شرح جمل الزجّاجى - ج ١

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2263-0
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٥٨٤

فأما الزائدة فإنها لا تزاد عند البصريين إلا بشرطين ، أحدهما : أن يكون الاسم الذي تدخل عليه نكرة. والآخر : أن يكون الكلام نفيا ، نحو : «ما جاءني من أحد» ، أو نهيا ، نحو : «لا تضرب من رجل» ؛ أو استفهاما ، نحو : «هل جاءك من رجل»؟

وزعم بعض البصريين أن الشرط يجري مجرى النفي والنهي والاستفهام ، نحو : «إن قام من رجل قام عمرو» ، ويكون معنى هذه الزيادة استغراق الجنس أو تأكيد استغراقه. فمثال كونه لاستغراق الجنس : ما جاءني من رجل» ، ألا ترى أنّك إذا قلت «ما جاءني رجل» احتمل الكلام ثلاثة معان : أحدها أن تكون أردت أن تنفي رجلا واحدا ، وكأنّك قلت : «ما جاءني واحد بل أكثر». والآخر : أن تكون أردت : ما جاءني رجل في نفاذه وقوته بل جاء الضعفاء. والآخر : أن تكون أردت : ما جاءني من جنس الرجال أحد لا ضعيف ولا قويّ ولا واحد ولا أكثر.

فإذا أدخلت «من» زال الاحتمال ، وكان المعنى : ما جاءني من جنس الرجال أحد. فهي هنا لاستغراق الجنس. فإذا قلت : ما جاءني من أحد ، كانت «من» هنا لتأكيد استغراق الجنس ، لأنّ «أحدا» يقتضي الاستغراق وإن لم تدخل عليه «من».

وأما أهل الكوفة فلا يشترطون فيها أكثر من دخولها على النكرة ، وأجازوا زيادتها في الواجب ، وحكوا في ذلك : «قد كان من مطر» ، و «قد كان من حديث فخلّ عنّي» ، التقدير عندهم : قد كان مطر ، وقد كان حديث فخلّ عنّي ، وهذا لا حجة لهم فيه ، لاحتمال أن تكون «من» مبعّضة ، ويكون التقدير : قد كان كائن من مطر ، وقد كان كائن من حديث ، فحذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه وإن كانت غير مختصة. وقد تقدم في باب النعت أن ذلك يحسن في الكلام مع «من».

وأمّا الأخفش فلم يشترط في زيادتها شيئا ، بل أجاز زيادتها في الواجب وغيره وفي المعارف والنكرات ، فأجاز : «جاءني من زيد» ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (١). ألا ترى أن المعنى : يغفر لكم ذنوبكم لا بعضها ، لأن ذلك خطاب لمن يؤمن من الكفار ، قال عليه‌السلام : «الإيمان يجبّ ما قبله» (٢). أي : يذهب حكمه ويبطله ،

______________________

(١) الأحقاف : ٣١.

(٢) في النهاية في غريب الحديث والأثر : «إنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها» ، أي : يقطعان ويمحوان ما كان قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب.

٥٠١

فالمغفور إذن لمن آمن منهم جميع ذنوبهم لا بعضها.

وهذا لا حجة فيه ، لاحتمال أن تكون «من» مبعّضة ، ويكون ذلك ممّا حذف فيه الموصوف وقامت الصفة مقامه ، فكأنّه قال : يغفر لكم جملة من ذنوبكم ، وذلك أن المغفور لهم بالإيمان ما اكتسبوه من الكفر لا ما يكتسبونه في الإسلام من الذنوب ، وما تقدّم لهم من الذنوب في حال الكفر بعض ذنوبهم. على أن أهل البصرة قد يجيزون زيادتها في الواجب وفي المعرفة في ضرورة الشعر ، نحو قوله [من الرجز] :

٣٤٤ ـ أمهرت منها جبّة وتيسا

يريد : أمهرتها. وإنما يشترطون الشرطين المذكورين في فصيح الكلام. فإن قيل : فهل الشرطان الملتزمان عند أهل البصرة في زيادة «من» لأمر أوجب ذلك ، أو لمجرد ورود السماع على حسب ما ذكروه؟

فالجواب : إن التزام الشرطين المذكورين له ما أوجبه ، أمّا التزام التنكير فلأن المفرد الواقع بعد «من» الزائدة في معنى «جميع» ، لأنّك إذا قلت : «ما قام من رجل» ، فقد نفيت القيام عن جنس الرجال ، والمفرد لا يكون في معنى «جميع» إلا إذا كان نكرة ، نحو قول العرب : «عندي عشرون رجلا» ، فـ «رجلا» واقع موقع «رجال» ، لأنّه نكرة ولو كان معرفة لم يجز ذلك ، فأما قوله [من الرجز] :

في حلقكم عظم وقد شجينا (١)

______________________

٣٤٤ ـ التخريج : لم أقع عليه فيما عدت إليه من مصادر.

اللغة : أمهرت : أي : دفعت مهرا. الجبة : ثوب واسع الكمين ، مشقوق المقدم ، يلبس فوق الثياب.

المعنى : يقول : لقد دفعت لها مهرا مكوّنا من ثوب وتيس.

الإعراب : أمهرت : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. منها : «من» : حرف جر زائد ، و «ها» : ضمير متصل مبني ، في محل نصب مفعول به. جبة : تمييز منصوب بالفتحة. وتيسا : «الواو» : حرف عطف ، «تيسا» : اسم معطوف على سابقه منصوب مثله بالفتحة.

وجملة «أمهرت .. جبة» : ابتدائية لا محلّ لها.

والشاهد فيه قوله : زيادة «من» حيث يريد «أمهرتها».

(١) تقدم بالرقم ٧.

٥٠٢

فوضع «حلقكم» في موضع «حلوقكم» وهو معرفة. وقوله [من الطويل] :

٣٤٥ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليت

يريد : جلودها ، فأوقع «جلدها» موقع «جلودها» وهو معرفة ، فضرورة لا يلتفت إليها.

وأما التزام كون الكلام غير موجب ، فلأنك إذا قلت : «ما جاء من رجل» ، فقد نفيت أن يجيئك رجل واحد ، وقد نفيت أيضا أن يجيئك أكثر من واحد ، ولو قلت على هذا : «جاء من رجل» ، لزمك أن يكون قولك : «من رجل» ، على حدّه بعد النفي ، فتكون كأنك قلت في حين واحد : «جاءني رجل وحده» ، و «لم يجئني رجل وحده بل أكثر من رجل واحد» ، وذلك متناقض لأنّه يلزمك اجتماع الضدين في الواجب ، وهو مجيء الرجل وحده مع غيره ، ولا يلزم ذلك في غير الواجب إذ قد يجوز اجتماع الأضداد فيما ليس بواجب ، ألا ترى أنّك تقول : «ما زيد أبيض ولا أسود» ، ولو قلت : زيد أبيض وأسود ، لم يتصور ذلك.

______________________

٣٤٥ ـ التخريج : البيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص ٤٠ ؛ وخزانة الأدب ٧ / ٥٥٩ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٣٤ ؛ وشرح اختيارات المفضل ص ١٥٨٨ ؛ والكتاب ١ / ٢٠٩ ؛ والمقتضب ٢ / ١٧٣ ؛ وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٥٠.

اللغة : جيف : جمع جيفة وهي الجثّة المنتنة. الحسرى : جمع حسير ، وهي الناقة التي أعيت أصحابها فتركوها فماتت. الصليب : الجلد اليابس الذي لم يدبغ.

