الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

مجير الدين الحنبلي العليمي

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

المؤلف:

مجير الدين الحنبلي العليمي


المحقق: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة دنديس
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

الشافعي صاحب كتاب الذيل لتاريخ مدينة الإسلام (١) ، عدة مجلدات ، وله تاريخ مرو (٢) ، والأسباب (٣) ، وطراز المذهب في أدب الطلب (٤) ، وتحفة المسافر (٥) ، وعن العزلة (٦) ، والمناسك (٧) ، والتخيير (٨) في المعجم الكبير ، والآمالي (٩) وغير ذلك. قدم بيت المقدس زائرا له وهو في أيدي الكفار. توفي في غرة ربيع الأول ٥٦٢ ه‍ (١٠).

ومن عباد بيت المقدس المشهورين بالصلاح : إدريس بن أبي خولة الأنطاكي (١١) وعبد العزيز المقدسي (١٢) ، وكانا صالحين ذكرهما ابن الجوزي في صفوة الصفوة وذكر لهما كرامات ، ولم يؤرخ وفاتهما.

أما من دخل بيت المقدس واستوطنه من الزهاد والصالحين ممن لم يعرف اسمه فكثير ، ولهم أخبار ومناقب لم نذكرها لعدم معرفة أسمائهم ، وبالله التوفيق.

وقد انتهى ذكر ما قصدته من تراجم الأعيان بالقدس الشريف ممن كان به في الزمن السابق (١٣) قبل استيلاء الفرنج عليه ولم أظفر بغير ذلك لطول الأزمنة وانقطاع أخبار السلف باستيلاء الكفار على الأرض المقدسة ، وسأذكر ما تيسر من أسماء العلماء والأعيان بالقدس الشريف ممن كان به بعد الفتح الصلاحي ـ كما تقدم الوعد به ـ إن شاء الله تعالى.

ولنذكر الآن نبذة يسيرة مما وقع ببيت المقدس من الحوادث والأخبار في ذلك الزمان :

فمن ذلك ما وقع في شهور سنة ٣٩٨ ه‍ (١٤) أن الحاكم بأمر

__________________

(١) ينظر : الذهبي ، تذكرة ٤ / ١٣١٧.

(٢) ينظر : حاجي خليفة ١ / ٢٧٥.

(٣) مرو والأسباب أ ج ه : مرور الأسباب ب : ـ د / / أدب أ ج ه : آداب ب : ـ د.

(٤) طراز الذهب في أدب الطلب ، ينظر : حاجي خليفة ٢ / ١٢٥.

(٥) ينظر : حاجي خليفة ١ / ٣١٨.

(٦) ينظر : الذهبي ، تذكرة ٤ / ١٣١٧.

(٧) ينظر : المصدر نفسه ٤ / ١٣١٧.

(٨) والتخيير ب : والتجبير أ ج ه : ـ د.

(٩) ينظر : الذهبي ، تذكرة ٤ / ١٣١٧ ؛ حاجي خليفة ١ / ١٨٠.

(١٠) ٥٦٢ ه‍ / ١١٦٦ م.

(١١) ينظر : ابن الجوزي ، صفوة ٤ / ١٧٠.

(١٢) ينظر : المصدر نفسه ٤ / ١٧١.

(١٣) السابق أ : السالف ب ج ه : ـ د.

(١٤) ٣٩٨ ه‍ / ١٠٠٧ م.

٤٤١

الله (١) ، أبو علي المنصور بن العزيز الفاطمي ، خليفة مصر أمر بتخريب كنيسة القمامة في بيت المقدس (٢) وأباح للعامة ما كان لها من أموال وأمتعة وغير ذلك ، وكان ذلك بسبب ما أنهي إليه من الفعل الذي تتعاطاه (٣) النصارى يوم الفصح من النار التي يحتالون بها بحيث يتوهم الأغمار من جهلتهم أنها نزلت (٤) من السماء ، وأنها مصبوغة بدهن البيلسان في خيوط الإبريسم الرفاع المدهونة بالكبريت وغيره بالصنعة اللطيفة التي تروج على العظام منهم والعوام ، وهم إلى الآن يستعملونها في القمامة ، ويسمى ذلك اليوم عندهم سبت النور ، ويقع فيه من المنكر بحضور المسلمين ما لا يحل سماعه ولا رؤيته من جهرهم بالكفر ، ورفع أصواتهم بقولهم (٥) : يا لدين الصليب ، وإظهار كتبهم ورفع الصلبان على رؤوسهم ، وغير ذلك في الأمور التي تقشعر منها الأجساد.

ثم لما توفي الحاكم بأمر الله في شوال سنة ٤١١ ه‍ (٦) ولي بعده ولده (٧) الظاهر لإعزاز دين الله (٨) ، أبو الحسن علي ، واستمر إلى أن توفي في شعبان سنة ٤٢٧ ه‍ (٩) ، ثم توفي بعده ولده المستنصر بالله (١٠) ، أبو تميم معد ، فهادن ملك الروم على أن يطلق خمسة آلاف أسير ليمكن من عمارة قمامة التي كان خربها جده الحاكم في أيام خلافته ، فأطلق الأسرى ، وأخرج ملك الروم عليها أموال عظيمة.

قلت : والذي يظهر أن تخريبها لم يكن تخريبا كليا بل كان في غالبها ، والله أعلم.

__________________

(١) الحاكم بأمر الله منصور بن نزار بن معد بن إسماعيل بن محم العبيدي الفاطمي ، أبو علي ولد سنة ٣٧٥ ه‍ / ٩٨٥ م ، متأله ، غريب الأطوار ، من خلفاء الدولة الفاطمية بمصر ، توفي سنة ٤١١ ه‍ / ١٠٢١ م ، ينظر : ابن خلكان ٥ / ٢٩٢ ؛ اليافعي ٣ / ٢٥ ـ ٢٦ ؛ المقريزي ، الخطط ٢ / ٢٩ ؛ المقريزي ، اتعاظ ٢٧٠ ؛ الجابي ٨٦٧.

(٢) في بيت المقدس أ ه : من بيت المقدس ب : ـ ج د.

(٣) تتعاطاه ب : يتعاطاه أ ج ه : ـ د.

(٤) أنها نزلت أ : أنها تنزل ب ج ه : ـ د.

(٥) بقولهم أ ج ه : يقولون ب : ـ د.

(٦) ٤١١ ه‍ / ١٠٢١ م.

(٧) ولده أ ج ه : ـ ب د.

(٨) ينظر : ابن خلكان ٣ / ٤٠٧ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٨ ؛ ابن العماد ٣ / ٢٣٢.

(٩) ٤٢٧ ه‍ / ١٠٣٧ م.

(١٠) ينظر : اليافعي ٣ / ١٤٥ ؛ ابن خلكان ٥ / ٢٢٤ ـ ٢٢٨ ؛ ابن العماد ٣ / ٣٨٢ ؛ المقريزي ، الخطط ١ / ٣٥٥.

٤٤٢

ورأيت في بعض التواريخ : أنه في سنة ٤٠٧ ه‍ (١) في ربيع الأول احترق مشهد الحسين بن علي (٢) ، رضي‌الله‌عنه ، بشرارة وقعت من بعض الشعالين من حيث لم يشعر.

وورد الخبر بتشعب الركن اليماني من المسجد الحرام وسقوط جدار بين يدي قبر النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنه سقطت القبة الكبيرة التي على صخرة بيت المقدس (٣). قال الناقل : وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها.

قلت : ولم أطلع على حقيقة الحال في سقوط القبة التي على الصخرة ولا إعادتها ، والظاهر أن السقوط كان في بعضها لا في جميعها (٤) ، والله أعلم.

