شرح جمل الزجّاجى - ج ١

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2263-0
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٥٨٤

في رواية من رفع «مصاب» ، فإنّ ظاهره أنّ تجعل «بحبّها» متعلّق بـ «مصاب» وكأنّه قال : فإنّ أخاك مصاب القلب بحبّها.

لكنّ الذي ينبغي أن يحمل عليه أن تجعل «بحبّها» متعلّقا بعامل مضمر لا بـ «مصاب» ، كأنّه قال : أعني بحبّها ، وفصل بهذه الجملة الاعتراضية بين «إنّ» واسمها ، فيكون ذلك نحو قول الآخر [من الوافر] :

٣٠١ ـ كأنّ وقد أتى حول كميل

أثافيها حمامات مثول

______________________

ـ اللغة : لا تلحني : لا تلمني. الجم : الكثير. البلابل : الوساوس والأحزان.

المعنى : يقول : لا تلمني في حبّ هذه المرأة التي ملكت قلبي ، واستولى عليّ حبّها ، فإنني عاجز عن الابتعاد عنها ، أو نسيانها. الإعراب : «فلا» : الفاء بحسب ما قبلها ، «لا» : الناهية. «تلحني» : فعل مضارع مجزوم بحذف حرف العلة ، والنون للوقاية ، والياء ضمير في محلّ نصب مفعول به ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : «أنت». «فيها» : جار ومجرور متعلّقان بـ «تلحني». «فإنّ» : الفاء استئنافية ، «إن» : حرف مشبّه بالفعل. «بحبّها» : جار ومجرور متعلّقان بفعل مضمر محذوف تقديره : «أعني» ، وهو مضاف ، و «ها» : ضمير متّصل مبنيّ في محلّ جرّ بالإضافة. «أخاك» : اسم «إنّ» منصوب بالألف لأنّه من الأسماء الستّة ، وهو مضاف ، والكاف ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. «مصاب» : خبر «إنّ» مرفوع ، وهو مضاف. «القلب» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «جمّ» : خبر ثان لـ «إنّ» مرفوع. «بلابله» : فاعل «جم» مرفوع ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل مبنيّ في محلّ جرّ بالإضافة.

وجملة : «لا تلحني» بحسب ما قبلها. وجملة : «إن أخاك مصاب» استئنافية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «أعني بحبها» اعتراضية لا محل لها.

الشاهد فيه قوله : «فإنّ بحبّها أخاك مصاب» حيث قدّم معمول خبر إنّ «بحبّها» على اسمها «أخاك» ، وخبرها «مصاب» ، فينبغي في هذه الحال أن يعلق الجار والمجرور بعامل مضمر من معنى الكلام.

٣٠١ ـ التخريج : البيت لأبي الغول الطهوي في الدرر ٤ / ٢٧ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١٨ ؛ ونوادر أبي زيد ص ١٥١ ؛ وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣٧ ؛ ولسان العرب ١٤ / ١١٣ (ثفا) ؛ والمنصف ٢ / ١٨٥ ، ٣ / ٢٨ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

اللغة : أتى : مرّ وانقضى. الحول : العام أو السنة. أثافي : وهي أركان الموقد الثلاثة توضع فوقها القدر. مثول : واقفات أو منتصبات.

المعنى : لم تذهب أو تتكسر حجارة موقد الحبيبة رغم مرور ردح من الدهر ، سنة كاملة.

الإعراب : كأن : حرف مشبه بالفعل. وقد : «الواو» : اعتراضية ، «قد» : حرف تحقيق. أتى : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر. حول : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة. كميل : صفة حول مرفوعة مثله. أثافيها : «أثافي» : اسم كأن منصوب بالفتحة الظاهرة ، و «ها» : ضمير متصل في محل جر

٤٤١

ففصل بين «كأنّ» واسمها بجملة الاعتراض التي هي : «وقد أتى حول كميل» ، وإنّما لم يجز عندي أن يتعلق بالخبر لأنّه قد تقرّر في كلامهم أنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل. فلو كان «بحبّها» متعلقا بـ «مصاب» لأدى ذلك إلى تقديم «مصاب» على اسم «إنّ» ، وذلك لا يجوز.