المعنى : يصف الشاعر طريقا طويلة قطعها للوصول إلى الممدوح فيقول : إن بها أي الطريق جثث الإبل المتروكة التي ابيضّ عظمها بعد ما اهترأ اللحم وبقي الجلد يابسا متكوما بجانب العظم.

الإعراب : بها : جار ومجرور متعلقان بخبر مقدم محذوف. جيف : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمّة. الحسرى : مضاف إليه مجرور بالكسرة المقدرة. فأمّا : «الفاء» : استئنافية ، «أمّا» : حرف شرط وتفصيل وتوكيد. عظامها : مبتدأ مرفوع بالضمة ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. فبيض : «الفاء» : واقعة في جواب (أما) ، «بيض» : خبر مرفوع للمبتدأ (عظامها). وأما : «الواو» : عاطفة ، «أما» : حرف تفصيل. جلدها : مبتدأ مرفوع بالضمة ، و «ها» : ضمير متصل في محل جرّ بالإضافة. فصليب : «الفاء» : واقعة في جواب (أما) ، «صليب» : خبر مرفوع للمبتدأ (جلدها).

وجملة «بها جيف» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «عظامها بيض» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «جلدها صليب» : معطوفة على (عظامها بيض).

والشاهد فيه قوله : «جلدها» حيث أراد : جلودها.

٥٠٣

وحجة من أجاز زيادة «من» في الشرط في نحو : «إن ضربت من رجل ضربك» ، أن الشرط غير واجب ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «إن ضربت زيدا ضربك» ، أنّ الضرب غير واقع كما أنّه كذلك في قوله : «ما ضربت زيدا». والصحيح أنّه لا يجوز ذلك ، لأنك إذا قلت : «إن ضربت زيدا ضربك» فالضرب وإن لم يكن واقعا ، فهو مفروض الوقوع ولا يمكن أن يفرض إلا ما لا تناقض فيه. ألا ترى أنّك لو قلت : «إن قام من رجل قام عمرو» ، كان معناه : إن قدّر وقوع هذا الخبر الذي هو «قام من رجل» : قام عمرو ، و «قام من رجل» لا يمكن وقوعه لما ذكرناه من أنّه أن يقوم الرجل وحده مع غيره في حين واحد. فلذلك لا يمكن تقديره ، وليس كذلك النفي والنهي والاستفهام ، فلذلك لم تجز زيادة «من» إلّا في الأماكن الثلاثة.

والمواضع التي تزاد فيها «من» : المبتدأ ، نحو : «هل من أحد قائم»؟ والفاعل ، نحو : «ما جاءني من أحد» ، والمفعول الذي سمّي فاعله أو لم يسمّ ، نحو : «ما ضربت من أحد» ، أو «ما ضرب من رجل». ولذلك لحّن الحسن بن هاني في قوله [من البسيط] :

٣٤٦ ـ كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها

حصباء درّ على أرض من الذهب

فزاد «من» في الواجب وفي غير الأماكن التي ذكرنا.

______________________

٣٤٦ ـ التخريج : البيت لأبي نواس في ديوانه ص ٣٤ ؛ وخزانة الأدب ٨ / ٢٧٧ ، ٣١٥ ، ٣١٨ ؛ وشرح المفصل ٦ / ١٠٢ ؛ وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٣٨٦ ؛ ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٠.

اللغة : شرح المفردات : فواقعها : ما يعلو الماء أو غيره من النفاخات. الحصباء : الحجارة الصغيرة.

المعنى : يقول : إنّ الفقاقيع التي علت الكأس شبيهة بالحجارة الصغيرة من الدرّ منثورة على أرض ذهبيّة اللون.

الإعراب : كأنّ : حرف مشبّه بالفعل. صغرى : اسم «كأنّ» منصوب بالفتحة المقدّرة على الألف الألف للتعذّر. من : حرف جر زائد. فواقعها : اسم مجرور بالكسرة لفظا بحرف الجر ، ومحلا بالإضافة ، وهو مضاف ، و «ها» : ضمير متّصل مبنيّ في محلّ جرّ بالإضافة. حصباء : خبر «كأنّ» مرفوع بالضمّة ، وهو مضاف. درّ : مضاف إليه مجرور بالكسرة. على : حرف جرّ. أرض : اسم مجرور بالكسرة ، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف حال من خبر «كأن». من : حرف جرّ. الذهب : اسم مجرور بالكسرة ، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف نعت لـ «أرض».

التمثيل به في قوله : «صغرى وكبرى من فواقعها» حيث جاء أفعل التفصيل مجردا من «أل» ، والإضافة فوجب أن تكون «صغرى» مضافة إلى «فواقعها» و «من» زائدة. وقيل : إنّ الشاعر لم يرد معنى التفصيل ، وإنّما أراد معنى الصفة المشبّهة.

٥٠٤

والذي حمل على ادعاء زيادة «من» في هذا البيت أنّ «فعلى» التي للمفاضلة لا تستعمل إلا بالألف واللام أو مضافة ، فوجب أن تكون «صغرى» مضافة لـ «فواقعها» و «من» زائدة.

وأما التي تكون لابتداء الغاية فإنها لا تدخل إلا على ما عدا الزمان من مكان أو غيره. فمثال كونها لابتداء الغاية في المكان : «سرت من الكوفة إلى البصرة» إذا أردت أن السير كان ابتداؤه من الكوفة وانتهاؤه إلى البصرة.

ومثال كونها لابتداء الغاية في غير المكان. قوله : «ضربت من الصغير إلى الكبير» ، إذا أردت أنّك ابتدأت بالضرب من الصغير وانتهيت به إلى الكبير. ومن هذا قولهم : «زيد أفضل من عمرو». وإنّما أردت أن تعلم أن زيدا يبتدأ في تفضيله من «عمرو» ، ويكون الانتهاء في أدنى من فيه فضل. إذ العادة أن يبتدىء التفضيل مما يقرب من الشيء ويدانيه في الصفة التي تقع فيها المفاضلة.

وزعم الكوفيون أيضا أنّها تكون لابتداء الغاية في الزمان ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (١). ألا ترى أن «قبل» و «بعد» ظرفا زمان ، وقد دخلت عليهما «من» ، ومن ذلك قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) (٢).

فـ «أول يوم» زمان وقد دخلت عليه «من». ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل] :

٣٤٧ ـ من الصّبح حتّى تغرب الشّمس لا ترى

من القوم إلّا خارجيّا مسوّما

______________________

(١) الروم : ٤.

(٢) التوبة : ١٠٨.

٣٤٧ ـ التخريج : البيت للحصين بن الحمام في شرح اختيارات المفضل ص ٣٢٩ ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٢١ ؛ والمقرب ١ / ١٩٨.

اللغة : الخارجي : كلّ متناه في خلقه فاق نظراءه ، والخوارج : فرقة من الفرق الإسلامية ، خرجوا على الإمام علي رضي‌الله‌عنه وخالفوا رأيه. مسوما : معلما أي ذا علامة واضحة.

الإعراب : من الصبح : جار ومجرور متعلقان بالفعل «لا ترى». حتى : حرف غاية وجر. تغرب : فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد حتى. الشمس : فاعل مرفوع بالضمة ، والمصدر المؤول من (أن) والفعل (تغرب) مجرور بـ (حتى) والجار والمجرور متعلقان بالفعل (ترى). لا ترى : «لا» : نافية ، «ترى» : فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة. من القوم : جار ومجرور متعلقان بالفعل ترى. إلا : حرف حصر. خارجيا : مفعول به منصوب بالفتحة. مسوما : صفة منصوبة بالفتحة.

