الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

مجير الدين الحنبلي العليمي

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل - ج ١

المؤلف:

مجير الدين الحنبلي العليمي


المحقق: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة دنديس
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولبث مع بني إسرائيل في القدس يدبر أمرهم حتى توفي بعد مضي أربعين سنة لعمارة بيت المقدس. فتكون وفاته سنة ثلاثين ومائة لابتداء ولاية بخت نصر ، واسم العزير بالعبرانية : عزرا وهو من ذرية هارون بن عمران ، ثم تولى رئاسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد العزير شمعون الصديق (١) وهو أيضا من نسل هارون.

ولما تراجع بنو إسرائيل إلى القدس بعد عمارته ، صار لهم حكام (٢) منهم ، وكانوا تحت حكم ملوك الفرس ، واستمروا كذلك حتى ظهر الإسكندر (٣) ملك اليونان في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لولاية بخت نصر ، وغلب اليونان على الفرس ، ودخل حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان.

وبين غلبة الإسكندر على ملك الفرس (٤) وبين الهجرة الشريفة تسعمائة وأربع وثلاثون سنة. ومات الإسكندر بعد غلبته على الفرس (٥) بقريب سبع سنين ، فيكون بين موته وبين الهجرة الشريفة تسعمائة وقريب ثمان وعشرين سنة ، وقد مضى من الهجرة الشريفة إلى عصرنا تسعمائة سنة ، فيكون الماضي من وفاة الإسكندر إلى آخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة ألفا وثمانمائة وقريب ثمان وعشرين سنة.

وهذا الإسكندر ليس هو ذو القرنين (٦) الذي ذكره الله (٧) في القرآن ، فإن ذلك ملك قديم كان على زمن إبراهيم الخليل ، عليه‌السلام ، وقد تقدم (٨) ذكره.

ولما دخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان أقام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم ، وكان يقال للمتولي عليهم : هردوس (٩). واستمر بنو إسرائيل على ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني ، وتشتت منه بنو إسرائيل على

__________________

(١) ينظر : ابن سعد ١ / ٥٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ٢١١.

(٢) حكام أ ب د : حاكما ج ه.

(٣) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٧٣ ؛ الثعلبي ٢٠٠ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٥٩ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ١٠٥.

(٤) على ملك الفرس أ ج د ه : ـ ب / / تسعمائة وأربع وثلاثون سنة أ ب ج د : تسعمائة وأربعة آلاف سنة ه.

(٥) على الفرس أ ج د ه : ـ ب / / بقريب أ ج د ه : لقريب ب.

(٦) ذو القرنين : اختلف فيه إن كان نبيا من الأنبياء أو ملكا من الملائكة أو ملكا عادلا ، وقد ذكره الله تعالى في سورة الكهف في الآية ٨٢ ، ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٣٢ ؛ الطبري ، تاريخ ١ / ٥٧٢ ؛ الثعلبي ٢٠٠ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٥٩ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ١٠٢.

(٧) الله أ ج د ه : + تعالى ب.

(٨) وقد تقدم أ ه : وتقدم ذكره ب ج د.

(٩) هردوس أ ب د : هردودوس ج ه.

٢٦١

ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى.

قصة أرميا عليه‌السلام

(١) قد تقدم عند ذكر صدقيا ، الذي هو آخر ملوك بني إسرائيل ، أن أرميا النبي ، عليه‌السلام ، كان فيه أيامه وكان يأمر بني إسرائيل بالتوبة ويهددهم ببخت نصر وهم لا يلتفتون إليه. فلما رأى أنهم لا يرجعون عما هم فيه فارقهم أيضا واختفى حتى غزاهم بخت نصر وخرب (٢) القدس ، كما تقدم ذكره ، ثم إن الله تعالى أوحى إلى أرميا النبي (٣) : أني عامر بيت المقدس فاخرج إليها. فخرج أرميا وقدم إلى القدس وهي خراب فقال : سبحان الله ، أمرني الله أن أنزل هذه البلدة ، وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها. ثم وضع رأسه فنام (٤) ، ومعه حماره وسلة فيها طعام وهو تين وركوة فيها عصير عنب.

وكان من قصته ما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) ـ أي لم يتغير ـ (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))(٥).

وقد قيل : إن صاحب القصة هو العزير (٦) والأصح أنه أرميا. وقد أهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل ، ولم [٣٧ / أ] يمت أحد منهم (٧) ببابل ، وردهم الله جميعا (٨) / / إلى بيت المقدس ونواحيه.

قال البغوي في تفسيره : وعمر الله أرميا فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله

__________________

(١) ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٢٨ ؛ الطبري ، تاريخ ١ / ٥٤٨ ؛ الثعلبي ١٩١ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٤٨ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٣٤ ؛ ابن كثير ، قصص ٤٤٨ ؛ القرماني ١ / ١٩١.

(٢) وخرب أ ب د : وأخر ب ج ه.

(٣) النبي أ : ـ ب ج د ه / / أني عامر بيت المقدس ج د ه : عمر بيت المقدس أ : أني عامر بلدة بيت المقدس ب.

(٤) فنام أ د : ونام ب ج ه.

(٥) البقرة : [٢٥٩].

(٦) ينظر : الثعلبي ١٩١ ؛ القرماني ١ / ١٩٨.

(٧) أحد منهم أ : ـ ب ج د ه.

(٨) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٥٦ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٥١.

٢٦٢

تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)(١) أي أحياه ، وبعثه الله على السن الذي توفاه عليه بعد مائة سنة وهو أربعون سنة ولابنه عشر ومائة سنة ، ولا بن ابنه تسعون سنة ، وأنشد في ذلك :

واسود رأس شاب من قبل ابنه

ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر (٢)

ترى ابنه شيخا يأتي على عصا

ولحيته سوداء والرأس أشقر (٣)

وما لابنه حيل ولا فضل قوة

يقوم كما يمشي الصبي فيعثر

يعد ابنه في الناس تسعين حجة

وعشرين لا يجري ولا يتبختر (٤)

وعمر أبيه أربعون أمرها

ولابن ابنه في الناس تسعون غير (٥)

فما هو في المعقول إن كنت داريا

وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر

فصل

لما (٦) ملك الإسكندر وقهر الفرس ، وعظمت مملكة اليونان صار بنو إسرائيل وغيرهم تحت طاعتهم ، وتولت (٧) ملوك اليونان بعد الإسكندر وكان يقال لكل واحد منهم بطليموس (٨). فلما مات الإسكندر ملك بعده بطليموس بن لاغوس (٩)(١٠) عشرين سنة ، ثم ملك بعده بطليموس (١١) تخت أخيه واسمه عند اليهود ثلماي ـ بثاء مثناة (١٢) من فوقها ثم لام ساكنة ثم ميم مفتوحة وبعدها ألف ثم ياء آخر الحروف ، وهو الذي نقلت له (١٣) التوراة وغيرها من كتب الأنبياء من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية (١٤). وكان نقل التوراة بعد عشرين سنة مضت من موت الإسكندر.

__________________

(١) البقرة : [١٥٩].

(٢) هذه الأبيات أنشدها أبو حاتم السجستاني ، ينظر : ابن كثير ، البداية ٢ / ٤٥.

(٣) يأتي على عصا أ : يجيء على عصا ب د ه : ـ ج : أيدب على عصا ابن كثير.

(٤) لا يجري ولا يتبختر أ ه ابن كثير : لا يحذري ولا يتعجر ب د : لا يحتر ولا يتحير ج.

(٥) أبيه أ ج ه : ابن ب د / / أربعون أ : أربعين ب ج د ه.

(٦) لما أ ج ه : ولما ب د / / صار بنو إسرائيل ... بعد الإسكندر أ ب ج د : ـ ه.

(٧) وتولت أ ج د ه : وتوالت ب.

(٨) بطلميوس أ ج ه : بطليوس ب د.