ويشترط في الظرف والمجرور الواقعين خبرا لهذه الحروف أن يكونا تامين ، وأعني بذلك أن يكون بالإخبار بهما فائدة ، فتقول : «إنّ زيدا في الدار قائما» ، على أن يكون «في الدار» الخبر و «قائم» حالا ، لا على أن يكون «قائم» الخبر و «في الدار» معمولا للخبر.

وتقول : «إنّ زيدا بك واثق» ، ولا يجوز واثقا ، لأنّ «بك» ناقص ليس في الإخبار به فائدة ، ألا ترى أنّك لا تقول : «إنّ زيدا بك» ، ويتمّ الكلام ، فلذلك لم يجز جعله خبرا.

وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه أنّه يجوز أن تقول : «إنّ زيدا بك واثقا» ، على أن يكون «بك» خبرا في اللفظ وهو في الحقيقة معمول لواثق ، ويكون واثقا منصوبا على أنه حال في اللفظ وإن كان في المعنى خبرا ، فيكون الإعراب غير موافق للمعنى ، فيكون من قبيل القلب ، لأنه جعل المجرور الذي كان فضلة في موضع العمدة الذي هو الخبر ، وجعل الخبر وهو عمدة منصوبا على الحال ، فكأنه فضلة.

وهذا الذي ذهب إليه باطل ، لأنّ هذا من قبيل قلب الإعراب وباب ذلك أن يجيء في الشعر لا في فصيح الكلام. واستدلّ على ذلك بقوله :

فلا تلحني فيها .......

 .............

البيت (١) فإنّه رواه بنصب «مصاب» ، فيكون «بحبّها» خبرا لـ «إنّ» في اللفظ وإن كان ناقصا ، ألا ترى أنّك لو قلت : «إنّ بحبّها أخاك» ، لم يتم الكلام.

______________________

ـ بالإضافة. حمامات : خبرها مرفوع بالفتحة الظاهرة على آخره. مثول : صفة للحمامات مرفوعة بالفتحة الظاهرة.

وجملة «كأن أثافيها حمامات» : ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة «وقد أتى حول كميل» : اعتراضية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «وقد أتى حول كميل» : إذ اعترضت الجملة بين كأن واسمها.

(١) تقدم بالرقم ٣٠٠.

٤٤٢

والجواب : إنّ هذا ـ لو لم يكن فيه تأويل يحمل على ظاهره ويكون من قلب الإعراب ـ ضرورة ولا يقاس عليه الكلام. لكنه قد يتخرّج ذلك عندنا على أن يكون الخبر محذوفا لفهم المعنى ، فكأنه قال : فإنّ أخاك مكلّف بحبّها ، ولكنه حذف مكلّف من غير أن ينيب منابه المجرور ، لأنه في باب الابتداء قد تقدم أنه لا يجوز إنابة المجرور مناب المحذوف حتى يكون حرف الجر مناسبا للمحذوف ، ويكون الدال على كلف قوله بعد : «مصاب القلب» ، وما تقدّم في القصيدة ممّا يدلّ على أنّه كلف بها إذ فهم الخبر إذا فهم المعنى جائز.

ويجوز حذف أسماء هذه الحروف في فصيح الكلام إذا كان في الكلام ما يدلّ عليها ، نحو قوله [من الطويل] :

فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر (١)

يريد : ولكنّك زنجيّ ، فحذف الاسم. ومن ذلك قوله [من الطويل] :

٣٠٢ ـ فليت دفعت الهمّ عنّي ساعة

فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال

______________________

(١) تقدم بالرقم ٢٨٣.