٥٠٥

فأدخل «من» على «الصبح» وهو زمان. وكذلك قول الآخر [من الطويل] :

٣٤٨ ـ أتعرف أم لا رسم دار معطّلا

من العام تلقاه ومن عام أوّلا

فأدخل «من» على «العام» ، وهو زمان أيضا. وقول الآخر [من الطويل] :

[لسلمى بذات الخال دار عرفتها

وأخرى بذات الجزع آياتها سطر]

٣٤٩ ـ كأنّهما ملان لم يتغيّرا

وقد مرّ للدارين من دارنا عصر

______________________

ـ وجملة «تغرب» : صلة الموصول الحرفي لا محل لها. وجملة «لا ترى» : ابتدائية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «من الصبح» حيث أدخل «من» الجارة على «الصبح» وهو زمان.

٣٤٨ ـ التخريج : البيت للقحيف العقيلي في لسان العرب ١١ / ٢٨٧ (رعل).

اللغة : المعطل : الخالي من السكان.

المعنى : يتساءل الشاعر ويسأل صاحبه : هل تستطيع أن تعرف الديار بعد ما هجرها أهلها منذ عام أو أكثر ، أو لا تستطيع ، لأن البلى والزمان غيّرها.

الإعراب : أتعرف : «الهمزة» : للاستفهام ، «تعرف» : فعل مضارع مرفوع بالضمة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت. أم لا : «أم» : حرف عطف ، «لا» : نافية لا عمل لها. رسم : مفعول به منصوب للفعل «تعرف» المحذوف. دار : مضاف إليه مجرور. معطلا : صفة لـ (رسم) منصوبة بالفتحة. من العام : جار ومجرور متعلقان بالفعل تلقاه. تلقاه : فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر وجوبا تقديره (أنت) ، و «الهاء» : ضمير متصل في محل نصب مفعول به. ومن عام : «الواو» : عاطفة ، «من عام» : جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره (تلقاه). أوّلا : حال منصوبة بالفتحة.

وجملة «أتعرف» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «لا تعرف» : المحذوفة معطوفة على جملة لا محل لها. وجملة «تلقاه» : صفة لـ (رسم) محلها النصب ، أو حال منه.

والشاهد فيه قوله : «من العام» حيث أدخل «من» الجارّة على «العام» وهي اسم للزمان.

٣٤٩ ـ التخريج : البيتان لأبي صخر الهذليّ في الدرر ٣ / ١٠٦ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٩ ؛ وشرح أشعار الهذليّين ٢ / ٩٥٦ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ١٦٩ ؛ والمنصف ١ / ٢٢٩ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٣٣ ؛ والخصائص ١ / ٣١٠ ؛ والدرر ٦ / ٢٩١ ؛ ورصف المباني ص ٣٢٦ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٣٩ ، ٤٤٠ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٣٥ ؛ ولسان العرب ١٣ / ٤٣ (أين) ؛ وهمع الهوامع ١ / ٢٠٨ ، ٢ / ١٩٩.

اللغة والمعنى : ذات الخال وذات الجزع موضعان. آياتها : معالمها. ملآن : من الآن. يقول : إنّه لمّا مرّ بالدارين اللتين كانتا تقطنهما حبيبته رآهما لم يتغيّرا رغم مرور زمان طويل عليهما بعد فراقه.

الإعراب : لسلمى : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم ، و «سلمى» : اسم مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. بذات : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من «دار». الخال : مضاف إليه مجرور. دار : مبتدأ مؤخّر. عرفتها : فعل وفاعل ومفعول به. وجملة (عرفتها) في محل رفع نعت «دار» ، وجملة المبتدأ والخبر ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب. وأخرى : الواو حرف عطف ، أخرى : اسم معطوف بالضمة المقدّرة. بذات : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف نعت لـ «أخرى». الجزع : مضاف إليه ـ

٥٠٦

فأدخل «من» على «الآن» ، وقول زهير [من الكامل] :

٣٥٠ ـ لمن الديار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

فأدخل «من» على «حجج» و «دهر» ، وهما اسما زمان.

ولما رأى الفارسيّ كثرة مجيء هذا ارتاب فيه ، فقال : ينبغي أن ينظر فيما جاء من هذا ، فإن كثر قيس عليه ، وإن لم يكثر تؤوّل.

______________________

مجرور. آياتها : مبتدأ مؤخّر مرفوع ، وهو مضاف ، و «ها» : ضمير متصل مبنيّ في محلّ جر مضاف إليه. سطر : خبر المبتدأ مرفوع ، وجملة (آياتها سطر) في محلّ رفع نعت «أخرى». كأنهما : حرف مشبّه بالفعل ، و «هما» : ضمير في محلّ نصب اسم «كأنّ». ملآن : أصلها : «من الآن» جار ومجرور متعلّقان بخبر «كأنّ» المحذوف. لم : حرف نفي وجزم وقلب. يتغيّرا : فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنّه من الأفعال الخمسة ، والألف : فاعل. وقد : الواو : حالية ، قد : حرف تحقيق. مرّ : فعل ماض. للدارين : جار ومجرور متعلّقان بـ «مرّ». من دارنا : جار ومجرور متعلّقان بـ «مرّ». و «نا» : ضمير في محلّ جر بالإضافة. عصر : فاعل مرفوع ..

وجملة (كأنّهما ملآن ..) الاسميّة لا محلّ لها من الإعراب لأنّها ابتدائيّة أو استئنافيّة. وجملة (لم يتغيّرا) الفعليّة في محل رفع خبر ثان لـ «كأنّ». وجملة (مرّ بالدارين ...) الفعليّة في محلّ نصب حال.

في البيت شاهدان : «ملآن» حيث أدخل «من» على «الآن» وهو للزمان.

٣٥٠ ـ التخريج : البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٨٦ ؛ والأزهيّة ص ٢٨٣ ؛ وأسرار العربية ص ٢٧٣ ؛ والأغاني ٦ / ٨٦ ؛ والإنصاف ١ / ٣٧١ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٤٣٩ ، ٤٤٠ ؛ والدرر ٣ / ١٤٢ ؛ وشرح التصريح ٢ / ١٧ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٥٠ ؛ وشرح عمدة الحافظ ص ٢٦٤ ؛ وشرح المفصل ٤ / ٩٣ ، ٨ / ١١ ؛ والشعر والشعراء ١ / ١٤٥ ؛ ولسان العرب ١٣ / ٤٢١ (منن) ، ٤ / ١٧٠ (هجر) ؛ والمقاصد النحوية ٣ / ٣١٢ ؛ وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٧٠ ؛ ورصف المباني ص ٣٢٠ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٧ ؛ ومغني اللبيب ١ / ٣٣٥ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٣١٧.

شرح المفردات : القنّة : أعلى الشيء. الحجر : منازل ثمود عند وادي القرى. أقوين : خلون. من حجج : منذ سنوات.

المعنى : يتساءل الشاعر عن ديار قنّة الحجر التي خلت منذ سنوات عديدة.

الإعراب : «لمن» : جار ومجرور متعلّقان بخبر مقدّم للمبتدأ. «الديار» : مبتدأ مؤخّر مرفوع. «بقنة» : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من «الديار» ، وهو مضاف. «الحجر» : مضاف إليه مجرور. «أقوين» : فعل ماض ، والنون ضمير في محلّ رفع فاعل. «من حجج» : جار ومجرور متعلّقان بـ «أقوين» ، «ومن دهر» : الواو حرف عطف ، «من دهر» جار ومجرور متعلّقان بـ «أقوين».

وجملة : «لمن الديار» ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة «أقوين» في محلّ رفع نعت «الديار».

