البرهان في علوم القرآن - ج ١

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٦

يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨). وقد صور القرآن الكريم دهشة العرب مؤمنين وكافرين بالكتاب الكريم. فأما من فتح قلبه للإيمان فإيمانه وإسلامه إقرار بإعجاز القرآن ، ونبوّة نبيه الكريم ، وأما من أصرّ على كفره وعناده فإنه لم يكن ليتمالك نفسه ، فيظهر إعجابه ودهشته أو حيرته من بلاغة القرآن الكريم ، وأوصافهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر مرة ، وكاهن مرة أخرى ، وشاعر مرة ثالثة. هذه الأوصاف دليل تحير ، وانقطاع حجة ، ودهشة لم يستطيعوا لها تفسيرا. ومن هنا دعت الآيات الكريمة المسلمين إلى قبول اجارة المشركين حتى يسمعوا كلام الله ، لأن مجرد سماع الآيات الكريمة يؤثر في نفوس سامعيه ، ولو لا أن سماعه حجّة عليه لم يقف أمره على سماعه ، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة كما يقول السيوطي في «الاتقان» ٢ / ١١٧.

وحين استقر أمر المسلمين ، وانكبّ الناس على قراءة كتابهم الكريم يتعلمونه ، ويستنبطون منه أحكام دينهم ، انبرى علماؤهم لدراسته وتفسيره فكان في جملة علم التفسير وقفات العلماء عند بعض الآيات أو الألفاظ شارحين ومفسرين إلا أن هذه الوقفات مع ما وجد فيها من تفسيرات أدبية أو فنية كما عرف عن ابن عباس أو تلميذه مجاهد ، لم تكن لتشكل نظرية أو علما بذاته كما عرف فيما بعد باسم «إعجاز القرآن».

وعلى أية حال فالاطلاع على الكتب المؤلفة فيه يفيدنا في معرفة أقدم من ألف في إعجاز القرآن وهو الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (ت ٢٥٥ ه‍) في كتابه «نظم القرآن». هذا إذا أردنا من خصّ تأليفه لفكرة إعجاز القرآن دون تفصيل ، وتفريع لعلومه أما إذا فهمنا أن دراسة الاعجاز هي دراسة القرآن الكريم من جميع الوجوه البلاغية على اعتبار أن (الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكير في علم البيان) كما يقول المراكشي في شرح المصباح وأن معرفة إعجازه تقتضي دراسة جميع وجوه المعاني والبيان ، وأساليب الفصاحة والبلاغة فيه ليتعرف من خلالها على تفوق القرآن الكريم ـ وقد نزل بلسان العرب وأساليبهم ـ على غيره من كلام العرب ، ويتعرف بالتالي على بعض أسرار اعجازه... إذا أخذنا بهذه الفكرة الواسعة لعلم الاعجاز القرآني وجدنا مؤلفا آخر سبق الجاحظ الى هذا الفن وهو الكسائي ، علي بن حمزة (ت ١٨٩ ه‍) والذي ألّف كتابا في «الهاءات المكنى بها في القرآن الكريم». ونميل إلى هذا الرأي لاندراج كل دراسة

٤١

تتعلق بوجه من وجوه البلاغة في القرآن الكريم ضمن إعجاز القرآن على اعتبار أن هذه الدراسات جميعا تتناول جانبا من جوانب الإعجاز القرآني.

وإذا تجاوزنا أسبقية التأليف بعد الكسائي والجاحظ فإننا نجد ابن قتيبة (ت ٢٧٦ ه‍) والذي احتذى حذو الجاحظ في تآليفه وإن اختلف عنه في منهجه الفكري باعتبار الجاحظ معتزليا ، وابن قتيبة محدثا سنّيا كثيرا ما ردّ على الجاحظ واتّهمه ، نجده يؤلف هو الآخر كتابا في نظم القرآن ، وقد ذكره ياقوت في معجمه. وألّف أحمد بن سهل البلخي (ت ٣٢٢ ه‍) كتابا في نظم القرآن وصفه ياقوت بأنه لا يفوقه في هذا الباب تأويل.

وتستمر حلقة المؤلفين في إعجاز القرآن حتى نصل إلى تطور نظرية الإعجاز عند الخطابي أبي سليمان حمد بن محمد (ت ٣٨٨ ه‍) وله «رسالة» مطبوعة ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» ، وابن درستويه (ت ٣٣٠ ه‍) في كتابه «إعجاز القرآن».

والرماني علي بن عيسى (ت ٣٨٤ ه‍) وله رسالة طبعت ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» والباقلاني (ت ٤٠٣ ه‍) في كتابه «إعجاز القرآن» والجرجاني عبد القاهر المتوفي سنة ٤٧١ ه‍.

وهناك من ألّف في وجوه بلاغية متنوعة في القرآن الكريم مثل التأليف في أمثال القرآن ، حيث ألف فيه القواريري أبو القاسم جنيد بن محمد بن جنيد (ت ٣٨٩ ه‍) ، وابن نفطويه ، إبراهيم بن محمد (ت ٣٢٣ ه‍) ، والإسكافي ، أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد (ت ٣٨١ ه‍) ثم النيسابوري عبد الرحمن بن محمد بن حسين بن موسى السلمي (ت ٤١٢ ه‍) ، وأبو الحسن الماوردي (ت ٤٥٠ ه‍) ، وابن الخيمي أبو طالب محمد بن علي (ت ٦٤٢ ه‍) ، وابن القيم الجوزية (ت ٧٥١ ه‍) وغيرهم.

وهناك من ألّف في التشبيه في القرآن الكريم مثل ابن القيم الجوزية في كتابه «تشبيهات القرآن وأمثاله» وابن البندار البغدادي في كتابه «الجمان في تشبيهات القرآن».

وهناك من ألّف في البيان أو المعاني في القرآن الكريم مثل كتاب «التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن» لعبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الأنصاري ، وكتاب ابن المبارك «حور العين في تبيين وجه نظم سور القرآن».

٤٢

وألف البقاعي (ت ٨٨٥ ه‍) كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» ، والسيوطي في كتابه «تناسق الدرر في تناسب السور».