وفي سنة ٤٢٥ ه‍ (٥) كثرت الزلازل (٦) بمصر والشام ، فهدمت أشياء كثيرة ، ومات تحت الردم خلق كثير ، وانهدم من الرملة ثلثها ، وتقطع جامعها تقطعا ، وخرج أهلها منه ، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام ، ثم سكن الحال فعادوا إليها ، وسقط بعض حائط بيت المقدس ، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة ، ومن مسجد إبراهيم ، عليه‌السلام ، قطعة (٧).

وفي سنة ٤٥٢ ه‍ (٨) سقط تنور قبة الصخرة ببيت المقدس وفيه خمسمائة قنديل ، فتطير المقيمون به من المسلمين ، وقالوا : ليكونن في الإسلام حادث عظيم ، / / فكان أخذ الفرنج له على ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى.

وفي جمادى الأولى سنة ٤٦٠ ه‍ (٩) ، كانت زلزلة في أرض فلسطين أهلكت بلد الرملة ، ورمت شرفتين من مسجد رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانشقت الأرض عن كنوز من المال ، وهلك منها خمسة عشر ألف نسمة ، وانشقت صخرة بيت المقدس ، ثم عادت فالتأمت بقدرة الله تعالى ، وغار البحر مسيرة يوم ، ودخل الناس في أرضه

__________________

(١) ٤٠٧ ه‍ / ١٠١٧ م.

(٢) مشهد الحسين بن علي بكربلاء ، ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٤.

(٣) ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٥ ؛ اليافعي ٣ / ٢٠ ؛ ابن العماد ٣ / ١٨٤.

(٤) في جميعها أ : في كلها ب ج ه : ـ د.

(٥) ٤٢٥ ه‍ / ١٠٣٣ م.

(٦) الزلازل أ ب ج : الزنازل ه : ـ د.

(٧) ينظر : ابن العماد ٣ / ٢٢٨.

(٨) ٤٥٢ ه‍ / ١١٢٨ م.

(٩) ٤٦٠ ه‍ / ١١٣٦ م.

٤٤٣

يلتقطون منه ، فرجع عليهم ، فأهلك خلقا كثيرا منهم (١) ، فسبحان من يتصرف في عباده بما يشاء.

وفي سنة ٤٦٣ ه‍ (٢) في أيام المستنصر بالله العبيدي ، خليفة مصر ، استولى على القدس والرملة آتسز (٣) بن أوق الخوارزمي ، صاحب دمشق.

وفي سنة ٤٦٥ ه‍ (٤)(٥) أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس ، وقطعت دعوة الفاطميين ، ثم استولى آتسز على دمشق بعد استيلائه على القدس والرملة ، وقطع الخطبة العلوية من دمشق ، فلم يخطب بعدها لهم بها ، وأقام الخطبة العباسية (٦) يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة سنة ٤٦٨ ه‍ (٧).

فلما قتل آتسز في سنة ٤٧١ ه‍ (٨) استولى بعده على دمشق تاج الدولة الأمير تتش بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي (٩) ، وكان القدس من مضافاته على عادة من تقدمه ، فقلده للأمير أرتق بن أكسك التركماني (١٠) ، جد الملوك أصحاب ماردين (١١). واستمر أرتق مالكا للقدس إلى أن توفي في سنة ٤٨٤ ه‍ (١٢).

ثم استقر الأمر بعده في القدس لولديه إيلغازي وسقمان ابني أرتق ، واستمر على ذلك إلى أن قتل تتش صاحب دمشق في سنة ٤٨٨ ه‍.

ثم سار الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش من مصر بعسكر الخليفة

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٠٦ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٩٦ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٥ / ٨٠ ؛ ابن العماد ٣ / ٣٠٨.

(٢) ٤٦٣ ه‍ / ١١٣٩ م.

(٣) هو أتسز بن أوق الخوارزمي ، مقدم الأتراك ، من أمراء السلطن ملكشاه على دمشق وأتسز كلمة تركية معناها «ليس معه فرس» لقب نفسه بالملك الأعظم ، وهو أول من ملك دمشق من الأتراك وقطع منها خطبة الفاطميين ، وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وستة أشهر وقتل سنة ٤٧١ ه‍ ؛ / ١١٤٧ م ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١١٠ ؛ اليافعي ٣ / ١٠٠ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١١٩ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٥ / ٨٩.

(٤) ٤٦٥ ه‍ / ١١٤١ م.

(٥) ٤٦٥ أ : خمس وستين ب ج ه : ـ د.

(٦) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١١٠ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١١٩.

(٧) ٤٦٨ ه‍ / ١١٤٤ م.

(٨) ٤٧١ ه‍ / ١١٤٧ م.

(٩) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ١٩ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٧٥ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١٤٩ ؛ ابن العماد ٣ / ٣٨٤.

(١٠) ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ١٣٨.

(١١) ماردين : قلعة مشهورة في جبل الجزيرة مشرفة على دارا ونصيبين ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٧٨ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١٢١٩.

(١٢) ٤٨٤ ه‍ / ١١٦٠ م.

٤٤٤

العلوي ، وهو المستعلي بأمر الله ، فاستولى على القدس بالأمان في شعبان (١) سنة ٤٨٩ ه‍ (٢) : وسار سقمان وأخوه إيلغازي من القدس ، فأقام سقمان ببلد الرها (٣) وسار أخوه إيلغازي إلى العراق وبقي القدس في يد المصريين.

ذكر تغلب الفرنج على بيت المقدس واستيلائهم عليه

لما فتح الله البيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، وعمر على يده ، ثم على يد عبد الملك بن مروان وغيره من الخلفاء ـ كما سبق شرحه ـ استمر بأيدي المسلمين من حين الفتح العمري في سنة ١٥ (٤) من الهجرة الشريفة إلى سنة ٤٩٢ ه‍ في خلافة المستظهر بالله (٥) ، هو أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله العباسي خليفة بغداد ، فكان لبثه بأيدي المسلمين سنة ٤٧٧ ه‍. وكان (٦) الفاطميون قد تغلبوا على بني العباس وادعوا الخلافة بالمغرب من أواخر سنة ٢٩٦ ه‍ (٧) في أيام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد العباسي خليفة بغداد ، ثم بنوا القاهرة واستولوا على الديار المصرية والشام ومكة واليمن وبيت المقدس.

وأولهم : عبيد الله المهدي بالله الذي ينتسبون إليه (٨) ، ثم ابنه أبو القاسم محمد القائم بأمر الله ، ثم ابنه أبو (٩) الظاهر إسماعيل المنصور بنصر الله ، ثم ابنه أبو تميم معد المعز لدين الله (١٠) ، باني القاهرة (١١) المحروسة على يد القائد أبي الحسن

__________________

(١) شعبان أ ب ج : ـ د ه / / فأقام أ ج ه : وأقم ب : ـ د.

(٢) ٤٨٩ ه‍ / ١١٦٥ م.

(٣) الرها : مدينة بالجزيرة فوق حران بينهما ستة فراسخ ، ينظر : ابن خرداذبة ٧٣ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢٧٦ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٦٤٤ ؛ الحميري ٢٧٣.

(٤) ١٥ أ : خمس وعشرين ب ج ه : ـ د.

(٥) المستظهر بالله (٤٧٠ ـ ٥١٢ ه‍ / ١٠٧٧ ـ ١١١٨ م) : أبو العباس أحمد المستظهر من المقتدي ، ولي الخلافة بعد أبيه سنة ٤٨٧ ه‍ / ١٠٩٤ م ، وكان ممدوح السير ، ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ١٦١ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ٢٨٠ ؛ الذهبي ، سير ١٩ / ٣٩٦ ـ ٤١١ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٥ / ٢١٠ ـ ٢١١ ؛ السيوطي ، تاريخ ٤٥٧ ـ ٤٦٣ ؛ ابن العماد ٤ / ٣٣.