الشاهد فيه قوله : «من حجج ومن دهر» : حيث أدخل «من» على «حجر» و «دهر» وهما للزمان.

٥٠٧

والصحيح أن هذا لم يكثر كثرة توجب القياس ، بل لم يجىء من ذلك إلّا هذا الذي ذكرناه إذ لا بال له إن كان شذّ ، فلذلك وجب تأويل جميع ذلك على حذف مضاف ، كأنه قال : من تأسيس أول يوم. فـ «من» داخلة في التقدير على التأسيس وهو مصدر. وكأنه قال : من مرّ حجج ومن مرّ دهر. والمرّ مصدر يسوغ دخول «من» عليه ؛ ومن طلوع الصبح ولذلك قابله بقوله : حتى تغرب الشمس ، والطلوع مصدر ؛ ومن تقدّم العام ومن تقدم عام أوّل ، وكأنّه قال : من بناء الآن أي ممّا بني الآن أو أحدث الآن.

وأما «قبل» و «بعد» فليسا بظرفين في الأصل وإنّما هما صفتان فكأنّك إذا قلت : «سرت قبلك» أو «سرت بعدك» ، أصله : سرت زمانا قبلك ، أي : قبل زمانك ، وسرت زمانا بعدك ، فلما لم يتمكنا في الظرفيّة جاز دخول «من» عليهما.

وأما التي للغاية فهي تدخل على ما هو محلّ لابتداء الفعل وانتهائه معا. وكذلك «أخذته من زيد» ، «زيد» أيضا هو محل ابتداء الأخذ وانتهائه معا.

وأما التي زعم النحويون أنها تكون لانتهاء الغاية ، فنحو قولك : «رأيت الهلال من داري من خلل السحاب» ، فابتداء الرؤية وقعت من الدار ، وانتهاؤها من خلل السحاب. وكذلك قولك : «شممت من داري الريحان من الطريق» ، فابتداء شمّ الريحان من الدار وانتهاؤه إلى الطريق.

وهذا وأمثاله لا حجة لهم فيه لأنّه يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما لابتداء الغاية ، فتكون الأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل وتكون الثانية لابتداء الغاية في حق المفعول. ألا ترى أن ابتداء وقوع رؤية الهلال من الفاعل إنّما كان في داره ، وابتداء وقوع الرؤية بالهلال إنّما كان في خلل السحاب ، لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهو في خلل السحاب. وكذلك ابتداء وقوع الشم إنما كان من الدار ، وابتداء وقوعه بالريحان إنّما كان من الطريق لأن الشّم إنّما يسلّط على الريحان وهو في الطريق. ونظير ذلك ما جاء في بعض الأثر وهو كتاب أبي عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام : «الغوث الغوث». وأبو عبيدة لم يكن في وقت كتبه إلى عمر بالشام بل الذي كان بالشام عمر ، فقولنا : بالشام ، ظرف للفعل بالنظر إلى المفعول ، لأنّ الكتب إلى عمر إنما كان وعمر بالشام.

ومن الناس من جعل «من» الثانية لابتداء الغاية ، إلا أنّه جعل العامل فيها محذوفا كأنه قال : رأيت الهلال من داري ظاهرا من خلل السحاب. فجعل «من» لابتداء غاية الظهور ، لأنّ

٥٠٨

ظهور الهلال بدا من خلل السحاب ، وكأنّه قال أيضا : شممت الريحان من داري كائنا من الطريق. فـ «من» الثانية لابتداء غاية الكون. وهذا الذي ذهب إليه باطل عندي ، لأنّه قد تقدّم في باب المبتدأ والخبر أنّ المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنّما يكون مما يناسب معناه الحرف ، و «من» الابتدائية لا يفهم منها الكون ولا الظهور ، فلا ينبغي أن يجوز حذفهما منه.

والذي زعم أنّ «من» لتبيين الجنس استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١). ألا ترى أنّ الأوثان كلّها رجس. وإنّما أتيت بـ «من» ليبين ما بعدها الجنس الذي قبلها ، فكأنّك قلت : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، أي : اجتنبوا الرجس الوثنيّ.

واستدلّ أيضا بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (٢). لأنّ المعنى عنده : وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم. لأن الخطاب إنّما هو للمؤمنين ، فلذلك لم يتصوّر أن تكون «من» تبعيضية. وكقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٣). أي : من جبال هي برد لأنّ الجبال هي البرد لا بعضها.

ولا حجة لهم في شيء من ذلك. أما قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٤). فهو يتخرّج على أن يكون المراد بالرجس عبادة الوثن ، فكأنّه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس الذي هو العبادة ، لأنّ المحرّم من الأوثان إنّما هو عبادتها.

إلا أنّه قد يتصوّر أن يستعمل الوثن في بناء ، أو غير ذلك مما لم يحرمه الشارع ، وتكون «من» غاية مثلها في قوله : «أخذته من التابوت» (٥). ألا ترى أن اجتناب عبادة الأوثان ابتداؤه وانتهاؤه في الوثن ، وكذلك قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (٦) ، قد تكون «من» مبعّضة ويقدّر الخطاب عامّا للمؤمنين وغيرهم ، وكذلك قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٧). قد يتصوّر أن تكون «من» فيه مبعّضة ، ويكون المعنى مثله إذا جعلت «من» لتبيين الجنس ، وذلك بأن يكون قوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ) بدلا من «السماء». لأنّ السماء مشتملة على الجبال التي فيها كأنّه قال : وينزّل من جبال في السماء. ويكون «من برد» بدلا من «الجبال» بدل شيء من شيء ، كأنّه قال : وينزّل من برد في

______________________

(١) الحج : ٣٠.

(٢) النور : ٥٥.

(٣) النور : ٤٣.

(٤) الحج : ٣٠.

(٥) لم أقع على مصدر هذا القول.

(٦) النور : ٥٥.

(٧) النور : ٤٣.

٥٠٩

السماء ، ويكون من قبيل ما أعيد فيه العامل مع البدل مثل قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (١). فإذا أمكن أن يخرّج جميع ما أوردوه على ما ثبت واستقرّ في «من» كان أولى من أن يثبت لها معنى لم يستقر فيها وهو التبيين.

[٧ ـ معاني الباء] :

وأما الباء فتكون زائدة وغير زائدة. فالزائدة تنقسم قسمين : زائدة بقياس وزائدة بغير قياس ، فالزائدة بقياس هي الزائدة في خبر «ليس» و «ما» ، نحو : «ليس زيد بقائم» ، و «ما زيد بقائم». وفي «حسبك» إذا كان مبتدأ ، نحو : «بحسبك زيد» ، أي : حسبك زيد. وفاعل «كفى» ومفعوله ، فمثال زيادتها في فاعل «كفى» قوله تعالى : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢) أي : كفى الله شهيدا ، ومثال زيادتها في مفعول «كفى» قول الشاعر [من الكامل] :

٣٥١ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النبيّ محمّد إيّانا

______________________

(١) الأعراف : ٧٥.

(٢) الرعد : ٤٣.

٣٥١ ـ التخريج : البيت لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٨ ؛ والدرر ٣ / ٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٣٥ ؛ ولبشير بن عبد الرحمن في لسان العرب ١٣ / ٤١٩ (منن) ؛ ولحسان بن ثابت في الأزهية ص ١٠١ ؛ ولكعب أو لحسان أو لعبد الله بن رواحة في الدرر ١ / ٣٠٢ ؛ ولكعب أو لحسان ، أو لبشير بن عبد الرحمن في شرح شواهد المغني ١ / ٣٣٧ ؛ والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٦ ؛ وللأنصاري في الكتاب ٢ / ١٠٥ ؛ ولسان العرب ١٥ / ٢٢٦ (كفى) ؛ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٢ ؛ ورصف المباني ص ١٤٩ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١٣٥ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤١ ؛ وشرح المفصل ٤ / ١٢ ؛ ومجالس ثعلب ١ / ٣٣٠ ؛ والمقرب ١ / ٢٠٣ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٩٢ ، ١٦٧.