وممن ألّف في البديع ابن أبي الأصبع العدواني (ت ٦٥٤ ه‍) في كتابه «بديع القرآن» وكتابه الآخر الذي خصّه لدراسة الوجوه البلاغية في الشعر والنثر ليصل إلى بعض وجوه الإعجاز القرآني في كتابه المسمى «تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن».

وفي التضمين والاقتباس ألّف المعرّي كتاب «تضمين الآي» وألّف ابن كناسة كتاب «سرقات الكميت من القرآن». وألّف الثعالبي كتاب «الاقتباس من القرآن الكريم».

وفي التورية بالقرآن الكريم ألّف محمد فخر الدين الهروي كتاب «الدرر الحسان في التورية بسور القرآن». وألّف السيوطي كتاب «فتح الجليل» ذكر فيه ١٢٠ نوعا من البديع في قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة : ٢٥٧). وألّف الكناني محمد بن عيسى (ت ١١٥٣ ه‍) رسالة اشتملت على أنواع البديع في البسملة ، وشرحها محمد بن أحمد الكنجي في رسالة سماها «زهرة الربيع شرح ما في البسملة من أنواع البديع».

وفي موضوع الكناية نجد كتاب «مختصر المقعد المقيم في كنايات القرآن وأشياء من الغريب» للأنصاري يوسف بن أبي المعالي بن ظافر.

***

ومن العلوم التي كانت بداياتها ضمن المعارف العامة التي بحثها المفسرون علم «إعراب القرآن» ، إذ لا نعدم في كتب معاني القرآن وغريبه وقفات العلماء عند بعض الألفاظ أو الآيات لبيان أوجه الإعراب ، وذلك أمر طبيعي فالتفسير يشمل كل هذه المعارف التي مرت بنا ، ولا بد للمفسر من معرفة مفردات اللغة غريبها وإعرابها ، ومعانيها ، وإذ كان «معاني القرآن» للفراء يعتبر من التفاسير فإنه يمكن أن يدرج ضمن مؤلفات الإعراب أيضا ؛ لأن الفراء أعرب كثيرا من الآيات الكريمة في تفسيره هذا.

وإذا كان إعراب القرآن بمعناه الاصطلاحي قد ورد مبثوثا في تفاسير كثيرة للقرآن

٤٣

الكريم فإننا نحاول أن نتتبع من أفرد تأليفا لهذا الموضوع ، ويمكن أن نقسم هذه التآليف إلى قسمين :

١ ـ كتب ألّفت في إعراب القرآن ، ألفاظه أو آياته.

٢ ـ كتب تناولت قضايا نحوية ولغوية في القرآن الكريم.

أما كتب إعراب القرآن فيعدّ قطرب محمد بن المستنير (ت ٢٠٦ ه‍) من أقدم من ألّف فيها ، ولأبي عبيدة معمر بن المثنى ، كتاب سماه ابن النديم «إعراب القرآن» ثم المبرد (ت ٢٨٥ ه‍) وثعلب (ت ٢٩١ ه‍) ، وألّف الزجاج (ت ٣١١ ه‍) كتابا في إعراب القرآن ، وآخر مختصرا له باسم «مختصر إعراب القرآن». وألّف النحاس أحمد بن محمد ، أبو جعفر (ت ٣٣٨ ه‍) كتابا في إعراب القرآن واعتمد في مواضع عديدة منه على كتاب الزجاج ، وعلى كتاب الفراء في معانيه وألّف ابن أشتة ، أبو بكر الأنصاري (ت ٣٦٠ ه‍) كتابا سماه «رياضة الألسنة في إعراب القرآن ومعانيه». وألّف الفارسي الحسين بن أحمد بن عبد الغفار (ت ٣٧٧ ه‍) كتاب «الإغفال فيما أغفله الزجاج في المعاني» وهو إيضاح وتعقيب على مواضع من كتاب أبي إسحاق الزجاج في إعراب القرآن.

وفي القرن الخامس ألّف علي بن طلحة بن كروان (ت ٤٢٤ ه‍) كتابا في إعراب القرآن يقع في خمسة عشر مجلدا ، وقيل إنه بدا له فيه رأي فغسله قبل الموت. وقد ذكره ياقوت في «معجمه». وألّف مكي بن أبي طالب (ت ٤٣٧ ه‍) كتابا سماه «مشكل إعراب القرآن».

ومن الكتب المشهورة المتداولة التي ألّفت في القرن السابع الهجري كتاب أبي البقاء العكبري ، عبد الله بن الحسين (ت ٦١٦ ه‍) «إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن».

وألّف ابن رشيد الهمداني الشافعي (ت ٦٤٣ ه‍) كتاب «الفريد في إعراب القرآن المجيد».

أما الكتب التي تناولت قضايا لغوية ونحوية فأقدم ما وصل إلينا من أسمائها

٤٤

كتاب «الهجاء في القرآن الكريم» لأبي عمرو يحيى بن الحارث الذماري (ت ١٤٥ ه‍) والكتاب ، وإن لم يصل إلينا إلا أن من المرجّح أن يكون متعلقا بمباحث القراءات القرآنية وشيء من الإعراب في الوقت ذاته ، ثم كتاب الكسائي (ت ١٨٩ ه‍) واسمه «مقطوع القرآن» ثم كتاب ابن سعدان (ت ٢٠٣ ه‍) والذي سماه كتاب «الحروف في معاني القرآن» ، ثم الفراء (ت ٢٠٧ ه‍) في كتابه «المصادر في القرآن» وكتابه الآخر ، المسمى «الجمع والتثنية في القرآن». وألّف الدينوري أحمد بن جعفر (ت ٢٨٩ ه‍) كتاب «ضمائر القرآن».

وألّف ابن نفطويه إبراهيم بن محمد (ت ٣٢٣ ه‍) كتاب «الاستثناء والشرط في القرآن». وكتب ابن الأنباري (ت ٣٢٨ ه‍) كتاب «الهاءات في القرآن». أما ابن درستويه أبو محمد بن عبد الله بن جعفر (ت ٣٣٠ ه‍) كتاب «الألفات في القرآن».

وفي القرن الخامس ألّف مكي بن أبي طالب حموش (ت ٤٣٧ ه‍) كتاب «الزاهي في اللمع الدالة على مستعملات الإعراب». وألّف ابن هشام (ت ٧٦١ ه‍) كتاب «إعراب مواضع من القرآن».