٣٠٢ ـ التخريج : البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص ١٦٢ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٧ ؛ ونوادر أبي زيد ص ٢٥ ؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٤٤٥ ، ٤٥١ ، ٤٧٤ ؛ والدرر ٢ / ١٧٧ ؛ ومغني اللبيب ١ / ٢٩٨ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٣٦ ، ١٤٣.

اللغة : خيّلت : تهيّأت للمطر. البال : الحال والشأن.

المعنى : أتمنّى لو أنك أبعدت الهمّ عن فكري ، حتى لو لساعة واحدة ، آنئذ ننام ونحن بحالة حسنة ناعمة حسب ما هيّأت لنا.

الإعراب : «فليت» : «الفاء» : بحسب ما قبلها ، «ليت» : حرف مشبّه بالفعل ، و «اسمها» : محذوف وتقديره (فليتك). «دفعت» : فعل ماض مبني على السكون ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. «الهمّ» : مفعول به منصوب بالفتحة. «عني» : جار ومجرور متعلّقان بـ «دفعت». «ساعة» : مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة ، متعلق بـ «دفعت». «فبتنا» : «الفاء» : عاطفة ، «بتنا» : فعل ماض مبني على السكون ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. «على» : حرف جر. «ما» : اسم موصول بمعنى «الذي» في محلّ جرّ بحرف الجرّ ، والجار والمجرور متعلّقان بـ «بتنا». «خيّلت» : فعل ماض مبني على الفتح ، و «التاء» : للتأنيث لا محلّ لها ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هي). «ناعمي» : حال منصوبة بالياء لأنه مثنى. «بال» : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «ليتك دفعت» : بحسب ما قبلها. وجملة «دفعت الهمّ» : في محل رفع خبر «ليت». وجملة ـ

٤٤٣

يريد : فليتك دفعت الهمّ إلّا أن يكون الاسم ضمير أمر أو شأن ، فإنّه لا يجوز حذفه إلّا في ضرورة الشعر ، نحو قوله [من الخفيف] :

٣٠٣ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

يريد : إنّه من يدخل الكنيسة. وكذلك قوله [من الخفيف] :

إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب (١)

______________________

ـ «بتنا» : معطوفة على جملة «دفعت». وجملة «خيّلت» : صلة الموصول لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «فليت دفعت» حيث حذف اسم «ليت» وفي الكلام ما يدل عليه. والتقدير : فليتك دفعت.

٣٠٣ ـ التخريج : البيت للأخطل في خزانة الأدب ١ / ٤٥٧ ؛ والدرر ٢ / ١٧٩ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٨ ؛ وليس في ديوانه ؛ وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٤٦ ؛ وأمالي ابن الحاجب ١ / ١٥٨ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٤٢٠ ، ٩ / ١٥٥ ، ١٠ / ٤٤٨ ؛ ورصف المباني ص ١١٩ ؛ وشرح المفصل ٣ / ١١٥ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٣٦.

اللغة : الجآذر : جمع جؤذر وهو ابن بقرة الوحش. الظباء : جمع ظبي وظبية وهي أحد أنواع الغزلان.

المعنى : سيجد من يدخل إلى الكنيسة نساء جميلات ، ذوات عيون واسعة ، كالبقر الوحشي أو الغزلان.

الإعراب : إنّ : حرف مشبّه بالفعل ، و «اسمها» : محذوف تقديره (إنّه). من : اسم شرط جازم في محلّ رفع مبتدأ. يدخل : فعل مضارع مجزوم (فعل الشرط) بالسكون ، وحرّك بالكسرة منعا لالتقاء الساكنين ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). الكنيسة : اسم منصوب بنزع الخافض بالفتحة ، بتقدير (يدخل إلى الكنيسة). يوما : مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة متعلق بالفعل (يدخل). يلق : فعل مضارع مجزوم (جواب الشرط) بحذف حرف العلّة من آخره ، والفتحة دليل على الألف المحذوفة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). فيها : جار ومجرور متعلّقان بـ (يلق). جآذرا : مفعول به منصوب بالفتحة. وظباء : «الواو» : للعطف ، «ظباء» : معطوف على منصوب منصوب مثله بالفتحة.