(٩) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٧٨ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٦٥.

(١٠) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٧٨ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٦٦.

(١١) لاغوس أ ، الطبري ، ابن الأثير ، الكامل : الأغوش ب ج د ه / / بطلميوس أ ج ه : بطليوس ب د.

(١٢) بثاء مثناة أ ج ه : بناء مثلثة ب د / / وبعدها ألف أ ج ه : ـ ب د.

(١٣) نقلت له أ ج ه : نقلت إليه ب د.

(١٤) اليونانية أ : + وكان نقل التوراة ب د ه : + فكان نقل التوراة ج.

٢٦٣

ولما تولى بطليموس (١) الثاني تخت أخيه المسمى عند اليهود ـ ثلماي ـ وجد جملة (٢) من الأسرى منهم نحو ثلاثين ألفا من اليهود ، فأعتقهم كلهم ، وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم. ففرحوا بذلك وأكثروا له بالدعاء والشكر. فأرسل رسولا وهدايا إلى بني إسرائيل المقيمين بالقدس الشريف وطلب منهم أن يرسلوا إليه عدة (٣) من علماء بني إسرائيل لنقل التوراة وغيرها إلى اللغة اليونانية. فسارعوا إلى امتثال أمره ، ثم إن بني إسرائيل تزاحموا على الرواح إليه ، وبقي كل منهم يختار ذلك واختلفوا ، ثم اتفقوا على أن يبعثوا إليه من كل سبط من أسباطهم ستة. فبلغ ذلك من عددهم اثنين وسبعين رجلا.

فلما وصلوا إلى بطليموس المذكور المسمى عندهم ثلماي ، أحسن إليهم ، قراهم ، وصيرهم ستا وثلاثين فرقة ، وخالف بين أسباطهم ، وأمرهم ، فترجموا له ستا وثلاثين نسخة من التوراة ، وقابل بعضها إلى بعض ، فوجدها مستوية لم تختلف اختلافا يعتد به ، وفرق النسخ المذكورة في بلاده. وبعد فراغهم من الترجمة ، أكثر لهم الصلاة وجهزهم إلى بلدهم (٤). وسأله المذكورون في نسخة من تلك النسخ ، فأسعفهم بنسخة ، فأخذها المذكورون وعادوا بها إلى بني إسرائيل ببيت المقدس.

فنسخة التوراة المنقولة لبطليموس (٥) المسمى ثلماي ، أصح نسخ التوراة وأثبتها ، وهي التوراة اليونانية التي عليها عمل المؤرخين. وأما التوراة العبرانية وهي التي بأيدي اليهود ، والتوراة السامرية (٦) فكل واحدة منهما مبدلة لا عمل عليها ، والله أعلم.

ذكر سيدنا يونس بن متى عليه‌السلام (٧)

ومتى أبو يونس ، وقيل : إن متى (٨) أمه ، والذي عليه أكثر العلماء ، إنه أبوه.

__________________

(١) بطلميوس أ ج ه : بطليوس ب د.

(٢) جملة أ ج ه : جماعة ب د / / الأسرى أ ه : الأسارى ب ج د.

(٣) إليه عدة ب ج : له عدة أ د ه.

(٤) بلدهم أ : بلادهم ب ج د ه.

(٥) لبطليموس أ ج ه : بطليوس ب د.

(٦) منسوبة إلى السمرة وهي طائفة يهودية تعيش في مدينة نابلس على جبل جرزيم ، ويعدون توراتهم هي الحقيقة وما سواها مزيف ، وأنهم أتباع موسى الحقيقيون ، ينظر : الحموي ، معجم البلدان ٣ / ٢٠٠ ؛ شريدة ١٨ ؛ Auirgod.Samaria IV.

(٧) ينظر : سفر يونان ، الإصحاح الأول ١٣١٥ ؛ الطبري ، تاريخ ٢ / ١١ ؛ المسعودي ١ / ٢١٣ ؛ الثعلبي ٢٣٨ ؛ ابن كثير ، البداية ١ / ٢٣١ ؛ القرماني ١ / ١٥٨.

(٨) أن متى أ ج د ه : ـ ب.

٢٦٤

وقد ورد في الحديث الشريف : أن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (١) ونسبه إلى أبيه ، ولكن نقل الملك المؤيد صاحب حماة في تاريخه (٢) : إن متى أمه ، قال : ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس ، عليهما‌السلام.

وقيل : إن يونس من بني إسرائيل ، وأنه من سبط بنيامين ، وتزوج بنت رجل من الأولياء اسمه زكريا ، وكان زكريا (٣) مقيما بالرملة فأقام يونس عنده ، ثم بعد وفاة زكريا توجه إلى بيت المقدس يعبد الله تعالى (٤) ، وكانت بعثته في أيام يوثم بن عزياهو أحد ملوك بني إسرائيل ، وتقدم ذكر ذلك عند ذكر يوثم المذكور.

وبعث الله يونس إلى أهل نينوى (٥) ـ وهي قبالة الموصل بينهما دجلة ـ وكانوا يعبدون الأصنام فنهاهم وأوعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا وضمن ذلك عن ربه ، عز وجل. فلما أظلهم العذاب آمنوا ، / / فكشف الله عنهم ، فجاء (٦) يونس [٣٧ / ب] لذلك اليوم ، فلم ير العذاب حل ، ولا علم بإيمانهم ، فذهب مغضبا ، ودخل في سفينة من سفن دجلة (٧) ، فوقفت السفينة ولم تتحرك ، فقال رئيسها : فيكم من له ذنب ، فتساهموا على من يلقونه في البحر (٨) ، فوقعت المساهمة على يونس ، فرموه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٤٢) (٩) وسار به (١٠).

وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز وملخص قصته : إن الحوت التقمه ، فكان (١١) يونس يسبح على قلب الحوت ، والحوت يقول : يا يونس اسمعني تسبيح المقمومين ، وهو يقول : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧) (١٢) ، فتقول الملائكة : إلهنا وسيدنا إنا نسمع تسبيح مكروب كان

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد ، ينظر : ابن كثير ، البداية ١ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : أبو الفداء ، المختصر ١ / ٣٢.

(٣) وكان زكريا ب ج د ه : ـ أ.

(٤) تعالى أ ج د ه : ـ ب.

(٥) نينوى : قرية يونس عليه‌السلام ، بالموصل تقابلها من الجانب الشرقي ، ينظر : المسعودي ١ / ٢١٣ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٤١٦ ؛ الحميري ٥٧٩ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١٤١٤.

(٦) فجاء أ : وجاء ب ج د ه.

(٧) دجلة : النهر المعروف ، والذي يخرج من بلاد آمد من ديار بكر ، ويمر بالموصل وتكريت وسر من رأى ومدينة السلام ويصب في خليج البصرة ، ينظر : المسعودي ١ / ١٠٥.

(٨) في البحر ب ج د ه : ـ أ / / فالتقمه الحوت وهو مليم ب ج د ه : ـ أ.

(٩) الصافات : [١٤٨].

(١٠) به أ ج د ه : عنه ب.

(١١) فكان أ ج ه : وكان ب د / / والحوت يقول ب ج : والحوت تقول أ د ه.

(١٢) الأنبياء : [٨٧].

٢٦٥

لك شاكرا ، اللهم فارحمه في كربته وغربته (١) ، قال الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧) (٢) يعني ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، قال الله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤))(٣). وروي أنه ما قرأ هذه الآية مكروب إلازال كربه (٤) وهي سورة الأنبياء. واختلف (٥) في مدة لبثه ، فمنهم من قال : أربعين يوما ، وقيل : ثلاثة أيام ، فلما انقضت المدة التي قدرها الله تعالى (٦) له أمر الحوت ، أن يرده إلى الموضع الذي أخذه منه. فشق ذلك على الحوت لاستثناسه بذكر الله تعالى ، فقيل له : اقذفه ، فقذفه في الساحل ، فذلك قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥) (٧) واسم الحوت : النون.

