البرهان في علوم القرآن - ج ١

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٦

فتصير (ميم) (١) مضمومة إلى «طس» فيجعلا اسما واحدا ك (دارا بجرد) (٢). فالنوع الأول محكيّ ليس إلا ، وأمّا النوع الثاني فسائغ فيه الأمران : الإعراب والحكاية (٣).

الثالث : أنّه يوقف على جميعها وقف التّمام ؛ إن حملت على معنى مستقلّ غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ، وينعق بها كما ينعق بالأصوات ؛ أو جعلت وحدها إخبار ابتداء محذوف ؛ كقوله تعالى : (الم اللهُ) (آل عمران) أي هذه [السورة] (٤) «الم» ثم ابتدأ فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]) (٤).

الرابع : أنها كتبت في المصاحف الشريفة على صورة الحروف أنفسها ، لا على صور [ة] (٤) أساميها ، وعلّل ذلك بأن الكلمة لما كانت مركّبة من ذوات الحروف ، واستمرت العادة متى تهجّيت ، ومتى قيل للكاتب : اكتب : كيت وكيت ، أن يلفظ بالأسماء ، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها ؛ (٥) فحمل على ذلك للمشاركة (٥) المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضا فإن شهرة أمرها ، وإقامة ألسن (٦) الأحمر والأسود لها ؛ وأن اللافظ بها غير متهجّاة (٧) لا يجيء بطائل فيها (٧) ، وأن بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده أمنت وقوع اللبس فيها. وقد اتّفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي يبنى (٨) عليها علم الخطّ والهجاء ؛ ثم ما عاد ذلك بنكير (٩) ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ ، وكان اتباع خطّ المصحف سنّة لا تخالف (١٠).

أشار إلى هذه الأحكام المذكورة صاحب الكشاف.

وقد اختلف الناس في الحروف المقطعة أوائل السور على قولين : (أحدهما) : أنّ هذا

__________________

(١) في المخطوطة : (نون) ، والتصويب من الكشاف ١ / ١٣.

(٢) انظر الكشاف للزمخشري ١ / ١٣ ، وانظر «الكتاب» لسيبويه ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٩ باب أسماء السورة فإن الزمخشري ناقل عنه.

(٣) انظر الكشاف للزمخشري ١ / ١٣.

(٤) ساقطة من المخطوطة ، وليست عند الزمخشري في الكشاف ١ / ١٨.

(٥) العبارة عند الزمخشري : (عمل على تلك الشاكلة).

(٦) في المطبوعة (السنة) والتصويب من الزمخشري ١ / ١٥.

(٧) في المخطوطة (لا يخلي بطائل فيها) وعبارة الزمخشري (لا يحلى بطائل منها).

(٨) عند الزمخشري (بني).

(٩) عند الزمخشري (بضير).

(١٠) انظر الكشاف للزمخشري ١ / ١٥ ـ ١٦.

٢٦١

علم مستور ، وسرّ محبوب استأثر الله به ، ولهذا قال الصّدّيق [رضي‌الله‌عنه] (١) : «في كل كتاب [٢٣ / ب] [سرّ] (١) ، وسرّه في القرآن أوائل السور» (٢). قال الشعبيّ (٣) : «إنها من المتشابه ، نؤمن بظاهرها ، ونكل العلم فيها إلى الله عزوجل».

قال الإمام الرازي (٤) : «وقد أنكر المتكلّمون هذا القول وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق» لأنّ الله [تعالى] أمر بتدبّره ، والاستنباط منه ؛ وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه ، ولأنه كما جاز التعبّد بما لا يعقل معناه في الأفعال ، فلم لا يجوز في الأقوال بأن يأمرنا الله تارة بأن نتكلم بما نقف على معناه ، (٥) [وتارة بما لا نقف على معناه] (٥) ويكون القصد منه ظهور الانقياد والتسليم!

القول الثاني : أن المراد منها معلوم ، [وذكروا] (٥) فيه ما يزيد على عشرين وجها ؛ فمنها البعيد ، ومنها القريب :

الأول (٦) : «ويروى عن ابن عباس [رضي‌الله‌عنهما] (٧) أن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه [سبحانه] (٧) ، فالألف من «الله» ، واللام من «لطيف» ، والميم من «مجيد» ، أو الألف من «آلائه» ، واللام من «لطفه» ، والميم من «مجده» (٨). قال ابن فارس (٩) : وهذا وجه جيّد ، وله في كلام العرب شاهد.

قلنا لها قفي فقالت ق (١٠)

فعبّر عن قولها «وقفت» بق.

__________________

(١) ساقط من المخطوطة.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ٦٨ ولم يسنده للصّديق رضي‌الله‌عنه. لكن أسنده له البغوي في تفسيره ١ / ٤٤ والرازي في تفسيره ٢ / ٣.

(٣) هو عامر بن شراحيل الشعبي ، تقدمت ترجمته ص ١٠١. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ بن حبان في التفسير عن داود بن أبي هند قال : «كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور ، قال : يا داود! إن لكل كتاب سرّا ، وإن سرّ هذا القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما بدا لك» (انظر الدر المنثور للسيوطي ١ / ٢٣).

(٤) هو محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، تقدمت ترجمته ص ١٠٦ ، وانظر قوله في التفسير الكبير ٢ / ٣.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المطبوعة : (أحدها).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) انظر الدر المنثور ١ / ٢٢.

(٩) هو أحمد بن فارس بن زكريا ، تقدمت ترجمته ص ١٩١ ، وانظر قوله في «الصاحبي» ص ٩٣ ـ ٩٦ باب القول على الحروف المفردة وكذلك بقية الأقوال أوردها الزركشي نقلا عن «الصاحبي».

(١٠) في المخطوطة : (قاف) ، والبيت للوليد بن عقبة انظر «الخصائص» ١ / ٣٠ ، وسيأتي في ٣ / ١٩٠.

٢٦٢

الثاني : أن الله أقسم بهذه الحروف (١) [بأنّ هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الكتاب المنزل لا شك فيه ، وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف] (١) إذ كانت مادة البيان ، ومباني (٢) كتب الله المنزلة باللغات المختلفة ، وهي أصول كلام الأمم بها يتعارفون ، وقد أقسم الله تعالى ب (الفجر) و (الطور) ؛ فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها.

الثالث : أنها الدائرة من الحروف التسعة والعشرين ؛ فليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه عزوجل ، أو آلائه ، أو بلائه أو مدة أقوام أو آجالهم ، فالألف سنة واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون ؛ روي عن الربيع بن أنس (٣). قال ابن فارس : وهو قول حسن لطيف ؛ لأن الله تعالى أنزل على نبيه الفرقان ، فلم يدع نظما عجيبا ، ولا علما نافعا إلا أودعه إياه ، علم ذلك من علمه ، وجهله من جهله.