والملاحظ في القسم الثاني من هذه المؤلفات أن كثيرا من أصحابها كتبوا تآليف في إعراب القرآن أو معاني القرآن ثم أفردوا بعض المباحث اللغوية بتآليف مفردة منفصلة في مسائل في الإعراب القرآني مثل أبي عبيدة ، والفراء ، والمبرّد ، وابن نفطويه.

أما ما يتعلق بجمع القرآن وتدوينه ، ورسم مصحفه ، فقد أولاه العلماء العرب والمسلمون عناية كبيرة ، وتفننوا في تفصيل الموضوعات والمعارف المتعلقة بهذا الباب ، فكان لبعضهم مؤلفات في المصاحف ، واختلافها ، وألّف عدد كبير منهم رسائل وكتبا تتعلق بجوانب حسابية أو إحصائية ، لعدد الآيات ، أو الأحزاب ، أو عدد سور القرآن وما يتعلق بتقسيمه إلى أرباع أو أسباع ، أو أسداد ، أو أعشار.

وهناك من ألّف في المصاحف عامة ، وما يتعلق باختلاف مصاحف أهل الشام والعراق مما له علاقة وثيقة بالقراءات القرآنية ، أو بالأحرى هو باب من أبواب التأليف في القراءات.

٤٥

ومنهم اليحصبي ، عبد الله بن عامر بن يزيد (ت ١١٨ ه‍) حيث ألّف كتاب «اختلاف مصاحف أهل الشام والحجاز والعراق». وألّف الكسائي (ت ١٨٩ ه‍) كتاب «اختلاف مصاحف أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، وأهل البصرة». وألّف محمد بن عبد الرحمن المحيصني (ت ١٤٣ ه‍) كتاب «الاختيار في القراءة على مذهب العربية» وفي القرن الثالث الهجري ألّف أبو زكريا يحيى الفراء (ت ٢٠٧ ه‍) كتاب «اختلاف أهل الكوفة» وألّف سهل بن محمد السجستاني كتاب «اختلاف المصاحف» وألّف أبو بكر ابن أبي داود السجستاني كتاب «المصاحف أيضا ، كما ألّف المدائني ، أبو الحسن علي (ت ٢٢٨ ه‍) كتابا سماه «اختلاف المصاحف» وألّف خلف بن هشام (ت ٢٢٩ ه‍) كتاب «اختلاف المصاحف» ، وكتب أبو بكر ابن الأنباري كتابا خاصا في المصحف العثماني سماه «الرد على من خالف مصحف عثمان». وممن ألّف في المصاحف أيضا أبو بكر ابن مقسم أحد القراء المشهورين (ت ٣٥٤ ه‍).

هذا ما يتعلق بالمصاحف عامة أما ما يتعلق بالعدد والإحصاء الذي أشرنا إليه من قبل ، فقد يخيل للباحث أول وهلة أن نزوع علماء المسلمين إلى التأليف فيه جاء تاليا لمرحلة دراسة علوم القرآن الأولى المتعلقة «بالتفسير» و «الأحكام» ، أو «الإعجاز» أو «أسباب النزول» وما إلى ذلك.. ولكن هذه الدراسات سارت مواكبة لغيرها من المعارف القرآنية ، وبدأت مبكرة جدا مقترنة مثلا بابن عياش الذي ألّف كتابا في العدد وقد أحصى فيه عدد الآيات المدنية وسماه «عدد المدني الأول».

وألّف ابن السائب الكلبي (ت ١٤٦ ه‍) كتابا سماه «تقسيم القرآن» ، ولا بدّ أن يكون قد بحث فيه تقسيم القرآن.

وفي مطلع القرن الثاني يذكر كتاب خالد بن معدان (ت ١٠٤ ه‍) والمسمى «العدد» ، وينسب للحسن البصري (ت ١١٠ ه‍) كتاب مثله في التسمية وألّف عاصم الجحدري (ت ١٢٨ ه‍) «كتاب العدد» أيضا وممن ألّف فيه عطاء بن يسار وإسماعيل بن كثير ، ومحمد بن عيسى (ت ١٦٩ ه‍) «العدد الثاني» ، وعلي بن حمزة الكسائي (ت ١٨٩ ه‍) ، وخلف بن هشام (ت ٢٢٩ ه‍) ، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت ٢٢٣ ه‍).

وفي منتصف القرن الرابع للهجرة ألّف أبو حفص عمر بن علي بن منصور الطبري

٤٦

كتابا عن «عد آي القرآن». وألّف أبو العباس الكيالي كتاب «عد آي القرآن على مذهب أهل البصرة». وألّف أبو القاسم بحر بن محمد بن عبد الكافي (وهو من علماء النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) أيضا ، حيث كان تلميذا لأبي علي الفارسي (ت ٣٧٧ ه‍) وعاش بعده إلى حوالي سنة (٤٠٠ ه‍) وألّف هذا العالم كتابا عن «سور القرآن وآياته وأحكامه».

وفي القرن الخامس ألّف الداني ، أبو عمرو عثمان بن سعيد (ت ٤٤٤ ه‍) كتاب «البيان في عد آي القرآن».

وفي القرن السادس يطلّ علينا ابن فيّره الشاطبي (ت ٥٩٠ ه‍) ، برائية منظومة في عد الآيات ، وتعيين فواصل السور وهي «ناظمة الزهر» وقد اشتهرت هذه الرائية شهرة كبيرة ، ونالت اهتمام العلماء من بعده ، فتناولوها بالشرح والتعقيب.

وللجعبري برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن (ت ٧٣٨ ه‍) منظومتان بالإضافة إلى شرحه لمنظومة الشاطبي وكلتاهما تتعلق بسور القرآن ، وآياته ، وعددها ، الأولى سماها «عقد الدرر في عد آي السور» والثانية «حديقة الزهر في عد آي السور» ولعلهما منظومة واحدة ومع ذلك لا يمكن البت في هذا الرأي ما لم يتيسر لنا المقارنة بينهما. وألّف موسى جار الله كتابا سماه «شرح ناظمة الزهر».

