

وكانت في القدس ملكة مترهبة ولها مال كثير فمنّ عليها السلطان بالإفراج ، ولم يتعرض منها إلى شيء ، وكانت زوجة الملك المأسور ابنة الملك أيادي فخلصت بمن معها ومن تبعها وكذلك الإبرنساسة (١) ابنة فيليب أم هنفري أعفيت من الوزن ، واستطلق صاحب البيرة (٢) زهاء خمسمائة أرمني ، ذكر (٣) أنهم من بلده ، وأنهم حضروا للزيارة ، وطلب مظفر الدين كوكبوري (٤) ألف أرمني ادعى أنهم من الزهاد ، فأطلقهم له السلطان ، وكان السلطان قد رتب عدة دواوين في كل ديوان منها عدة من النواب المصريين ومنهم من الشاميين ، فمن أخذ من أحد الدواوين خطا بالأداء انطلق مع الطلقاء بعد عرض خطه على من بالباب من الأمناء والوكلاء.

وحصل من الأمناء مواطأة واختلاس كثير (٥) في المال (٦) ، ومع ذلك حصل لبيت المال ما يقارب مائة ألف دينار. وبقي جماعة من الفرنج في الأسر لعدم القيام بما عليهم.

ذكر يوم الفتح

وهو يوم سابع عشر من رجب ـ كما تقدم ـ واتفق فتح بيت المقدس في يوم كان مثل ليلة معراج نبينا محمد (٧) ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره ، وجلس السلطان للقاء الأكابر والأمراء والمتصوفة والعلماء ، وهو جالس على هيئة التواضع وعليه الأبهة والوقار وحوله أهل العلم والفقهاء وعليهم السكينة والجلال ، وقد ظهر السرور على أهل الإسلام بنصرتهم (٨) على عدوهم المخذول ، وزينت بلاد الإسلام لفتح بيت المقدس ، وتسامع الناس بهذا النصر والفتح ، فوفدوا للزيارة من سائر البلاد.

وأما الفرنج فشرعوا في بيع أمتعتهم واستخراج ذخائرهم وباعوها بالهوان ،

__________________

(١) الإبرنساسة أ ج ه : الإبرنسانية ب : ـ د.

(٢) البيرة : قلعة حصينة بين حلب والثغور الرومية ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٥١ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٢٤٠.

(٣) ذكر أ ج : ادعى ب ه : ـ د.

(٤) كوكبوري أ ب : ـ ب ج د ه.

(٥) ينظر : ابن أيوب ٢٧٣.

(٦) في المال ب : ـ أ ج د ه.

(٧) نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أ : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب ج ه : ـ د.

(٨) بنصرتهم ... بلاد الإسلام أ ب ج : ـ د ه.

٤٧٤

وتقاعد الناس في الشراء فابتاعوها بأرخص الأثمان (١) ، وكان ما يساوي أكثر من عشرة دنانير يباع بأقل من دينار ، وأخذوا ما في كنائسهم من أواني الذهب والفضة والستور ، وجمع البطرك كل ما كان على القبر من صفائح الذهب والفضة وجميع ما كان في قمامة (٢) ، فقال العماد الكاتب للسلطان : هذه أموال جزيلة تبلغ مائتي ألف دينار والأمان في أموالهم لا على أموال الكنائس والديارات فلا نتركها لهم. فقال السلطان : إذا تأولنا عليهم نسبونا إلى الغدر فنحن نجريهم على ظاهر الأمان ولا ندعهم يتكلمون في حق المسلمين وينسبونهم إلى الغدر والنكث بل ندعهم يثنون عنا الجميل ، فأخذ الفرنج ما خف حمله وتركوا ما ثقل.

وانتقل بعضهم إلى صور وبقي منهم زهاء خمسة عشر ألفا لم يؤدوا ما شرط عليهم فدخلوا في الرق (٣) ، / / وكان الرجال نحو سبعة آلاف ، فاقتسمهم المسلمون ، وأحصيت النساء والصبيان ثمانية آلاف نسمة.

وما أصيب الفرنج من حين خرجوا إلى الشام في سنة ٤٩٠ ه‍ (٤) ، إلى الآن بمصيبة مثل هذه الواقعة (٥) ، ووصل المستنفرون من الكفار إلى أقصى بلاد الفرنج. ومثلوا صورة المسيح ، عليه‌السلام ، وصورة النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيده عصا (٦) وهو يقصد المسيح ليضربه والمسيح منهزم منه ، وأقاموا الشناع والغوغاء في بلادهم لذلك ، واشتد ملوكهم واعتدوا وجهزوا العساكر لقصد بلاد الإسلام ومحاربة الملك صلاح الدين ، رحمه الله (٧).

ولما استقر بيت المقدس مع المسلمين وطهره الله من المشركين سأل النصارى في الإقامة به ببذل الجزية ، وأن يدخلوا في الذمة ، فأجيبوا إلى ذلك.