الرابع : ويروى عن ابن عباس (٤) أيضا في قوله تعالى : (الم). أنا الله أعلم ، وفي (المص) أنا الله [أعلم و] (٥) أفصل ، [و (الر) أنا الله أرى] (٦) ونحوه من دلالة الحرف الواحد على الاسم التام ، والصفة التامة.

الخامس : أنها أسماء للسور ف (الم) اسم لهذه ، و (حم) اسم لتلك ، وذلك أن الأسماء وضعت للتمييز ، فهكذا هذه الحروف وضعت لتمييز هذه السور من غيرها ـ ونقله الزمخشري (٧) عن الأكثرين وأن سيبويه نصّ عليه في «كتابه» (٨) ، وقال الإمام فخر الدين : «هو قول أكثر المتكلمين» (٩) ـ (فإن قيل) (١٠) : فقد وجدنا (الم) افتتح بها (عدة سور) (١١) ، فأين التمييز؟ قلنا قد يقع الوفاق بين اسمين لشخصين ثم يميّز بعد ذلك بصفة ونعت ، كما يقال : زيد وزيد ، ثم

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (وما في) والتصويب من عبارة «الصاحبي».

(٣) هو الربيع بن أنس البكري الخراساني كان تابعيا. روى عن أنس بن مالك والحسن البصري وغيرهما. وعنه : أبو جعفر الرازي ، والأعمش ، وابن المبارك وغيرهم. قال العجلي : «بصري صدوق». وقال النسائي : «ليس به بأس». مات في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ١٣٩. (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٣ / ٢٣٨) ، وانظر قوله في «تفسير الطبري ١ / ٦٨.

(٤) انظر الملحق رقم (٧).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) ساقط من المخطوطة ، وليست في «الصاحبي».

(٧) انظر الكشاف ١ / ١٣.

(٨) سيبويه ، الكتاب (بتحقيق هارون) ٣ / ٢٥٦ ، باب أسماء السور.

(٩) الرازي ، التفسير الكبير ٢ / ٥ ، وقد أورد الزركشي أقوال : الزمخشري وسيبويه ، والفخر الرازي ضمن سياقه لقول ابن فارس لذا لزم التنويه.

(١٠) في المخطوطة : (قال).

(١١) في المخطوطة : (غير سورة).

٢٦٣

يميّزان بأن يقال : زيد الفقيه ، وزيد النحويّ ، فكذلك إذا قرأ [القارئ] (١) : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) (البقرة) فقد ميّزها عن (الم* اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]) (١) (آل عمران).

السادس : أنّ لكل كتاب سرّا ، وسرّ القرآن فواتح السور ، قال ابن فارس : وأظن قائل ذلك أراد أنه من السّر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. واختاره جماعة ، منهم أبو حاتم بن حبان (٢).

قلت : وقد استخرج بعض أئمة المغرب من قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ) (الروم) فتوح بيت المقدس واستنقاذه من العدو في سنة معيّنة ، وكان كما قال.

السابع : أن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، وقال بعضهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (فصلت : ٢٦) فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ، ويكون تعجّبهم سببا لاستماعهم ، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده ، فترقّ القلوب وتلين الأفئدة.

الثامن : أنّ هذه الحروف ذكرت لتدلّ على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي : ا ، ب ، ت ، ث ،... فجاء بعضها مقطّعا ، وجاء تمامها مؤلفا ، ليدلّ القوم الّذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعقلونها ، (٣) [فيكون ذلك تقريعا لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها] (٣) ، ويبنون كلامهم منها.

التاسع : واختاره ابن فارس وغيره أن تجعل هذه التأويلات كلها تأويلا واحدا ؛ فيقال : إن الله جل وعلا افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه للدلالة بكل حرف [٢٤ / أ] منها على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، فتكون هذه الحروف جامعة لأن (٤) تكون افتتاحا ، وأن يكون

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) هو محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي الشافعي صاحب الصحيح كان حافظا ثبتا إماما حجة. أحد أوعية العلم. صاحب تصانيف سمع أبا خليفة الجمحي والنّسائي وطبقتهما. ومنه الحاكم وطبقته. كان عالما في الحديث والفقه واللغة والوعظ حتى الطب والنجوم والكلام. ولي قضاء سمرقند. قال الخطيب : كان ثقة نبيلا. توفي سنة (٣٥٤) ببست (ابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب ٣ / ١٦).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة وأثبتناه من المخطوطة ومن عبارة «الصاحبي».

(٤) تصحّفت في المخطوطة إلى (لا).

٢٦٤

كلّ واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى ، وأن يكون الله عزوجل قد وضعها هذا الوضع فسمى [بها] (١) ، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين ، وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده ، وأنّ الافتتاح بها سبب لأن يسمع القرآن من لم يكن سمع ، وأنّ فيها إعلاما للعرب أن القرآن الدالّ على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الحروف ، وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم ، وأن كلّ عدد منها إذا وقع أوّل كلّ سورة فهو اسم لتلك السورة. قال : وهذا القول الجامع للتأويلات كلها» (٢) والله أعلم بما أراد من ذلك.

العاشر : أنها كالمهيّجة لمن سمعها من الفصحاء ، والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل ، والأخذ في التفاضل ، وهي بمنزلة زمجرة الرعد قبل الناظر في الأعلام لتعرف الأرض فضل الغمام ، وتحفظ ما أفيض عليها من الإنعام. (٣) [وإلحاق مواقع الاستفهام بما فيه من العجمة التي لا تؤلف في الكلام] (٣). وما هذا شأنه خليق بالنظر فيه ، والوقوف على معانيه بعد حفظ مبانيه.

الحادي عشر : التنبيه على أن تعداد هذه الحروف [ممن] (١) لم يمارس الخط ، ولم يعان الطريقة ، على ما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت : ٤٨).

الثاني عشر : انحصارها في نصف أسماء حروف المعجم ، لأنها أربعة عشر حرفا على ما سبق تفصيله ؛ وهذا واضح على من عدّ حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا ، وقال «لا» مركبة من اللام والألف ؛ والصحيح أنها تسعة وعشرون حرفا. [والنطق] (١) «بلا» في الهجاء كالنطق في «لا رجل في الدار» ، وذلك لأن الواضع جعل كلّ حرف من حروف المعجم صدر اسمه [إلاّ] (١) الألف ، فإنه لمّا لم يمكن أن يبتدأ به لكونه مطبوعا على السكون فلا يقبل الحركة أصلا توصّل إليه باللام ؛ لأنها شابهته في الاعتداد والانتصاب ، ولذلك يكتب على صورة الألف [إلا] (١) إذا اتصل بما بعده.

