البرهان في علوم القرآن - ج ١

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٦

النار : إنهم عشرون ، وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية ، ما كان هذا القول إلا كقول الفرّاء (١)».

قلت : وكأنّ الملجئ للفرّاء إلى ذلك قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات : ٤٠ ـ ٤١) ، وعكس ذلك قوله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (طه : ١١٧) ؛ على أنّ هذا قابل للتأويل ؛ فإن الألف واللام للعموم ، خصوصا أنه يرد على الفرّاء قوله : (ذَواتا أَفْنانٍ) (الرحمن : ٤٨).

(الثامن) : تأنيث ما أصله أن يذكّر ، كقوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) (المدّثر : ٥٤) [أي تذكير] (٢) ؛ وإنما عدل إليها للفاصلة.

(التاسع) كقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [* الَّذِي خَلَقَ]) (٣) [الأعلى : ١ ـ ٢] ، قال في العلق (٤) : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (الآية : ١) ، فزاد في [السورة] (٥) الأولى (الْأَعْلَى) ، [وزاد في الثانية : (خَلَقَ)] (٦) مراعاة للفواصل في السورتين ، وهي «سبّح» : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) وفي «العلق» (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢).

(العاشر) : صرف ما أصله ألاّ ينصرف ؛ كقوله تعالى : (قَوارِيرَا* [قَوارِيرَا]) (٧) (الإنسان : ١٥ ـ ١٦) صرف الأول لأنّه آخر الآية ، وأجرى الثاني بالألف ، فحسن جعله منوّنا ليقلب تنوينه ألفا ، فيتناسب مع بقية الآي ، كقوله تعالى : (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً) (الإنسان : ٤) فإن (٨) (سَلاسِلَ) لما نظم إلى (أَغْلالاً وَسَعِيراً) (الإنسان : ٤) صرف ونوّن للتناسب (٩) [وبقي (قَوارِيرَا) الثاني ؛ فإنه وإن لم يكن آخر الآية جاز صرفه ، لأنه لما نوّن (قَوارِيرَا) الأوّل ناسب] (٩) أن ينوّن (قَوارِيرَا) الثاني ليتناسبا ، ولأجل هذا لم ينوّن (قَوارِيرَا) الثاني إلاّ من ينوّن (قَوارِيرَا) الأوّل.

وزعم إمام الحرمين (١٠) في «البرهان» أنّ من ذلك صرف ما كان جمعا في القرآن

__________________

(١) العبارة في المخطوطة : (إلا كذبا كالفرّاء) ، والعبارة عند ابن قتيبة : (ما كان في هذا القول إلاّ كالفرّاء).

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المطبوعة : (وقال).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) من المطبوعة.

(٧) من المطبوعة ، وانظر القراءة في «التيسير» ٢١٧.

(٨) في المخطوطة : (قال).

(٩) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(١٠) هو عبد الملك بن عبد الله الجويني ، تقدمت ترجمته ص ١١٨ ، وكتابه «البرهان في أصول الفقه» طبع بتحقيق

١٦١

ليناسب رءوس الآي ؛ كقوله تعالى : (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً). وهذا مردود ؛ لأن (سَلاسِلَ) ليس رأس آية [١٠ / ب] ، ولا (قَوارِيرَا) الثاني ، وإنما صرف للتناسب ، واجتماعه ، مع غيره من المتصرفات (١) ، فيردّ إلى الأصل (٢) ليتناسب معها.

ونظيره في مراعاة المناسبة أنّ الأفصح أن يقال : «بدأ» ثلاثيّ ؛ قال الله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف : ٢٩). وقال تعالى : (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت : ٢٠) ثم قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (العنكبوت : ١٩) ، فجاء به رباعيّا فصيحا لما حسّنه من التناسب بغيره وهو قوله : (يُعِيدُهُ).

(الحادي عشر) : إمالة ما لا أصل له أن يمال (٣) ؛ كإمالة ألف (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (الضحى : ١ ـ ٢) ، ليشاكل التلفظ بهما التلفّظ بما بعدهما. والإمالة أن تنحو بالألف نحو الياء ، والغرض الأصليّ منها هو التناسب ، وعبّر عنه بعضهم بقوله : «الإمالة للإمالة». وقد يمال لكونها آخر مجاور (٤) ما أميل آخره ؛ كألف (تلا) في قوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (الشمس : ٢) ، فأميلت ألف تلاها (٥) [ليشاكل اللفظ بها اللفظ الذي بعدها ، ممّا ألفه غير ياء ؛ نحو (جَلاَّها) (الشمس : ٣) ، و (فَغَشَّاها) (النجم : ٥٤). فإن قيل : هلاّ جعلت إمالة (تَلاها)] (٥) لمناسبة ما قبلها ، أعني (ضُحاها) (النازعات : ٢٩)؟ قيل : لأن ألف (ضُحاها) عن واو ، وإنما أميل لمناسبة ما بعدها (٦).

(الثاني عشر) : العدول عن صيغة المضيّ إلى الاستقبال ، كقوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة : ٨٧) ؛ حيث لم يقل «وفريقا قتلتم» كما سوّى بينهما في سورة الأحزاب فقال : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (الآية : ٢٦) ؛ وذلك لأجل أنها (٧) رأس آية.

__________________

ـ د. عبد العظيم الديب في الدوحة بقطر عام ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م في مجلدين ، (١٤٦٦) صفحة ، وطبع ثانية بدار الأنصار بالقاهرة عام ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م.

(١) في المخطوطة : (التصرفات).