ولما تسلم السلطان القدس أمر بإظهار المحراب ، وكان الداوية قد بنوا في وجهه جدارا وتركوه هويا ، وقيل : اتخذوه مستراحا ، وبنوا غربي القبلة دارا وسيعة وكنيسة. فهدم ما قدم المحراب من الأبنية ، ونصب المنبر ، وأظهر المحراب ، ونقض ما أحدثوه بين السواري وفرش المسجد بالبسط وعلقت

__________________

(١) الأثمان أ ه ك ثمن ب ج : ـ د.

(٢) قمامة أ ج ه : القمامة ب : ـ د.

(٣) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١١٥.

(٤) ٤٩٠ ه‍ / ١١٩٠ م.

(٥) الواقعة أ ب : الوقعة ج ه : ـ د.

(٦) وبيده عصا أ : وهو بيده عصا ب ج ه : ـ د.

(٧) الله أ : + تعالى ب ج ه : ـ د.

٤٧٥

القناديل (١). وكان يوما مشهودا ، ظهر فيه عز الإسلام ، وعلت كلمة الإيمان ، وبطلت نغمات القسوس (٢) والرهبان ، وعلت أصوات أهل الإيمان (٣) بالقرآن ، وخرس الناقوس وسمع الأذان ، وعزل الإنجيل ، وتولى القرآن ، وبطل ما كان بالمسجد الأقصى من الشرك (٤) والطغيان ، وعبد فيه الملك الديان.

وقد تقدم أن من الاتفاقات العجيبة أن محي الدين بن الزكي (٥) ، قاضي دمشق ، لما فتح السلطان صلاح الدين حلب في صفر سنة ٥٧٩ ه‍ (٦) ، مدحه بقصيدة فيها :

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر

مبشر بفتوح القدس في رجب

فكان كما قال ، وفتح القدس في رجب ـ كما تقدم ـ فقيل لمحيي الدين : من أين لك هذا؟ فقال : أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٣) (٧).

وكان الإمام أبو الحكم بن برجان الأندلسي (٨) قد صنف تفسيره المذكور في سنة ٥٢٠ ه‍ (٩) ، وبيت المقدس حين ذلك (١٠) في يد الفرنج ، لعنهم الله تعالى.

قال ابن خلكان في تاريخه (١١) ـ في ترجمة ابن الزكي ـ : ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أطلب تفسير ابن برجان حتى وجدته على هذه الصورة ، قال : ولكن رأيت هذا الفصل مكتوبا في الحاشية (١٢) غير الأصل ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق. وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك حتى حرره من قوله تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) انتهى.

__________________

(١) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ١١٣.

(٢) القسوس أ ج ه : القسس ب : ـ د.

(٣) أهل الإيمان أ : أهل التوحيد ب ج هت : ـ د.

(٤) من الشرك أ ج ه : من الكفر ب : ـ د.

(٥) ابن الزكي أ ج ه : زكي ب : ـ د.

(٦) ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م.

(٧) الروم : [١ ـ ٣].

(٨) ابن برجان : أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي ، كان عبدا صالحا وله تفسير القرآن العظيم ، وتوفي سنة ٥٣٦ ه‍ / ١١٤١ م. ينظر : ابن خلكان ٤ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ؛ البغدادي ، هدية ٥ / ٤٦٠.

(٩) ٥٢٠ ه‍ / ١١٢٦ م.

(١٠) حين ذلك أ : إذ ذاك ب ج ه : ـ د.

(١١) ينظر : ابن خلكان ٤ / ٢٣٠.

(١٢) في الحاشية أ : على الحاشية ب ج ه : ـ د.

٤٧٦

ذكر أول خطبة بعد الفتح (١)

ولما فتح السلطان القدس تطاول إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين ، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعا في أن يكون هو الذي يعين لذلك ، والسلطان لا يعين الخطبة لأحد.

فلما دخل يوم الجمعة رابع شعبان واجتمع الناس لصلاة الجمعة حتى امتلأ الجامع ، ونصبت الأعلام على المنبر ، وتكلم الناس فيمن يخطب والأمر مبهم حتى حان الزوال ، وأذن المؤذن للجمعة ، فرسم السلطان وهو بقبة الصخرة للقاضي محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي أن يخطب ، وهي أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح ، وأعاره العماد الكاتب أهبة سوداء وكانت عنده من تشريف الخلافة لبسها في الحال.

فلما رقي على المنبر استفتح بسورة الفاتحة وقرأها إلى آخرها ثم قال : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) (٢).

ثم قرأ أول سورة الأنعام : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(٣).

ثم قرأ من سورة سبحان : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)/ /)(٤).

ثم قرأ من سورة الكهف أولها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦) (٥).

__________________

(١) ينظر نص هذه الخطبة : أبو شامة ، الروضتين ١١٠ ـ ١١٢ ؛ ابن خلكان ٤ / ٢٣٨ ـ ٢٤٥ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) الأنعام : [٤٦].