فإن قلت : فقد [تقدم] (١) اسم الألف في أول حرف الهجاء! قلت : ذلك اسم الهمزة

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة كذا عبارة الأصول ، وفي «الصاحبي» (قسما بها).

(٢) هنا ينتهي نقل الزركشي عن «الصاحبي».

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

٢٦٥

لوجهين : أحدهما أنه صدره ، والثاني أنها صدر ما تصدّر من حروف المعجم لتكون صورته ثلاثا ؛ وإنما كانت صدره لأن صورتها كالمتكررة أربع مرات ؛ لأنها تلبس صورة العين وصورة الألف والواو والياء لما يعرض من الحركة والسكون ، ولذلك أخّروا ما بعد الطاء والظاء والعين ؛ لأن صورتها ليست متكررة. وجوابه على هذا المذهب أن الحرف لا يمكن تنصيفه ، فيتعين سقوط حرف لأنه الأليق بالإيجاز.

الثالث عشر : مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف. فإن قلت : هلاّ روعي صورتها كما روعي عددها؟ قلت : عرض لبعضها الثّقل لفظا فأهمل.

فصل

اعلم أنه لما كانت هذه الحروف ضرورية في النطق ، واجبة في الهجاء ، لازمة التقدم في الخطّ والنّطق ـ إذ المفرد مقدّم على المركب ـ فقدمت هذه المفردات على مركّباتها في القرآن ، فليس في المفرد (١) ما في المركّب ، بل في المركّب ما في المفرد وزيادة. ولما كان نزول القرآن في أزمنة متطاولة ، تزيد على عشرين سنة ، وكان باقيا إلى آخر الزمان ، لأنه ناسخ لما قبله ، ولا كتاب بعده ، جعل الله [تعالى] حروفه كالعلائم ، مبيّنة أن هذه السورة هي من قبيل تلك التي أنزلت من عشر سنين مثلا ، حتى كأنها تتمة لها ، وإن كان بينهما مدة.

وأما نزول ذلك في مدد وأزمنة ، أو نزول سور خالية عن الحروف فبحسب تلك الوقائع. وأمّا ترتيب وضعها في المصحف ـ أعني [٢٤ / ب] السور ـ فله أسباب مذكورة في النوع الثالث عشر.

وأما زيادة بعض الحروف عن (٢) بعض السور وتغيير بعضها ، فليعلم أنّ المراد الإعلام بالحروف فقط ؛ وذلك أنه متى فرض (٣) الإنسان في بعضها شيئا مثل : (الم) السجدة ، لزمه في مثلها مثله ، كألف لام ميم البقرة ؛ فلما لم يجد دلّه ذلك الثاني على بطلان الأول ، وتحقق أن هذه الحروف هي علامات المكتوب والمنطوق. وأما كونها اختصّت بسورة البقرة فيحتمل [أنّ] (٤) ذلك تنبيه على السور ، وأنها احتوت على جملة المنطوق به من جهة الدلالة ؛ ولهذا

__________________

(١) في المخطوطة : (المفردات).

(٢) في المطبوعة : (في).

(٣) في المخطوطة : (فرط).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

٢٦٦

حصلت في تسعة وعشرين سورة بعدد جملة الحروف ولو كان القصد الاحتواء على نصف الكتاب لجاءت في أربع عشرة سورة ؛ وهذا الاحتواء ليس من كلّ وجه ، بل من وجه يرجع إلى النطق والفصاحة وتركيب ألفاظ اللغة العربية ؛ وما يقتضي أن يقع فيه التعجيز. ويحتمل أن يكون لمعان أخر ، يجدها من يفتح الله عليه بالتأمل والنظر ؛ أو هبة من لدنه سبحانه.

ولا يمتنع أن يكون في بقيّة السور أيضا كما في ذوات الحروف ، بل هذه خصصت بعلامات لفضيلة وجب من أجلها أن تعلم عليها السور ، لينبّه على فضلها ، وهذا من باب الاحتمال ، والأولى أن الأحرف إنما جاءت في تسعة وعشرين سورة لتكون (١) عدة السور دالّة لنا على عدة الحروف ، فتكون السّور من جهة العدة مؤدية إلى الحروف من جهة العدة ؛ فيعلم أن الأربعة عشر عوض عن تسعة وعشرين.

الثالث من أنواع استفتاح السور : النداء

نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ، (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (٣). (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر) ؛ وذلك في عشر سور (٤).

الرابع : الجمل الخبرية

نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) (الأنفال). (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ [وَرَسُولِهِ]) (٥) (التوبة). (٦) [(أَتى أَمْرُ اللهِ)] (٦) (النحل). (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (الأنبياء) ، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون) (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) (النور) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) (الزمر) (الَّذِينَ كَفَرُوا) (محمد) (إِنَّا فَتَحْنا) (الفتح) ، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (القمر) (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (الرحمن) (قَدْ سَمِعَ اللهُ) (المجادلة) (الْحَاقَّةُ) (الحاقة) (سَأَلَ سائِلٌ) (المعارج) (إِنَّا أَرْسَلْنا [نُوحاً]) (٧) (نوح) (لا أُقْسِمُ) في موضعين (القيامة ، والبلد) (عَبَسَ) (عبس) (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) (القدر) (لَمْ يَكُنِ) (البيّنة

__________________

(١) في المخطوطة : (لتعود).

(٢) وذلك في سور : المائدة ، والحجرات ، والممتحنة.

(٣) وذلك في سور : الأحزاب والطلاق والتحريم.

(٤) ويبقى ثلاث سور وهي : النساء والحج والمزمّل.

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) ساقطة من المطبوعة.

٢٦٧

(الْقارِعَةُ) (القارعة) (أَلْهاكُمُ) (التكاثر) ، (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) (الكوثر) فتلك ثلاث وعشرون سورة.

الخامس : القسم

نحو : (وَالصَّافَّاتِ) ، (وَالذَّارِياتِ) ، (وَالطُّورِ) ، (وَالنَّجْمِ) ، (وَالْمُرْسَلاتِ) ، (وَالنَّازِعاتِ) ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ، (وَالْفَجْرِ) ، (وَالشَّمْسِ) ، (وَاللَّيْلِ) ، (وَالضُّحى) ، (وَالتِّينِ) ، (وَالْعادِياتِ) ، (وَالْعَصْرِ) ؛ فتلك خمس عشرة سورة.

السادس : الشرط

نحو : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ، (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، (إِذا زُلْزِلَتِ) ، (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) ، فذلك سبع سور.