وممن ألّف في أجزاء القرآن من الأوائل ابن عباس (ت ٦٨ ه‍) وعمرو بن عبيد (ت ١٤٤ ه‍) في كتابه الذي سماه «أجزاء ثلاثمائة وستين» ، ثم الكسائي علي بن حمزة (ت ١٨٩ ه‍) في كتابه «أجزاء القرآن» ، والدوري أبو حفص عبد العزيز (ت ٢٤٦ ه‍) «أجزاء القرآن» أيضا.

ومن أوائل من ألّف في أسباع القرآن حمزة بن حبيب الزيات (ت ١٥٦ ه‍) في كتاب سماه «أسباع القرآن».

أما أعشار القرآن فأقدم من ألّف فيه قتادة بن دعامة السدوسي (ت ١١٨ ه‍) في كتاب سماه «أعشار القرآن» ونسب له كتاب «عواشر القرآن» والأرجح أنهما كتاب واحد.

٤٧

وألّف مكي بن أبي طالب حمّوش (ت ٤٣٧ ه‍) كتاب «الاختلاف في عدد الأعشار» والتعشير وضع علامة بعد كل عشر آيات من القرآن.

أما رسم المصحف وما يتعلق به من تنقيط وضبط يساعد على صحة القراءة ، فيبدو أنه بدأ منذ فترة مبكرة من عصر الصحابة ، ولعله سبق تقسيم القراءة إلى أعشار أو أخماس ، فقد ذكر الداني في «المحكم» ص ٢ عن الأوزاعي (بأن القرآن كان مجردا في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه النقط على الياء والتاء وقالوا لا بأس به هو نور له ، ثم أحدثوا فيه نقاطا عند منتهى الآي ، ثم أحدثوا الفراغ والخواتم). وفي رواية أخرى عن قتادة أنه قال واصفا الصحابة (بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا). وقد علق الداني على هذه العبارة بأنها تدل على أن الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم هم المبتدءون بالنقط ورسم الخموس والعشور ؛ لأن حكاية قتادة لا تكون إلا عنهم ، إذ هو من التابعين ، وقوله بدءوا... الخ دليل على أن ذلك كان عن اتفاق من جماعتهم.

هذا فيما يتعلق بنشأة التنقيط ، أما التأليف فيه فقد نسب الداني أيضا مختصرا لأبي الأسود الدؤلي في التنقيط ، وذكر لنا رواية تفصل بدء وضعه التنقيط وذلك أنه اختار رجلا من بني عبد القيس وقال له (خذ المصحف مصبغا يخالف لون المداد ، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله فإذا اتبعت شيئا من هذه الحركات غنه ـ ويريد بالغنة التنوين ـ فانقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ، ثم وضع المختصر المنسوب إليه.

أما أول من صنف في النقط ورسمه في كتاب وذكر علله فهو الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠ ه‍) ، وأبو محمد ، يحيى بن المبارك اليزيدي العدوي (ت ٢٠٢ ه‍) ثم عبد الله بن يحيى بن المبارك اليزيدي (ت ٢٣٧ ه‍) ، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد (ت ٣٢٤ ه‍) ، وألّف فيه أبو بكر بن الأنباري ، ثم أبو الحسن أحمد بن جعفر بن المنادي (ت ٣٢٤ ه‍) ، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أشتة (ت ٣٦٠ ه‍) ، وأبو الحسن علي بن محمد بن بشر الأنطاكي (ت ٣٧٧ ه‍) ، وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت ٣٨٤ ه‍).

٤٨

وألّف الداني أبو عمرو عثمان بن سعيد (٤٤٤ ه‍) رسالة في رسم المصحف وله كتابان مشهوران في هذا الباب وكلاهما مطبوع : «المحكم في نقط المصاحف» وكتاب «المقنع في معرفة رسوم مصاحف أهل الأمصار».

وألّف إسماعيل بن ظافر (ت ٦٢٣ ه‍) كتاب «رسوم خط المصحف» مرتبا على سور القرآن الكريم. أما الجعبري (ت ٧٣٨ ه‍) والذي ذكرنا بعض مؤلفاته من قبل فقد ألّف كتاب «روضة الطرائف في رسم المصاحف» وهو منظومة.

وألّف السمرقندي ، أبو الخير محمد بن محمد (ت ٧٨٠ ه‍) كتاب «كشف الأسرار في رسم مصاحف الأمصار». وللسيوطي (ت ٩١١ ه‍) رسالتان الأولى : «رسالة في أقسام القرآن ورسومه وخطه» والثانية باسم «في رسم المصحف».

أما القراءات التي قلنا إنها تدخل ضمن علم التفسير فإنها وجدت أيضا في مؤلفات العلماء المسلمين منفصلة عنه ، وقد تنوعت الاتجاهات التي كتبوا فيها فمنهم من كتب فيها بصورة عامة ومنهم من خص شواذ القراءات وغرائبها بالتأليف وآخرون كتبوا في القراء السبعة المشهورين أو الثمانية أو العشرة سواء كانت كتاباتهم في مقرئ واحد أو مجموعة منهم ، أو تقارن بين قراءتين أو أكثر ، وهناك مجموعة كتبت في موضوعات تتعلق بالقراءة وتتداخل هذه المادة مع ما ألّف بالدراسات النحوية ، القرآنية.

وقد كثر التأليف في القراءات ، وترى تفصيل ذلك في النوع الثاني والعشرين من هذا الكتاب مفصّلا إن شاء الله.

وهناك موضوعات أثارتها قضية القراءات وتعليمها وتلقّي أصولها تتعلق بطريقة القراءة ، ونطق بعض الحروف أو تحديد الوقفة ما استحب منها وما وجب ، والوقفات الطويلة أو القصيرة وما يتعلق بالتفخيم أو الترخيم أو ذكر الحروف المدغمة ، وما إلى ذلك من مواضيع سنحاول الوقوف عند بعضها ، مثل الكتب التي ألّفت في الوقف والابتداء.