(٦) وكان ب : فكان أ ج ه : ـ د.

(٧) ٢٩٦ ه‍ / ٩٠٨ م.

(٨) ينتسبون إليه أ ج ه : ينسبون إليه ب : ـ د.

(٩) أبو ب ج ه : ـ أ د.

(١٠) المعز الفاطمي (٣١٩ ـ ٣٦٥ ه‍ / ٩٣١ ـ ٩٧٦ م) : المعز لدين الله بن إسماعيل بن القاسم بن المهدي عبيد الله الفاطمي العبيدي ، أبو تميم : صاحب مصر وأفريقية وأحد الخلفاء في هذه الدولة بويع له بالخلافة سنة ٣٤١ ه‍ / ٩٥٣ م ؛ ينظر : ابن خلكان ٢ / ١٠١ ؛ ابن خلدون ٤ / ٤٦ ؛ ابن إياس ١ / ٤٥.

(١١) باني القاهرة ... ٣٥٨ ه‍ أ ب ج : ـ د ه.

٤٤٥

جوهر (١) ، المعروف بالكاتب الرومي ، فإنه جهزه من المغرب لأخذ الديار المصرية ، فأخذها في سنة ٣٥٨ ه‍ (٢) ، وبنى القاهرة المحروسة والجامع الأزهر. ثم أرسل يستدعي مخدومه المعز لدين الله ، فحضر إلى القاهرة ، واستوطنها في شهر رمضان سنة ٣٦٢ ه‍ (٣) ، واستمر إلى أن توفي بها في يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول سنة ٣٦٥ ه‍ (٤). وهو الذي تنسب إليه القاهرة فيقال : القاهرة المعزية. ولما بناها جوهر سماها المنصورية (٥). فلما قدم المعز لدين الله سماها المنصورية ، القاهرية (٦). وقيل : إن سبب تسميتها بذلك أنها تقهر من شد عليها ورام مخالفة أمرها.

ولما توفي استقر بعده في الخلافة بمصر ابنه المنصور نزار العزيز بالله (٧) ، ثم ابنه أبو علي المنصور الحاكم بأمر الله الذي أمر بتخريب كنيسة القمامة ، كما تقدم ، ثم ابنه أبو الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله (٨) ، ثم ابنه أبو تميم معد المستنصر بالله (٩)(١٠) الذي مكن الكفار من إعادة كنيسة قمامة (١١) ، كما تقدم ، ثم ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بأمر الله ، وسيأتي ذكر من بقي منهم عند ابتداء ذكر الفتح الصلاحي ، إن شاء الله تعالى.

فلما آل الأمر إلى المستعلي بأمر الله وكانت وفاة أبيه (١٢) المستنصر في ذي الحجة سنة ٤٨٧ ه‍ (١٣) ولي الأمر بعد أبيه بالديار المصرية ، وكان المتولي لتدبير دولته / / الأفضل أبو القاسم (١٤) شاهنشاه بن بدر الجمالي أمير الجيوش ، وفي أيام

__________________

(١) جوهر بن عبد الله الرومي ، أبو الحسن ، توفي سنة ٣٨١ ه‍ / ٩٩٢ م ، ينظر : ابن خلكان ١ / ٣٧٥ ؛ المقريزي ، الخطط ١ / ٣٧٧ ؛ المقريزي ، اتعاظ ١٣٩ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٤ / ٢٩ ؛ ابن العماد ٣ / ٩٨.

(٢) ٣٥٨ ه‍ / ٩٦٨ م.

(٣) ٣٦٢ ه‍ / ٩٧٢ م.

(٤) ٣٦٥ ه‍ / ٩٧٥ م.

(٥) المنصورية القاهرية أ : القاهرة ب ج ه : ـ د.

(٦) ينظر : ابن تغري بردي ، النجوم ٤ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٧) ينظر : ابن خلكان ٥ / ٣٧١ ـ ٣٧٦ ؛ الذهبي ، العبر ٣ / ٣٤ ؛ ابن خلدون ٤ / ٥١ ؛ ابن العماد ٣ / ١٢١.

(٨) ينظر : ابن خلكان ٣ / ٤٠٧ ؛ ابن خلدون ٤ / ٦١ ؛ ابن العماد ٣ / ٢٣١.

(٩) ينظر : ابن خلكان ٥ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ ؛ المقريزي ، الخطط ١ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ ؛ المقريزي ، اتعاظ ١٨٦.

(١٠) المستنصر بالله أ ب ج : المنصور بالله ه : ـ د.

(١١) قمامة أ ج ه : القمامة ب : ـ د.

(١٢) أبيه ... ذي الحجة أ ب ج : ـ د ه.

(١٣) ٤٨٧ ه‍ / ١١٦٣ م.

(١٤) أبو القاسم ب : ـ أ ج د ه.

٤٤٦

المستعلي بأمر الله اختلفت دولتهم وضعف أمرهم ، وانقطعت من أكثر مدن الشام دعوتهم ، وانقسمت البلاد الشامية بين الأتراك والفرنج ، وكان مدبر دولته الأفضل قد استولى على بيت المقدس في شعبان سنة ٤٨٩ (١) ه ـ كما تقدم ـ وكان الفاطميون يخافون من الفرنج خوفا شديدا فلا يطيقون مقابلتهم بخلاف الدولة الأيوبية.

فلما دخلت سنة ٤٩٠ ه‍ (٢) ، سار الفرنج إلى الشام وأخذوا أنطاكية بعد حصرها (٣) تسعة أشهر وملكوها في ذي القعدة (٤) ، وحصل بينهم وبين المسلمين وقعات وحروب ، وولى المسلمون هاربين ، وكثر القتل فيهم ونهب الفرنج خيامهم وتقووا بأسلحتهم ، ثم سار الفرنج إلى معرة النعمان فاستولوا عليها ووضعوا السيف في أهلها ، فقتلوا فيها ما يزيد على مائة ألف إنسان وسبوا السبي الكثير (٥). وأقاموا بالمعرة أربعين يوما ، وساروا إلى حمص فصالحهم (٦) أهلها ، وذلك في سنة ٤٩١ ه‍ (٧).

فلما دخلت سنة ٤٩٢ ه‍ (٨) قصد الفرنج بيت المقدس وهم في نحو ألف ألف مقاتل ، لعنهم الله ، وحصروا (٩) القدس نيفا وأربعين يوما ، وملكوه في ضحى نهار الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ٤٩٢ ه‍ ، ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس الشريف أسبوعا ، وقتل في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وساداتهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في هذا الموضع الشريف ، وغنموا ما لا يقع عليه الحصر ، وجاسوا خلال الديار ، وكان وعدا مفعولا.

ثم حصروا جميع من في القدس الشريف بداخل المسجد الشريف واشترطوا عليهم أنهم متى تأخروا عن الخروج بعد ثلاثة أيام قتلوهم عن آخرهم. فشرع المسلمون في الإسراع والمبادرة إلى الخروج ، فمن شدة ازدحامهم بأبواب المسجد ، قتل منهم خلق لا يحصيهم ، إلا الله سبحانه وتعالى (١٠).

__________________

(١) ٤٨٩ ه‍ / ١١٦٥ م.

(٢) ٤٩٠ ه‍ / ١٠٦٦ م.

(٣) حصرها أ : أن حصروها ب ج : أن حاصروها ه : ـ د.

(٤) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٥٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٥ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١٥٥.

(٥) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٥٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٥ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١٥٥.

(٦) فصالحهم أ : وصالحهم ب ج ه : ـ د.

(٧) ٤٩١ ه‍ / ١٠٦٧ م.