المعنى : يكفينا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبنا ، لنفخر ونستعلي بهذا الفضل على سوانا من الناس.

الإعراب : فكفى : «الفاء» : استئنافية ، «كفى» : فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف. بنا : «الباء» : حرف جرّ زائد ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به لـ (كفى) محلّا ، وفي محلّ جرّ بحرف الجر لفظا. فضلا : تمييز منصوب بالفتحة. على من : «على» : حرف جر ، «من» : اسم موصول في محلّ جرّ بحرف الجر ، متعلّقان بـ (فضلا). غيرنا : «غير» : خبر لمبتدأ محذوف مرفوع بالضمّة ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة ، بتقدير (على من هو غيرنا). حب : فاعل (كفى) مرفوع بالضمّة. النبي : مضاف إليه مجرور بالكسرة. محمد : بدل من (النبي) مجرور مثله بالكسرة. إيانا : «إيا» : ضمير منفصل في ـ

٥١٠

أي : فكفانا حبّ النبيّ محمد إيانا فضلا على من غيرنا.

فهذه الأماكن تناقس فيها زيادة الباء لكثرة وجود ذلك في كلامهم. وما عدا ذلك مما الباء فيه زائدة ، فزيادتها فيه على غير قياس ، نحو زيادتها في فاعل «يأتي» من قوله [من الوافر] :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (١)

يريد : ألم يأتك ما لاقت لبون بني زياد ، لقلّة ما جاء من ذلك. إلا أنّ أحسنه أن يكون ما زيدت فيه الباء قد توجّه عليه النفي في المعنى ، نحو قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٢). فزاد الباء في خبر «إن» وهو «قادر» ، لما كان النفي متوجها عليه في المعنى ، لأنّ معنى الكلام : أو ليس الله بقادر.

وغير الزائدة تكون لمجرّد الإلصاق ، والاختلاط ، والاستعانة ، والسبب ، والقسم ، وللحال ، وبمعنى «في» ، وللنقل.

وزعم بعض النحويين أنها تكون للتبعيض ، وبمعنى «عن». وذلك باطل لما يبيّن بعد إن شاء الله تعالى.

فمثال كونها للنقل بمنزلة الهمزة : «قمت بزيد» ، يريد : أقمت زيدا ، فيصير الفاعل مفعولا ، وذلك لا يكون إلّا في كلّ فعل غير متعدّ. وهي عندنا بمعنى الهمزة خلافا للمبرد ، فإنّه يفرق بينهما في المعنى ، فإذا قلت : «أقمت زيدا» ، فالمعنى : جعلته يقوم ولا يلزمك أن تقوم معه ، وإذا قلت : «قمت بزيد» ، فالمعنى : جعلته يقوم وقمت معه ، فما بعد الباء يشترك عنده مع الفاعل فعله. وليس كذلك المفعول المنقول بالهمزة.

ورد بعضهم عليه ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (٣).

______________________

محلّ نصب مفعول به للمصدر (حبّ) ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة.

وجملة «كفى حبّ النبي» : استئنافيّة لا محلّ لها. وجملة «هو غيرنا» : صلة الموصول لا محلّ لها.

والشاهد فيه قوله : «كفى بنا» حيث زيدت (الباء) على المفعول به (نا) ، والأصل (كفانا).

(١) تقدم بالرقم ٣٤٣.

(٢) الأحقاف : ٣٣.

(٣) البقرة : ٢٠.

٥١١

ألا ترى أن الله تعالى لا يوصف بأنه ذهب مع سمعهم وأبصارهم. وهذا لا يلزم أبا العباس ، لاحتمال أن يكون فاعل ذهب «البرق» ، أي : لذهب البرق مع سمعهم وأبصارهم ، ويحتمل أن يكون فاعل «ذهب» الله تعالى ، ويكون الله تعالى قد وصف نفسه على معنى يليق به سبحانه ، كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (١).

والذي يبطل ما ادعاه أبو العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قوله [من الطويل] :

٣٥٢ ـ ديار التي كانت ونحن على منّى

تحلّ بنا لو لا نجاء الرّكائب

أي : تحلّنا ، ألا ترى أن المعنى : تصيّرنا حلالا محرمين ، وليست هي داخلة معهم في ذلك لأنّها لم تكن حراما فتصير حلالا بعد ذلك.

ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يتصوّر الجمع بينهما ، فلا تقول : «أذهب بزيد» ، ولا «أقمت بعمرو» ، لأنّك لو فعلت ذلك كان أحد الحرفين لا معنى له ، ألا ترى أنّك إذا قدرت النقل لأحدهما كان الآخر غير ناقل.

______________________

(١) الفجر : ٢٢.

٣٥٢ ـ التخريج : البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ٧٧ ؛ وخزانة الأدب ٧ / ٢٧ ؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ١٤٨ ؛ ولسان العرب ١١ / ١٦٣ (حلل) ؛ وبلا نسبة في الأزمنة والأمكنة ١ / ٢٧٨ ؛ وجواهر الأدب ص ٤٥.

اللغة : منى : اسم موضع من مناسك الحج. النجاء : المسرعة. الركائب : جمع ركيبة وهي الإبل.

المعنى : إننا بفضل سرعة إبلنا دخلنا منى فأصبحنا محرمين.

الإعراب : ديار : اسم منصوب على القطع بفعل محذوف تقديره (أعني). التي : اسم موصول في محلّ جرّ بالإضافة. كانت : فعل ماض ناقص مبني على الفتح ، و «التاء» : تاء التأنيث الساكنة ، و «اسمها» : محذوف تقديره (هي). ونحن : «الواو» : حالية ، «نحن» : ضمير رفع منفصل في محلّ رفع مبتدأ. على منى : «على» : حرف جر ، «منى» : اسم مجرور بالكسرة المقدرة ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (نحن). تحل : فعل مضارع مرفوع بالضمة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره (هي). بنا : جار ومجرور متعلقان بالفعل تحل. لو لا : حرف شرط غير جازم. نجاء : مبتدأ مرفوع بالضمة وخبره محذوف وجوبا تقديره (موجود). الركائب : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «أعني ديار» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «تحل بنا» : في محلّ نصب خبر كانت. وجملة «نحن على منى» : في محل نصب حال. وجملة «نجاء الركائب موجود» : جملة الشرط غير الظرفي لا محل لها. وجملة جواب الشرط محذوفة ، وجملة «لو لا نجاء» : استئنافية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «تحل بنا» حيث جاءت بمعنى تحلّنا.

٥١٢

فإن قيل : فكيف جاز قوله : تنبت بالدهن (١) ، في قراءة من ضمّ التاء ، و «تنبت» مضارع «أنبت» ، والهمزة في «أنبت» للنقل ، فكيف جاز الجمع بينها وبين الباء وهي للنقل؟ بل كان ينبغي أن يقال تنبت الدهن أو تنبت بالدهن. فالجواب : إن ذلك يتخرّج على ثلاثة أوجه. أحدها : أن تكون الباء زائدة على غير قياس ، كأنّه قال : تنبت الدهن ، فتكون بمنزلتها في قوله [من الرجز] :

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (٢)

يريد : نرجو الفرج.