وجملة «إنه من يدخل ... يلق» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «من يدخل يلق» : في محلّ رفع خبر (إنّ). وجملة (فعل الشرط وجوابه) : في محلّ رفع خبر (من). وجملة «يلق» : لا محل لها (جواب شرط جازم غير مقترن بالفاء). وجملة «يدخل» جملة الشرط غير الظرفي لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «إنّ من» حيث لا يصحّ اعتبار (من) اسمها ، لأنّ (من) لها الصدارة ، ولا يجوز أن يعمل بها ما قبلها ، فقدروا ضمير الشأن لتعمل فيه (إنّه من يدخل).

(١) تقدم بالرقم ٢٨٦.

٤٤٤

يريد : إنّه من لام في بني بنت حسان.

وإنّما لم يحذف اسم هذه الحروف إذا كان ضمير أمر أو شأن إلا في ضرورة ، لأنّ الجملة الواقعة خبرا لضمير الأمر والشأن هي مفسّرة له ، فقبح حذفه وإبقاء الجملة كما يقبح حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إذا كانت الصفة جملة.

وكذلك يجوز حذف الخبر إذا فهم المعنى ، وعلى ذلك قوله [من الطويل] :

فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيا عظيم المشافر (١)

في رواية من نصب «الزنجيّ» ، كأنّه قال : ولكنّ زنجيّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي ، فحذف لفهم المعنى. ومثله قوله [من الطويل] :

٣٠٤ ـ وما كنت ضفّاطا ولكنّ طالبا

أناخ وأقرى فوق ظهر سبيل

فكأنّه قال : ولكنّ طالبا منيخا كنت.

______________________

(١) تقدم بالرقم ٢٨٣.

٣٠٤ ـ التخريج : البيت للأخضر بن هبيرة الضبيّ في شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٩٩ ؛ ولسان العرب ٢ / ٤٢٨ (جنح) ، ٧ / ٣٤٤ (ضفط) ؛ وبلا نسبة في الكتاب ٢ / ١٣٦.

اللغة : الضفاط : الجمّال ، والمكاري. أقرى : أطعم الضيوف. ظهر السبيل : جانب الطريق.

المعنى : لم أكن جمّالا أنقل الجمال من بلد إلى بلد ، بل كنت قاصدا لمكان أطلبه ، أراح جماله وأطعم ضيوفه على قارعة الطريق.

الإعراب : وما : «الواو» : حسب ما قبلها ، «ما» : نافية. كنت : فعل ماض ناقص ، و «التاء» : ضمير متصل في محلّ رفع اسم (كان). ضفاطا : خبر (كان) منصوب بالفتحة. ولكن : «الواو» : حرف استئناف ، «لكن» : حرف مشبّه بالفعل. طالبا : اسم (لكنّ) منصوب بالفتحة. أناخ : فعل ماض مبني على الفتح ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). وأقرى : «الواو» : للعطف ، «أقرى» : فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). فوق : مفعول فيه ظرف مكان منصوب بالفتحة ، متعلق بالفعل (أناخ). ظهر : مضاف إليه مجرور بالكسرة. سبيل : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «وما كنت ضفّاطا» : بحسب ما قبلها. وجملة «ولكنّ طالبا أناخ» : استئنافية لا محل لها.

وجملة «أناخ» : في محلّ نصب صفة لـ (طالبا). وجملة «كنت» (المحذوفة) : في محلّ رفع خبر (لكنّ).

وجملة «وأقرى» : معطوفة على جملة (أناخ) في محلّ نصب صفة.

والشاهد فيه قوله : «ولكن طالبا أناخ» حيث حذف خبر (لكن) لفهم المعنى ممّا سبق.