(٢) في المخطوطة : (الأول).

(٣) العبارة في المطبوعة : (إمالة ما أصله ألاّ يمال).

(٤) في المخطوطة : (مجاوز).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٧) في المطبوعة : (ما بعده).

(٨) العبارة في المطبوعة : (لأجل أنها هنا).

١٦٢

ثم هنا تفريعات :

(الأول) : قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المدّ واللين وإلحاق النون ؛ وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلك. قال سيبويه رحمه‌الله (١) : «أما إذا ترنّموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء ؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت ، وإذا أنشدوا فلم (٢) يترنموا : فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنّم ؛ وناس [كثير] (٣) من بني تميم يبدلون مكان المدّة النون». انتهى.

وجاء القرآن على أعذب مقطع ، وأسهل موقف.

(الثاني) : إن مبنى الفواصل على الوقف ؛ ولهذا شاع مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس ، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنوّن ؛ ومنه قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (الصّافات : ١١) ؛ مع تقدم قوله : (عَذابٌ واصِبٌ) (الآية : ٩) ، و (شِهابٌ ثاقِبٌ) (الآية : ١٠). وكذا (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (القمر : ١١) ، و (قَدْ قُدِرَ) (الآية : ١٢). وكذا : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (الرعد : ١١) و (٤) (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (الآية : ١٢).

وعبارة السكاكي (٥) قد تعطي اشتراط كون السجع يشترط فيه الموافقة في الإعراب لما قبله ؛ على تقدير عدم الوقوف عليه ؛ كما يشترط ذلك في الشعر. وبه صرح [ابن] (٦) الخشاب

__________________

(١) سيبويه ، الكتاب ، (بتحقيق محمد عبد السلام هارون) ٤ / ٢٠٤ ، باب وجوه القوافي في الإنشاد ، بتصرّف.

(٢) في المطبوعة : (ولم).

(٣) ساقطة من المطبوعة ، وهي عند سيبويه في «الكتاب».

(٤) في المطبوعة : (مع).

(٥) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد سراج الدين أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي ، إمام في النحو والتصريف والمعاني والبيان والاستدلال والعروض والشعر ، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون. كان علاّمة بارعا. وله كتاب «مفتاح العلوم» فيه اثنا عشر من علوم العربية. مات بخوارزم سنة ٦٢٦ (السيوطي ، بغية الوعاة ٢ / ٣٦٤).

(٦) سقطت من المخطوطة وهو عبد الله بن أحمد بن أحمد ، أبو محمد ابن الخشاب. كان أعلم أهل زمانه بالنحو ، وكانت له معرفة بالحديث والتفسير واللغة والمنطق والفلسفة والحساب والهندسة وما من علم من العلوم إلا وكانت له فيه يد حسنة. وكان ثقة في الحديث صدوقا نبيلا حجة. توفي سنة ٥٦٧ (ياقوت ، معجم الأدباء ١٢ / ٥٢). وقد ألّف ابن الخشاب «استدراكات على المقامات» ردّ فيها على الحريري وانتصر لابن

١٦٣

معترضا على قول الحريري (١) في المقامة التاسعة والعشرين :

يا صارفا عنّي الم

ودّة والزمان له صروف

ومعنّفي في فضح من

جاوزت تعنيف العسوف

لا تلحني فيما أتي

ت فإنّني بهم عروف

ولقد نزلت بهم فلم

أرهم يراعون الضيوف

وبلوتهم فوجدتهم

لمّا سبكتهم زيوف

ألا ترى أنك (٢) إذا أطلقت ظهر الأول والثالث مرفوعين ، والرابع والخامس منصوبين ، والثاني مجرورا ، وكذا باقي القصيد. والصواب أن ذلك ليس بشرط لما سبق ؛ ولا [شك] (٣) أن كلمة الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز ، موقوفا عليها ؛ لأن الغرض المجانسة (٤) بين القرائن والمزاوجة ؛ ولا يتمّ ذلك إلا بالوقوف (٥) ، ولو وصلت لم يكن بدّ من إجراء [كلّ] (٦) القرائن على ما يقتديه حكم الإعراب فعطّلت عمل الساجع وفوّتّ غرضهم.

وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها (٧) لغرض الازدواج ؛ فيقولون : «آتيك بالغدايا والعشايا» مع أن فيه ارتكابا لما يخالف اللغة ، فما ظنك بهم في ذلك! (الثالث) : ذكر الزمخشريّ (٨) في «كشافه القديم» أنّه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سدادها ، على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه. كما لا يحسن تخيّر الألفاظ المونقة (٩) في السمع ، السّلسة على اللسان ؛ إلا مع

__________________

برّي ، ذكر ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون» ١ / ١٧٩١ ، وقد طبعت استدراكات ابن الخشاب بذيل مقامات الحريري في المطبعة الحسينية بالقاهرة عام ١٣٢٦ ه‍ / ١٩٠٨ م.

(١) هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري ، الإمام أبو محمد الحريري ، أديب كان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة. صاحب تصانيف ، أشهرها «المقامات» و «درّة الغواص في أوهام الخواص» وله ديوان شعر. مات بالبصرة ٥١٦. (السيوطي ، بغية الوعاة ٢ / ٢٥٧).

(٢) العبارة في المطبوعة : (أنها).

(٣) العبارة في المخطوطة : (ولأن).

(٤) في المخطوطة : (المجاوزة).

(٥) في المطبوعة : (بالوقف).

(٦) من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة : (أرداعها).