وخرج يونس مثل الفرخ المنتوف وقد ذهب بصره وهو لا يقدر على القيام فأنبت الله شجرة من يقطين لها أربعة آلاف غصن ، فكانت فراشه وغطاءه ، وأمر الله الظبية فجاءته وأرضعته حتى قوي ، وهبط جبريل ، عليه‌السلام ، فسلم عليه وأمرّ يده على رأسه وجسده ، فأنبت الله لحيته ، ورد عليه بصره ، وأوحى الله بإيمان قومه حين رأوا العذاب ، ثم هبط إليه ملك ودفع إليه حلتين وقال : سر إلى قومك فإنهم يتمنوك (٨) ، فاتزر بواحدة وارتدي بالأخرى ، وسار يونس ، عليه‌السلام ، واجتمع بزوجته وولديه قبل وصوله إلى قومه ، ثم وصل الخبر إلى قومه بوصوله ، فوثب الملك عن سريره وخرجوا كلهم إلى يونس ، عليه‌السلام ، وسلموا عليه ، وفرحوا به ، فحملوه (٩) إلى المدينة. وأقام فيهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، فمات الملك وماتت زوجة يونس وأولاده (١٠).

ومات يونس (١١) في سنة خمس عشر وثمانمائة لوفاة موسى ، عليه‌السلام ،

__________________

(١) في كربته وغربته أ ه : في غربته وكربته ب د : من كربته وغربته ج.

(٢) الأنبياء : [٨٧].

(٣) الصافات : [١٤٤].

(٤) ينظر : ابن كثير ، البداية ١ / ٢٣٤.

(٥) واختلف أ ج ه : واختلفوا ب د.

(٦) قدرها الله تعالى له أ ج ه : قدرها الله له ب د.

(٧) الصافات : [١٤٥].

(٨) يتموك أ ج ه : يتمونك ب د.

(٩) فحملوه أ ه : وحملوه ب ج د / / وأقام أ ج ه : فأقام ب د.

(١٠) وماتت زوجة يونس أ ج ه : وماتت زوجة ب د.

(١١) ومات يونس أ : وكانت وفاة يونس ب ج د ه.

٢٦٦

وقبره في قرية بالقرب من بلد سيدنا الخليل ، عليه‌السلام ، على مسافة قرية ، وهذه القرية تسمى حلحول (١) ، وهي على طريق بيت المقدس ، وصار على قبره منارة ومسجد (٢) والذي بنى المنارة الملك المعظم عيسى (٣) بولاية الأمير رشيد الدين فرج بن عبد الله المعظم (٤) في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة (٥) ، وقد اشتهر أمره والناس يقصدونه للزيارة ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومتى مدفون بالقرب منه بقرية يقال لها بيت أمر (٦) ، وكان رجلا صالحا من أهل بيت النبوة ، والله أعلم.

ذكر زكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام (٧)

وما وقع لسيدنا عيسى بن مريم ، عليه‌السلام ، وصعوده إلى السماء وملخص ما وقع لزكريا ويحيى ، عليهما‌السلام. أقول ـ وبالله التوفيق ـ أن سيدنا زكريا من ولد سليمان بن داود ، عليهم‌السلام (٨) ، وكان نبيا ذكره الله تعالى (٩) في القرآن ، وكان نجارا ، وهو الذي كفل مريم أم عيسى. وكانت مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وكانت أم مريم اسمها حنة ، وكان زكريا متزوجا أخت حنة واسمها إيساع ، فكانت زوج (١٠) زكريا خالة مريم ، ولذلك كفل زكريا مريم ، وسنذكر ذلك.

__________________

(١) حلحول : بلدة إلى الشمال من مدينة الخليل ، بها قبر النبي يونس ، عليه‌السلام ، ينظر : البغدادي ، مراصد ١ / ٤١٨ ؛ شراب ٢٩٧.

(٢)؟؟؟ منارة ومسجد أ ه : مسجد ومنارة ب ج د.

(٣)؟؟؟ عظم عيسى : شرف الدين عيسى بن العادل الحنفي الأديب ، ولد سنة ٥٧٦ ه‍ / ١١٨٠ م ، وحفظ القرآن ، وملك الشام بعد أبيه من العرش إلى حمص ، وتوفي عام ٦٢٤ ه‍ / ١٢٢٧ م ؛ ينظر : ابن الأثير ، الكامل ٩ / ٣٧٤ ؛ أبو شامة ، الذيل ١٥٢ ؛ ابن وصال ٤ / ٢٠٩ ـ ٢٢٣ ؛ ابن العماد ٥ / ١١٥ ؛ اليافعي ٤ / ٥٨ ؛ ابن قطلوبغا ٢٢٥ ؛ الجابي ٥٧٣ ؛ غواتمة ٥ پ ٢.

(٤) رشيد الدين فرج بن عبد الله : لم أعثر له على ترجمة.

(٥) ٦٢٣ ه‍ / ١٢٢٦ م.

(٦) بيت أمر : قرية تقع إلى الشمال من الخليل على طريق القدس ، وفي القرية جامع النبي متى ، ينظر : شراب ١٧٦ ؛ إبريغيث ١٩.

(٧) ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٣١ ؛ الطبري ، تاريخ ١ / ٥٨٠ ؛ المسعودي ١ / ٦٣ ؛ الثعلبي ٢٠٧ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٦٩.

(٨) ولد سليمان ... السلام أ ب ج : ـ د ه / / عليهم أ ج : عليها ب : ـ د ه / / ذكره أ ج ه : وقد ذكره ب د.

(٩) تعالى أ ه : ـ ب ج د / / أم عيسى وكانت مريم بنت عمران أ ج د ه : مريم بنت عمران بن ماثان ب.

(١٠) فكانت زوج أ ج ه : وكانت زوجة ب ه.

٢٦٧

وأرسل الله تعالى جبريل ، عليه‌السلام ، فبشر زكريا بيحيى مصدقا بكلمة من الله يعني عيسى بن مريم ، ثم أرسل الله تعالى ، جبريل ، عليه‌السلام ، ونفخ (١) في جيب مريم ، فحملت بعيسى ، عليه‌السلام ، وكانت قد حملت خالتها إيساع ، بيحيى [٣٨ / أ] وولد يحيى ، قبل عيسى بستة أشهر ، ثم ولدت مريم عيسى.

فلما علمت اليهود أن مريم ولدت من غير بعل اتهموا زكريا بها وطلبوه فهرب واختفى في شجرة عظيمة ، فقطعوا الشجرة وقطعوا زكريا معها (٢). وكان عمر زكريا حينئذ نحو مائة سنة ، وكان قتله بعد ولادة المسيح ، وكانت ولادة المسيح (٣) لمضى ثلاثمائة وثلاث سنين للإسكندر ، ويأتي تحرير تاريخ مولده قريبا ، فيكون مقتل زكريا بعد ذلك بقليل (٤).

وأما يحيى ابنه فإنه نبي وهو صغير ، ودعا الناس إلى عبادة الله ، ولبس الشعر ، واجتهد في العبادة حتى نحل جسمه.

وكان عيسى بن مريم قد حرم نكاح بنت الأخ. وكان لهرودوس (٥) ـ وهو الحاكم على بني إسرائيل ـ بنت أخ وأراد أن يتزوجها كما هو جائز في ملة اليهود ، فنهاه يحيى عن ذلك ، فطلبت أم البنت من هرودوس (٦) أن يقتل يحيى ، فلم يجبها إلى ذلك ، فعاودته. وسألته البنت أيضا وألحت عليه فأجابها إلى ذلك ، وأمر بيحيى فذبح (٧) ووضع رأسه بين يدي هرودوس ، وكان الرأس (٨) يتكلم ويقول : لا تحل لك ، واستمر غليان دمه ، فأمر بتراب فألقي عليه فما ازداد إلا انبعاثا ، فبعث الله عليهم ملكا من جهة المشرق يقال له خرودوش (٩) ، فقتل منهم على دم يحيى سبعين ألفا إلى أن سكن دمه.