٤٤٥

وأكثر ما يكون حذف الخبر إذا كان الاسم نكرة ، نحو قوله [من المنسرح] :

٣٠٥ ـ إنّ محّلّا وإنّ مرتحلا

وإنّ في السفر إذ مضوا مهلا

يريد : إنّ لنا محّلا ، وحكي من كلامهم : إنّ إبلا وإن شاء.

وإنما كثر حذف الخبر إذا كان الاسم نكرة ، لأنّ الخبر إذ ذاك إنّما يكون ظرفا أو مجرورا مقدّرا قبل الاسم. ولو لا ذلك لم يجز الإخبار عن النكرة ، إذ لا مسوّغ لذلك ، فلمّا لزم أن يكون الخبر ظرفا أو مجرورا ، سهل حذفه ، لأنّ العرب قد اتسعت في الظروف والمجرورات ما لم تتّسع في غيرها ، وقد تقدّم ذكر السبب في ذلك.

وزعم أهل الكوفة أنّ أحسن ما يكون حذف الخبر إذا كان الموضع موضع تفصيل ، نحو قولهم : «إنّ الزبابة وإنّ الفأرة» ، يريدون : إنّ الزبابة خلاف الفأرة وإنّ الفأرة خلاف

______________________

٣٠٥ ـ التخريج : البيت للأعشى في ديوانه ص ٢٨٣ ؛ وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٢ ، ٤٥٩ ؛ والخصائص ٢ / ٣٧٣ ؛ والدرر ٢ / ١٧٣ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥١٧ ؛ والشعر والشعراء ص ٧٥ ؛ والكتاب ٢ / ١٤١ ؛ ولسان العرب ١١ / ٢٧٩ (رحل) ؛ والمحتسب ١ / ٣٤٩ ؛ والمقتضب ٤ / ١٣٠ ؛ والمقرب ١ / ١٠٩ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٩ ؛ وأمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٧ ؛ ورصف المباني ص ٢٩٨ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٢٣٨ ، ٢ / ٦١٢ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٨٤ ؛ والصاحبي في فقه اللغة ص ١٣٠ ؛ ولسان العرب ١١ / ١٦٣ (جلل).

اللغة : محلّا : مصدر ميمي من حلّ أي أقام ، ومرتحلا : مصدر ميمي من ارتحل ، أي سافر. السفر : المسافرين. مهلا : تأخيرا وتمهّلا.

المعنى : إن حللنا وأقمنا ، وإن ارتحلنا ومتنا ، فإن في المسافرين قبلنا عبرة وإمهالا لنا لنتّعظ.

الإعراب : إن : حرف مشبه بالفعل. محلا : اسم (إن) منصوب بالفتحة ، و «خبرها» محذوف ، بتقدير (إنّ لنا محلّا). وإن : «الواو» : للعطف ، «إن» : حرف مشبّه بالفعل. مرتحلا : اسم (إن) منصوب بالفتحة ، وخبرها محذوف ، بتقدير (إن لنا مرتحلا). وإن : «الواو» : للعطف ، «إن» : حرف مشبه بالفعل. في السفر : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إن) المتقدّم على اسمها (مهلا). إذ مضوا : «إذ» : حرف تعليل ، «مضوا» : فعل ماض مبني على الضمّ ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الألف» : للتفريق. مهلا : اسم (إن) مؤخّر منصوب بالفتحة.

وجملة «إنّ محلّا ...» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «إن مرتحلا ...» : معطوفة عليها لا محل لها. وجملة «وإنّ مهلا ...» : معطوفة عليها لا محلّ لها. وجملة «مضوا» : اعتراضية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «إنّ محلّا وإنّ مرتحلا» حيث حذف الخبر ، وإنما جاز ذلك لأن الاسم نكرة. والتقدير : «إنّ لنا محلّا وإنّ لنا مرتحلا».