(٨) ٤٩٢ ه‍ / ١٠٦٨ م.

(٩) وحصروا أ : وحاصروا ب ج ه : ـ د.

(١٠) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٤٧ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ١٥٦ ؛ ابن ـ تغري بردي ، النجوم ٥ / ١٦٢.

٤٤٧

وأخذ الفرنج من عند الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من الفضة زنة كل منها ثلاثة آلاف وستمائة (١) ، وتنورا من فضة وزنة أربعون رطلا بالشامي ، وثلاثة وعشرين قنديلا من الذهب (٢).

وهزم الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش بظاهر عسقلان أقبح هزيمة (٣). وكان عند الفرنج شاعر منتجع إليهم فقال يخاطب ملك الفرنج واسمه صنجلي (٤) :

نصرت بسيفك دين المسيح

فلله درك من صنجلي

وما سمع الناس فيما روي

بأقبح من كسرة الأفضل

فتوصل الأفضل إلى ذبح هذا الشاعر.

وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق ووصل المستنفرون إلى بغداد في رمضان مستغيثين إلى الخليفة والسلطان (٥) ، منهم القاضي بدمشق أبو سعيد الهروي ، واجتمع أهل بغداد في الجوامع ، واستغاثوا وبكوا حتى أنهم أفطروا من عظم ما جرى عليهم وندب الخليفة ببغداد ، وهو المستظهر بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد ، فخرج الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي (٦) وغير واحد من أعيان الفقهاء ، وساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ووقع الخلاف بين السلاطين السلجوقية فتمكن الفرنج في البلاد وانزعج المسلمون في سائر ممالك الإسلام بسبب أخذ بيت المقدس غاية الانزعاج ، ثم استولى الفرنج على أكثر بلاد الساحل في أيام المستعلي بأمر الله ، فملكوا يافا وقيسارية وغيرهما من القلاع والحصون ، وكانت محنة فاحشة ، فالحكم لله العلي الكبير ، وكان الآخذ لهذه البلاد بيت المقدس وغيره بردويل الفرنجي (٧).

__________________

(١) ثلاثة آلاف وستمائة درهم ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩.

(٢) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٤٧ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩.

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤) هو ريموند دي سان جبل ، قومس تولوز Raymond de Saint ـ Gilles ، ينظر : الصوري ١ / ٤١ ؛ رنسيمان ١ / ٢٤٣.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩.

(٦) في ابن الأثير : «فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني ، وأبو بكر الشاشي ، وأبو الوفا ابن عقيل وأبو سعد الحلواني وأبو الحسين بن سماك فساروا إلى حلوان فبلغهم قتل محمد الملك البلاساني ... فعادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة» ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٨٩.

(٧) هو تحريف لاسم بغدوين ملك القدس والذي توج بعد موت أخيه غودفري دي بويون واستمر ملكه

٤٤٨

ثم في سنة إحدى عشرة ، وقيل : ٥١٤ ه‍ قصد الديار المصرية ليأخذها ، فانتهى إلى غزة ودخلها وأخربها (١) وأحرق مساجدها ، ورحل عنها وهو مريض ، فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش. فشق أصحابه بطنه ورموا حشوته هناك ، فهي ترجم إلى اليوم ورحلوا بجثته ، فدفنوها بكنيسة قمامة بالقدس الشريف.

وسبخة بردويل هي التي في سبخة الرمل على طريق الشام وهي مما يلي العريش / / إلى جهة مصر منسوبة إلى بردويل المذكور (٢) والحجارة الملقاة هناك ، والناس يقولون هذا قبر بردويل وإنما هي الحشوة لعنة الله عليه.

ولما أخذ بيت المقدس وغيره من المسلمين قال في ذلك أبو المظفر (٣) الأبيوردي (٤) :

مزجنا دماء بالدموع السواجم

فلم يبق منا عرضة للمزاحم

وشر سلاح المرء دمع يفيضه

إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فإيها بني الإسلام إن وراءكم

وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

وكيف تنام العين ملأ جفونها

على هفوات أيقظت كل نائم

فإخوانكم بالشام يضحي قتيلهم

ظهور المذاكي أو بطون القشاعم (٥)

تسومهم الروم الهوان وأنتم

تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

وكم من دماء قد أبيحت ومن دمي

توارى حياء حسنها بالمعاصم

وبين اختلاس الطعن والضرب وقعة

يظل لها الولدن شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها

ليسلم يقرع بعدها سن نادم

سللنا بأيدي المشركين قواضبا

ستعمل منهم في الطلى والجماجم

يكاد لهن المستكن بطيبة

ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى

رماحهم والدين واهي الدعائم (٦)

__________________

على القدس مدة سبعة عشرة سنة ، ينظر : ابن تغري بردي ، النجوم ٥ / ١٤٧ ؛ رنسيمان ١ / ٢٩٦.

(١) وأخربها أ ج ه : وخربها ب : ـ د.

(٢) المذكور ... هي الحشوة أ ب ج : ـ د ه.

(٣) أبو المظفر أ ج ه : مظفر ب : ـ د.

(٤) محمد بن أبي العباس أحمد بن إسحاق الأموي الأبيوردي ، لغوي ، شاعر ، نسابة ، وهو من الأدباء المشاهير له ديوان شعر ، توفي سنة ٥٠٧ ه‍ / ١١١٣ م ، ينظر : ياقوت ، معجم الأدباء ١٧ / ٢٣٤ ـ ٢٦٦ ؛ ابن خلكان ٤ / ٤٤٤.

(٥) فإخوانكم أ ج ه : وإخوانكم ب : ـ د.

(٦) يشرعون أ ب ج : يسرعون ه : ـ د.

٤٤٩

وتجتنبون النار خوفا من الردى

ولا تحسبون العار ضربة لازم

أترضي صناديد الأعارب بالأذى

وتغضي على ذل حماة الأعاجم (١)

فليتهموا إذ لم يذودوا حمية

عن الدين شنوا غيرة للمحارم (٢)

وإن زهدوا في الأجر إذ حمى الوغى

فهلا أتوه رغبة في المغانم

واستمر ببيت المقدس وما جاوره من السواحل بيد الفرنج إحدى وتسعين سنة ، فلم ير في الإسلام مصيبة أعظم من ذلك ، وعجز ملوك الأرض عن انتزاعه منهم ، حتى أذن الله سبحانه وتعالى وقدر بفتحه (٣) على يد من اختاره من عباده في شهور سنة ٥٨٣ ه‍ فأقول وبالله أستعين وعليه أتوكل فهو حسبي ونعم الوكيل.

ذكر الفتح الصلاحي الذي يسره الله تعالى

على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب

تغمده الله برحمته

قد تقدم ذكر تغلب الفاطميين على غالب المملكة واستيلائهم عليها ، وتقدم أن أولهم المهدي بالله عبيد الله ، وتقدم ذكر من بعده إلى المستعلي بأمر الله الذي أخذ الفرنج القدس في أيامه ، فلما مات المستعلي بأمر الله استقر بعده في خلافة مصر ابنه أبو علي المنصور الملقب بالآمر بأحكام الله ، ثم ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله ، ثم ابنه أبو منصور إسماعيل الظاهر بأمر الله ، ثم ابنه أبو القاسم عيسى الفائز بنصر الله ، ثم ابن عمه أبو محمد عبد الله العاضد لدين الله وهو آخرهم ، وكان استقراره في خلافة مصر في سنة ٥٥٥ ه‍ (٤) ، وكان صاحب دمشق في ذلك الوقت الملك العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن زنكي الملقب بالشهيد (٥) ، رضي‌الله‌عنه.

__________________

(١) الأعارب أ ب : الأعاريب ج ه : ـ د / / حماة أ ج ه : صماة ب : ـ د.