السابع : [الاستفتاح] (١) بالأمر

[في] (١) ست سور : (قُلْ أُوحِيَ) (الجنّ) ، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق) ، (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، [(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)] (٢) ، (قُلْ أَعُوذُ) [في سورتين] (٣).

الثامن : لفظ الاستفهام

[في] (٣) : (هَلْ أَتى) (الدهر) ، (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (النبأ) ، (هَلْ أَتاكَ) (الغاشية) ، (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، (أَلَمْ تَرَ) (الفيل) ، (أَرَأَيْتَ) (الماعون) ، فتلك ست سور.

التاسع : الدعاء

في ثلاث سور : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) ، (تَبَّتْ يَدا [أَبِي لَهَبٍ]) (٣).

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المخطوطة وجاء مكانها (قل أعوذ).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

٢٦٨

العاشر : التعليل

في موضع واحد ؛ نحو : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ).

هكذا جمع الشيخ شهاب الدين أبو شامة المقدسيّ (١) ؛ قال : «وما ذكرناه في قسم الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر ؛ وكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى [كله] (٢) خبر إلا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فإنه يدخل أيضا في قسم الأمر ؛ و (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) (الإسراء) يحتمل الأمر والخبر ؛ ونظم ذلك في بيتين فقال :

أثنى على نفسه سبحانه بثبو

ت المدح والسّلب لما استفتح السّورا

والأمر شرط الندا التعليل والقسم (٣) الا

دعا حروف التّهجي (٤) استفهم الخبرا

__________________

(١) هو الإمام العلامة ذو الفنون عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي ، شهاب الدين أبو شامة الدمشقي الشافعي المقرئ النحوي ولد سنة (٥٩٦) جمع القراءات كلها سنة ست عشرة على الشيخ علم الدين السخاوي وكتب الكثير من العلوم وأتقن الفقه ودرّس وأفتى وبرع في العربية. من مصنفاته : «شرح الشاطبية» توفي سنة (٦٦٥) بدمشق. (الكتبي ، فوات الوفيات ٢ / ٢٦٩).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) تصحّف في المخطوطة إلى : (اسم).

(٤) في المخطوطة (الهجا).

٢٦٩

النوع الثامن

في خواتم السور

وهي مثل الفواتح في الحسن : لأنّها آخر ما يقرع الأسماع ؛ فلهذا جاءت متضمّنة للمعاني البديعة ؛ مع إيذان السامع بانتهاء الكلام حتى يرتفع معه (١) تشوّف النّفس إلى ما يذكر [بعد] (٢).

ومن أوضحه خاتمة سورة إبراهيم : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) (إبراهيم : ٥٢) ، وخاتمة سورة الأحقاف : (بَلاغٌ ؛ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (الأحقاف : ٣٥) ولأنها بين أدعية ووصايا وفرائض ومواعظ وتحميد وتهليل ، ووعد ووعيد ؛ إلى غير ذلك. كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة فاتحة الكتاب ؛ إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي المسبّبة لغضب الله والضلال ؛ ففصّل جملة ذلك بقوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ؛ والمراد المؤمنين ؛ ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيّده ليتناول كلّ إنعام [٢٥ / أ] ؛ لأن من أنعم [الله] (٣) عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكلّ نعمة ؛ لأن نعمة الإيمان مستتبعة لجميع النعم ؛ ثم وصفهم بقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة : ٧) يعني أنهم جمعوا بين النّعم المطلقة وهي نعمة الإيمان ، وبين السّلامة من غضب الله والضلال المسبّبين عن معاصيه وتعدّي حدوده.

وكالدعاء الّذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة (الآيتان : ٢٨٥ ـ ٢٨٦).

وكالوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران (الآية : ٢٠٠) ، بالصّبر على تكاليف الدين ، والمصابرة لأعداء الله في الجهاد ومعاقبتهم ، والصبر على شدائد الحرب والمرابطة في

__________________

(١) في المخطوطة : (مع).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

٢٧٠

الغزو المحضوض عليها بقوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال : ٦٠) ، والتقوى الموعود عليها بالتوفيق في المضايق وسهولة الرزق في قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق : ٢ و ٣) ، وبالفلاح لأن (لعل) من الله واجبة.

وكالوصايا والفرائض التي ختمت بها سورة النساء (الآية : ١٧٦) ، وحسن الختم بها لأنها آخر ما نزل من الأحكام عام حجة الوداع.

وكالتبجيل والتعظيم الذي ختمت به المائدة : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة : ١٢٠) ، ولإرادة المبالغة في التعظيم اختيرت «ما» على «من» لإفادة العموم ، فيتناول الأجناس كلها.

وكالوعد والوعيد الذي ختمت به سورة الأنعام بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام : ١٦٥) ولذلك أورد على وجه المبالغة في وصف العقاب بالسرعة وتوكيد الرحمة بالكلام المفيد لتحقيق الوقوع.

وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الأعراف (الآية : ٢٠٦) والحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختم به الأنفال (الآية : ٧٥). ووصف الرسول ومدحه والاعتداد على [الصلاة] (١) الأمم به وتسليمه ووصيته والتهليل الذي ختمت به براءة (التوبة : ١٢٩). وتسليته عليه الصلاة والسلام الذي ختم بها سورة يونس (الآية : ١٠٩). ومثلها خاتمة [هود] (٢) (الآية : ١٢٣) ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به سورة يوسف (الآية : ١١١). والردّ على من كذّب الرسول الذي ختم به الرعد (الآية : ٤٣). ومدح القرآن وذكر فائدته والعلّة في أنّه إله [واحد] (٣) الذي ختمت به إبراهيم (الآية : ٥٢) ، ووصيته الرسول التي ختم بها الحجر (الآية : ٩٩). وتسلية الرسول بطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به النحل (الآية : ١٢٨). والتحميد الذي ختمت به سبحان (الإسراء : ١١١). وتحضيض الرسول على البلاغ والإقرار بالتنزيه ، والأمر بالتوحيد الذي ختمت به الكهف (الآية : ١١٠). وقد أتينا (على نصف) (٤) القرآن ليكون مثالا لمن نظر في بقيته.

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة : (بنصف).

٢٧١

فصل

ومن أسراره [مناسبة] (١) فواتح السور وخواتمها. وتأمل سورة القصص وبداءتها بقصّة مبدأ أمر موسى ونصرته ، وقوله : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص : ١٧) ، وخروجه من وطنه ونصرته وإسعافه بالمكالمة ، وختمها بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألاّ يكون ظهيرا للكافرين (٢) ، وتسليته بخروجه من مكّة والوعد بعوده إليها بقوله [في أول السورة] : (٣) (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (٣) (القصص : ٨٥).