٤٤٦

الزبابة. والزبابة نوع من الفأرة وهي صمّاء. قال الشاعر [من مجزوء الكامل] :

٣٠٦ ـ وهم زباب حائر

لا تسمع الآذان رعدا

وإنّما حسن الحذف عندهم لقوّة الدلالة على الخبر المحذوف بالتفصيل.

وهذا لا حجّة فيه ، لأنّ الحذف لا يكون إلّا بعد وجود دليل على المحذوف كان الموضع موضع تفصيل أو لم يكن ؛ وإنّما ينبغي أن يحسن الحذف حيث يكون الخبر ظرفا أو مجرورا كما تقدم.

وأما حذف الاسم والخبر فلا يجوز إلا في «إنّ» ، نحو قول ابن الزبير : «إنّ ، وصاحبها» ، في جواب من قاله له : لعن الله ناقة حملتني إليك. وفي ذلك خلاف بين النحويين ، فمنهم من ذهب إلى أنّها بمعنى «نعم» ، كأنّه قال : نعم وراكبها. ومنهم من ذهب إلى أنّ الاسم والخبر محذوفان لفهم المعنى. وهذا أولى عندي ، لأنه قد تقرر أنها تنصب الاسم وترفع الخبر ، ولم يستقر فيها أن تكون بمعنى «نعم». فإن قيل : فحذف الجملة حتى لا يبقى منها إلّا حرف واحد وهو «إنّ» إخلال بها. فالجواب : إنّ العرب قد فعلت ذلك ،

______________________

٣٠٦ ـ التخريج : البيت للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٤٦ ؛ ولسان العرب ١ / ٤٤٦ (زبب) ؛ وجمهرة اللغة ص ١٠٠٠ ، ١١٢٠ ؛ وتاج العروس ٣ / ٦ (زبب) ؛ وديوان الأدب ٣ / ٦٢ ؛ وتهذيب اللغة ١٣ / ١٧١ ؛ وأدب الكاتب ص ١٩٦ ؛ والأغاني ١١ / ٤٤ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ١١٣ ؛ وشعراء النصرانيّة ص ٤١٧ ؛ وعيون الأخبار ٢ / ١١٢ ؛ والمعاني الكبير ص ٦٥٦ ؛ ومعجم البلدان ٣ / ١٢٩ (الزباء) ؛ وسمط اللآلي ص ٥٠٤ ؛ وبلا نسبة في الحيوان ٤ / ٤١٠ ، ٥ / ٢٦٠.

اللغة : الزّباب : جنس من الفأر ، لا شعر عليه ، أصمّ ، يسرق كلّ ما يقدر عليه ، ويقال : «أسرق من زبابة» مثلا على شدة السرقة. الآذان : جمع أذن.

المعنى : يهجو قوما بأنهم غير مهتدين ، لا يسمعون الحقيقة ، كما لا تسمع آذان الزّباب الرعد.

الإعراب : وهم : «الواو» : حسب ما قبلها ، «هم» : ضمير منفصل في محلّ رفع مبتدأ. زباب : خبر مرفوع بالضمّة. حائر : صفة (زباب) مرفوعة بالضمّة. لا تسمع : «لا» ، نافية ، «تسمع» : فعل مضارع مرفوع بالضمّة. الآذان : فاعل (تسمع) مرفوع بالضمّة. رعدا : مفعول به منصوب بالفتحة.

وجملة «وهم زباب» : حسب ما قبلها. وجملة «لا تسمع» : في محلّ نصب حال ، أو في محلّ رفع صفة ثانية لـ (زباب).