(٢) للمحارم ب : بالمحارم أ ج ه : ـ د.

(٣) فتحه أ ج ه : فتحه ب : ـ د.

(٤) ٥٥٥ ه‍ / ١١٦٠ م.

(٥) السلطان نور الدين محمود العادل أبو القاسم بن أتابك زنكي أق سنقر التركي ، تملك حلب بعد أبيه ثم أخذ دمشق فملكها عشرين سنة ، كان مولده سنة ٥١١ ه‍ / ١١١٧ م ، وكان أجل ملوك زمانه وأعظمهم وأعدلهم ، هزم الفرنج غير مرة ، توفي سنة ٥٦٩ ه‍ / ١٣٢ م ، ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٢٥ ؛ ابن خلكان ٥ / ١٨٤ ـ ١٨٩ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٧٧ ـ ٢٨٤ ؛ النعيمي ١ / ٣٣١ ؛ ابن العماد ٤ / ٢٢٨ ـ ٢٣١.

٤٥٠

فلما دخلت سنة ٥٦٤ ه‍ (١) تمكن الفرنج من البلاد المصرية وتحكموا على المسلمين بها وملكوا بلبيس (٢) قهرا في مستهل صفر ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم (٣) ، ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها ، وكان وزير العاضد (٤) أمير الجيوش شاور (٥) ، فأحرق شاور مدينة مصر خوفا من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة ، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما (٦) ، وأرسل العاضد العلوي خليفة مصر إلى السلطان نور الدين (٧) يستغيث به ، وأرسل في الكتب شعور النساء (٨) ، وصالح شاور الفرنج على ألف ألف دينار (٩) يحملها اليوم ، فحمل إليهم مائة ألف دينار ، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال وحمله ، فرحلوا.

ولما وصل إلى السلطان نور الدين كتب العاضد جهز الأمير أسد الدين شيركوه (١٠) بن شادي إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية ، وأنفق فيهم الأموال ، وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار (١١) سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك ، وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب ، الذي تسلطن (١٢) فيما بعد ، / / وكان مسير صلاح الدين على كره منه ، أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته (١٣) ، وكره صلاح الدين المسير وفيه

__________________

(١) ٦٤ ذ ه / ١١٦٨ م.

(٢) بلبيس : مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ١١٨ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٢١٦ ؛ المقريزي ، الخطط ١ / ١٨٣ ؛ بيكر ، بلبيس ٤ / ٥٧.

(٣) ينظر : المصدر نفسه ٨ / ٩٩.

(٤) العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله ، خلع سنة ٥٦٧ ه‍ / ١١٧١ م ومات بها ، ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٩١ ؛ السيوطي ، تاريخ ٥٩٤.

(٥) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٥٧ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٥٩.

(٦) ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٩٩.

(٧) نور الدين أ : + الشهيد ب ج ه : ـ د.

(٨) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٩٩.

(٩) ينظر : المصدر نفسه ٩ / ١٠.

(١٠) أسد الدين الكردي الزرزاري ، وهو من قرية يقال لها دوين من أعمال أذربيجان ، خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب عند السلطان نور الدين زنكي توفي سنة ٥٦٤ ه‍ ، ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٦٠ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١٠١ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٥٩ ؛ العيني ١٩١ ـ ١٩٤.

(١١) ينظر : ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٥٥.

(١٢) الذي تسلطن فيما بعد أ ب ج : ـ د ه.

(١٣) من بيته أ ج ه : من بين يديه ب : ـ د.

٤٥١

سعادته وملكه (١)(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(٢) فإن نور الدين لما أمره بالمسير مع عمه شيركوه ، وكان شيركوه قد قال له (٣) بحضرة نور الدين : تجهز يا يوسف ، فقال : والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها ، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدا. فقال شيركوه لنور الدين : لا بد من مسيره معي ، فأمره نور الدين وهو يستقبل ، فقال نور الدين : لا بد من مسيرك مع عمك فشكى الضائقة (٤) ، فأعطاه ما تجهز به فكأنما يساق إلى الموت.

ولما قرب شيركوه من مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم ، فكان هذا المصير فتحا جديدا.

ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر ، واجتمع بالعاضد وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية ، وشرع شاور يماطل شيركوه فيما كان بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له ، ومع ذلك فكان شاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه ويعده ويمنيه (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠) (٥). ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه ويقبض عليهم ، فمنعه ابنه الكامل بن شاور من ذلك (٦). ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا (٧) على الفتك بشاور ، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن معه من الأمراء وعرفوا شيركوه بذلك فنهاهم عنه.

واتفق أن شاور قصد شيركوه على عادته فلم يجده في المخيم ، وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي ، رضي‌الله‌عنه ، فلقي صلاح الدين شاور ، وأعلمه برواح (٨) شيركوه إلى زيارة الشافعي ، فساروا ومن معهما جميعا إلى شيركوه ، فوثب صلاح الدين ومن معه على شاور وألقوه على الأرض عن فرسه ، وأمسكوه (٩) في سابع عشر ربيع الآخر سنة ٥٦٤ ه‍. فهرب أصحابه عنه وأعلموا شيركوه بما فعلوه فحضر ولم يمكنه الإتمام لذلك.

__________________

(١) ينظر : ابن شداد ٣١ ؛ ابن أيوب ٢٤١.

(٢) البقرة : [٢١٦].

(٣) له أ ج ه : ـ ب د / / أعطيت أ : أعطيتني ب ج ه : ـ د.

(٤) الضائقة أ ج ه : الضيقة ب : ـ د.

(٥) النساء : [١٢٠].

(٦) ينظر : ابن أيوب ٢٤٢.

(٧) عزموا على الفتك بشاور أ ب ج : ـ د ه.

(٨) برواح شيركوه أ ب ج : برواحه ه : ـ د.

(٩) ينظر : ابن شداد ٣٢ ؛ ابن أيوب ٢٤٢ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٧٢ ؛ ابن الأثير ، التاريخ ١٤١.

٤٥٢

وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور فقتله (١) ، وأرسل رأسه إلى العاضد ، ودخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد ، فخلع عليه خلعة الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش ، واستقر في الأمر وكتب له منشورا بالوزارة وتفويض أمور الخلافة إليه.

ولما لم يبق له منازع أتاه أجله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) (٢) ، وتوفي في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ٥٦٤ ه‍ (٣) ، فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام وهي ابتداء الدولة الأيوبية ، وكان شيركوه وأيوب ابني شادي من بلد دوين (٤) ، وأصلهما من الأكراد ، وخدما عماد الدين زنكي (٥) ، ثم ولده نور الدين محمود ، وبقيا معه إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها. وتوفي في هذه السنة ، على ما ذكرناه.

ولما توفي شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية ، فأحضر العاضد صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه الملك الناصر (٦) ، وثبت قدمه على أنه نائب لنور الدين يخطب له على المنابر بالديار المصرية ، وكان نور الدين يكتب لصلاح الدين الاسفهسلار (٧) ، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما على أن (٨) يكتب اسمه ، وكان لا يفرده بكتاب بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية ، يفعلون كذا وكذا (٩).

ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله ليتم به السرور

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٤١.

(٢) الأنعام : [٤٤].

(٣) ٥٦٤ ه‍ / ١١٦٨ م.

(٤) دوين : بلدة من نواي أران في آخر حدود أذربيجان بقرب من تفليس ، منها ملوك الشام بني أيوب ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٢ / ٤٩١.