وزعم قومه : أن بخت نصر هو الذي غزاهم وقتلهم على دم يحيى. وليس بصحيح : لأن بخت نصر خرب بيت المقدس قبل (١٠) ولادة يحيى بنحو خمسمائة

__________________

(١) ونفخ أ ج : فنفخ ب ه : ـ د.

(٢) ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٣١ ؛ الثعلبي ٢١٣ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٥٤ ؛ القرماني ١ / ٢٠٥.

(٣) وكانت ولادة المسيح ب ج ه : ـ أ د.

(٤) بقليل أ ج ه : بيسير ب : ـ د.

(٥) لهرودوس أ : لهردوس ب ج ه : ـ د.

(٦) هرودوس أ : هردوس ب ج ه : ـ د.

(٧) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٨٧ ؛ الثعلبي ٢١٢ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٥٤ ؛ القرماني ١ / ٢٠٩.

(٨) وكان الرأس أ ج : فكان ب ه : ـ د / / لا تحل ب ج د ه : لا يحل أ.

(٩) خرودوش أ ج : خرودوش ب د ه.

(١٠) قبل أ ج د ه : من قبل ب.

٢٦٨

سنة ، وكان قتل يحيى قبل رفع المسيح (١) بمدة يسيرة ، لأن عيسى ، عليه‌السلام ، إنما ابتدأ بالدعوة لما صار له ثلاثون سنة ، ولما أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى دين النصارى غمسه يحيى في نهر الأردن ، ولعيسى نحو ثلاثين سنة ، وخرج من نهر الأردن (٢) وابتدأ بالدعوة ، وجميع ما لبث المسيح (٣) بعد ذلك ثلاث سنين ، فذبح يحيى كان قبل رفع عيسى بسنة ونصف (٤). قال قتادة : وكان رفع عيسى بعد نبوته بثلاث سنين.

والنصارى تسمي سيدنا يحيى يوحنا المعمدان ، لكونه عمد المسيح ، كما ذكر ، وكان يحيى ، عليه‌السلام ، لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما للرجال (٥) ، فلذلك سماه الله تعالى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً)(٦) كذا قيل ، وهو غير مرضي. وقد تكلم القاضي عياض (٧) في الشفاء (٨) على معنى كون يحيى حصورا بما حاصله : إن هذا الذي قيل نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء وإنما معناه أنه معصوم عن الذنوب لا يأتيها (٩) ، فكأنه حصر عنها ، أو أنه حصر نفسه عن الشهوات فمنعها (١٠) ، ويأتي ذكر الخلاف في محل قبره وقبر والده زكريا عند ذكر قبر مريم ، عليهم‌السلام (١١) ، إن شاء الله تعالى.

وأما مريم فاسم أمها حنة زوجة عمران (١٢) ، وكان حنة لا تلد ، واشتهت الولد فدعت بذلك ونذرت إن رزقها الله ولدا جعلته من خدمة بيت المقدس. فحملت حنة

__________________

(١) المسيح أ ج ه : عيسى ب د.

(٢) نهر الأردن : نهر يصب في بحيرة برية ثم يمر جنوبا مارا ببيسان وأريحا والعوجا ثم يصب في البحيرة المنتنة (البحر الميت) ، ينظر : السمعاني ١ / ١٠٩ ؛ ياقوت ، معجم البلدان ١ / ١٧٧ ؛ الحميري ٢١ ؛ القرماني ٣ / ٣١٢ ؛ الدباغ ٦ / ٣٩.

(٣) المسيح أ ج ه : عيسى ب د.

(٤) بسنة ونصف أ ج ه : بنحو سنة ونصف ب د / / رفع عيسى أ ج ه : رفعه ب د.

(٥) ما للرجال ب ج د ه : ما للرجل أ.

(٦) آل عمران : [٣٩].

(٧) عياض : عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن اليحصبي السبتي ، أبو الفضل عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته ، توفي عام ٥٤٤ ه‍ / ١١٤٩ م. ينظر : ابن خلكان ٣ / ٤٨٣ ؛ الذهبي ، تذكرة ٣ / ١٣٠٤ ؛ اليافعي ٣ / ٢٨٢ ؛ ابن الملقن ٥٧٥ ؛ الجابي ٥٦٩.

(٨) هو كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، ينظر : كحالة ٨ / ١٦.

(٩) لا يأتيها ... وأما مريم أ ب ج ه : ـ د / / فكأنه أ ج ه : كأنه ب : ـ د.

(١٠) ينظر : عياض ٢٥١.

(١١) عليهم‌السلام إن شاء الله تعالى أ ج ه : ـ ب د.

(١٢) زوجة عمران ب ج د ه : زوج عمران أ.

٢٦٩

وهلك زوجها عمران وهي حامل (١) ، فولدت بنتا وسمتها مريم ، ومعناه (٢) العابدة ، قال الله تعالى مخبرا عن أمها : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(٣) أي لخدمة بيت المقدس ، لما يلحقها من الحيض والنفاس وعدم الصيانة عن التبرج للناس ، ثم حملتها وأتت بها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه المنذورة.

فتنافسوا فيها لأنها بنت عمران ـ وكان من أئمتهم ـ فقال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها زوجتي ، فأخذها زكريا ، وضمها إلى إيساع (٤)(٥) خالتها (٦) ، فلما كبرت (٧) مريم ، بنى لها زكريا غرفة في المسجد ، وانقطعت في تلك الغرفة للعبادة : وكان لا يدخل على مريم غير زكريا فقط ، قال الله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) ـ فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ـ (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) (٨).

وأرسل الله جبريل فنفخ في جيب مريم فحملت بعيسى ، وولدته في بيت لحم ، وهي قرية قريبة من القدس (٩) سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر (١٠). وبين مولد سيدنا عيسى ، عليه‌السلام ، والهجرة الشريفة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام (١١) ، ستمائة وإحدى وثلاثون سنة ، وقد مضى من الهجرة [٣٨ / ب] / / الشريفة إلى عصرنا هذا تسعمائة سنة ، فيكون الماضي من مولد المسيح إلى آخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة ألفا وخمسمائة وإحدى وثلاثين سنة.

ولما جاءت مريم بعيسى تحمله قال لها قومها : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا)(١٢) ، وأخذوا الحجارة ليرجموها ، فتكلم عيسى وهو في المهد معلقا في منكبها ، فقال :

__________________

(١) حامل أ ج د ه : حاملة ب.

(٢) ومعناه أ ج ه : ومعناها ب ج.

(٣) آل عمران : [٣٦].

(٤) يذكر ابن كثير أن اسمها : أشياع ، ينظر : ابن كثير ، قصص ٤٨٧.

(٥) إيساع أ ب ج د ه : أشياع ابن كثير.

(٦) ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٣١ ؛ الطبري ، تاريخ ١ / ٥٨٥ ؛ الثعلبي ٢١٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٧٠ ؛ ابن كثير ، قصص ٤٨٦ ؛ القرماني ١ / ٢٠٤.

(٧) فلما كبرت أ ج د ه : ولما كبرت ب.

(٨) آل عمران : [٣٧].

(٩) القدس أ ج ه : بيت المقدس ب د / / وثلاثمائة أ ج ه : وثمانمائة ب د.

(١٠) ينظر : ابن قتيبة ، المعارف ٣١ ؛ الطبري ، تاريخ ١ / ٥٨٥ ؛ الثعلبي ٢١٣ ـ ٢١٤ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٧٥ ؛ ابن كثير ، قصص ٤٩٥ ؛ القرماني ١ / ٢١٣.

(١١) وأتم السلام أ ه : والسلام ب د : ـ ج.