٤٤٧

نحو قوله [من الرجز] :

٣٠٧ ـ قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان عييّا معدما قالت وإن

ألا ترى أن فعل الشرط وجوابه محذوفان لفهم المعنى. فإنّ التقدير : وإن كان عييّا ولكن تمنيته ، ولم يبق في الجملة إلّا حرف الشرط. ومثل ذلك [من الكامل] :

أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١)

______________________

٣٠٧ ـ التخريج : الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٨٦ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ١٤ ، ١٦ ، ١١ / ٢١٦ ؛ والدرر ٥ / ٨٨ ؛ وشرح التصريح ١ / ٣٧ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٦ ؛ والمقاصد النحوية ١ / ١٠٤ ؛ وبلا نسبة في الدرر ٥ / ١٨١ ؛ ورصف المباني ص ١٠٦ ؛ وشرح الأشموني ٣ / ٥٩٢ ؛ وشرح التصريح ١ / ١٩٥ ؛ وشرح عمدة الحافظ ص ٣٧٠ ؛ ومغني اللبيب ٢ / ٦٤٩ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٤٣٦ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ٦٢ ، ٨٠.

شرح المفردات : المعدم : من لا مال له ، الفقير.

المعنى : يقول : لقد قالت بنات العم لـ «سلمى» بألّا ترفض من جاء يطلب يدها وإن كان فقيرا ، فرحّبت «سلمى» به. وهذا القول قريب من المثل القائل : «زوج من عود خير من قعود».

الإعراب : «قالت» : فعل ماض مبنيّ على الفتح ، والتاء للتأنيث. «بنات» : فاعل مرفوع بالضمّة ، وهو مضاف. «العم» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «يا» : حرف نداء. «سلمى» : منادى مبنيّ على الضمّة المقدّرة في محلّ نصب. «وإن» : «الواو» حرف عطف ، عطف على محذوف ، و «إن» حرف شرط جازم. «كان» : فعل ماض ناقص ، وهو فعل الشرط في محلّ جزم ، واسمه ضمير مستتر تقديره «هو». «عييّا» : خبر «كان» منصوب. «معدما» : نعت منصوب ، أو خبر ثان لـ «كان» منصوب. وجواب الشرط محذوف تقديره : «إن كان عييّا معدما أفترضين به». «قالت» : فعل ماض مبنيّ على الفتحة ، والتاء : للتأنيث ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره «هي». «وإن» : «الواو» حرف عطف ، و «إن» : حرف شرط جازم ، وفعله وجوابه محذوفان تقديرهما : «وإن كان عييّا معدما رضيت به».

وجملة : «قالت بنات العم» الفعلية ابتدائيّة لا محل لها من الإعراب. وجملة «يا سلمى» في محلّ نصب مفعول به. والجملة من إن الشرطية وفعلها وجوابها المحذوف معطوفة على جملة محذوفة يدلّ عليها سياق الكلام. وجملة «قالت» : الثانية استئنافية لا محل لها من الإعراب. وجملة «إن كان فقيرا رضيت به» : الشرطية المحذوفة تعرب مثل الجملة الشرطية الأولى.

الشاهد فيه قوله : «وإن ...» حيث حذف فعل الشرط وجوابه بعد «إن» ، والتقدير : وإن كان كذلك.

وفي البيت شاهد آخر للنحاة ، وهو حذف فعل الشرط وجوابه بعد «إن» ، والتقدير : وإن كان كذلك رضيته.

(١) تقدم بالرقم ١٤.

٤٤٨

يريد : وكأن قد زالت ، فحذف لفهم المعنى.

ومن كلامهم : «قاربت المدينة ولمّا» ، أي : ولمّا أدخلها. وأما قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (١). فلا ينبغي أن تجعل فيه «إنّ» بمعنى «نعم» ، ويكون «هذان» مبتدأ و «ساحران» خبره ، واللام زائدة في الخبر ، لأنّه كما تقدّم لم تثبت «إنّ» بمعنى «نعم» ، وأيضا فإنّ اللام لا تزاد في الخبر إلّا في ضرورة شعر ، نحو قوله [من الرجز] :

أمّ الحليس لعجوز شهربه

ترضى من اللحم بعظم الرّقبه (٢)

أو في نادر كلام ، كقراءة من قرأ : إلا أنهم ليأكلون الطعام (٣) بفتح همزة «إنّ» ، فإذا أمكن أن يحمل على أحسن من هذا كان أولى.