(٥) عماد الدين زنكي : صاحب الموصل وحلب ويعرف أبوه بالحاجب قسيم الدولة أق سنقر التركي ، ولي بغداد في آخر دولة المستظهر بالله ، ثم نقل إلى الموصل ، كان فارسا شجاعا ، ملك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك والرها ، قتله بعض غلمانه وهو نائم سنة ٥٤١ ه‍ / ١١٤٥ م ، ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٨ / ٤٨ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٣ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ٤٢.

(٦) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٤٢ ؛ ابن شداد ٣٢ ؛ ابن أيوب ٢٤٤ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٦١ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ١٥٠.

(٧) الاسفهسلار : لفظ مركب من مقطعين ، أسفه أو معناه «المقدم» ، سلار ، وهو تركي ومعناه العسكر ومعنى اللفظ : مقدم العسكر ، ينظر : القلقنشدي ، صبح ٦ / ٧ ـ ٨ ؛ عاشور ٤١١.

(٨) على أن أ : عن أ ب ج ه : ـ د.

(٩) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٦١.

٤٥٣

وتكون قضيته مشاكله لقضية يوسف الصديق ، عليه‌السلام ، فأرسلهم إليه نور الدين ، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة سنة ٥٦٥ ه‍ (١). وسلك مع والده من الأدب ما جرت به عادته ، وألبسه الأمر كله ، فأبى أن يلبسه ، فحكمه في الخزائن كلها (٢). / / وأعطى صلاح الدين أهله الإقطاعات بمصر وتمكن من البلاد وضعف أمر العاضد.

وفي هذه السنة وهي سنة ٥٦٥ ه‍ ، سار الفرنج إلى دمياط (٣) وحاصروها ، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح ، فحاصروها برا وبحرا (٤) خمسين يوما (٥) ، وخرج نور الدين فأغار (٦) على بلادهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها.

وفي سنة ٥٦٦ ه‍ سار صلاح الدين من مصر فغزا بلاد الفرنج (٧) قريب عسقلان والرملة ، وعاد إلى مصر ، ثم خرج إلى أيلة (٨) وحاصرها وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي ، ونقل إليها المراكب ، وحاصرها برا وبحرا ، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر ، واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر ، وعزل قضاة المصريين وكانوا شيعة ، ورتب قضاة شافعية (٩) ، وذلك في العشرين من جمادى الآخرة سنة ٥٦٦ ه‍ (١٠).

ولما دخلت سنة ٥٦٧ ه‍ (١١) أقيمت الخطبة العباسية (١٢) بمصر وقطعت خطبة العاضد لدين الله وانقرضت الدولة العلوية الفاطمية ، وكان سبب الخطبة العباسية

__________________

(١) ٥٦٥ ه‍ / ١١٦٩ م.

(٢) ينظر : ابن شداد ٣٤ ؛ ابن أيوب ٢٤٥.

(٣) دمياط : ميناء مصري على الفرع الشرقي لنهر النيل ، ينظر : الهروي ٤٦ ؛ البكري ٢٦ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ٢ / ٥٣٧ ؛ القزويني ١٩٣ ؛ الوطواط ١٣٦ ؛ المقريزي ، الخطط ١ / ٢١٣ ؛ القرماني ٣ / ٣٧٠ ؛ بيكر ، دمياط ٩ / ٢٨٧.

(٤) برا وبحرا أ : ـ ب ج د ه.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٤٣ ؛ ابن شداد ٥٠ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٨٠.

(٦) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٨٠ ؛ ابن أيوب ٢٤٦ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ٧.

(٧) ينظر : ابن أيوب ٢٤٧.

(٨) أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام وقيل : هي آخر الحجاز وأول الشام ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ١ / ٢٩٢.

(٩) ينظر : ابن أيوب ٢٤٧ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٩١.

(١٠) ٥٦٦ ه‍ / ١١٧٠ م.

(١١) ٥٦٧ ه‍ / ١١٧١ م.

(١٢) ينظر : ابن أيوب ٢٤٧ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٩٨ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ١٥٠.

٤٥٤

بمصر : أنه لما تمكن الملك الناصر صلاح الدين في مصر ، وحكم على القصر ، وأقام فيه قراقوش الأسدي (١) وكان خصيا أبيض ، وبلغ نور الدين ذلك ، أرسل إلى صلاح الدين يأمره حتما جزما بقطع خطبة العلويين وإقامة الخطبة العباسية. فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر على ذلك (٢). وكان العاضد قد مرض ، فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء بأمر الله هو أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله العباسي (٣) خليفة بغداد ، ويقطعوا خطبة العاضد ، فامتثلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان.

وكانت قد قطعت الخطبة (٤) لبني العباس من ديار مصر في سنة ٣٥٩ ه‍ (٥) في خلافة المطيع لله العباسي (٦) حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز بالله الفاطمي باني القاهرة إلى هذا الآن ، وذلك مائتا سنة وثمان سنين.

وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلم أحد من أهله بقطع خطبته ، فتوفي العاضد يوم عاشوراء سنة ٥٦٧ ه‍ ، ولم يعلم بقطع خطبته.

واستولى صلاح الدين على قصر الخلافة على جميع ما فيه ، وكانت كثرته تخرج عن الإحصاء. ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر ، ووكل بهم من يحفظهم وخلا القصر من سكانه (٧)(كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(٨) وهذا العاضد

__________________

(١) أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي ، الملقب بهاء الدين ، كان خادم صلاح الدين ، ولما استقل صلاح الدين سلمه زمام القصر ، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية وفوض أمورها إليه ، واعتمد في تدبير أمورها عليه واشتهر بالبناء والعمارة ، توفي سنة ٥٩٧ ه‍ / ١٢٠٠ م ، ينظر : أبو شامة ، الذيل ١٩ ؛ ابن خلكان ٤ / ٩١ ـ ٩٢ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ٢٧٠ ؛ ابن تغري بردي ، النجوم ٦ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ؛ ابن العماد ٤ / ٣٣١.

(٢) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٨ / ١١١ ؛ السيوطي ، تاريخ ٥١١.

(٣) الحسن أبو محمد بن المستنجد بالله ولد سنة ٥٣٦ ه‍ / ١١٤١ م ، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه ، في خلافته انقضت دولة بني عبيد وخطب له بمصر وضربت السكة باسمه ، توفي سنة ٥٧٥ ه‍ ، ١١٧٩ م ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٤٨ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٣٠٤ ؛ الذهبي ، سير ٢٢ / ٦٨ ـ ٧٢ ؛ السيوطي ، تاريخ ٥١١ ـ ٥١٢ ؛ القرماني ٢ / ١٨١ ؛ ابن العماد ٤ / ١٨٣ ـ ٢٥١.

(٤) الخطبة أ ج ه : الخطابة ب : ـ د.

(٥) ٣٥٩ ه‍ / ٩٦٩ م.

(٦) أبو الفضل القاسم بن المقتدر ، بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المستكفي بالله ، وفي سنة؟؟؟

٣٦٣ ه‍ / ٩٧٣ م ، أصابه فالج ، فخلع من الخلافة ، وسلم الأمر لولده الطائع لله ، و؟؟؟

٣٦٤ ه‍ / ٩٧٢ م ، ينظر : المسعودي ، مروج ٢ / ٥٩٢ ؛ ابن عبد ربه ٥ / ١٣١ ؛ الذهبي؟؟؟

١٥ / ١١٣ ؛ ابن مسكوي ١ / ٨٧ ؛ ابن كثير ، البداية ١١ / ٢١٢ ؛ ابن القلانسي؟؟؟ ٢١ المختصر ٢ / ١١٣ ؛ السيوطي ، تاريخ ٤٦١ ـ ٤٦٨ ؛ القرماني ٢ / ١٥٢.

(٧) ينظر : ابن شداد ٣٥ ؛ ابن أيوب ٢٤٨ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٩٩.