وأول من ألّف في الوقوف ـ كما نص ابن الجزري ـ شيبة بن النصاح بن سرجس بن يعقوب ، الإمام الثقة ، مقرئ المدينة ومولى أم سلمة رضي‌الله‌عنها

٤٩

١٣٠ ه‍) ثم أبو عمرو بن العلاء (ت ١٥٤ ه‍) ثم حمزة بن حبيب الزيات (ت ١٥٦ ه‍) ونافع بن عبد الرحمن (ت ١٦٩ ه‍) ويحيى بن المبارك اليزيدي (ت ٢٠٥ ه‍) ويعقوب بن إسحاق الحضرمي (ت ٢٠٥ ه‍) وألف الفراء أبو زكريا (ت ٢٠٧ ه‍) كتاب «الوقف والابتداء» وألّف فيه أيضا روح بن عبد المؤمن (ت ٢٣٥ ه‍) كما ألّف المبرد أبو العباس (ت ٢٨٤ ه‍) كتاب «الوقف». ومثله ثعلب (ت ٢٩١ ه‍) «الوقف والابتداء» وأبو أيوب سليمان بن يحيى الضبي (ت ٢٩١ ه‍) ، وأبو بكر بن الأنباري (ت ٣٢٨ ه‍) وله كتاب «الإيضاح في الوقف والابتداء» ثم ابن النحاس أحمد بن محمد بن إسماعيل (ت ٣٣٧ ه‍) وله «القطع والائتناف» ، ثم أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أوس (ت ٣٤٠ ه‍) وألّف الرؤاسي محمد بن أبي سارة كتاب «الوقف والابتداء» الصغير وكتاب «الوقف والابتداء» الكبير كما ألف ابن مقسم ، أبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب كتاب «الوقف والابتداء» أيضا.

وألّف السيرافي أبو سعيد الحسن بن عبد الله (ت ٣٦٨ ه‍) كتاب «الوقف والابتداء» وأحمد بن الحسين بن مهران (ت ٣٨١ ه‍) باسم «الوقف والابتداء» وآخر باسم «وقوف القرآن». ثم ابن جني أبو الفتح عثمان (ت ٣٩٤ ه‍).

أمّا مكي بن أبي طالب حموش (ت ٤٣٧ ه‍) فقد كتب أكثر من كتاب في الوقف منها «الوقف على كلا وبلى ونعم» ، وله «شرح التمام والوقف».

وألّف أبو الفضل محمد بن عبد الكريم الخزاعي (ت ٤٠٨ ه‍) كتاب «الإبانة في الوقف والابتداء» وألّف الداني أبو عمرو عثمان (ت ٤٤٤ ه‍) كتاب «المكتفي في الوقف والابتداء» وينسب إليه أيضا «الاهتداء في الوقف والابتداء».

وفي القرن السادس كتب أبو الحسن بن أحمد بن الحسن الغزال (ت ٥١٦ ه‍) كتاب «الوقف والابتداء» ، ثم ابن طيفور محمد (ت ٥٦٠ ه‍) «الوقف والابتداء» أو «الإيضاح في الوقف والابتداء» وكتب السجاوندي سراج الدين أبو طاهر محمد (ت ٥٦٠ ه‍) «الوقف والابتداء».

وهناك من كتب في اللامات مثل داود بن أبي طيبة (ت ٢٢٣ ه‍) والأخفش هارون بن موسى بن شريك (ت ٢٩٢ ه‍) وأبو بكر بن الأنباري المتوفي سنة (٣٢٨ ه‍).

٥٠

وممن كتب في المقطوع والموصول عبد الله بن عامر (ت ١١٨ ه‍ حيث كتب : «المقطوع والموصول في القرآن» ثم حمزة بن حبيب الزيات (ت ١٥٦ ه‍) والكسائي أبو الحسين علي بن حمزة (ت ١٨٩ ه‍).

وممن كتب في الإدغام أبو عمرو بن العلاء (ت ١٥٤ ه‍) وسمى كتابه «الإدغام الكبير» ثم مكي بن أبي طالب حموش (ت ٤٣٧ ه‍) كتاب الحروف المدغمة في القرآن ، وأبو عمرو الداني (ت ٤٤٤ ه‍) «الإدغام الكبير» ثم الجعبري ، أبو إسحاق إبراهيم بن عمر (ت ٧٣٢ ه‍) إذ كتب «تحقيق التعليم في الترخيم والتفخيم».

وهناك من ألّف في الإمالة مثل مكي بن أبي طالب حموش (ت ٤٣٧ ه‍) وابن القاصح أبو البقاء علي بن أبي علي فخر الدين (ت ٨٠١ ه‍) إذ ألّف كتاب «الفتح والإمالة بين اللفظين» ، وله كتاب آخر باسم «نزهة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين».

ومثلما كتب العلماء في القراءات المشهورة والمتواترة وحدودا طرقها ، ورواياتها وأسانيدها ، فإنهم كتبوا أيضا في شواذ القراءات ومفردها ، وممن ألّف فيها ابن مجاهد حيث كتب كتاب «انفرادات القراء» وابن شنبوذ (ت ٣٢٨ ه‍) «انفرادات القراء». وألّف البزاز أبو طاهر عبد الواحد (ت ٣٤٩ ه‍) «شواذ القراءات» وكتب ابن خالويه (ت ٣٧٠ ه‍) «مختصر شواذ القرآن» ثم أحمد بن الحسين بن مهران «ت ٣٨١ ه‍) «غرائب القراءات» ويأتي بعد هذا أشهر كتاب في القراءات الشاذة وهو كتاب «المحتسب لابن جني» (ت ٣٩٢ ه‍) ثم محمد بن طيفور ، أبو عبد الله «علل القراءات».

والملاحظ في هذه المؤلفات أن أسماء المؤلفين تتكرر في شتى المواضيع التي ذكرناها ، وتكاد بعض الأسماء تتكرر في كل ميدان من ميادين علم القراءة مما يؤكد تخصص أصحابها في القراءات وطرقها ومعرفة أشهر القراء وما إلى ذلك مثل ابن مجاهد ، وابن شنبوذ ، والبزاز ، ومكي بن أبي طالب والداني الخ ممن مر بنا ذكر مؤلفاتهم.