(٨) تقدم الحديث عن الزمخشري ص : ١٠٥ وذكر أنه ألف الكشاف القديم في مقدمة الكشاف الجديد المطبوع والمتداول ١ / ٣ ـ ٤.

(٩) في المخطوطة : (الموقوفة).

١٦٤

مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة ؛ فأما أن تهمل المعاني وتسيّب ويجعل تحسين (١) اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤداه (٢) على بال ، فليس من البلاغة في فتيل ولا نقير (٣). ومع ذلك [أن] (٤) يكون قوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (البقرة : ٤) وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) [١١ / أ](يُنْفِقُونَ) لا يتأتى فيه [ترك] (٥) رعاية التناسب في العطف بين الجمل الفعلية إيثارا للفاصلة ؛ لأن ذلك أمر لفظيّ لا طائل تحته ، وإنما عدل إلى هذا لقصد (٦) الاختصاص.

(الرابع) : أن الفواصل تنقسم إلى : ما تماثلت حروفه في المقاطع ، وهذا يكون في السّجع ، وإلى ما تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل ؛ وهاهنا (٧) لا يكون سجعا. ولا يخلو كلّ واحد من هذين القسمين ، أعني المتماثل والمتقارب ، من أن [يكون] (٨) يأتي طوعا سهلا تابعا للمعاني ، أو متكلّفا يتبعه المعنى. فالقسم الأول هو المحمود الدالّ على الثقافة وحسن البيان ، والثاني هو المذموم ، فأما القرآن فلم يرد فيه إلا القسم الأول لعلوه في الفصاحة. وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة.

مثال المماثلة (٩) قوله تعالى : (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (الطور : ١ ـ ٥).

وقوله تعالى : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ١ ـ ٥).

وقوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات : ١ ـ ٥).

وقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (الفجر : ١ ـ ٤) إلى آخره. وحذفت الياء من (يَسْرِ) طلبا للموافقة في الفواصل.

__________________

(١) العبارة في المطبوعة : (ويهتم بتحسين).

(٢) في المخطوطة : (مراده).

(٣) العبارة في المخطوطة : (في نفيل ولا نقه).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة : (لفقد).

(٧) في المطبوعة : (وهذا).

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) في المطبوعة : (المتماثلة).

١٦٥

وقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر : ١) ؛ وجميع هذه السورة على الازدواج.

وقوله [تعالى] : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (التكوير : ١٥ ـ ١٨) وقوله [تعالى] : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). (الانشقاق : ١٦ ـ ١٩) وقوله : [تعالى] : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* [وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ]) (١) (الضحى : ٩ ـ ١٠).

وقوله [تعالى] : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها). (الإسراء : ١٦).

وقوله [تعالى] : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ). (ن : ٢ ـ ٣).

وقوله [تعالى] : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ* وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ).

(الأعراف : ٢٠١ ـ ٢٠٢).

وقوله [تعالى] : (كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ* وَقِيلَ مَنْ راقٍ...) الآية. (القيامة : ٢٦ ـ ٢٧).

وقوله [تعالى] : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا).. (الأعراف : ٨٨).

ومثال المتقارب في الحروف قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة : ٣ ـ ٤).

وقوله [تعالى] : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ). (ق : ١ ـ ٢).

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

١٦٦

وهذا لا يسمى سجعا قطعا عند القائلين بإطلاق السجع في القرآن ؛ لأنّ السجع ما (١) تماثلت حروفه.

إذا علمت هذا ، فاعلم أن فواصل القرآن الكريم لا تخرج عن هذين القسمين ؛ بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة ، وبهذا يترجّح مذهب الشافعيّ على مذهب أبي حنيفة في عدّ الفاتحة سبع آيات مع البسملة ؛ وذلك لأنّ الشافعيّ المثبت لها في القرآن قال : (صِراطَ الَّذِينَ) ، إلى آخر الآية واحدة (٢) ، وأبو حنيفة لما أسقط البسملة من الفاتحة قال : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) آية. ومذهب الشافعيّ أولى لأنّ فاصلة قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (٣) [لا تشابه فاصلة الآيات المتقدمة ، ورعاية التشابه في الفواصل لازم. وقوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)] (٣) ليس من القسمين فامتنع جعله من المقاطع ؛ وقد اتفق الجميع على أن الفاتحة سبع آيات ؛ [و] (٤) لكنّ الخلاف في كيفية العدد.

(الخامس) (٥) : قسم البديعيون السجع أو الفواصل (٦) أيضا إلى : متواز ، ومطرّف ، [ومتوازن] (٧).

وأشرفها المتوازي (٨) ، وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع ؛ كقوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ* وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (الغاشية : ١٣ ـ ١٤) ، وقوله : (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (آل عمران : ٤٨ ـ ٤٩).

والمطرّف أن يتفقا في حروف السجع لا في الوزن ؛ كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً). (نوح : ١٣ ـ ١٤).

__________________

(١) في المخطوطة : (إنما).

(٢) العبارة في المطبوعة : (الخ السورة آية واحدة).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة : (الرابع).

(٦) في المطبوعة : (والفواصل).

(٧) ساقطة من المخطوطة ، وهي زيادة يقتضيها النص ، راجع كتاب : «الإتقان في علوم القرآن» : ٣ / ٣١١.

(٨) في المخطوطة : (الموازي).

١٦٧

(١) [والمتوازن (٢) أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط ، كقوله [تعالى] : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ* وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ). (الغاشية : ١٥ ـ ١٦).

وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ* وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الصّافات : ١١٧ ـ ١١٨) فلفظ (الْكِتابَ) و (الصِّراطَ) متوازنان (٣). ولفظ (الْمُسْتَبِينَ) و (الْمُسْتَقِيمَ) متوازنان (٣).

وقوله : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [١١ / ب] * (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً* يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (المعارج : ٥ ـ ٩).

وقوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى* وَجَمَعَ فَأَوْعى) (المعارج : ١٥ ـ ١٨).

وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى...) (الليل : ١ ـ ٢) إلى آخرها.

وقوله : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى]) (٤)... (الضحى : ١ ـ ٣) إلى آخرها] (١) وقد تكرر في سورة «حم* عسق» في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) (الشورى : ١٦) إلى آخر الآيات السبع ؛ فجمع في فواصلها بين : (شَدِيدٌ) (١٦) و (قَرِيبٌ) (١٧) و (بَعِيدٍ) (١٨) و (الْعَزِيزُ) (١٩) و (نَصِيبٍ) (٢٠) و (أَلِيمٌ) (٢١) و (الْكَبِيرُ) (٢٢) على هذا الترتيب ؛ وهو في القرآن كثير ، في المفصّل [فيه] (٥) خاصة في قصاره.

ومنهم من يذكر بدله الترصيع ، وهو أن يكون المتقدم من الفقرتين (٦) مؤلفا من كلمات مختلفة ، والثاني مؤلفا من مثلها في ثلاثة أشياء : وهي الوزن والتقفية [وتقابل القرائن] (٧) ، قيل : ولم يجيء هذا القسم في القرآن العظيم لما فيه من التكلّف.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين مؤخر في المخطوطة بعد قوله : (على هذا الترتيب...) بعد ثلاثة أسطر من هذا الموضع.

(٢) في المخطوطة : (والمتوازي).

(٣) في المخطوطة : (متوازيان).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) العبارة في المخطوطة : (في الفريقين).

(٧) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

١٦٨

وزعم بعضهم أنّ منه قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار : ١٣ ـ ١٤) ، وليس كذلك ، لورود لفظة (إِنَ) و (لَفِي) في كل واحد من الشطرين ، وهو مخالف لشرط الترصيع ؛ إذ شرطه اختلاف الكلمات في الشطرين جميعا.

وقال بعض المغاربة : «سورة الواقعة من نوع الترصيع ، وتتبّع أجزائها [يدلّ] (١) على أن فيها موازنة». قالوا : «وأحسن السجع ما تساوت قرائنه ، ليكون شبيها بالشّعر ، فإن أبياته متساوية ؛ كقوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ* وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (الواقعة : ٢٨ ـ ٢٩ ـ ٣٠) ؛ وعلته أن السمع ألف الانتهاء إلى غاية في الخفة بالأولى ، فإذا زيد عنها (٢) ثقل عنه الزائد ، لأنه يكون عند وصولها إلى مقدار الأول كمن توقع الظفر بمقصوده. ثم ما طالت قرينته الثانية ، كقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (النجم : ١ ـ ٢) ، و (٣) الثالثة كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*) (٤) [ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ] (٤) (الحاقّة : ٣٠ ـ ٣٢). وهو إما قصير كقوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (المرسلات : ١ ـ ٢).

أو طويل كقوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (الأنفال : ٤٣ ـ ٤٤).

أو متوسط (٥) كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر : ١ ـ ٢).

(السادس) (٦) : اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره ، وإيقاع الشيء فيها [بما] (٤) يشاكله (٧). فلا بدّ أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولا ؛ وإلا خرج بعض الكلام عن بعض. وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك ؛ لكن

__________________

(١) في المطبوعة : (آخر آيها) ، وسقطت كلمة (يدل) من المخطوطة.

(٢) في المطبوعة : (عليها).

(٣) في المطبوعة : (أو).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة : (أو مبسوط).

(٦) في المخطوطة : (الخامس).

(٧) من المطبوعة.

١٦٩

منه ما يظهر ، ومنه ما يستخرج بالتأمّل للّبيب. وهي منحصرة في أربعة أشياء : التمكين ، والتوشيح ، والإيغال ، والتصدير.

(١) [والفرق بينها ؛ أنه إن كان تقدم لفظها بعينه في أول الآية سمّي تصديرا. وإن كان في أثناء الصّدر سمّي توشيحا. وإن أفادت معنى زائدا بعد تمام معنى الكلام سمّي إيغالا ؛ وربما اختلط التوشيح بالتصدير] (١) لكون كلّ منهما صدره يدلّ على عجزه (٢) ، والفرق بينهما أن دلالة التصدير لفظية ، ودلالة التوشيح معنوية.

الأول : التمكين

وهو أن تمهّد قبلها تمهيدا تأتي به الفاصلة ممكّنة في مكانها ، مستقرة في قرارها ، مطمئنة في موضعها ، غير نافذة ولا قلقة ، متعلّقا معناها بمعنى الكلام كلّه تعلّقا تاما ؛ بحيث لو طرحت اختلّ المعنى واضطرب الفهم. وهذا الباب يطلعك على سرّ عظيم من أسرار القرآن. فاشدد يديك به.