قال الزمخشري : «وقد جعل الله (٤) [فاتحة سورة المؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون : ١) وأورد في خاتمتها : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (المؤمنون : ١١٧) ، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة» (٥).

فصل

ومن أسراره مناسبة] (٤) فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها ؛ حتى إن منها ما يظهر تعلّقها [به] (٤) لفظا كما قال في : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل : ٥) ، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (قريش : ١).

وفي الكواشي (٦) : «لما ختم سورة النساء آمرا بالتوحيد والعدل بين العباد ، أكد ذلك بقوله (٧) [في أول سورة المائدة] (٧) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة : ١)».

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة : (للمجرمين).

(٣) تصحّفت في المخطوطة إلى : (إنّا رادّوه إليك) ١٨٦.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) الزمخشري ، الكشاف ٣ / ٥٨ ، آخر سورة المؤمنون.

(٦) هو تفسير لأحمد بن يوسف بن حسن ، موفق الدين الكواشي المفسّر الفقيه الشافعي ، برع في العربية والقراءات والتفسير. وقرأ على والده والسخاوي. وكان عديم النظير زهدا وصلاحا وتبتلا وصدقا وله كشف وكرامات. له من المصنّفات «التفسير الكبير» و «التفسير الصغير» وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في تفسيره ، توفي سنة ٦٨٠ ه‍ (السيوطي ، بغية الوعاة ١ / ٤٠١) ، ويوجد له تفسير باسم «تبصرة المتذكر وتذكرة المتبصر» مخطوط في التيمورية : ١٣٥ ، وهو التفسير الكبير لأن المؤلف اختصره (انظر فهرس معهد المخطوطات بالقاهرة ١ / ٣١) ومن التفسير الكبير أيضا أربع نسخ في الأزهرية الأولى برقم ٢٤٠ ومنها صورة ميكروفيلمية بمركز البحث العلمي بمكة : ٧٠ ، والثانية برقم : ٥١٨ ، والثالثة برقم : ٢١٨ ، والرابعة برقم : ٣٣٥٧ (معجم مصنفات القرآن : ٢ / ٢٠٨).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

٢٧٢

النوع التاسع

معرفة المكي والمدني (١)

وما نزل بمكة والمدينة وترتيب ذلك (٢)

ومن فوائده معرفة (٣) الناسخ والمنسوخ ، والمكيّ أكثر من المدنيّ.

اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات :

أحدها أن المكيّ ما نزل (٤) [بمكة ، والمدنيّ ما نزل بالمدينة.

__________________

(١) للتوسع في هذا النوع انظر : فنون الأفنان لابن الجوزي : ٣٣٥ ـ ٣٤٠ ، والإتقان للسيوطي ١ / ٢٢ ـ ٥٠ ، النوع الأول ، ومفتاح السعادة ٢ / ٣٤٤ ، الدوحة السادسة : في العلوم الشرعية ، الشعبة الثامنة : في فروع العلوم الشرعية ، المطلب الثالث : في فروع علم التفسير : وأبجد العلوم للقنوجي ٢ / ٥٠٥ ، ومناهل العرفان للزرقاني ١ / ١٨٥ ـ ٢٣٢ ، ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح : ١٦٤ ـ ٢٣٣ ، الباب الثالث ، الفصل الثالث ، علم المكي والمدني.

(٢) من الكتب المؤلفة في ذلك «تنزيل القرآن بمكة والمدينة» لابن شهاب الزهري ، محمد بن مسلم (ت ١٢٤ ه‍) طبع بتحقيق صلاح الدين المنجد بدار الكتاب الجديد في بيروت عام ١٣٨٣ ه‍ / ١٩٦٣ م في (١٦) صفحة. وحقّقه حاتم صالح الضامن ونشره بمجلة المجمع العلمي العراقي ، الجزءان الثاني والثالث من المجلد الثامن ومنها : «ما نزل من القرآن في صلب الزمان» للجوهري ، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد الله ، ت ٤٠١ ه‍ (ذكره البغدادي في إيضاح المكنون ٢ / ٤٢١) ومنها : «كتاب المكي والمدني في القرآن ، واختلاف المكي والمدني في آية» للرعيني ، أبو عبد الله محمد بن شريح بن أحمد المقرئ (ت ٤٧٦ ه‍) (ذكره ابن خير في فهرسته ص ٣٩) ومنها : «منظومة في المكي والمدني» للجعبري برهان الدين إبراهيم بن عمر (ت ٧٣٢ ه‍ (طبعت مع كتاب التيسير في علوم التفسير» للديريني بمطبعة محمد أبي زيد عام ١٣١٠ ه‍ / ١٨٩٣ م (معجم سركيس : ٩٠١). ومنها : «ما نزل من القرآن بمكة وما نزل بالمدينة» لمجهول ، مخطوط في الأزهرية رقم (٧) ٦٧٣ (معجم الدراسات القرآنية : ٥٨) ونسب السيوطي في الإتقان ١ / ٢٢ للإمام مكي بن أبي طالب (ت ٤٣٧ ه‍) كتابا في المكي والمدني لم نتوصل لمعرفته كما نسب للعزّ الدّيريني ، عبد العزيز بن أحمد بن سعيد أبو محمد الشافعي كتابا فيه.

(٣) العبارة في المخطوطة : (ومن فوائد معرفتها).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٢٧٣

والثاني ـ وهو المشهور ـ أن المكيّ ما نزل] (٣) قبل الهجرة ، وإن كان بالمدينة ، والمدنيّ ما نزل بعد الهجرة ، وإن كان بمكة.

والثالث أن المكيّ ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدنيّ ما وقع خطابا لأهل المدينة ؛ وعليه يحمل قول ابن مسعود الآتي ؛ لأن الغالب على أهل مكة الكفر فخوطبوا ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (١) ، وإن كان غيرهم داخلا فيهم ، وكان الغالب على أهل المدينة الإيمان فخوطبوا ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) وإن كان [٢٥ / ب] غيرهم داخلا فيهم.

وذكر الماورديّ (٣) : «أن البقرة مدنية في قول الجميع إلا آية ، وهي : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (الآية : ٢٨١) فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى». انتهى.

ونزولها هناك لا يخرجها عن المدنيّ لاصطلاح [الثاني أن] (٤) ما نزل بعد الهجرة مدنيّ سواء كان بالمدينة أو بغيرها (٥).

وقال الماورديّ في سورة النساء : «هي مدنية إلا آية واحدة نزلت في مكة في عثمان بن طلحة (٦) حين أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة. ويسلمها إلى العباس ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (النساء : ٥٨) والكلام فيه كما تقدم.