وهناك دراسات قرآنية أخرى كثيرة كتب عنها العلماء مثل قصص القرآن

٥١

والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ وغيرهما مما ذكرناه في هذا البحث أو لم نذكره ، وقد اكتفينا بذكر بعض علوم القرآن لأنها يمكن أن تقدم صورة للنشاط الفكري العظيم الذي أثاره القرآن الكريم ، وتصور خطوطا عامّة للجهود العلمية التي بذلها العلماء

وهكذا نشأت علوم القرآن ، وظهرت مؤلفات في كل نوع منها ، مما يروعك تصوّره بله الاطلاع عليه ، ومما يملأ خزائن كاملة من أعظم المكتبات في العالم. ثم لا يزال المؤلفون إلى عصرنا هذا يزيدون ، وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمي وتزدهر وتزيد ، بينما الزمان يفنى والعالم يبيد! أليس إعجازا آخر للقرآن؟ يريك إلى أي حد بلغ علماء الاسلام في خدمة التنزيل. ويريك أنه كتاب لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي معارفه ، ولن يستطيع أن يحيط بأسراره إلا صاحبه ومنزّله.

وتزداد عجبا إذا علمت أن طريقة أولئك المؤلفين في تأليفهم ، كانت طريقة استيعاب واستقصاء ، يعمد أصحابها أن يحيطوا بجزئيات القرآن من الناحية التي كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية. فمن يكتب في «غريب القرآن» مثلا يذكر كل مفرد من مفردات القرآن التي فيها غرابة وإبهام ، ومن يكتب في «مجاز القرآن» يقتفي أثر كل لفظ فيه مجاز أيّا كان نوعه في القرآن ، ومن يكتب في «أمثال القرآن» يتحدّث عن كل مثل ضربه الله في القرآن ، وهكذا سائر أنواع علوم القرآن ولا ريب أن تلك المجهودات الجبارة لا يتهيّأ لإنسان أن يحيط بها ولو أفنى عمره ، واستنفد وسعه!.

أول عهد بظهور مصطلح «علوم القرآن» كفن جامع

اشرأبّت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون جامعا لها ، ودليلا عليها ، ومتحدّثا عنها ، فكان هذا العلم هو ما نسميه «علوم القرآن» بالمعنى المدوّن.

ولا نعلم أن أحدا قبل المائة الثالثة للهجرة ألّف أو حاول أن يؤلف في علوم القرآن بالمعنى المدوّن ، لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف. وإن كنا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرّزين من العلماء على الرغم من أنهم لم يدوّنوها في كتاب ، ولم يفردوها باسم.

أجل : كانت علوم القرآن مجموعة في صدور المبرّزين من العلماء ؛ فنحن نقرأ في

٥٢

تاريخ الشافعي رضي‌الله‌عنه أنه في محنته التي اتّهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن ؛ وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبّلا بالحديد في بغداد ؛ سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله ، فقال : كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عزوجل؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به. فقال الشافعي : عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل كتبا كثيرة. قال الرشيد : قد أحسنت ، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال الشافعي : إن علوم القرآن كثيرة ؛ فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه ، أو عن تقديمه وتأخيره ، أو عن ناسخه ومنسوخه ، أو عن أو عن..؟؟ وصار يسرد عليه من علوم القرآن ، ويجيب على كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين.

فأنت ترى من جواب الشافعي هذا ، ومن فلجه بالصواب في هذا الموقف الرهيب ما يدلك على أن قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن تجمع في كتاب ، أو تدوّن في علم. وقد نوّه جلال الدين البلقيني في خطبة كتابه «مواقع العلوم» بكلمة الشافعي التي ذكرناها إذ قال : (قد اشتهر عن الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه مخاطبة لبعض خلفاء بني العباس ، فيها ذكر بعض أنواع علوم القرآن يحصل منها لمقصدنا الاقتباس).

وقد بدأ التأليف في علوم القرآن كفنّ جامع في العصر الذهبي من عصور العلوم الإسلامية ، وهو القرن الثالث الهجري ، حين جمع بعض المفسرين بعض علوم القرآن في تفاسيرهم موزعة على السّور والآيات ، وتكلموا في تفسير كل آية عما يتعلق بها كما جمع العلماء في مقدمات تفاسيرهم بعض علوم القرآن كما فعل ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه‍) في تفسيره «جامع البيان» والراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ ه‍) في «تفسيره» ، وابن عطية الغرناطي ، أبو محمد عبد الحق بن عطية (ت ٥٤١ ه‍) في تفسيره «المحرّر الوجيز» والقرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت ٦٧١ ه‍) في تفسيره الكبير «الجامع لأحكام القرآن» على تفاوت منهم بذكرها ، وذكر عدد أنواعها. أو التوسع في كل نوع منها على حدة ، ويمكن إفراد هذه المقدمات ككتب مستقلة واعتبارها من أوائل ما ألّف في «علوم القرآن».

٥٣

كما ظهرت فكرة جمع هذه العلوم في كتب المحدثين ، كما فعل الإمام البخاري (ت ٢٥٦ ه‍) في «الجامع الصحيح» وسنتناول بالدراسة بعض هذه التفاسير الكبيرة ، ثم نتناول بعض مقدمات التفاسير وكتب الحديث لنرى كيف كان وضع «علوم القرآن» فيها.

البرهان في علوم القرآن للحوفي (ت ٣٣٠ ه‍)

في دار الكتب المصرية كتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي اسمه «البرهان في علوم القرآن» ، وهو يقع في ثلاثين مجلدا ، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا ، غير مرتبة ولا متعاقبة ، من نسخة مخطوطة والجزء الأول منه مفقود ، غير ان اسم الكتاب يدل على هذه المحاولة. وهو يعرض الآية الكريمة بترتيب المصحف ثم يتكلم عليها من علوم القرآن خاصا كل نوع منها بعنوان ، فيسوق النظم الكريم تحت عنوان : (القول في قوله عزوجل). وبعد أن يفرغ منه يضع هذا العنوان : (القول في الإعراب) ويتحدث عنها من الناحية النحوية واللغوية ، ثم يتبع ذلك بهذا العنوان (القول في المعنى والتفسير) ويشرح الآية بالمأثور والمعقول. ثم ينتقل من الشرح إلى العنوان الآتي : (القول في الوقف والتمام) مبينا تحته ما يجوز من الوقف وما لا يجوز. وقد يفرد القراءات بعنوان مستقل فيقول (القول في القراءة). وقد يتكلم في الأحكام الشرعية التي تؤخذ من الآية عند عرضها ، ففي آية (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (البقرة : ١١٠) يذكر أوقات الصلاة وأدلّتها ، وأنصبة الزكاة ومقاديرها : ويتكلم على أسباب النزول ، وعلى النسخ ، وما إلى ذلك عند المناسبة. فأنت ترى أن هذا الكتاب أتى على علوم القرآن ، ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد ، بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزّعها ، حتى كان هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات. وأيّا ما يكن هذا الكتاب فإنه مجهود عظيم ، ومحاولة جديرة بالتقدير في هذا الباب.