ومن أمثلته قوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (الأحزاب : ٢٥) ، فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) لأوهم (٣) ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح (٤) التي حدثت كانت (٤) سبب رجوعهم ، ولم يبلغوا ما أرادوا ، وأنّ ذلك أمر اتفاقي ، فأخبر سبحانه في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزّة ليعلّم المؤمنين ، ويزيدهم يقينا وإيمانا على أنه الغالب الممتنع ، وأن حزبه كذلك ، وأن تلك الريح [التي هبّت] (٥) ليست اتفاقا ، بل هي من إرساله سبحانه على أعدائه كعادته ، وأنه ينوّع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيمانا وينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر ، وتارة بالريح كيوم الأحزاب ، وتارة بالرّعب كيوم (٦) النضير ، وطورا ينصر عليهم كيوم أحد ، تعريفا لهم أنّ الكثرة لا تغني شيئا ، وأنّ النصر من عنده ، كيوم حنين.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٢) العبارة في المخطوطة : (عجز والقرآن).

(٣) في المخطوطة : (وهم).

(٤) في المخطوطة : (الذي حدث كان).

(٥) من المطبوعة.

(٦) في المطبوعة : (كبني).

١٧٠

ومنه قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (السجدة : ٢٦ ـ ٢٧). فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعيّة : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) [١٢ / أ] ولم يقل : «أولم يروا» وقال بعد ذكر الموعظة : (أَفَلا يَسْمَعُونَ) [و] (١) لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع أو أخبار القرون وهو مما (٢) يسمع. وكيف قال في صدر الآية التي [في] (١) موعظتها مرئية : [(أَوَلَمْ يَرَوْا)] (٣) ، وقال بعدها : (أَفَلا يُبْصِرُونَ) لأنّ سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئيّ.

و[منه] (٣) قوله [تعالى] : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود : ٨٧) ، فإنه لما تقدم ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيدا تاما (٤) لذكر الحلم والرشد ، لأنّ الحلم الذي يصحّ به (٤) التكليف والرشد حسن التصرّف في الأموال ، فكان آخر الآية مناسبا لأوّلها مناسبة معنوية ، ويسميه بعضهم «ملاءمة».

ومنه قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام : ١٠٣) ؛ فإنّه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له عطف على ذلك قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ) خطابا للسامع بما يفهم ؛ إذ العادة أنّ كلّ لطيف لا تدركه الأبصار ، [ألا ترى] (٥) أنّ حاسة البصر إنما تدرك اللون من كل متلوّن والكون من كل متكوّن ، فإدراكها إنما هو (٦) للمركّبات دون المفردات ، وكذلك (٧) لما قال : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) عطف عليه قوله : (الْخَبِيرُ) ، مخصّصا (٨) لذاته سبحانه بصفة الكمال ؛ لأنّه ليس كلّ من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء ، لأن المدرك للشيء قد يدركه ليخبره ، ولما كان الأمر كذلك أخبر سبحانه وتعالى أنه يدرك كلّ شيء مع الخبرة [به] (٩) ؛ وإنما خصّ الإبصار بإدراكه ليزيد في الكلام

__________________

(١) من المخطوطة.

(٢) في المطبوعة : (كما).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٤) العبارة في المخطوطة : (لذكر الحكم والرشد لأن الحكم العقلي الذي يفتتح به).

(٥) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة : (كذا).

(٧) في المطبوعة : (ولذلك).

(٨) في المخطوطة : (تحقيقا).

(٩) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

١٧١

ضربا من المحاسن يسمى التعطّف ؛ ولو كان الكلام : لا تبصره الأبصار ، وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) مناسبتين لما (١) قبلهما.

ومنه قوله تعالى : (٢) [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، إلى قوله : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (الحج : ٦٣ ـ ٦٥) ، إنما فصل الأولى ب (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، ولأنه خبير بنفعهم وإنما فصل الثانية ب «غني حميد» لأنّه قال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي لا لحاجة ؛ بل هو غنيّ عنهما ، جواد بهما ؛ لأنه ليس غنيّ نافعا غناه إلا إذا جاد به ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه ، واستحقّ عليه الحمد ؛ فذكر (الْحَمِيدُ) على أنه الغنيّ النافع بغناه خلقه. وإنما فصل الثالثة ب (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأنه لما عدّد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم ، وإجراء الفلك في البحر لهم ، وتسييرهم في ذلك الهول العظيم ، وجعله السماء فوقهم وإمساكه إياها عن الوقوع ، حسن ختامه بالرأفة والرحمة. ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ...) [٩٧] الآيات.

وقوله تعالى] (٢) : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحج : ٦٤) ، فقال : (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لينبّه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غنيّ عنه ، جواد به ، وإذا جاد به حمده المنعم عليه. إذ (حميد) كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائص ، فيكون «غنيّا» مفسّرا بالغنى المطلق ، لا يحتاج فيه لتقدير «غنيّ عنه».

ومنه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (القصص : ٧١). لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء (٣) على الحقيقة (٣) ؛ وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل كأنه سرمد

__________________

(١) في المخطوطة : (إلى ما).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.

(٣) العبارة في المخطوطة : (للأشياء الحقيقية).

١٧٢

بهذا التقدير ، وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر ، لا سيما وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره ، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة ؛ فصار النهار كأنه معدوم ؛ إذ نسب وجوده إلى غير موجد ؛ والليل كأنه لا موجود سواه ؛ إذ جعل [كونه] (١) سرمدا منسوبا إليه سبحانه ، فاقتضت البلاغة أن يقول : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ، ولا يصلح للإبصار.