__________________

(١) وردت كلمة (النَّاسِ) في القرآن الكريم في (٢٤٠) موضعا ، وجاءت (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في (١٨) موضعا منها ، عشرة مدنية ، وثمانية مكية أما المدنية فهي : البقرة : ٢١ و ١٦٨ ، النساء : ١ و ١٧٠ و ١٧٤ ، الحج : ١ و ٥ و ٤٩ و ٧٣ ، الحجرات : ١٣ وأما المكية فهي : يونس : ٢٣ و ٥٧ و ١٠٤ و ١٠٨ ، لقمان : ٣٣ ، فاطر : ٣ و ٥ و ١٥.

(٢) قال الفخر الرازي : «اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن. قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة بقوله : «يا أيها المساكين» (التفسير الكبير ٣ / ٢٢٣).

(٣) هو علي بن محمد بن حبيب. القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي كان حافظا للمذهب ، عظيم القدر ، مقدّما عند السلطان. تفقّه على أبي القاسم الصيمري وأبي حامد الأسفراييني ، من تصانيفه : «الحاوي» في الفقه ، «الأحكام السلطانية» و «أدب الدنيا والدين» وغيرها. توفي سنة ٤٥٠ (السيوطي ، طبقات المفسرين ٧٢) ، وتفسيره «النكت والعيون» طبع بتحقيق خضر محمد خضر بوزارة الأوقاف الكويتية عام ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م في ٤ مجلدات ويقوم محمد عبد الرحمن الشائع بتحقيق الجزء الأول منه كمتطلبات رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.

(٤) ساقط من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (بعدها).

(٦) هو الصحابي الجليل عثمان بن طلحة بن أبي طلحة حاجب البيت ، أسلم في هدنة الحديبية ، وهاجر مع خالد بن

٢٧٤

ومن جملة علاماته : أنّ كل سورة فيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وليس فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مكية ، وفي الحج اختلاف ، وكل سورة فيها (كُلا) (١) فهي مكية ، وكلّ سورة فيها حروف المعجم فهي مكّية إلا البقرة وآل عمران ، وفي الرعد خلاف. وكلّ سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة. وكلّ سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية (٢) سوى العنكبوت.

وقال هشام عن أبيه (٣) : «كلّ سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنيّة ، وكلّ ما كان فيه ذكر القرون الماضية فهي مكّية».

وذكر أبو عمرو عثمان بن سعيد الدانيّ (٤) بإسناده إلى يحيى بن سلاّم (٥) قال : «ما نزل بمكة وما نزل في طريق (٦) المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فهو [من المكيّ] (٧) وما نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدنيّ ، وما كان من القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنيّ ، وما كان (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكيّ.

__________________

الوليد ، وشهد الفتح مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه مفتاح الكعبة. ثم سكن المدينة إلى أن مات بها سنة ٤٢. (ابن حجر ، الإصابة في تمييز الصحابة ٢ / ٤٥٢).

(١) وردت (كُلا) في (٣٣) موضعا من القرآن الكريم كلها مكّية.

(٢) في المخطوطة : (فهي مدنية).

(٣) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي ، روى عن أبيه وعمه عبد الله وغيرهم ، وعنه أيوب السختياني ومعمر وغيرهم ، قال أبو حاتم ثقة إمام (ابن حجر ، التهذيب ١١ / ٤٨) وأبوه هو عروة بن الزبير روى عن أبيه وأمه أسماء بنت أبي بكر وخالته عائشة وغيرهم من أكابر الصحابة ، وعنه أولاده والزهري وغيرهم ذكره ابن سعد وقال : «ثقة كثير الحديث (ابن حجر ، التهذيب ٧ / ١٨٠) وانظر تخريج الأثر في الملحق رقم (٨).

(٤) تصحّفت في المخطوطة إلى : (الداراني) وفي المطبوعة إلى : (الدارمي) وعرّف به المحقّق خطأ في حاشيته أنه أبو سعيد عثمان بن سعيد بن خالد (ت ٢٨٠ ه‍) صاحب «المسند الكبير» وذكر أنه تصحّف في المخطوطة «م» إلى الداني ، والصواب أنه الداني ، أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ الأندلسي ، وغفل المحقق أن الإمام الزركشي ذكر كنية الداني أنها «أبو عمرو» بينما كنية الدارمي «أبو سعيد» ، وكذلك فالداني هو المعروف برواية تفسير ابن سلام بهذا الإسناد : «حدثنا خلف بن أحمد القاضي ، حدثنا زياد بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال حدثنا محمد بن يحيى بن سلام ، عن أبيه» بينما كان الدارمي معاصرا لابن سلام ، فلو أراد أن يروي عنه لروى عنه مباشرة بدون إسناد (انظر المكتفي للداني ص ١٣١ بتحقيقنا).

(٥) هو الإمام يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة البصري أبو زكريا ، المفسّر المقرئ ولد بالكوفة وانتقل مع أبيه إلى البصرة فنشأ بها ونسب إليها ورحل إلى مصر ومنها إلى إفريقية وحجّ في آخر عمره في صفر من آثاره «تفسير القرآن» توفي سنة (٢٠٠) أثناء عودته من الحج (ابن الجزري ، طبقات القرّاء ٢ / ٣٧٣).

(٦) في المخطوطة : (بطريق).

(٧) ساقط من المخطوطة.

٢٧٥

وذكر أيضا بإسناده إلى عروة بن الزبير (١) قال : «ما كان من حدّ أو فريضة فإنه أنزل بالمدينة ، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه أنزل بمكة».

وقال الجعبري (٢) : «لمعرفة المكّيّ والمدني طريقان : سماعيّ وقياسيّ فالسماعيّ ما وصل إلينا نزوله بأحدهما ، والقياسيّ ، قال علقمة (٣) عن عبد الله (٤) : «كل سورة فيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فقط أو (كُلا) أو أولها حروف تهجّ سوى الزهراوين (٥) والرعد في وجه ، أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطّولى (٦) فهي مكّية ؛ وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكيّة ، وكلّ سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة». انتهى.

وذكر ابن أبي شيبة (٧) في «مصنّفه» في كتاب فضائل القرآن : حدثنا وكيع (٨) عن

__________________

(١) هو عروة بن الزبير بن العوام الأسدي ، التابعي ، أبو عبد الله ، روى عن أبيه وأخيه عبد الله وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وخالته عائشة أمّ المؤمنين. كان رجلا صالحا لم يدخل في شيء من الفتن. توفي سنة ٩٤ (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٧ / ١٨٠) والأثر سبق تخريجه آنفا.