(٨) يونس : [٢٤].

٤٥٥

هو آخر خلفاء الفاطميين.

وجملة مدتهم من حين ظهور جدهم المهدي بالله عبيد الله بسجلماسة (١)(٢) في ذي الحجة سنة ٢٩٦ ه‍ (٣) ، إلى أن توفي العاضد في التاريخ المذكور مائتان وسبعون سنة ونحو شهر ، وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ، ولم تحل إلا وتمررت ولم تصف إلا وتكدرت (٤) ، بل صفوها لا يخلو من الكدر ، وانقرضت دولتهم في خلافة المستضيء بأمر الله العباسي ـ كما تقدم ـ.

ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد ، ضربت لها البشائر عدة أيام ، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل (٥) وهو من خواص الخدم المنسوبة إلى نور الدين وصلاح الدين والخطباء ، وسيرت الأعلام السود (٦).

ثم توفي والد الملك صلاح الدين وهو الملك الأفضل نجم الدين أبو الشكر أيوب (٧) ، وكان ولده غائبا عن القاهرة في جهة الكرك ، لأنه كان قصدها لغزو الفرنج فلما عاد وجد أباه قد مات. وسبب موته : أنه ركب بمصر فنفرت به فرسه ، فوقع وحمل إلى قصره وبقي أياما ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ٥٦٨ ه‍ (٨) ، وكان خيرا عاقلا ، حسن السيرة ، كريما كثير الإحسان ، ودفن إلى جانب أخيه شيركوه ، ثم نقلا بعد سنتين إلى المدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

ثم دخلت سنة ٥٦٩ ه‍ (٩) ، فتوفي فيها الملك العادل نور الدين الشهيد ، هو أبو القاسم محمود بن الملك / / عماد الدين (١٠) أبي الجود زنكي بن آقسنقر ، تغمده

__________________

(١) سجلماسة : مدينة في جنوب المغرب ذات بساتين وأصناف العنب ، وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالا ، وهي واسعة الأقطار عامرة الديار وكثيرة البركات ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٣ / ١٩٢ ؛ القزويني ٤٢ ؛ الإدريسي ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ؛ القرماني ٣ / ٣٨٥.

(٢) بسجلماسة في سنة ٢٩٦ ه‍ أ ب ج : ـ د ه.

(٣) ٢٩٦ ه‍ / ٩٠٨ م.

(٤) وتكدرت أ ج : وتكررت ب : ـ د ه.

(٥) صندل بن عبد الله الخادم ويلقب بعماد الدين ، أرسله الخليفة إلى صلاح الدين مرارا ، وهو أكبر الخدم وأعقلهم ، وولي ناظرا على واسط ، واشتهر بالخير والصدقات ، توفي سنة ٥٩٣ ه‍ / ١١٩٦ م ، ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٩٩ ؛ أبو شامة ، الذيل ١١ ؛ ابن أيوب ٢٤٨.

(٦) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ١ / ١٩٩.

(٧) ينظر : ابن شداد ٣٦ ؛ ابن أيوب ٢٥٠.

(٨) ٥٦٨ ه‍ / ١١٧٢ م.

(٩) ٥٦٩ ه‍ / ١١٧٣ م.

(١٠) ٥١١ ه‍ / ١١١٧ م.

٤٥٦

الله برحمته. ومولده في شوال سنة ٥١١ ه‍ (١) ، وكانت وفاته يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة ٥٦٩ ه‍ (٢) ، وكان ملكه لدمشق في سنة ٥٤٩ ه‍ (٣) ، بعد أن ملك حلب وغيرها من قبل ذلك ، وكان ملكا عادلا مجاهدا خيرا ، فتح الفتوحات واتسع ملكه ، وخطب له بالحرمين واليمن ومصر ، وخطب له في الدنيا على جميع منابر الإسلام ، وبنى السبل والمكاتب وأكمل سور المدينة الشريفة ، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله وزهده (٤) ، رضي‌الله‌عنه.

واستقر (٥) بعده في الملك بدمشق ولده الملك الصالح إسماعيل (٦) ، فقصد الملك الناصر صلاح الدين دمشق وأخذها (٧) ، وكان الصالح توجه إلى حلب ليقيم بها.

وثبتت قدم الملك صلاح الدين وقرر أمر دمشق ، وكان دخوله إليها في سلخ ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة (٨). ثم سار إلى حمص وملكها (٩) ثم إلى حماة وملكها (١٠) ، ثم سار إلى حلب وحاصرها فلم يقدر على أخذها لأن أهلها صدوه عنها محبة في الملك الصالح ، وآخر الأمر وقع الاتفاق أن يكون للملك الناصر صلاح الدين ما بيده من الشام وللملك الصالح ما بقي بيده منه ، فصالحهم على ذلك (١١) ، ورحل عن حلب وأخذ عدة أماكن وقلاع ممن هي بيده ، ثم عاد إلى مصر.

فلما توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين في سنة ٥٧٧ ه‍ (١٢) استقر

__________________

(١) عماد الدين .. برحمته أ ب ج : ـ د ه / / أبي ب ج : أبو أ : ـ د ه.

(٢) ٥٦٩ ه‍ / ١١٧٢ م.

(٣) ٥٤٩ ه‍ / ١١٧٢ م.

(٤) ينظر : ابن الجوزي ، المنتظم ١٧ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ؛ ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٢٥ ؛ ابن الأثير ، التاريخ ١٤٦ ؛ ابن خلكان ٥ / ١٨٤ ـ ١٨٩ ؛ ابن كثير ، البداية ١٢ / ٢٧٧ ـ ٢٨٤ ؛ النعيمي ١ / ٣٣١ ؛ ابن العماد ٤ / ٢٢٨ ـ ٢٣١.

(٥) واستقر أ ب ج : وانتقل ه : ـ د.

(٦) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٦٢ ؛ ابن شداد ٣٦ ؛ أبو شامة ، الروضتين ١ / ٢٣٠.

(٧) ينظر : ابن شداد ٣٨.

(٨) ٥٧٠ ه‍ / ١١٧٣ م.

(٩) ثم سار إلى حمص وملكها ثم إلى حماة وملكها أ ه : ثم سار إلى حمص وحماة وملكها ب ج : ـ د.

(١٠) ينظر : ابن أيوب ٢٥٣.

(١١) ينظر : ابن أيوب ٢٥٥.

(١٢) ٥٧٧ ه‍ / ١١٨١ م.

٤٥٧

بعده في الملك بحلب عمه عز الدين مسعود (١) ، ثم استقر بحلب عماد الدين زنكي (٢) بن مودود صاحب سنجار (٣) ، واستقر مسعود بسنجار بتراضيهما.

ثم في سنة ٥٧٨ ه‍ (٤) ، ثم في خامس المحرم سار الملك الناصر صلاح الدين عن مصر إلى الشام (٥) ولم يعد بعد ذلك إلى مصر إلى أن توفي ، وسار في طريقه على بلاد الفرنج وغنم ووصل إلى دمشق في صفر (٦) ، ثم سار في ربيع الأول ونزل قرب طبرية وشهد الإغارة (٧) على بلاد الفرنج مثل : بيسان وجنين (٨) والغور فغنم وقتل. ثم سار إلى بيروت وحصرها ، وأغار على بلادها ، ثم سار إلى عدة بلاد (٩).

وفي السنة المذكورة وهي سنة ٥٧٨ ه‍ قصد الفرنج المقيمون بالكرك والشوبك (١٠) المسير لمدينة رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لينبشوا قبره الشريف وينقلوا جسده المقدس (١١) إلى بلادهم ويدفنوه عندهم ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلا بجعل. فأنشأ البرنس أرناط (١٢) صاحب الكرك سفنا حملها على البر إلى بحر القلزم ، وأركب فيها الرجال ، وسارت الفرنج ومضوا يريدون المدينة الشريفة (١٣). فكان السلطان صلاح الدين على حوران (١٤) ، فلما بلغه ذلك بعث إلى سيف الدولة بن

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٨٢ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٢١ ـ ٢٢.