٥٤

مقدمة تفسير الطبري

قدم الطبري محمد بن جرير (ت ٣١٠ ه‍) لتفسيره الكبير «جامع البيان» بمقدمة بلغت (٣٥) صفحة ، ضمّنها ما يراه متعلقا بالتفسير من علوم القرآن ، وقد ذكر منها تسعة أنواع ، وهي الآتية :

١ ـ إعجاز القرآن البياني (في صفحتين).

٢ ـ المعرّب في القرآن (في ٣ صفحات).

٣ ـ الأحرف السبعة (في ١٥ صفحة).

٤ ـ القراءات (في صفحة واحدة).

٥ ـ جمع القرآن (في ٣ صفحات).

٦ ـ تفسير القرآن (في ٧ صفحات).

٧ ـ طبقات المفسرين من الصحابة والتابعين (في ٤ صفحات).

٨ ـ أسماء القرآن وسوره (في صفحتين).

٩ ـ ترتيب سوره وآياته (في صفحة واحدة).

وهو يعرض لكل علم بإيجاز ، فيذكر أهميته وعلاقته بعلم تفسير القرآن ، ويذكر أقوال العلماء المتقدمين فيه ويناقش آراءهم ، ويذكر الروايات المسندة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة والتابعين فيه ثم ينتقل لغيره. ولا نشك في أنه استفاد في كل نوع مما كتبه السابقون مفردا في تصانيفهم.

مقدمة تفسير «المحرر الوجيز» لابن عطية

وقدّم ابن عطية ، أبو محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي (ت ٥٤١ ه‍) لتفسيره بمقدمة كبيرة بلغت (٧٥) صفحة ضمنها (١٠) أنواع من أنواع علوم القرآن وهي الآتية :

١ ـ فضل القرآن (في ١٠ صفحات).

٢ ـ تفسيره (في صفحتين).

٣ ـ طبقات المفسرين (في ٤ صفحات).

٤ ـ الأحرف السبعة (في ١٣ صفحة).

٥٥

٥ ـ جمع القرآن (في ٣ صفحات).

٦ ـ ترتيبه ونقطه وشكله وتحزيبه وتعشيره (في صفحة).

٧ ـ المعرّب في القرآن (في صفحتين).

٨ ـ إعجاز القرآن (في ٣ صفحات).

٩ ـ الآيات المتشابهات في الصفات (في ٣ صفحات).

١٠ ـ أسماء القرآن ومعنى السورة والآية (في ٥ صفحات).

وهي كما نرى مشابهة لمقدمة الإمام الطبري من حيث الأنواع ، وعددها ، فقد اقتفي صاحبها أثر الطبري وهو يصرح فيها بنقله عنه (١).

مقدمة تفسير القرطبي

أما الإمام القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت ٦٧١ ه‍) فقد تبع الطبري أيضا في مقدمة تفسيره الكبير «الجامع لأحكام القرآن» وضمنها (١٢) نوعا من أنواع علوم القرآن ، وهي الآتية :

١ ـ فضائل القرآن (في ٦ صفحات).

٢ ـ آداب تلاوة القرآن وتزيين الصوت به والتحذير من الرياء به ، ووجوب الإخلاص والعمل به (في ١٧ صفحة).

٣ ـ تفسير القرآن (في ٩ صفحات).

٤ ـ طبقات المفسرين (في ٣ صفحات).

٥ ـ الأحرف السبعة (في ٩ صفحات).

٦ ـ جمع القرآن (في ١٠ صفحات).

٧ ـ ترتيب السور والشكل والنقط والتحزيب والتعشير وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآية (في ٨ صفحات).

٨ ـ معنى السورة والآية والكلمة والحرف (في ٣ صفحات).

٩ ـ المعرّب (في صفحتين).

__________________

(١) راجع في الصفحة ٦٤ ، باب ذكر جمع القرآن وشكله ونقطه..

٥٦

١٠ ـ إعجاز القرآن (في ٩ صفحات).

١١ ـ فضائل السور (في ٣ صفحات).

١٢ ـ وجوب التزام مصحف الخليفة عثمان والردّ على من طعن فيه بالزيادة والنقصان (في ٦ صفحات).

ونرى القرطبي أيضا قد اتبع خطّة الطبري ، وذكر الأنواع نفسها في مقدمته ولكنه أضاف إليها نوعين وهما آداب التلاوة ووجوب التزام مصحف الخليفة عثمان.

علوم القرآن في كتاب «فضائل القرآن» لأبي عبيد (ت ٢٢٤ ه‍)

وهذه محاولة أخرى تعتبر من أقدم المحاولات لجمع عدد كبير من «علوم القرآن» في مؤلف واحد ، وهي كتاب «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت ٢٢٤ ه‍) وهو من أئمة علوم القرآن وله مشاركة فيها قال المرزباني : «وممّن جمع صنوفا من العلم وصنّف الكتب في كل فنّ من العلوم والأدب فأكثر وشهر : أبو عبيد القاسم بن سلام». وقال القفطي : «وروى الناس من كتبه المصنّفة بضعة وعشرين كتابا في القرآن والفقه وغريب الحديث... وله في القراءات كتاب جيّد ليس لأحد من الكوفيين قبله مثله... وله من التصانيف : كتاب «غريب القرآن» ، كتاب «معاني القرآن» ، كتاب «القراءات» ، كتاب «عدد آي القرآن»...» (١).