وكذلك قال في الآية التي تليها : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص : ٧٢) ، لأنه لما أضاف جعل النهار سرمدا إليه صار النهار كأنه سرمد ، وهو ظرف مضيء تنوّر فيه الأبصار ، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره ، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة ، فصار الليل كأنه معدوم ؛ إذ نسب وجوده إلى غير موجد ، والنهار كأنه لا موجود سواه ، إذ جعل وجوده سرمدا منسوبا إليه ، فاقتضت البلاغة أن يقول : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ؛ إذ الظرف مضيء صالح للإبصار ، وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.

ومنه قوله تعالى في أول سورة الجاثية : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢) [وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الجاثية : ٣ ـ ٥). فإن البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى : (لِلْمُؤْمِنِينَ) ، لأنه سبحانه] (٢) ذكر العالم بجملته حيث قال : (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومعرفة الصانع من الآيات الدالة على أنّ المخترع له قادر عليم حكيم ، وإن دلّ على وجود صانع مختار كدلالتها (٣) على صفاته مرتبة على [١٢ / ب] دلالتها على ذاته (٤) ، فلا بد أولا من التصديق بذاته ؛ حتى تكون هذه الآيات دالة على صفاته ، لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات. وكذلك قوله في الآية الثانية : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، فإنّ سرّ الإنسان وتدبر خلقه الحيواني (٥) أقرب إليه من الأول ، وتفكّره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأوّل. وكذلك معرفة جزئيات العالم ؛ من

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة وهو من المطبوعة.

(٣) في المطبوعة : (لدلالتها).

(٤) في المخطوطة : (على ذلك).

(٥) في المطبوعة : (خلقة الحيوان).

١٧٣

اختلاف الليل والنهار ، وإنزال الرزق من السماء ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ورصانته ؛ لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلّي التي هي أجرامه وعوارض عنه. ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا ، فقد قام البرهان على أن للعالم [الكلي] (١) صانعا مختارا ، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وإن احتيج إلى العقل (٢) في الجميع ؛ إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول ؛ إذ بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال : إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا ، فلا بد إذا من التّدبر بدقيق الفكر وراجح العقل.

ومنه قوله تعالى حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان : ١٦).

ومنه قوله تعالى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة : ٧٦). والمناسبة فيه قوّية ؛ لأن من دلّ عدوّه على عورة نفسه ، أو أعطاه (٣) سلاحه ليقتله به ، فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل ؛ فلهذا ختمها بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، [والمناسبة فيه قويّة] (٤).

وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في العقل ؛ نحو قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة : ٤٤) ؛ لأنّ فاعل غير المناسب ليس بعاقل.

وقوله [تعالى] : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (سبأ : ٢٦) ، ختم بصفة العلم إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم ؛ وما نحن عليه من الحق ، وما أنتم (٥) عليه من الباطل وإذا كان عالما بذلك ، فنسأله القضاء علينا [وعليكم] (٦) ، بما يعلم منا ومنكم.

فصل

وقد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها ؛ وذلك في مواضع :

__________________

(١) من المطبوعة.

(٢) في المخطوطة : (للعقل).

(٣) في المخطوطة : (وأعطاه).

(٤) ساقط من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة : (وأنتم).

(٦) من المطبوعة.

١٧٤

منها في أوائل النّحل ، وذلك أنه سبحانه (١) بدأ فيها بذكر الأفلاك فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) (النحل : ٣) ، ثم ذكر خلق الإنسان فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ) (النحل : ٤) ، وأشار إلى عجائب الحيوان فقال : (وَالْأَنْعامَ) (النّحل : ٥) ، ثم عجائب النبات فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ١٠ ـ ١١) فجعل مقطع هذه الآية التفكر (٢) ، لأنه استدلال (٣) بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار.

وفيه جواب عن سؤال مقدّر ؛ وهو أنه : [لم] (٤) لا يجوز أن يكون المؤثّر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر؟ ولما كان الدليل لا يتم [إلا] (٤) بالجواب عن هذا السؤال ؛ لا جرم كان مجال التفكر والنظر والتأمّل باقيا. إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال من وجهين :

أحدهما : أن تغيّرات العالم الأسفل مربوطة بأحوال حركات الأفلاك ، فتلك الحركات حيث (٦) حصلت ؛ فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل ، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك الإقرار بوجود الإله تعالى ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل : ١٢) ، فجعل مقطع هذه الآية العقل ، والتقدير كأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أنّ التسلسل باطل ، [ف] (٧) وجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها (٨) غير متحرك ، وهو الإله القادر المختار.

والثاني : أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة (٩) [والحبّة الواحدة واحدة. ثم إنا نرى الورقة الواحدة] (٩) من الورد أحد وجهيها (١٠) في غاية الحمرة ، والآخر في غاية السواد ، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار ، فعلمنا أن

__________________

(١) في المخطوطة : (وذلك سبحانه أنه).

(٢) في المخطوطة : (التفكير).

(٣) في المخطوطة : استدل.

(٤) من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة : (كيف).

(٧) من المطبوعة.

(٨) في المخطوطة : (موجودها).

(٩) العبارة ساقطة من المخطوطة : وهي من المطبوعة.

(١٠) العبارة في المخطوطة : (أحدث وجهها).

١٧٥

المؤثر قادر مختار [١٣ / أ] ، وهذا هو المراد من قوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (النحل : ١٣) ، كأنّه [قيل] (١) : قد ذكر [نا] (١) ما يرسخ في عقلك أن الموجب بالذات والطبع لا يختلف تأثيره ، فإذا نظرت [إلى] (١) حصول هذا الاختلاف علمت أنّ المؤثر ليس هو الطبائع ، بل الفاعل المختار ، فلهذا جعل مقطع الآية التذكّر.