(١٢) مريم : [٢٧].

٢٧٠

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ)(١)(٢) ، فلما سمعوا كلام ابنها تركوها.

ثم إن مريم أخذت عيسى وسارت به إلى مصر ، وسار معها ابن عمها (٣) يوسف بن يعقوب بن ماثان النجار (٤) ، وكان حكيما ، ويزعم بعضهم : إن يوسف المذكور قد تزوج بمريم لكنه لم يقربها ، وهو أول من أنكر حملها ، ثم علم وتحقق براءتها ، وسار معها إلى مصر ، وأقاما (٥) هناك اثنتي عشرة سنة. ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام ونزلا الناصرة (٦) وبها سميت النصارى ، وأقام بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة. فأوحى الله تعالى (٧) إليه ، وأرسله إلى الناس ، وسار إلى الأردن وهو نهر الغور المسمى بالشريعة ، فاعتمد (٨) وابتدأ بالدعوة ، وكان يحيى بن زكريا هو الذي عمده كما تقدم ، وكان ذلك لستة أيام خلت (٩) من كانون الثاني لمضي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر ، وأظهر عيسى ، عليه‌السلام ، المعجزات (١٠) وأحيا ميتا يقال له : عازر ، بعد ثلاثة أيام من موته ، وجعل من الطين طائرا ، قيل : هو الخفاش ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، وكان يمشي على الماء ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

نزول المائدة

(١١) وأنزل الله تعالى (١٢) عليه المائدة ، وأوحى الله إليه الإنجيل ، وكان عيسى ، عليه‌السلام ، يلبس الصوف والشعر ويأكل من نبات الأرض ، وربما تقوت من غزل أمه.

__________________

(١) مريم : [٣٠ ـ ٣١].

(٢) وأوصاني بالصلاة والزكاة ب د : ـ أ ج ه.

(٣) ابن عمها أ ب ج د : ابن عمتها ه.

(٤) ينظر : إنجيل متى ، الإصحاح الأول ٣ ـ ٤.

(٥) وأقاما ب : وأقام أ ج د ه.

(٦) الناصرة : مدينة بينها وبين طبرية ثلاثة عشر ميلا ، منها اشتق اسم النصارى لأن المسيح سكنها فنسب إليها ، ينظر : ياقوت ، معجم البلدان ٥ / ٢٩١ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١٣٤٨ ؛ الحميري ٥٧١ ؛ الدباغ ٧ / ٣٤ ؛ شراب ٧٠٢.

(٧) تعالى : أ ج د ه : ـ ب.

(٨) اعتمد : اغتسل بماء المعمودية وهو ماء نهر الأردن ، ينظر : المعجم الوسيط ٢ / ٦٤٩.

(٩) خلت أ ج د ه : مضت ب.

(١٠) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٩٧ ؛ المسعودي ١ / ٦٤ ؛ الثعلبي ٢٢٠ ؛ القرماني ١ / ٢١٧.

(١١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٠ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٨٦.

(١٢) تعالى أ ج د ه : ـ ب / / وأوحى الله أ ه : وأوحى إليه ب د : وأوحى إليه ج.

٢٧١

وكان الحواريون الذين اتبعوه اثني عشر رجلا وهم : شمعون ، الصفا ، وبطرس وأخوه أندراوس ، ويعقوب بن ريردي ، وفيلبس ، وبرطولومادس ، وأندريوس ، ومرقص ، ويوحنا ، ولوقا ، وتوما ، ومتى ، وهؤلاء الذين سألوه نزول المائدة (١) ، فلما سألوه ذلك قام عيسى ، فألقى الصوف عنه ولبس الشعر ووضع يمينه على شماله ووضعهما على صدره وصف بين قدميه وألصق الكعب بالكعب والإبهام بالإبهام وخفض رأسه (٢) خاشعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء حتى سألت الدموع على لحيته وجعلت تقطر على صدره ، وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا) ـ أي تكون عطية منك لنا وعلامة بيننا وبينك وارزقنا عليها طعاما نأكله ـ (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١٤) (٣). فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها تهوي منقضة في الهواء ، وعيسى ، عليه‌السلام ، يبكي ويقول : إلهي اجعلنا (٤) لك من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، إلهي (٥) كم أسألك من العجائب فتعطيني. إلهي أعوذ بك أن يكون إنزالها غضبا ورجزا ، اللهم اجعلها عافية وسلاما (٦) ولا تجعلها فتنة ولا مثلة. حتى استقرت بين يدي (٧) عيسى ، عليه‌السلام ، والناس حوله يجدون ريحا طيبة لم يجدوا مثلها ، وخر عيسى (٨) ساجدا لله تعالى ، وخر الحواريون معه.

قال الحواريون : يا روح الله وكلمته لو أريتنا اليوم آية من هذه السمكة؟ فقال عيسى ، عليه‌السلام : يا سمكة أحيي بإذن الله تعالى فاضطربت السمكة طربة تدور عيناها ، لها بصيص تتلمظ بفيها كما يتلمظ السبع وعاد عليها فلوسها (٩) ، ففزع القوم ، فقال عيسى : ما لكم تسألون الشيء إذا (١٠) أعطيتموه كرهتموه ، فما أخوفني أن تعذبوا بهذه السمكة. ثم قال : عودي كما كنت بإذن الله

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨ ابن كثير ، البداية ٢ / ٨٦.

(٢) رأسه أ ب ج د : برأسه ه.

(٣) المائدة : [١١٤].

(٤) إلهي اجعلنا أ ج ه : اللهم اجعلنا ي د.

(٥) إلهي أ ج ه : اللهم ب د.

(٦) وسلاما أ : وسلامة ب ج د ه.

(٧) يدي أ ج ه : يديه د : ـ ب / / ريحا أ ج : رائحة ب د ه.

(٨) عيسى أ ج د ه : + عليه‌السلام ب.

(٩) ينظر : ابن كثير ، تفسير ٢ / ١١٨.

(١٠) فلوسها ب ج د ه : فلوسا أ.

٢٧٢

تعالى (١) ، فعادت مشوية على حالها ، قالوا : كن أنت يا روح الله أول من يأكل ثم نأكل بعدك ، قال عيسى : معاذ الله أن يأكل منها إلا من طلبها وسألها. ففرق الحواريون أن تكون إنما أنزلت (٢) سخطه فيها مثلة ، فلم يأكلوا منها.

ودعا لها عيسى ، عليه‌السلام ، أهل الفاقة (٣) والزمانة من العميان والمجذومين (٤) والبرصى والمقعدين وأصحاب الماء الأصفر والمجانين. فقال : كلوا من رزق الله هو ربكم ودعوة نبيكم فإنه رزق ربكم فتكون المهنأة لكم والبلاء لغيركم واذكروا اسم ربكم ، وكلوا (٥) ففعلوا.

وصدر عن تلك السمكة والأرغفة والرمانات والتمرات والبقول ألف وثلاثمائة من رجل وامرأة بين فقير جائع وزمن ومبتلى بآفة كلهم شبعان (٦) يتجشى (٧) ، فنظر عيسى فإذا ما عليها كهيئته حين نزل (٨) من السماء. ورفعت السفرة إلى السماء ، وهم ينظرون إليها.

واستغنى كل فقير أكل منها يومئذ ، فلم يزل غنيا حتى مات ، وبرىء كل زمن من زمانته فلم يزل بريئا حتى مات. وندم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها حسرة (٩) ، وشابت منها شعورهم ، وكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها حبورا من كل مكان يركب بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والرجال والنساء ، فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوبا بينهم.

وكانت تنزل غبا (١٠) يوما وتغيب ، يوما كناقة ثمود ترعى يوما وترد يوما ، فلبثت كذلك أربعين صباحا تغيب يوما وتنزل يوما ، حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا ينظرون إليها وإلى ظلها في الأرض حتى توارت عنهم ، فأوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتي رزقا لليتامى والزمنى دون الأغنياء من الإنس ، فلما فعل ذلك (١١)

__________________

(١) إذا أ : فإذا ب ج ه : ـ د.