والآخر أن تكون الباء للحال ، فكأنه قال : تنبت ثمرتها وفيها الدهن ، أي في هذه الحال ، أو وفيه الدهن ، أي وفي الثمر الدهن ، فيكون الحال إما من ضمير الفاعل أو من المفعول المحذوف لفهم المعنى وهو الثمر.

والثالث : أن يكون «أنبت» بمعنى «نبت» لأنّه يقال : «نبت البقل» و «أنبت البقل» بمعنى واحد كما يقال : تنبت بالدهن ، فكذلك يقال : «أنبتت بالدهن».

ومثال التي لمجرد الإلصاق والاختلاط قوله : «مسحت برأسي» ، تريد ألصقت المسح برأسي ، من غير حائل بينهما. والإلصاق هنا حقيقة لأنّ المراد بالآية (٣) اتصال المسح بالرأس من غير حائل بينهما. وقد يكون الإلصاق مجازا ، نحو قولك : «مررت بزيد» ، ألا ترى أنّ المرور بزيد إنما التصق بمكان يقرب من زيد ، فجعل كأنّه ملتصق بزيد مجازا.

ومثال كونها للاستعانة : «كتبت بالقلم» و «بريت بالسكين» ، وكذلك كل ما يدخل على الأدوات الموصلة إلى الفعل ، ألا ترى أن ما بعد الباء هو الذي وصل به الفاعل إلى إيقاع الفعل بالمفعول ، والقلم هو الذي وصل به الفاعل إلى إيقاع الكتابة بالقرطاس ، والسكين هو الذي وصل به الفاعل إلى إيقاع البري بالقلم.

ومثال كونها للسبب قولك : «أخذت بزيد دينارا» ، وأمثال ذلك مما دخلت فيه الباء على ما وقع الفعل بسببه.

والفرق بين باء السبب وباء الاستعانة أن باء السبب لم تدخل على شيء وصل به الفعل

______________________

(١) المؤمنون : ٢٠.

(٢) تقدم بالرقم ٢١٠.

(٣) يريد الآية : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦].

جمل الزجاجي / ج ١ / م ٣٣

٥١٣

إلى المفعول ، ألا ترى أنّك وصلت إلى أخذ الدينار بنفسك من غير واسطة إلّا أنّك أوقعت ذلك الأخذ بسبب زيد ، وباء الاستعانة كما تقدم إنما تدخل على الأدوات لوصل الفعل إلى المفعول.

ومثال كونها للحال : «جاء زيد بثيابه» ، أي : ملتبسا بثيابه ، و «جاء زيد بنفسه» ، أي : منفردا بنفسه. وإنّما سمّيت باء الحال لأنها قد حذف معها الحال لفهم المعنى ونابت منابه ، فلنيابتها مع ما بعدها مناب الحال سميت باء الحال.

ومثال كونها للقسم : «بالله ليقومنّ زيد» ، وكذلك الباء أوصلت فعل القسم إلى المقسم به ، وقد استوفي حكمها في باب القسم.

ومن جعل الباء للتبعيض استدلّ على ذلك بقول العرب : «أخذت بثوب زيد». ومعلوم أنّ الأخذ إنما كان ببعض الثوب. وحمل على ذلك قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (١). فزعم أنّ مسح بعض الرأس يجزي. وهذا الذي ذهب إليه من أن الباء تعطي التبعيض فاسد ، بل التبعيض هنا مفهوم من معنى الكلام ، وإنما أعطت الباء إلصاق الأخذ بالثوب ، وقد علم أنّ اليد لا تختلط بجميع الثوب ، كما أنك إذا قلت : «شربت ماء البحر» ، إنّما تريد شربت بعض ماء البحر ، فكما أنّ التبعيض هنا لم يفهم من حرف فكذلك هو في قولهم : «أخذت بثوبه» ، وإنّما يقال إنّ الحرف يعطي معنى إذا كان المعنى لا يفهم إلا من الحرف ، نحو قولك : «قبضت من الدراهم» ، ألا ترى أنّ التبعيض إنّما فهم من «من» ، بدليل أنّك لو قلت : الدراهم ، وأسقطت «من» لارتفع التبعيض ، وكان المقبوض جميع الدراهم ، وأنت لو قلت : «أخذت الثوب» ، وأسقطت الباء لعلم أنّ الأخذ إنما كان في بعض الثوب ، إذ اليد لا تحيط بجميع أجزاء الثوب.

وكذلك أيضا من جعلها بمعنى «عن» استدلّ على ذلك بأنّك تقول : «سألت به» ، بمعنى : سألت عنه ، قال الله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٢) ، أي : عنه ، وقال الشاعر [من الطويل] :

فإن تسألوني بالنّساء فإنّني

بصير بأدواء النّساء طبيب (٣)

______________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) الفرقان : ٥٩.

(٣) تقدم بالرقم ٣٣٣.

٥١٤

أي : عن النساء.

ولا حجة في شيء من ذلك ، لأنّه قد يتصوّر أن تكون الباء للسبب ، لأنّك إذا سألت عن شيء فقد أوقعت السؤال بسبب ذلك الشيء ، فكأنه قال : فإن تسألوني بسبب النساء.

فإن قيل : سألت بسبب كذا ، لا تدري هل السؤال عن ذلك الشيء الذي دخلت عليه الباء أو عن غيره بسببه ، وأنت إذا قلت : «سألت عنه» ، فإنّما السؤال عن الذي دخلت عليه «عن». فالجواب : إنّهم إذا فعلوا ذلك أعني جعلوا الباء للسبب ، وحذفوا المسؤول عنه ، فلا بدّ من أن يكون في الكلام ما يدلّ على المحذوف ، فقوله : فإن تسألوني بسبب النساء ، معلوم أنّ السؤال المسؤول عن النساء بدليل قوله : بصير بأدواء النساء طبيب.

وكذلك (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (١) ، أي : فاسأل بسببه خبيرا ، لأنّ طلب السؤال منها عام ، فكأنّه قال : إذا سألت بسببه عن شيء ، فقد وقعت بسؤالك على خبير به. وقد يتخرج ذلك على وجه آخر ، وهو أن يكون الفعل مضمّنا معنى فعل يصل بالباء فيعامل معاملته ، فكأنه قال : فإن تطلبوني بالنساء ، أي : بأخبارهنّ ، وكأنه قال : فاطلب خبيرا ، لأنّ السؤال طلب في المعنى.

فإن قيل : فكما تجوّزون أن يكون الفعل في معنى فعل آخر ، فهلّا جعلتم الحرف في معنى حرف آخر فتكون الباء بمعنى «عن»؟

فالجواب : إنّ التصرف في الأفعال أولى منه في الحروف ، وأيضا فإنّك إذا حكمت للفعل بحكم فعل آخر كان لذلك مسوّغ ، وهو كون الفعلين بمعنى واحد ، وإذا جعل حرف بمعنى حرف آخر لم يكن لذلك مسوّغ لأنّهما لا يجتمعان في معنى واحد.

[٨ ـ معاني «حتى»] :

وأما حتى الجارة فإنّها لانتهاء الغاية ، ولا يخلو أن يكون ما بعدها جزء مما قبلها أو لا يكون ، فإن لم يكن ما بعدها جزء مما قبلها ، فإنّ الفعل غير متوجّه عليه ، وذلك نحو قولك : «سرت حتى الليل» ، فالسير غير واقع في الليل ، فإنّ الليل لم يتقدمه ما يكون جزء منه.

______________________

(١) الفرقان : ٥٩.