تنبيه

من بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدّث عنه واحد لنكتة لطيفة.

وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (الآية : ٣٤) ، ثم قال في سورة النحل : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨).

قال القاضي ناصر الدين بن المنيّر (٢) في «تفسيره الكبير» : «كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها ؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : كونك ظلوما ، وكونك كفارا ، ولي عند إعطائها وصفان ، وهما : أني غفور رحيم ، أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء» انتهى.

وهو حسن ، لكن بقي سؤال آخر ، وهو : ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعم ، وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه؟ والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم ، في وصف الإنسان وما جبل عليه ؛ فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. وأما آية النحل فسيقت في

__________________

(١) من المطبوعة.

(٢) هو أحمد بن محمد بن منصور المعروف بناصر الدين ابن المنيّر ، كان إماما بارعا في الفقه ، وله اليد الطولى في علم النظر والبلاغة والإنشاء والباع الطويل في علم التفسير والقراءات وكان علامة الاسكندرية ، وفاضلها كان الشيخ العز بن عبد السلام يقول : «الديار المصرية» تفتخر برجلين في طرفيها. ابن دقيق العيد بقوص وابن المنير بالاسكندرية من تصانيفه الجليلة «تفسير القرآن العظيم» و «الانتصاف من الكشاف» وغيرها. توفي سنة ٦٨٣ (الداودي ، طبقات المفسرين ١ / ٨٨) وتفسيره المسمّى «البحر الكبير في بحث التفسير» يوجد منه نسخة خطية في مكتبة (غوتا) بألمانيا الغربية : ٥٣٤ ، ونسخة خطية أخرى في دار الكتب المصرية رقم (٦٠) تفسير ، (بروكلمان) ، تاريخ الأدب العربي بالألمانية ١ / ٧٣٨). ويوجد منه نسخة مصورة بمعهد المخطوطات القاهرة رقم (٣٣) تفسير.

١٧٦

وصف الله [تعالى] ، وإثبات ألوهيته ، وتحقيق صفاته ، فناسب ذكر وصفه سبحانه فتأمل هذه التراكيب ، ما أرقاها في درجة (١) البلاغة!

ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [١٥]. وفي فصلت : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦).

وحكمة (٢) فاصلة الأولى أن قبلها : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الجاثية : ١٤) ، فناسب الختام بفاصلة البعث ؛ لأن قبله وصفهم بإنكاره ، وأما الأخرى فالختام بها مناسب ؛ أي لأنه لا يضيّع عملا صالحا ، ولا يزيد على [من] (٣) عمل شيئا.

ونظيره قوله في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (الآية : ٤٨). ختم الآية مرة بقوله : (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (الآية : ٤٨) ، ومرة بقوله : (ضَلالاً بَعِيداً) (الآية : ١١٦) ؛ لأن الأوّل نزل في اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه ، والثاني نزل في الكفار ، ولم يكن لهم كتاب ، وكان ضلالهم أشدّ.

وقوله في المائدة : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (الآيات : ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٧).

فذكرها ثلاث مرات ، وختم الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين ؛ فقيل : لأن الأولى نزلت في أحكام المسلمين ، والثانية نزلت في أحكام اليهود ، والثالثة [نزلت] (٤) في أحكام النصارى. وقيل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٥) إنكارا له ، فهو كافر ، ومن لم يحكم بالحق من (٦) اعتقاد الحق وحكم بضدّه فهو ظالم ، ومن لم يحكم بالحق [جهلا] (٧) وحكم بضدّه فهو فاسق. وقيل : الكافر والظالم والفاسق كلّها بمعنى واحد ، وهو الكفر ، عبّر عنه بألفاظ مختلفة ، لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار. وقيل غير ذلك.

__________________

(١) في المخطوطة : (وجه).

(٢) في المخطوطة : (وكلمة).

(٣) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

(٤) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة زيادة (أنزل الله).

(٦) في المطبوعة : (مع).

(٧) من المطبوعة.

١٧٧

تنبيه

عكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدّث عنه مختلف ، كقوله تعالى في سورة النور : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (الآية : ٥٨) إلى قوله [تعالى] : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الآية : ٥٨). ثم قال : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الآية : ٥٩). [وقد] (١) قال ابن عبد السلام في «تفسيره» (٢) في الأولى (٣) «[: (عَلِيمٌ) بمصالح عباده ، (حَكِيمٌ) في بيان مراده. وقال في الثانية :] (٣) (عَلِيمٌ) بمصالح الأنام ؛ (حَكِيمٌ) ببيان الأحكام». ولم يتعرض للجواب عن حكمة التكرار.

تنبيه

حقّ الفاصلة في هذا القسم تمكين المعنى المسوق إليه كما بيّنا ، ومنه قوله تعالى : ([رَبَّنا] (٤) وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة : ١٢٩). ووجه مناسبته أن بعث الرسول تولية ؛ والتولية لا تكون إلا من عزيز غالب على ما يريد ، وتعليم الرسول الحكمة لقومه إنما يكون مستندا إلى حكمة مرسله [١٣ / ب] ؛ لأن الرسول واسطة [بين المرسل] (٥) والمرسل إليه ، فلا بدّ وأن يكون حكيما ، فلا جرم (٦) كان اقترانهما (٦) مناسبا.

وقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) «تفسير القرآن العظيم» للعز ابن عبد السلام يوجد منه نسخة خطية في مكتبة «اماد إبراهيم باشا باستنبول» (رقم ١١٥) ، في ٣٦٣ ورقة ، ويوجد نسخة خطية في مكتبة قليج علي باشا باستنبول (رقم ٤٣) ، في ٢٨٦ ورقة ، ويوجد نسخة تقع في مجلدين ، يوجد منها المجلد الثاني في مكتبة قطر رقم ٢٥ / ٧٢٣ من أول سورة مريم إلى سورة الناس (٢٤٨ ورقة) ، (العز بن عبد السلام ، للوهيبي ص ١١٨).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

(٥) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة : (كاقترانهما).

١٧٨

غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة : ١٨٢). وجه المناسبة في الختم (١) محمول على قول مجاهد (٢) : «إن من حضر الموصي فرأى منه جنفا على الورثة في وصيته مع فقرهم ، فوعظه في ذلك وأصلح بينه وبينهم حتى رضوا ، فلا إثم عليه (٣) ، وهو غفور للموصي إذا ارتدع بقول من وعظه ، فرجع عما هم به وغفرانه لهذا برحمته لا خفاء (٤) به ، والإثم المرفوع عن القائل ؛ يحتمل أن يكون إثم التبديل السابق في الآية قبلها في قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) (البقرة : ١٨١) يعني من الموصي ، أي لا يكون هذا المبدّل داخلا تحت وعيد من بدّل على العموم ؛ لأنّ تبديل هذا تضمّن مصلحة راجحة فلا يكون كغيره. وقد أشكل على ذلك مواضع ، منها قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة : ١١٨) فإن قوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) يوهم أن الفاصلة «الغفور الرّحيم» ، وكذا نقلت عن مصحف أبيّ (٥) رضي‌الله‌عنه ، وبها قرأ ابن شنبوذ (٦). ولكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة ؛ لأنّه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد [أن] (٧) يرد عليه حكمه ، فهو العزيز ؛ لأن العزيز في صفات الله هو الغالب ؛ من قولهم : عزّه يعزّه عزّا إذا غلبه ؛ ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا ؛ لأن الحكيم من يضع الشيء في محلّه ، فالله تعالى كذلك. إلا أنه قد يخفي وجه الحكمة في بعض أفعاله ، فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة ، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن ؛ أي وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك ، والحكمة فيما فعلته. وقيل : وقيل لا يجوز «الغفور الرحيم» لأن الله تعالى قطع لهم بالعذاب في قوله [تعالى] : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء : ٤٨). وقيل : لأنه مقام تبرّ ،

__________________

(١) في المطبوعة : (الحكم).

(٢) هو مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي ، تقدمت ترجمته ص : ٩٨.

(٣) في المخطوطة : (فلا يأثم).

(٤) العبارة في المخطوطة : (لاحقا به).

(٥) كذا في الأصل أنّها في مصحف أبي. وقال النيسابوري في غرائب القرآن ٧ / ٨٥ : «وفي مصحف عبد الله ـ ابن مسعود ـ فإنك أنت الغفور الرحيم ، وضعفه العلماء ، لأن ذلك يشعر بكونه شفيعا لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمة تعالى». ولم يذكر ابن أبي داود في كتابه «المصاحف» هذه القراءة.

(٦) هو محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ البغدادي ، شيخ الإقراء بالعراق مع ابن مجاهد. قرأ القرآن على عدد كثير بالأمصار منهم قنبل وإسحاق الخزاعي ، وغيرهما. كان ثقة في نفسه صالحا دينا متبحرا في هذا الشأن. توفي ابن شنبوذ سنة (٣٢٨). (الذهبي ، معرفة القرّاء الكبار ١ / ٢٧٦).

(٧) ساقطة من المطبوعة.

١٧٩

فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم ، وذكر صفة العدل في ذلك بأنه العزيز الغالب. وقوله : (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يعترض عليه إن عفا عمّن يستحق العقوبة.

وقيل : ليس هو على مسألة الغفران وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى من هو أملك لهم ، ولو قيل : «فإنك أنت الغفور الرحيم» لأوهم الدعاء بالمغفرة. ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه ، لا لنبي (١) ولا لغيره. وأما قوله : (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وهم عباده ؛ عذّبهم أو لم يعذّبهم ؛ فلأنّ المعنى إن تعذّبهم تعذّب من العادة أن تحكم عليه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة كقول رؤبة (٢) :

يا رب إن أخطأت أو نسيت

فأنت لا تنسى ولا تموت

والله لا يضلّ ولا ينسى ولا يموت ، أخطأ رؤبة أو أصاب ، فكأنه قال : إن أخطأت تجاوزت لضعفي وقوتك ، ونقصي وكمالك.

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة براءة : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : ٧١) ـ والجواب ما ذكرناه.

ومنه (٣) قوله تعالى في سورة الممتحنة : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الآية : ٥).

ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الآية : ٨).

ومنه قوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ* وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور : ٩ و ١٠) ؛ فإنّ الذي يظهر في أول النظر أنّ الفاصلة «تواب رحيم» ، لأن الرّحمة مناسبة للتوبة ، وخصوصا من هذا الذنب العظيم ؛ ولكن

__________________

(١) في المخطوطة : (لنهي).

(٢) هو رؤبة بن العجاج بن شدقم الباهلي الشاعر الأموي ، أنشد له أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. (المرزباني ، معجم الشعراء ص : ١٢١). والبيت في ديوانه ص ٢٥ ، وهو مطلع أرجوزة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك.

(٣) في المطبوعة : (ومثله).

١٨٠