وقد رتّب أبو عبيد كتابه «فضائل القرآن» في اثنتين وستين بابا ضمنها خمسة عشر علما من علوم القرآن. وهو يتكلم في غالب الأبواب الأول عن الأنواع التالية : فضل القرآن ، وآداب حامله وقارئه ، وفضائل السور ، وقد استغرقت ثلثي الكتاب ، ثم بعد أن يفرغ من مقصوده في الكتاب يذكر في الثلث الأخير من الكتاب تسعة عشر بابا تحت عنوان : «جماع أحاديث القرآن وإتقانه في كتابه وتأليفه وإقامة حروفه» ضمنها (١٢) علما من علوم القرآن ، وهذه ترجمة الأبواب الأخيرة :

ـ باب تأليف القرآن وجمعه ، ومواضع حروفه وسوره.

__________________

(١) إنباه الرواة للقفطي ٣ / ١٣ ـ ٢٢.

٥٧

ـ الزوائد من الحروف التي خولف بها الخط في القرآن.

ـ ما وقع في القرآن بعد نزوله ولم يثبت في المصاحف.

ـ حروف القرآن التي اختلفت مصاحف أهل الحجاز وأهل العراق ، وهي اثنا عشر حرفا.

ـ الحروف التي اختلف فيها مصاحف أهل الشام والعراق.

ـ لغات القرآن وأيّ العرب نزل القرآن بلغته.

ـ إعراب القرآن.

ـ المراء في القرآن.

ـ عرض القرّاء القرآن وما يستحب لهم على أهل الفضل والعلم والقرآن.

ـ مواطن نزوله.

ـ باب القراء من الصحابة والتابعين.

ـ تأويل القرآن بالرأي وما في ذلك من الكراهة.

ـ كتمان قراءة القرآن.

ـ الرقيا بالقرآن والاستشفاء به.

ـ باب ما جاء في مثل القرآن وحامله والعامل به والتارك له.

ـ بيع المصاحف وشراؤها.

ـ نقط المصاحف.

ـ التعشير وتحلية المصاحف.

ـ تعطير المصاحف ولمسها من قبل المشرك.

ويجري أبو عبيد في كتابه على منهج المحدّثين في سوق ما ورد من الأحاديث المسندة حول الموضوع الذي يتكلم عنه ، لكنه يمهّد له بكلامه ، ويستعرض بعض أقوال العلماء حوله ويناقشها ، ويرجح بينها.

علوم القرآن في «صحيح البخاري» (ت ٢٥٦ ه‍)

جمع الإمام البخاري ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت ٢٥٦ ه‍) في «الجامع الصحيح» عشرة أنواع من علوم القرآن تحت عنوان «كتاب فضائل القرآن» وهو الكتاب

٥٨

السادس والستون من «جامعه» ، وعدة أبواب هذا الكتاب (٣٧) بابا تنتظم. الأنواع ضمنها ، وهذه ترجمتها :

وقد اقتصر البخاري على هذه العلوم التزاما منه بإيراد ما جاء فيها من الحديث الصحيح ، وهي محاولة تعطي القارئ فكرة عن منهج المحدّثين تجاه علوم القرآن وكيف تناولوها في مؤلفاتهم.

استقلال التأليف في «علوم القرآن»

رأينا في الفصل السابق كيف بدأ التأليف في «علوم القرآن» كل فنّ منها على

٥٩

حدة ، ثم كيف جمعها بعض العلماء مع غيرها في كتب التفسير الكبيرة ، أو في مقدماتها ، أو في كتب المحدّثين ، وسنرى في هذا الفصل بداية استقلال التدوين بها كفن ، وجهود العلماء وتآليفهم فيها منذ نشأتها إلى أيامنا هذه.

١ ـ يعتبر الإمام ابن الجوزي ، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت ٥٩٧ ه‍) أقدم من أفرد كتابا مستقلا في «علوم القرآن» ، وهو «فنون الأفنان في عيون علوم القرآن» (١) وقد ضمنه عشرة أنواع منها ، وذكر في مقدمته أنه وضعه بعد أن ألف كتابا في علوم الحديث اسمه «التلقيح في غرائب علوم الحديث» وقد تناول من هذه العلوم ما رآه «عجيبا» ـ ولسنا ندري ما مصطلح العجيب عنده ـ ولكنه ساق في كتابه الأنواع التالية : فضائل القرآن ، في أن القرآن غير مخلوق ، الأحرف السبعة ، كتابة المصحف وهجاؤه ، عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه ونقطه ، نقط القرآن ، أجزاء القرآن ، المكي والمدني ، اللغات في القرآن (الأعجمي والمعرّب) ، الوقف والابتداء ، التفسير ، النسخ ، المحكم والمتشابه الأوصاف التي شاركت فيها أمتنا الأنبياء ، وهي كما ترى ليست عجائب ، وقد عرض لهذه الأنواع بأسلوب موجز ، وساق أقوال السابقين فيه واعتمد على مصادرهم في نقله.

٢ ـ ولابن الجوزي كتاب آخر في علوم القرآن اسمه «المجتبى في علوم القرآن» ويسمّيه أبو الفرج الحنبلي في «الذيل على طبقات الحنابلة ١ / ٣٩٩ ب «المغني في علوم القرآن» وهو مخطوط بدار الكتب المصرية.

٣ ـ ثم وضع السخاوي ، أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد (ت ٦٤٣ ه‍) كتابا سمّاه : «جمال القرّاء وكمال الإقراء» (٢) ورتّبه في عشر كتب ، وخصّ كل نوع منها بكتاب يمكن إفراده برسالة مستقلة ، وخصّ من الأنواع ما يلزم القارئ.

٤ ـ ثم ألف أبو شامة ، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي (ت

__________________

(١) طبع الكتاب لأول مرة بتحقيق أحمد الشرقاوي ، وإقبال المراكشي بالدار البيضاء في المغرب ١٣٩٠ ه‍ / ١٩٧٠ م ، وطبع مؤخّرا بتحقيق د. حسن ضياء الدين عتر بدار البشائر الإسلامية في بيروت ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٧ م في (٥٦٨) ص.

(٢) طبع بتحقيق د. علي حسين البواب ، بدار التراث بمكة المكرمة ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ م في مجلدين.

٦٠