٥١٥

وإن كان ما بعدها جزءا مما قبلها ، فلا يخلو أن تقترن به قرينة تدلّ على أنّه داخل مع ما قبلها في المعنى ، أو خارج عنه ، أو لا تقترن به قرينة أصلا.

فإن اقترنت به قرينة كان المعنى على حسبها. فإذا قلت : «صمت الأيام حتى يوم الفطر» ، كان يوم الفطر غير داخل في الصوم ، لأنّ يوم الفطر لا يجوز صيامه ، وإذا قلت : «صمت الأيام حتى يوم الخميس صمته» ، فقولك : صمته ، يدل على أنّ يوم الخميس داخل مع ما قبله من الأيام في الصيام.

فإن لم تقترن به قرينة كان داخلا فيما قبله ، وذلك نحو قولك : «صمت الأيام حتى يوم الخميس» ، فيوم الخميس داخل مع ما تقدمه من الأيام في الصيام.

وإنّما كان ـ إذا لم تقترن به قرينة ـ على ما ذكرنا من دخول ما بعدها في معنى ما دخل فيه ما قبلها ، لأنّه إذا اقترنت به قرينة كان الأكثر في كلامهم أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها ، فحمل ـ إذا لم تقترن به قرينة ـ على الأكثر. وأيضا فإنّهم جعلوها جارة بمنزلتها عاطفة ، فكما أنّها إذا كانت عاطفة شركت ما بعدها مع ما قبلها ، فكذلك يكون ما بعدها إذا كانت جارة إلّا أن يقترن به قرينة تبيّن أنّها بخلاف ذلك.

[٩ ـ معاني «إلى»] :

وأما إلى فإنّها أيضا لا يخلو أن تقترن قرينة بما بعدها أو لا تقترن. فإن اقترنت به قرينة تدل على أنه داخل فيما قبلها أو خارج عنه كان على حسب القرينة. وذلك نحو قولك : «اشتريت الشقّة إلى طرفها (١). والطرف داخل في الشراء لأنّ العادة قد جرت بأن لا يشتري الإنسان شقّة من غير أن يكون الطرف داخلا في الشراء.

وكذلك قوله : «اشتريت الفدّان إلى الطريق» ، فالطريق غير داخل في الشراء لأنّه معلوم أنّ الطريق ليس مما يباع.

فإن لم تقترن به قرينة فإنّ ذلك خلافا بين النحويين ، فمنهم من ذهب إلى أنّ ما بعدها داخل فيما قبلها ، ومنهم من ذهب إلى أنّ ما بعدها غير داخل فيما قبلها ، وذلك نحو قولك :

______________________

(١) الشقّة : القطعة المشقوقة من خشب أو نحوه ، والثياب المستطيلة ، وجنس من الثياب.

٥١٦

«اشتريت هذا المكان إلى الشجرة».

فمنهم من ذهب إلى أنّ الشجرة داخلة في الشراء ، ومنهم من ذهب إلى أنّ الشجرة غير داخلة في الشراء.

والصحيح أنّها غير داخلة في الشراء وعلى ذلك أكثر المحققين من النحويين. وذلك أنّه إذا اقترنت قرينة بما بعدها فإنّ الأكثر في كلامهم أن يكون ما بعدها غير داخل فيما قبلها ، وقد يكون بخلاف ذلك ، فإذا عري ما بعدها عن القرينة وجب الحمل على الأكثر.

وأيضا فإنّها لانتهاء الغاية ، فإذا قلت : «اشتريت المكان إلى الشجرة» ، فما بعد «إلى» هو الموضع الذي انتهى إليه المكان المشترى ، فلا يتصوّر بذلك أن تكون الشجرة من المكان المشترى ، لأنّ الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء. فكيف يتصور أن تكون الشجرة هي التي انتهى إليها المكان مع أنّها بعضه ، إلّا أن يتجوز في ذلك فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء.

فإذا لم يتصوّر أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها إلّا مجازا وجب أن يحمل على أنّه غير داخل فيما قبلها ، لأن الكلام لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة ، إلا أن يكون في الكلام كما تقدم قرينة ، فتكون تلك القرينة مرجّحة لجانب المجاز على جانب الحقيقة.

[١٠ ـ معاني «ربّ»] :

وأمّا «ربّ» فمعناها عند المحقّقين من النحويين التقليل ، فإذا قلت : «ربّ رجل عالم لقيت» ، فكأنّك قلت : قد لقيت من صنف الرجال العلماء وليس من لقيته بالكثير. ومثال ذلك قوله [من الطويل] :

٣٥٣ ـ ألا ربّ مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان

وذي شامة غرّاء في حرّ وجهه

مجلّلة لا تنقضي لأوان

______________________

٣٥٣ ـ التخريج : البيتان لرجل من أزد السراة في شرح التصريح ٢ / ١٨ ؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٧ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ٢٢ ؛ والكتاب ٢ / ٢٦٦ ، ٤ / ١١٥ ؛ وله أو لعمرو الجنبي في خزانة الأدب ٢ / ٣٨١ ؛ والدرر ١ / ١٧٣ ، ١٧٤ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٩٨ ؛ والمقاصد النحوية ٣ / ٣٥٤ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٩ ؛ والجنى الداني ص ٤٤١ ؛ والخصائص ٢ / ٣٣٣ ؛ والدرر ٤ / ١١٩ ؛ ورصف المباني ص ١٨٩ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٨ ؛ وشرح المفصل ٤ / ٤٨ ، ٩ / ١٢٦ ؛ والمقرب ١ / ١٩٩ ؛ ومغني اللبيب ١ / ١٣٥ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٥٤ ، ٢ / ٢٦.

٥١٧

فالمولود الذي ليس له أب عيسى عليه‌السلام ، والذي له ولد ولم يلده أبوان هو آدم عليه‌السلام ، وصاحب الشامة هو القمر ، شبه الكلف الذي يظهر فيه المسمى أرنب القمر بالشامة ، ألا ترى أن «ربّ» في جميع هذا دخلت على ما هو واحد ولا ثاني له ، فدلّ ذلك على أنّها للتقليل.

وزعم بعض النحويين أنّها قد تكون للتكثير ، وذلك في موضع المباهاة والافتخار.

نحو قوله [من الطويل] :

٣٥٤ ـ فيا ربّ يوم قد لهوت وليلة

بآنسة كأنّها خطّ تمثال

______________________

ـ شرح المفردات : مولود ليس له أب : ربّما عيسى ابن مريم. ذو ولد لم يلده أبوان : هو آدم أبو البشر ، وقيل : القوس لأنّها تؤخذ من شجرة معيّنة.

الإعراب : «ألا» : حرف استفتاح ، أو تنبيه. «رب» : حرف جرّ شبيه بالزائد. «مولود» : اسم مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنّه مبتدأ. «وليس» : الواو زائدة ، «ليس» : فعل ماض ناقص. «له» : جار ومجرور متعلقان بخبر «ليس». «أب» : اسم «ليس» مرفوع. «وذي» : «الواو» : واو «ربّ» ، حرف عطف ، «ذي» : اسم مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنّه مبتدأ ، وهو مضاف. «ولد» : مضاف إليه مجرور. «لم» : حرف جزم. يلده : فعل مضارع مجزوم ، ونقلت السكون إلى اللام وفتحت الدال للضرورة الشعرية ، والهاء ضمير في محلّ نصب مفعول به. «أبوان» : فاعل مرفوع بالألف لأنّه مثنّى ...