(٢) هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري ، تقدمت ترجمته ص ١٤٩.

(٣) هو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي. ولد في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود. وروى عنه عامر الشعبي وجماعة. قال أبو ظبيان : «أدركت ناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون علقمة ويستفتونه». توفي سنة ٦٢ بالكوفة (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٦٧).

(٤) هو ابن مسعود رضي‌الله‌عنه.

(٥) هما سورتا البقرة وآل عمران ، قال القرطبي : «للعلماء في تسمية البقرة وآل عمران بالزهراوين ثلاثة أقوال...» (الجامع لأحكام القرآن ٤ / ٣).

(٦) هي سورة البقرة.

(٧) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي المحدث الحافظ ، روى عن ابن المبارك وشريك وعنه : البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن حبان : كان متقنا حافظا ديّنا ممّن كتب وجمع وصنّف وذاكر وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. توفي سنة ٢٣٥. (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٦ / ٢). وكتابه «المصنّف في الأحاديث والآثار» طبع بتحقيق عبد الخالق الأفغاني في مطبعة العلوم الشرقية ـ حيدرآباد الدكن ـ الهند عام ١٣٨٦ ـ ١٣٩٠ ه‍ / ١٩٦٦ ـ ١٩٧٠ م وطبع بتحقيق عامر العمري الأعظمي ، في مطبعة السيد علي يوسف ـ حيدرآباد في أربعة مجلدات وطبع في بومباي في الدار السلفية عام ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ، وانظر الأثر في «المصنف» ١٠ / ٥٢٢ كتاب فضائل القرآن باب ما نزل من القرآن بمكة ، الحديث (١٠١٩١).

(٨) هو وكيع بن الجراح بن مليح ، أبو سفيان الكوفي ، روى عن : أبيه والأوزاعي ومالك وسفيان الثوري وغيرهم كثير. وعنه : أبناؤه وشيخه سفيان الثوري ، وابنا أبي شيبة وغيرهم كثير. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه : «ما رأيت أوعى للعلم من وكيع ولا أحفظ منه». توفي سنة ١٩٦. (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ١١ / ١٢٣.

٢٧٦

الأعمش (١) عن إبراهيم (٢) عن علقمة قال : «كلّ شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو بمكة ، وكل شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو بالمدينة» وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود ورواه الحاكم في «مستدركه» في آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين ، قال : حدثنا وكيع عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود به (٣). ورواه البيهقي في أواخر «دلائل النبوّة» (٤) ، وكذا رواه البزّار في «مسنده» (٥) ثم قال : «وهذا يرويه غير قيس (٦) عن علقمة مرسلا ، ولا نعلم أحدا أسنده إلا قيس». انتهى. ورواه ابن مردويه (٧) في «تفسيره» في سورة الحج عن علقمة عن أبيه ، وذكر في آخر الكتاب عن عروة بن الزبير نحوه. وقد نص على هذا القول جماعة من الأئمة منهم أحمد بن حنبل وغيره ، وبه قال كثير من المفسرين ، ونقله عن ابن عباس.

وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه [نظر] (٨) ، فإن سورة البقرة مدنية ، وفيها : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) هو سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الأعمش. روى عن عامر الشعبي وإبراهيم النخعي وخلق كثير وروى عنه السفيانان وابن المبارك وخلائق. قال العجلي : «كان ثقة ثبتا في الحديث وكان محدث أهل الكوفة في زمانه وكان رأسا في القرآن عالما في الفرائض». توفي سنة ١٤٨ (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٤ / ٢٢٢).

(٢) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ، أبو عمران الكوفي الفقيه. روى عن مسروق وعلقمة وجماعة. وعنه الأعمش ومنصور ، قال العجلي : «رأى عائشة ، وكان مفتي أهل الكوفة ، وكان رجلا صالحا فقيها». وقال الشعبي : «ما ترك أحدا أعلم منه». مات سنة ٩٦ (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ١ / ١٧٧).

(٣) الحاكم ، المستدرك ٣ / ١٨ آخر كتاب الهجرة.

(٤) البيهقي ، دلائل النبوة ٧ / ١٤٤ ، جماع أبواب نزول الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم... باب ذكر السور التي نزلت بمكة والتي نزلت بالمدينة.

(٥) الهيثمي ، كشف الأستار عن زوائد البزار ٣ / ٣٩ ، كتاب التفسير ، باب ما نزل بمكة والمدينة ، الحديث (٢١٨٦).

(٦) هو قيس بن الربيع الأسدي روى عن أبي إسحاق السبيعي والأعمش وطائفة ، وعنه أبان بن تغلب وطلق بن غنام مات سنة ١٦٨ ه‍ (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٨ / ٣٩١) ، ويرد على قول البزار : أنه روي موصولا أيضا من غير وجه ، كما ذكره الزركشي.

(٧) هو الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني صاحب «التفسير الكبير» و «التاريخ» وغير ذلك. روى عن ميمون بن إسحاق. وعنه عبد الرحمن بن منده ، عمل «المستخرج على صحيح البخاري». كان بصيرا بالرجال طويل الباع توفي سنة ٤١٠ (الذهبي ، تذكرة الحفاظ ٣ / ١٠٥١) ، وتفسيره ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٤٣٩. وسيزكين في تاريخ التراث ١ / ٣٧٥ ، وقال «ومنه قطع في «الإصابة» لابن حجر ١ / ٤٠٣ ، ٥٤٣ ، ٧٦٦ ، ٨٧٩ ، ٢ / ٩٠٩ ، ١٠١٦ ، ١٠٢٢ ، ١١٢٣ ، ١٢٥٤ ، ٣ / ٦٨٧ ، ١٣٠٤.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

٢٧٧

النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (البقرة : ٢١) وفيها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (الآية : ١٦٨) وسورة النساء مدنية ، وفيها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (الآية : ١) ، وفيها : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) (الآية : ١٣٣) ، وسورة الحج مكية ، وفيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (الآية : ٧٧). فإن أراد المفسّر أنّ الغالب ذلك [فهو] (١) صحيح ، ولذا قال مكّي (٢) : «هذا إنما هو في الأكثر وليس بعامّ ، وفي كثير من السور المكيّة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)». انتهى.

والأقرب تنزيل قول من قال : مكّيّ ومدنيّ ؛ على أنّه خطاب المقصود به أو جلّ المقصود به أهل مكة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة.

وفي تفسير الرازي : «عن علقمة والحسن : أن ما في القرآن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مكيّ ، وما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فبالمدينة ـ وأن القاضي (٣) قال ـ إن كان [٢٦ / أ] الرجوع في هذا إلى النقل [فمسلّم] (٤) ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم (٥) وجنسهم ، ويؤمر غير المؤمنين (٦) بالعبادة كما يؤمر المؤمنون (٦) بالاستمرار عليها والازدياد منها» (٧). انتهى.