(٢) أنزلت أ ج ه : نزلت ب : ـ د.

(٣) أهل الفاقة أ ج ه : بأهل الفاقة ب : ـ د.

(٤) ينظر : الثعلبي ٢٢٤ ؛ ابن كثير ، قصص ٥٢٥.

(٥) وكلوا أ ج ه : + من رزق ربكم ب : ـ د.

(٦) كلهم شبعان أ ب ج د : وبات كل منهم شبعان ه.

(٧) في تفسير : ابن كثير يتجشأ ٢ / ١١٨.

(٨) حين نزل أ ب ج د : حين نزوله ه.

(٩) ينظر : ابن كثير ، تفسير ٢ / ١١٨.

(١٠) غبا أ ج ه : + تنزل ب : ـ د / / كناقة ثمود أ ب ج د : كناقة ثمود وصالح ه.

(١١) ذلك أ ج د ه : ـ ب.

٢٧٣

بهم ، عظم ذلك على الأغنياء (١) وأذاعوا القبيح حتى شكوا وشككوا فيه الناس ، فوقعت فيه الفتنة في قلوب المرتدين ، قال قائلهم : يا روح الله وكلمته إن المائدة لحق أنها تنزل من عند الله ، قال عيسى : ويحكم هلكتم إن لم يرحمكم الله.

فأوحى الله إلى عيسى : إني آخذ بشرطي (٢) من المكذبين قد اشترطت عليهم إني معذب من كفر منهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين بعد نزولها ، قال عيسى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨) (٣) فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين خنازير (٤) من ليلتهم ، فأصبحوا يأكلون القذرات في الحشوش ، ويتبعون ما في الكناسة والطرق ، وكانوا قد باتوا أول الليل على فرشهم (٥) عند نسائهم في ديارهم بأحسن صورة ، وأوسع رزق ، فأصبح الناس يفرون إلى عيسى فزعا وخوفا من عقوبة الله تعالى ، وعيسى يبكي عليهم ويبكون معه عليهم.

وجاءت الخنازير بين يديه تسعى إليه حين أبصرته (٦) ينظرون إليه ، ويمشون (٧) ويشمون ريحه ويسجدون له وأعينهم تسيل دموعا لا يستطيعون الكلام ، ثم قام عيسى يناديهم بأسمائهم فيقول : يا فلان فيقول برأسه نعم ، يا فلان ابن فلان ، قد كنت خوفتكم عذاب الله وعقوبته ، وكأني (٨) قد كنت أنظر إليكم ممثلا بكم في غير صوركم.

قال الله تعالى لمحمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ)(٩) ، وقال الله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ) [٣٩ / ب] (داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٧٨) (١٠).

فسأل عيسى ، عليه‌السلام ، ربه أن يميتهم (١١) ، فأماتهم بعد ثلاثة أيام ، فما

__________________

(١) ينظر : ابن كثير ، تفسير ٢ / ١١٩.

(٢) بشرطي ب ج ه : بشرط أ : ـ د.

(٣) المائدة : ١١٨.

(٤) ينظر : الثعلبي ٢٢٤ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨١ ؛ ابن كثير ، تفسير ٢ / ١١٩.

(٥) فرشهم أ ج ه : فراشهم ب : ـ د.

(٦) حين أبصرته أ ج د ه : حتى أبصرته ب.

(٧) ويمشون أ ج : ـ ب د ه / / ريحه أ ج ه : رائحته ب : ـ د / / دموعا أ ب : بالدموع ج : من الدموع ه : ـ د.

(٨) وكأني أ ب : فكأني ج ه : ـ د.

(٩) الرعد : [٦].

(١٠) المائدة : [٧٨].

(١١) يميتهم ب ج ه : يمتهم أ : ـ د.

٢٧٤

رأى (١) أحد من الناس منهم جيفة في الأرض ، والله أعلم (٢) ، ونسأله العافية.

ذكر صعود عيسى (٣) عليه‌السلام إلى السماء (٤)

ولما أعلم الله سبحانه وتعالى ، المسيح أنه خارج من الدنيا ، جزع من ذلك ، ودعا الحواريين (٥) ، فصنع لهم طعاما وقال : أحضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا بالليل عشاهم وقام يخدمهم ، فلما فرغوا (٦) من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويمسحها بثيابه ، فتعاظموا ذلك. فقال : من رد عليّ شيئا مما أصنع فليس مني. فتركوه (٧) حتى فرغ ، فقال لهم : إنما فعلت هذا اليوم ليكون أسوة بي (٨) في خدمة بعضكم بعضا. وأما حاجتي إليكم فإن تجتهدوا في الدعاء إلى الله تعالى ، أن يؤخر أجلي.

فلما أرادوا ذلك ألقى الله عليهم النوم حتى لم يستطيعوا الدعاء ، وجعل المسيح يوقظهم وينبههم ، فلم يزدادوا (٩) إلا نوما وتكاسلا ، وأعلموه أنهم مغلوبون على ذلك ، فقال المسيح : سبحان الله يذهب بالراعي وتتفرق الغنم. ثم قال لهم : الحق أقول لكم ليكفرن (١٠) بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ، وليبغي أحدكم بدراهم يسيرة ويأكل ثمني (١١).

وكان اليهود قد جدوا في طلبه ، فحضر بعض (١٢) الحواريين إلى هرودوس (١٣) الحاكم على اليهود وإلى جماعة من اليهود وقال : ما تجعلون لي إذا دللتم على المسيح ، فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلهم عليه. فرفع الله

__________________

(١) فما رأى أ ج هت : فما وارى ب : ـ د / / والله أعلم ونسأله العافية أ ه : فسأل الله تعالى العافية في ذلك والله أعلم ب : والله أعلم ج : ـ د.

(٢) هذا الخبر قال عنه ابن كثير أنه غريب جدا ، ينظر : ابن كثير ، تفسير ٢ / ١١٩.

(٣) صعود عيسى أ ج ه : صعود سيدنا عيسى ب د.

(٤) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٦٠٢ ؛ الثعلبي ٢٢٥ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨١ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ٩١ ؛ ابن كثير ، قصص ٥٣٢ ؛ القرماني ١ / ٢٢٠.

(٥) ودعا الحواريين فصنع أ ه : فدعا الحواريين ووضع لهم ب د : فدعا الحواريين وصنع لهم ج.

(٦) فلما فرغوا أ ج د ه : فلما فرغ ب.

(٧) فتركوه حتى فرغ أ ج ه : فتركوه فلما فرغ ب د / / فقال لهم أ ج ه : قال لهم ب د.

(٨) في ب ج د ه : لي أ.

(٩) فلم يزدادوا أ ه : فلا يزدادون ب ج د.

(١٠) ليكفرن بي ب ج د ه : يكفرون في أ.

(١١) ويأكل ثمني أ ج د : وكلن ثماني أ : ويأكلن ه.

(١٢) بعض : هنا تأتي بمعنى أحد الحواريين كما وردت في تاريخ ابن كثير ٢ / ٩٤.

(١٣) هرودوس أ ه : هردوس ب ج د.

٢٧٥

تعالى (١) المسيح إليه وألقى شبهه على الذي دلهم عليه. فإن اليهود لما قصدوه أظلمت الدنيا حتى صارت كالليل ، وأظلمت الشمس ، وظهرت الكواكب ، وانشقت الصخور (٢) ، فلذلك لم يتحققوا المشبه به من شدة الظلمة وحصول الإرجاف (٣).

وقد اختلف العلماء في موته قبل رفعه ، فقيل : رفع ولم يمت ، وقيل : بل توفاه الله ثلاث ساعات ، وقيل : سبع ساعات (٤) ، ثم أحياه (٥) ، وتأوّل قائل هذا قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ)(٦).