(٣) الأنعام : [١ ـ ٦].

(٤) الإسراء : [١١١].

(٥) الكهف : [١ ـ ٨].

٤٧٧

ثم قرأ من سورة النمل : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩) (١).

ثم قرأ من سورة سبأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١) (٢).

ثم قرأ من سورة فاطر : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))(٣).

ثم شرع في الخطبة فقال : الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الكفر (٤) بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومديم النعم بشكره ، ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الدين كله ، القاهر فوق عباده لا يمانع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فلا يدافع ، أحمده على إظهاره (٥) وإظفاره ، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره ، وتطهيره لبيته المقدس (٦) من أدناس الشرك وأوضاره ، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك ، وداحض الشرك ، ورافض الإفك ، الذي أسري به ليلا من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلا (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧))(٧) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان ، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، أول من رفع عن هذا البيت شعار (٨) الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، ذو النورين جامع القرآن ، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، مزلزل الشرك ومكسر الأوثان ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

__________________

(١) النحل : [٥٩].

(٢) سبأ : [١].

(٣) فاطر : [١ ـ ٣].

(٤) الكفر أ : الشرك ب ج ه : ـ د.

(٥) إظهاره وإظفاره أ : أظفاره وإظهاره ب ج ه : ـ د.

(٦) لبيته المقدس أ ج ه : بيته المقدس ب : ـ د.

(٧) النجم : [١٤ ـ ١٧].

(٨) شعار أ ج ه : شعائر ب : ـ د.

٤٧٨

أيها الناس : أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا ، لما يسره الله على أيديكم من استرداد (١) هذه الضالة من الأمة الضالة ، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مائة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه ، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه ، واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بنى عليه ، وشيد بنيانه بالتمجيد فإنه أسس على التقوى من خلفه ، ومن بين يديه ، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم ، عليه‌السلام ، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام فهو (٢) مقر الأنبياء ، ومقصد الأولياء ، ومدفن الرسل ، ومهبط الوحي ، ومنزل ينزل به الأمر والنهي ، وهو أرض المحشر ، وصعيد المنشر ، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين ، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله ، عليه‌السلام (٣) ، بالملائكة المقربين ، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي أكرمه الله برسالته وشرفه بنبوته ، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته ، فقال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(٤) كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))(٥) ، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))(٦).

وهو أول القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، فلو لا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم (٧) من سكان بلاده ، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار ، ولا يباريكم في شرفها مبار ، وطوبى (٨) لكم من جيش ظهرت

__________________

(١) استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة ب ج ه : ـ أ د.

(٢) فهو أ ج : وهو ب ه : ـ د.

(٣) عليه‌السلام أ : صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب ج ه : ـ د.

(٤) النساء : [١٧٢].

(٥) المؤمنون : [٩١ ـ ٩٢].

(٦) المائدة : [١٨].

(٧) واصطفاكم ب : واصطفاه أ ج ه : ـ د.

(٨) وطوبى أ : فطوبي ب ج ه : ـ د.

٤٧٩

على أيديكم المعجزات النبوية ، والوقعات (١) البدرية والعزمات الصديقية ، والفتوحات العمرية ، والجيوش العثمانية ، والفتكات العلوية ، جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية ، والمنازلات الخيبرية ، والهجمات الخالدية ، فجزاكم الله عن نبيه محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفضل الجزاء ، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء ، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق (٢) الدماء ، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء ، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها ، وقوموا لله (٣) بواجب شكرها ، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة ، وترشيحكم لهذه الخدمة ، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء (٤) ، وتبلجت بأنوار وجوده الظلماء ، وابتهج به الملائكة المقربون ، وقر به عيون (٥) الأنبياء والمرسلون ، فماذا عليكم من النعمة أن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم التهاني بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان ، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله ، وأن يكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء ، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في محكم خطابه ، فقال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) (٦) أليس هو البيت الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسل ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله لأجله الشمس على يوشع (٧) أن تغرب وباعد بين خطواتها لتيسير فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان ، وغضب الله عليهم لأجله ، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان (٨)؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عليه بنو إسرائيل وقد فضلت على العالمين ، ووفقكم لما خذلت فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين ، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى ، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف حتى فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده ، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم

__________________

(١) والوقعات ب ج ه : والواقعات أ : ـ د.

(٢) مهراق أ ج ه : إهراق ب : ـ د.

(٣) الله أ ج : + قانتين ب ه : ـ د.

(٤) أبواب السماء أ ب ج : أبواب الجنان ه : ـ د.

(٥) عيون أ ج ه : عينا ب : ـ د.

(٦) الإسراء : [١ ـ ٣].

(٧) أي يوشع بن نون.

(٨) للعصيان ب ج ه : العصيان أ : ـ د.

٤٨٠