فصل

ويقع السؤال [في] (٨) : أنه هل نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيان ذلك؟ قال القاضي أبو بكر (٩)

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) هو الإمام المقرئ مكي بن أبي طالب حمّوش ، أبو محمد القيرواني ثم الأندلسي. قرأ القراءات على أبي الطيّب بن غلبون. كان من أهل التبحّر في علوم القرآن والعربية ، حسن الفهم والخلق ، جيّد الدين والعقل. له المصنّفات الكثيرة في علوم القرآن. توفي سنة ٤٣٧ ه‍ (الذهبي ، معرفة القرّاء الكبار ١ / ٣٩٥).

(٣) هو القاضي أبو بكر الباقلاني كما سيأتي.

(٤) سقطت من المخطوطة ، وهي عند الرازي في التفسير الكبير.

(٥) ليست هذه الكلمة عند الرازي في تفسيره.

(٦) كذا في المطبوعة والمخطوطة بصيغة الجمع ، وهي عند الرازي بصيغة المفرد (المؤمن).

(٧) الرازي ، التفسير الكبير ٢ / ٨٢ في الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ..) (البقرة : ٢١).

(٨) سقطت من المطبوعة.

(٩) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر الباقلاني تقدمت ترجمته ص ١١٧ ، وكتابه «الانتصار

٢٧٨

في «الانتصار» : إنما هذا يرجع لحفظ الصحابة وتابعيهم ، كما أنه لا بدّ في العادة من معرفة معظّمي العالم والخطيب ، وأهل الحرص على حفظ كلامه ومعرفة كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما صنّفه أولا وآخرا ، وحال القرآن في ذلك أمثل ، والحرص عليه أشدّ ، غير أنه لم يكن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال : اعلموا أنّ قدر ما نزل [عليّ] (١) بمكة كذا وبالمدينة كذا ، وفصله لهم ، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر ، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة ، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ، ليعرف الحكم الذي تضمّنهما ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول بعينه ، وقوله هذا هو الأول المكّيّ ، (٢) [وهذا هو الآخر المدني. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لمّا لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفضيل جميع المكي] (٢) والمدني ممّا لا يسوغ (٣) الجهل به ، لم تتوفر [لهم] (٤) الدّواعي على إخبارهم به ، ومواصلة ذكره على أسماعهم (٥) ومعرفتهم بأخذه (٥). وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكيّ أو مدنيّ ، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد ، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكيّ والمدنيّ ، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه : مكية أو مدنية. فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين ؛ وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس ؛ ولزوم العلم به لهم ، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه.

فصل

قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري (٦) في كتاب «التنبيه على فضل

__________________

لنقل القرآن» مخطوط في مكتبة قره مصطفى بايزيد ، ويوجد منها نسخة مصورة على الميكروفيلم في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة رقم (٢٩) تفسير.

(١) سقطت من المطبوعة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) تصحّفت في المخطوطة إلى : (يوسع).

(٤) سقطت من المطبوعة.

(٥) في المطبوعة : (وأخذهم بمعرفته).

(٦) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب ، أبو القاسم النيسابوري ، إمام عصره في معاني القرآن وعلومه ، كان أديبا نحويا عارفا بالمغازي والقصص والسير ، وسارت تصانيفه الحسان في الآفاق منها «التفسير ـ

٢٧٩

علوم القرآن» : من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء ، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك ، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدنيّ ، وما نزل بالمدينة وحكمه مكّي ، وما نزل بمكة في أهل المدينة ، وما نزل بالمدينة في أهل مكة ، ثم ما يشبه نزول المكيّ في المدني ، وما يشبه نزول المدني في المكّيّ ، ثم ما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية ثم ما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيّعا ، وما نزل مفردا ، ثم الآيات المدنيّات في السور المكّيّة ، والآيات المكّية في السور المدنيّة ، ثم ما حمل من مكّة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة ، إلى مكة ، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة ، ثم ما نزل مجملا ، وما نزل مفسّرا ، وما نزل مرموزا ، ثم ما اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : مدنيّ. هذه خمسة وعشرون وجها ؛ من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ (١) له أن يتكلم في كتاب الله تعالى.

ذكر ما نزل من القرآن بمكة ثم ترتيبه (٢)

أول ما نزل من القرآن بمكة : «اقرأ باسم ربك» ، ثم «ن والقلم» ، ثم «يأيها المزّمّل» ، ثم «يأيها المدثر» ، ثم «تبت يدا أبي لهب» ، ثم «إذا الشمس كوّرت» ، ثم «سبّح اسم ربك الأعلى» ، ثم «والليل إذا يغشى» ، ثم «والفجر» ، ثم «والضحى» ، ثم «ألم نشرح» ، ثم «والعصر» ، ثم «والعاديات» ، ثم «إنا أعطيناك الكوثر» ، ثم «ألهاكم التكاثر» ، ثم «أرأيت الّذي» ، ثم «قل يأيها الكافرون» ، ثم «سورة الفيل» ، ثم «الفلق» ، ثم «الناس» ، ثم «قل هو الله أحد» ، ثم (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» ، ثم «عبس وتولّى» ، ثم «إنا أنزلناه» ، ثم «والشمس وضحاها» ، ثم «والعاديات» ، ثم (٣) «[والسّماء ذات] (٤) البروج» ، ثم «والتين والزّيتون» ، ثم «لإيلاف قريش» ، ثم «القارعة» (٥) ، ثم

__________________

المشهور» و «عقلاء المجانين» وغيرها من كتب التفسير والآداب. توفي سنة ٤٠٦ (الداودي ، طبقات المفسرين ١ / ١٤٠). وكتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٤٨٩ ، ووهم حاجي خليفة في نسبة هذا الكتاب لمحمد بن حبيب ت ٢٤٥ ، وتبعه البغدادي في هداية العارفين ٢ / ١٣ والصواب أنه للمترجم ، وانظر ترجمة محمد بن حبيب في معجم الأدباء ١٨ / ١١٢.

(١) في المخطوطة : (لم يجز).

(٢) هذا الفصل ذكره البيهقي بإسناده إلى عكرمة والحسن البصري في آخر دلائل النبوة ٧ / ١٤٢ ، باب ذكر السور التي نزلت بمكة والتي نزلت بالمدينة.

(٣) سقطت من المطبوعة.

(٤) سقطت من المخطوطة.

(٥) ذكر مكانها في المخطوطة : (والنازعات).

٢٨٠