وجملة : «ألا ربّ مولود ...» ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «ليس له أب» في محلّ رفع خبر المبتدأ «مولود». وجملة : «ذي ولد ...» معطوفة على جملة «مولود وليس ...» وجملة : «لم يلده ابوان» في محلّ رفع خبر المبتدأ «ذي».

الشاهد فيه قوله : «ربّ مولود» حيث جاءت «ربّ» للتقليل. وفي البيت شاهد آخر للنحاة هو قوله : «لم يلده» ، والأصل : «لم يلده» ، فسكّن الشاعر اللام للضرورة الشعريّة ، فالتقى ساكنان ، فحرّك الساكن الثاني بالفتح لأنّه أخفّ.

التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٩ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٦٤ ؛ والدرر ٤ / ١١٨ ؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ٢١٦ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، ٣٩٣ ؛ وبلا نسبة في شرح التصريح ٢ / ١٨ ؛ والمقرب ١ / ١٩٩.

اللغة : لهوت : غازلت. الآنسة : التي لا تنفر ، من الأنس. الخط : النقش.

المعنى : تبادلت الغزل ذات يوم وليلة مع حلوة أنيسة جميلة التقاسيم كأنها تمثال منقوش على مقاييس الجمال.

الإعراب : فيا : «الفاء» : بحسب ما قبلها ، «يا» : حرف تنبيه. ربّ : حرف جرّ شبيه بالزائد. يوم : اسم مجرور لفظا ، مرفوع محلّا على أنه مبتدأ ، خبره محذوف. قد لهوت : «قد» : حرف تحقيق وتقريب ، «لهوت» : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. وليلة : «الواو» : ـ

٥١٨

وقوله [من الطويل] :

٣٥٥ ـ فيا ربّ مكروب كررت وراءه

وعان فككت الغلّ عنه ففدّاني

ألا ترى أنّه إنّما يريد أنّه لها أياما وليالي كثيرة وكثر منه فكّ الأسرى وكرّه وراء المكروبين ، وهذا وأمثاله لا حجة لهم فيه ، لأنّ «ربّ» في هذه الأماكن وأمثالها للمباهاة والافتخار ، والمباهاة لا تتصوّر إلّا مما يقلّ نظيره من غير المفتخر ، إذ ما يكثر من المفتخر وغيره لا يتصوّر الافتخار به ، فتكون «ربّ» في هذه الأماكن التي للمباهاة والافتخار للقليل النظير فكأنّه قال : الأيام التي لهوت فيها والليالي يقلّ وجود مثلها لغيري ، فكأنّه قال : الأسرى الذي فككت والمكروبون الذي كررت وراءهم من الكثرة بحيث يقلّ فكّ غيري لهم.

______________________

ـ للعطف ، «ليلة» : معطوفة على (يوم) مجرورة مثله بالكسرة. بآنسة : جار ومجرور متعلقان بـ (لهوت). كأنها : «كأن» : حرف مشبّه بالفعل ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ نصب اسمها. خط : خبر (كأن) مرفوع بالضمّة. تمثال : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «رب يوم لهوت فيه ...» ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «قد لهوت» : في محلّ رفع خبر للمبتدأ المجرور بـ (رب) لفظا. وجملة «كأنها خطّ تمثال» : في محلّ جرّ صفة لـ (آنسة).

والشاهد فيه قوله : «ربّ يوم» حيث أفادت معنى التكثير ، فلا مجال للافتخار بالعدد القليل.

٣٥٥ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ٩٠ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٣٣٣.

اللغة : المكروب : الذي أحيط به في ساحة المعركة. العاني : الأسير. فدّاني : قال : فداك أمي وأبي. الغل : القيد.

المعنى : يفخر الشاعر بحروبه ومعاركه وأفعاله ، فيقول : كثيرا ما كنت أثناء المعارك أنقذ المكروبين ، وأهجم على الأعداء لأفك قيد المأسورين ، وكانوا يتمنون أن يفدوني بآبائهم.

الإعراب : فيا رب : «الفاء» : بحسب ما قبلها ، «يا» : للتنبيه ، «رب» : حرف جر شبيه بالزائد. مكروب : اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ. كررت : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. وراءه : مفعول فيه ظرف مكان متعلق بالفعل (كررت) و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة. وعان : «الواو» : واو رب ، «عان» : اسم مجرور لفظا ، مرفوع محلا على أنه مبتدأ ، و «رب» المحذوفة حرف جر شبيه بالزائد. فككت : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. الغل : مفعول به منصوب بالفتحة. عنه : جار ومجرور متعلقان بالفعل (فككت). ففداني : «الفاء» : حرف عطف ، «فدى» : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف ، و «النون» : للوقاية ، و «الياء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به ، و «الفاعل» : ضمير مستتر جوازا تقديره (هو). ـ

٥١٩

ويمكن أيضا أن يريد أنّ هذه الأشياء التي يفتخر بها هي وإن كانت قد وقعت كثيرا من المفتخر ، فإنّها بالنظر إلى شرف هذا المفتخر وجلالته قليلة.

فإن قيل : ولعلّ هذا المقصود بـ «ربّ» إنّما هو المباهاة والافتخار وانجرّ التقليل إذ لا يتصور الافتخار إلّا بما يقلّ نظيره كما ذكرنا ، فالجواب أن تقول : الذي يدل على أنّ «ربّ» إنّما وقعت للمباهاة من حيث يكون فيها التقليل أنّ «ربّ» إذا كانت لغير مباهاة وافتخار إنّما تكون للتقليل في كلامهم ، فوجب فيها إذا كانت للافتخار أن تكون على حسبها إذا كانت لغير افتخار من إرادة التقليل بها.

وأيضا فإن المفرد بعد «ربّ» يكون في معنى جمع ، ألا ترى أن قوله [من الطويل] :

فيا رب يوم قد لهوت وليلة

 ... (١)

لم يرد بيوم وليلة واحدا بل المراد أيام وليال ، والمفرد لا يكون في معنى جمع إلا إذا اقترن به لفظ عموم ، نحو : «كلّ رجل» ، أو يقع تمييزا في نحو : «عشرين رجلا» ، أو في نفي ، نحو : «ما قام رجل» ، أو في تقليل ، نحو : «قلّ رجل يقول ذلك إلّا زيد» ، ألا ترى أنّ «رجلا» في : «قلّ رجل» ، يراد به العموم ولو لا ذلك لما ساغ الاستثناء منه ، فلو لا أنّ «ربّ» للتقليل لما كان المفرد بعدها في معنى جمع.

قال أبو العباس المبرد : النحويون كالمجمعين على أنّ «ربّ» جواب لكلام متقدم ، فإذا قلت : «ربّ رجل عالم لقيت» ، هو جواب لمن قال : هل لقيت رجلا عالما؟ أو من قدّر سؤاله كذلك ، فتقول له : «رب رجل عالم لقيت» ، أي : لقيت من جنس الرجال العلماء. إلا أن ذلك ليس بالكثير. والدليل على أنّ «ربّ» جواب أنّ واو «ربّ» عاطفة نائبة عن «ربّ» ، بدليل أنّها لا يدخل عليها حرف عطف ، لا تقول : «ربّ رجل وثم امرأة» ، فإذا تبيّن أنّها

______________________

ـ وجملة «كررت» : في محلّ رفع خبر. وجملة «رب مكروب كررت» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «فككت» : في محل رفع خبر. وجملة «وعان فككت» : معطوفة على الابتدائية لا محلّ لها. وجملة «ففداني» : معطوفة على جملة «فككت عنه الغل».

والشاهد فيه قوله : «رب» حيث جاءت للتكثير وللمبالغة.

(١) تقدم بالرقم ٣٥٤.

٥٢٠