(٢) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ٨٣.

(٣) سنجار : مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة ، جبلها من أخصب الجبال ، بينها وبين الموصل ثلاثة أيام ، ينظر : ابن خرداذبة ٩٦ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢٨٣ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٧٤٣ ياقوت ، معجم البلدان ٣ / ٢٩٧ ؛ الحميري ٣٢٦ ؛ القزويني ٢٠٤ ؛ القرماني ٣ / ٣٨٣.

(٤) ٥٧٨ ه‍ / ١١٨٢ م.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، التاريخ ١٨٣ ؛ ابن شداد ٤٤.

(٦) ينظر : ابن شداد ٤٤.

(٧) ينظر : ابن أيوب ٢٦٣ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ١٨٩.

(٨) وجنين أ ج ه : جبين ب : ـ د.

(٩) ينظر : ابن أيوب ٢٦٣.

(١٠) الشوبك : قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وأيلة قرب الكرك ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٤٧ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٨١٨.

(١١) المقدس أ ج ه : الكريم ب : ـ د.

(١٢) أرناط أ ج ه : أرباط ب : ـ د.

(١٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٥٩ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٣٥ ؛ ابن أيوب ٢٦٤ ؛ المقريزي ، السلوك ١ / ١٩٠.

(١٤) حوران : كورة واسعة من أعمال دمشق ذات قري ومزارع ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٤٣٥ ؛ الحميري ٢٠٦.

٤٥٨

منقذ (١) نائبه على مصر يأمره بتجهيز الأمير حسام الدين لؤلؤ (٢) الحاجب خلف العدو.

فاستعد لذلك وسار في طلبهم حتى أدركهم ولم يبق بينهم وبين المدينة إلا مسافة يوم ، وكانوا نيفا وثلثمائة ، وقد انضم إليهم عدة من العربان المرتدة. ففرت العربان ، والتجأ الفرنج إلى رأس جبل صعب المرتقى. فصعد إليهم في نحو عشرة أنفس وضايقهم فيه فخارت قواهم بعد ما كانوا معدودين من الشجعان ، فقبض عليهم (٣) وقيدهم وحملهم إلى القاهرة وكان لدخولهم يوم مشهود ، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء (٤) وأرباب الديانة بعدما ساق رجلين من أعيان الفرنج إلى منى ونحرهما هناك كما تنحر البدن التي تساق هديا إلى الكعبة (٥).

ثم في سنة ٥٧٩ ه‍ (٦) ملك حمص وآمد (٧) وعينتاب (٨) وغيرها ، ثم سار إلى حلب وحاصرها وأخذ من صاحبها عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين وعوضه عنها سنجار وما معها وتسلم حلب في صفر من هذه السنة (٩) ، ومن الاتفاقات العجيبة أن محي الدين بن الزكي (١٠) قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها :

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر

مبشر بفتوح القدس في رجب

فوافق فتح القدس في رجب سنة ٥٨٣ ه‍ (١١) ، على ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : ابن خلكان ٤ / ١٤٤ ـ ١٤٦.

(٢) ينظر : أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٣٥ ؛ ابن أيوب ٢٦٥ ؛ اليافعي ٣ / ٤٩٥.

(٣) فقبض عليهم أ : وقبض عليهم ب ج ه : ـ د.

(٤) والفقهاء أ ج ه : والفقاء ب : ـ د.

(٥) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٦٠ ؛ أبو شامة ، الروضتين ٢ / ٣٥.

(٦) ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م.

(٧) آمد : لفظة رومية وهي بلد قديم حصين ، ودجلة محيطة بأكثره تسمى اليوم دياربكر. ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٥٣ ؛ البغدادي ، مراصد ١ / ٦ ؛ الحميري ٣ ؛ القرماني ٣ / ٢٠٠.

(٨) عينتاب : قلعة حصينة قرب حلب ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٦٨ ؛ القزويني ٢٢٣ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٧٧ : القرماني ٣ / ٤٢٣.

(٩) ينظر : المقريزي ، السلوك ١ / ١٩٣.

(١٠) أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى المقلب محي الدين المعروف بابن زكي الدين ، فقيه شافعي ولي قضاء دمشق ثم ولي قضاء حلب ، وهو أول خطيب للمسجد الأقصى بعد تحريره على يد صلاح الدين ، توفي سنة ٥٩٨ ه‍ / ١٢٠١ م ، ينظر : ابن خلكان ٤ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ ؛ الذهبي ، العبر ٤ / ٢٠٥ ؛ السبكي ٤ / ٨٩ ؛ اليافعي ٣ / ٤٩٥ ؛ ابن العماد ٤ / ٣٣٧.

(١١) ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م.

٤٥٩

وفي سنة ٥٨٠ ه‍ (١) غزا السلطان الكرك وضيق على من به (٢) ، وملك ربض الكرك وبقيت القلعة وحصل بين المسلمين والفرنج القتال ، فزحل عنها وسار إلى نابلس ، / / وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى ، وعاد إلى دمشق (٣).

وفي سنة ٥٨١ ه‍ (٤) ملك ميافارقين (٥).

وفي سنة ٥٨٢ ه‍ (٦) أحضر السلطان (٧) ولده الملك الأفضل من مصر فأقطعه دمشق ، ثم أحضر أخاه العادل من حلب وجعل ولده العزيز عثمان نائبا عنه بمصر واستدعى نائبه بمصر ـ هو وابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ـ وزاده على حماة منبج (٨) والمعرة وكفر طاب (٩) وميافارقين. واستقر العزيز عثمان والعادل أبو بكر في مصر.

واستمر الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ٥٨٣ ه‍ (١٠) ، فيها كانت الوقعة العظيمة التي فتح الله بها بيت المقدس وغيره على يد السلطان الأعظم والليث الهمام ، المقدم سلطان الإسلام والمسلمين ، محي العدل في العالمين ، قاتل الكفرة والمشركين ، قاهر الخوارج (١١) والمرتدين جامع كلمة الإيمان ، قامع عبدة الصلبان ، رافع علم العدل والإحسان ، خادم الحرمين الشريفين ، منقذ البيت المقدس من أهل الزيغ والطغيان ، الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ، هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادي ، تغمده الله برحمته ، وأسكنه فسيح جنته ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.

__________________

(١) ٥٨٠ ه‍ / ١١٨٤ م.

(٢) من به أ : أهلها ب ج ه : ـ د.

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٤) ٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م.

(٥) ميافارقين : مدينة مشهورة بديار بكر ، كانت بها بيعة من مهد المسيح ، وهي الآن جامعها ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٥ / ٢٣٥ ـ ٢٣٨ ؛ القزويني ٥٦٥ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢٧٨ ؛ القرماني ٣ / ٤٨٥.

(٦) ٥٨٢ ه‍ / ١١٨٦ م.

(٧) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ؛ ابن أيوب ٢٦٩.

(٨) منبج : مدينة ببلاد حلب ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٥ / ٢٠٥ ـ ٢٠٧ ؛ القزويني ٢٧٤ ؛ القرماني ٣ / ٤٨٨.

(٩) كفر طاب : بليدة بين المعرة وحلب سميت بذلك لأن حواليها أرضا طيبة كريمة وثمارا كثيرة ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢٦٣ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١١٧١ ؛ الحميري ٥٠٠.

(١٠) ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م.

(١١) الخوارج أ ج ه : ـ ب د.

٤٦٠