ولما أمسك اليهود الشخص المشبه به ربطوه وجعلوا يقودونه بحبل ويقولون : أنت كنت تحيي الموتى أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل ، ويقبضون يديه (٧) ، ويبصقون في وجه ، ويلقون عليه الشوك ، فصلبوه على الخشب. فمكث عليه ست ساعات ، ثم استوهبه يوسف النجار من الحاكم الذي على اليهود ، وكان اسمه فيلاطوس (٨) ، ولقبه هرودوس (٩) ، ودفنه في قبر ، كان يوسف المذكور قد أعده لنفسه.

وأنزل الله المسيح من السماء إلى أمه مريم وهي تبكي عليه ، فقال لها : إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا الخير ، وأمرها فجمعت له الحواريين ، فبثهم في الأرض رسلا عن الله ، وأمرهم (١٠) أن يبلغوا عنه ما أمره الله به ، ثم رفعه الله به ، وتفرق الحواريون حيث أمرهم.

وكان رفع المسيح لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين سنة من غلبة الإسكندر على دارا (١١)(١٢) ، ثم إن أربعة من الحواريين وهم : متّى وثلاثة معه اجتمعوا وجمع كل واحد منهم إنجيلا. وخاتمة إنجيل متى أن المسيح قال : إني أرسلتكم إلى

__________________

(١) تعالى أ ج د ه : ـ ب.

(٢) ينظر : ابن كثير ، البداية ٢ / ٩٤.

(٣) الإرجاف ب ج ه : الإخافة أ : الارتجاف د.

(٤) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٣.

(٥) أحياه أ : + الله ب ج د ه.

(٦) آل عمران : [٥٥].

(٧) ويقبضون يديه ب : ـ أ ج د ه / / فصلبوه أ ج د : وصلبوه ب ه.

(٨) كان الحاكم يسمى طيباريوس ، أما فيلاطوس فهو القاضي المندوب عن القيصر ، وكان حكم طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة ، ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٦٠٥ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٣.

(٩) هرودرس أ ه : هردوس ب ج د.

(١٠) أمره الله ب ج د ه : أمر الله أ.

(١١) هي الهزيمة التي ألحقها الإسكندر المكدوني بالملك دارا بن دارا بن بهمن الملك الفارسي ، ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٥٧٦.

(١٢) دارا أ ج هت : دارهم ب د / / وثلاثة أ ج هت : وثلاث ب : ـ د.

٢٧٦

جميع (١) الأمم ، كما أرسلني ربي إليكم ، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس (٢) ، وكان بين رفع المسيح ومولد النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريبا.

وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثا وثلاثين سنة ، وبين رفعه والهجرة الشريفة خمسمائة وثمان وتسعون سنة ، وقد مضى من الهجرة الشريفة إلى عصرنا تسعمائة سنة ، فيكون الماضي (٣) من رفعه إلى آخر سنة تسعمائة من الهجرة الشريفة ألفا وأربعمائة وثمان وتسعين سنة.

ونزل عليه جبريل عشر مرات. وأمته النصارى على اختلافهم ، وأما أمه مريم فإنها عاشت نحو ثلاث وخمسين سنة. لأنها حملت به لما صار لها من العمر ثلاثة عشر سنة ، وعاشت معه مجتمعة ثلاثا وثلاثين سنة (٤) ، وبقيت بعد رفعه ست سنين (٥) ، والله أعلم. ويأتي ذكر قبرها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وكان رفع عيسى (٦) ، عليه‌السلام ، من طور زيتا ـ جبل شرقي بيت المقدس ـ.

وروي أنه دعا وقت رفعه الله (٧) تعالى بهذا الدعاء / / وهو دعاء مستجاب : [٤٠ / أ] اللهم أنت القريب في علوك المتعالي في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، الذي نفذ بصرك في خلقك ، وحسرت الأبصار دون النظر إليك ، وغشيت دونك ، وسبح لك الفلق في النور ، وأنت الذي جليت الظلم في النور فتباركت اللهم أنت خالق الخلق بقدرتك ، مقدر الأمور بحكمتك ، مبدع الخلق بعظمتك ، القاضي في كل شيء بعلمك ، الذي خلقت سبعا طباقا في الهواء بكلماتك ، مستويات الطباق مذعنات لطاعتك ، سماعين لعلو سلطانك ، فأجبن وهن دخان من خوفك فأتين طائعين لأمورك فيهن الملائكة يسبحونك ويقدسونك ، وجعلت فيهن نورا يجلو الظلام ، وضياء أضوأ من الشمس ، وجعلت فيهن مصابيحا يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، ورجوما للشياطين ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك. وفيما دحوت (٨) من الأرض ودحوتها على الماء ، فأذلك لها الماء الطاهر فذل لطاعتك ،

__________________

(١) جميع أ ه ؛ ـ ب ج د / / ربي أ ب ج د : الله ه.

(٢) ينظر : إنجيل متى ، الإصحاح ٢٨ ، ص ٥٥.

(٣) فيكون الماضي ... الهجرة الشريفة ب ج د ه : ـ أ.

(٤) ثلاثين سنة أ : ثلاثة عشر سنة ب ج د ه / / ثلاثين سنة أ ج د ه : + ورفع ب.

(٥) ينظر : الثعلبي ٢٢٦.

(٦) رفع عيسى أ ه : رفع المسيح ب ج : رفع سيدنا عيسى د.

(٧) الله أ ج د ه : ـ ب / / بهذا الدعاء ب ج د ه : بهذه الدعوات أ.

(٨) وفيما دحوت أ ج ه : وفيما دحيت ب د.

٢٧٧

وأذعن لأمرك ، وخضع لقوتك (١) أمواج البحار ، ففجرت فيها بعد البحار الأنهار ، وبعد الأنهار العيون الغزار والينابيع ، ثم أخرجت منها الأشجار بالثمار (٢) ، ثم جعلت على ظهرها الجبال أوتادا فأطاعتك أطوادها ، فتبارك اللهم صفاتك ، ومن يبلغ صفة قدرتك ومن ينعت بنعتك ، ومن بعد تنزل الغيث (٣) ، وتنشىء السحاب ، وتفك الرقاب ، وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين لا إله إلا أنت وإنما يخشى الله من عباده العلماء (٤) ، وأشهد أنك لست بإله استحدثناك (٥) ، وأشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت جل ثناؤك ولا رب لنا سواك نذكره ، ولا كان لك شركاء يقضون معك فندعوهم وندعك ، ولا أعانك أحد على خلقك فنشك فيك أشهد أنك أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له (٦) كفوا أحد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، فلما أتم (٧) دعاءه رفعه الله إليه ، ولما ماتت أمه مريم ، عليها‌السلام ، دفنت بالكنيسة المعروفة بالجيسمانية (٨) خارج باب الأسباط في ذيل جبل طور زيتا ، وهو مكان مشهور يقصده الناس للزيارة من المسلمين والنصارى ، واستمر (٩) بيت المقدس عامرا بعد رفع المسيح أربعين سنة ، فيكون لبثه على عمارة بيت المقدس (١٠) الثانية التي عمرها كورش سبعمائة وإحدى وعشرين سنة (١١).

ذكر خراب بيت المقدس الخراب الثاني

وهلاك اليهود (١٢) وزوال دولتهم زوالا لا رجوع بعده

لما جرى ما تقدم شرحه من رفع المسيح إلى السماء استمرت بيت المقدس بعده عامرا بعده أربعين سنة ، وتولى على بني إسرائيل جماعة من الملوك واحدا بعد

__________________

(١) وخضع لقوتك ب د ه : وخضع لقولك أ ج.

(٢) بالثمار أ ب ج د : الثمار ه.

(٣) ومن بعد تنزل الغيث أ ج د ه : ـ ب.

(٤) إنما يخشى الله من عباده أ : إنما يخشاك من عبادك العلماء ب ج د ه.

(٥) وأشهد أنك لست بإله استحدثناك ب ج د ه : ـ أ / / وأشهد أنك ... ثناؤك أ ج د ه : ـ ب / / أنت الله ... جل ثناؤك أ : ـ ب ج د ه.

(٦) ولم يكن له أ د ه : ولم يكن لك ب ج / / ولم يتخذ أ ه : ولم تتخذ ب ج د.

(٧) أتم ب : تم أ ج د ه.

(٨) ينظر : السيوطي ، إتحاف ٢ / ١٨.

(٩) استمر بيت المقدس ب ج : استمرت بيت المقدس أ د ه / / عامرا بعد رفع المسيح أ ه : عامرا بعد رفع عيسى ب : عامرة بعد رفع عيسى ج : عامرة بعد رفع سيدنا عيسى د.

(١٠) عمارة بيت المقدس الثانية أ ه : عمارته الثانية ب ج د.

(١١) سنة أ ج د ه : + والله سبحانه وتعالى أعلم ب.

(١٢) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٦٠٦ ؛ المسعودي ١ / ٣١٢ ـ ٣١٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٤.

٢٧٨

واحد إلى أن ملك طيطوس (١)(٢) الرومي ، وكان محل ملكه مدينة روما من بلاد الفرنج ففي السنة الأولى من ملكه ، قصد بيت المقدس ، وأوقع باليهود ، فقتلهم (٣) وأسرهم عن آخرهم إلا من اختفى ، ونهب القدس وخربه ، وأحرق الهيكل وأحرق كتبهم ، وأخلى (٤) القدس من بني إسرائيل : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(٥) ، ولم يعد لهم بعد ذلك رئاسة ولا حكم.

وكان ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة كما تقدم وهو لمضي ثلاثمائة وست وسبعين سنة من غلبة الإسكندر ولثمانمائة وإحدى عشرة سنة مضت لابتداء ملك بخت نصر. وهذه المرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم (٦) ، فقال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)(٧) من إفسادكم وذلك قصدهم قتل عيسى ، عليه‌السلام ، حين رفع ، وقتلهم يحيى ، عليه‌السلام ، فسلط الله (٨) عليهم الفرس والروم وخردوش وطيطوش حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم فذلك قوله تعالى : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ـ بإدخال الهم والغم والحزن ـ (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ)(٩) ، بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة. قال قتادة : فعادوا ، فبعث الله محمدا ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم يعطون / / الجزية عن يد وهم صاغرون. وبين مدة التخريب (١٠) [٤٠ / ب] الثاني والهجرة الشريفة خمسمائة وثمان وخمسون سنة بالتقريب ، فيكون الماضي من خراب بيت المقدس الثاني إلى آخر سنة تسعمائة هجرية (١١) ألفا وأربعمائة وثمان وخمسين سنة بالتقريب وهو تاريخ تشتت اليهود إلى البلاد (١٢) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) ينظر : الطبري ، تاريخ ١ / ٦٠٦ ؛ المسعودي ١ / ٣١٣ ؛ ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٤.

(٢) طيطوس ب ج د : طيطوش أ ه.

(٣) فقتلهم أ ه : وقتلهم ب ج : وقتل د / / ونهب القدس وخربه أ ه : وخرب بيت المقدس ونهبه ب : ونهب بيت المقدس وخربه ج : ـ د.

(٤) وأخلى ب د : وجلى أ : وخلى ج ه.

(٥) يونس : [٢٤].

(٦) في القرآن العظيم فقال أ : ـ ب ج د ه.

(٧) الإسراء : [٧].

(٨) فسلط الله أ ب ج د : تسلط الله ه.

(٩) الإسراء : [٧].

(١٠) وبين مدة التخريب أ : وبين هذا التخريب ب ج ه : ـ د.

(١١) هجرية أ ه : من الهجرة الشريفة ب ج : ـ د.

(١٢) إلى البلاد أ ج ه : في البلاد ب : ـ د.

٢٧٩

ذكر عمارة بيت المقدس الشريف المرة الثالثة (١)

لما جرى ما ذكر (٢) من تخريب طيطوس بيت المقدس وما فعله في اليهود تراجع إلى العمارة قليلا (٣) وترمم شعثه واستمر عامرا حتى سارت هيلانة (٤) أم قسطنطين (٥) المظفر إلى القدس وابنها قسطنس ، كان ملكا في رومية (٦) ، ثم انتقل منها إلى قسطنطينية وبنى سورها وتنصر ، وكان اسمخا بزنطية فسماها القسطنطينية (٧).

وزعمت النصارى أنه بعد ست سنين خلت من ملكه ظهر له في السماء شبه الصليب فأمر بالنصرانية ، وكان قبل ذلك هو ومن تقدمه على دين الصابئة (٨) يعبدون أصناما على أسماء الكواكب السبعة ، ولمضي عشرين سنة من ملك قسطنطين المذكور اجتمع ألفان وثمانمائة وأربعون أسقفا ، ثم اختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ، فحرموا آريوس (٩)(١٠) الإسكندري لكونه يقول إن المسيح كان مخلوقا ، واتفق (١١) الأساقفة المذكورون لدى قسطنطين ووضعوا شرائع النصرانية بعد أن لم تكن ، وكان رئيس هذه البطارقة (١٢) بطريق الإسكندرية ومن هنا كان أصل النصرانية في الروم.

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٩.

(٢) لما جرى ما ذكر ب ج ه : ـ أ د / / طيطوس ب ج : طيطوش أ ه : ـ د.

(٣) قليلا أ : قليلا قليلا ب ج د ه.

(٤) هيلانة : والدة الامبراطور قسطنس وكان أبوه قد سباها من الرها فولدت قسطنطين وهي التي بنت كنيسة القيامة ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٩ ؛ بور شارد ١٣٧ ؛ العارف ، المفصل ٥١٧.

(٥) قسطنطين بن قسطنس كان ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وهو الذي تنصر من ملوك الروم وقاتل عليها حتى قبلها الناس ، ينظر : ابن الأثير ١ / ١٨٩ ؛ عاشور ، أوروبا ١٧ ـ ٢١.

(٦) رومية : مدنية رئاسة الروم وعلمهم ، وهي من عجائب الدنيا بناء وسعة وكثيرة خلق ، ينظر : أبو الفداء ، تقويم ٢١٠ ؛ البغدادي ، مراصد ٢ / ٦٤٢ ؛ الحميري ٢٧٤.

(٧) القسطنطينية : ويقال قسطنطينية بإسقاط ياء النسبة ، وكان اسمها بيزنطية فنزلها قسطنطين الأكبر وبنى عليها سورا ، واسمها الآن اسطنبول ، وهي على الخليج الآخذ من البحر الأسود إلى بحر الروم ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٩ ؛ أبو الفداء ، تقويم ٢١٣ ؛ البغدادي ، مراصد ٣ / ١٠٩٢ ؛ الحميري ٤٨١.

(٨) الصابئة : وهي فرقة أحدثها رجل اسمه بوراسف ، تعتقد بأن الكواكب لها السيطرة على حياة الإنسان وبدورانها يتم ما يكون في العالم من الآثار ، ينظر : المسعودي ١ / ٢٢٢ ؛ الشهرستاني ١ / ٢٣٠.

(٩) أريوس الإسكندري : أسقف الإسكندرية الذي ذهب إلى أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله واتبعه على هذا طائفة من النصارى نسبت إليه ، ينظر : ابن الأثير ، الكامل ١ / ١٨٩ ؛ ابن كثير ، البداية ٢ / ١٥٠.

(١٠) أريوس أ ج ه : أريثوس ب د.

(١١) واتفق أ ج ه : واتفقت ب : ـ د.

(١٢) رئيس هذه البطاقة أ ب ج د : رأس هذه البطارقة ه.

٢٨٠