وكذلك لا ينبغي أن تجعل اللام في هذا الوجه داخلة على مبتدأ محذوف ويكون التقدير إذ ذاك : «إنّ هذان لهما ساحران» ، فتكون الجملة من قوله «لهما» في موضع خبر المبتدأ الذي هو «هذان» ، و «إنّ» بمعنى «نعم» ، لأنّ في هذا الوجه أيضا إثبات «إنّ» بمعنى «نعم» ، وذلك لم يستقر. وحذف المبتدأ وإدخال لام التأكيد ، وذلك غير جائز ، لأن التأكيد من موضع الإطالة والإسهاب ، فيناقضه الحذف والاختصار. وكذلك لا ينبغي أن يحمل على أن يكون اسم «إنّ» ضمير الأمر والشأن محذوفا ، ويكون «هذان» مبتدأ و «ساحران» خبره وتكون اللام زائدة في الخبر والجملة في موضع خبر «إنّ» ، لأنّ في ذلك شيئين بابهما أن لا يجوزا إلّا في الضرورة ، وهما حذف اسم «إنّ» وهو ضمير الأمر والشأن ، والآخر : زيادة اللام في الخبر. وكذلك أيضا لا يجوز في هذا الوجه جعل اللام داخلة على مبتدأ محذوف لما في ذلك من المناقضة بين الحذف والتأكيد ، وقد تقدم ذلك.

فالذي ينبغي أن يحمل عليه أن يكون «هذان» اسم «إنّ على لغة بني الحارث بن كعب الذين يجعلون التثنية بالألف على كل حال ، وتكون اللام لام «إنّ» و «ساحران» الخبر.

______________________

(١) طه : ٦٣.

(٢) تقدم بالرقم ٢٩٠.

(٣) الفرقان : ٢٠.

جمل الزجاجي / ج ١ / م ٢٩

٤٤٩

[٩ ـ لغات «لعل»] :

وفي «لعلّ» لغات ، يقال : «لعلّ» ، قال الله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (١).

و «علّ» ، قال الشاعر [من المنسرح] :

٣٠٨ ـ ولا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

و «لعنّ» ، و «عنّ» ، قال الشاعر [من الرجز] :

٣٠٩ ـ أغد لعنّا في الرّهان نرسله

______________________

(١) طه : ٤٤.

٣٠٨ ـ التخريج : البيت للأضبط بن قريع في الأغاني ١٨ / ٦٨ ؛ والحماسة الشجرية ١ / ٤٧٤ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٤٥٠ ، ٤٥٢ ؛ والدرر ٢ / ١٦٤ ، ٥ / ١٧٣ ؛ وشرح التصريح ٢ / ٢٠٨ ؛ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٥١ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ١٦٠ ؛ وشرح شواهد المغني ص ٤٥٣ ؛ والشعر والشعراء ١ / ٣٩٠ ؛ والمعاني الكبير ص ٤٩٥ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٣٣٤ ؛ وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٢٢١ ؛ وجواهر الأدب ص ٥٧ ، ١٤٦ ؛ ورصف المباني ص ٢٤٩ ، ٣٧٣ ، ٣٧٤ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٥٠٤ ؛ وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣٢ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٥٥٠ ؛ وشرح المفصل ٩ / ٤٣ ، ٤٤ ؛ ولسان العرب ٦ / ١٨٤ (قنس) ، ٨ / ١٣٣ (ركع) ، ١٣ / ٤٣٨ (هون) ؛ ومغني اللبيب ١ / ١٥٥.

المعنى : لا تحتقر من هو دونك شأنا ، فربّما يحطّ عليك الدهر فيذلك ، ويأتي معه فيرفعه.

الإعراب : «ولا» : «الواو» : بحسب ما قبلها ، «لا» : الناهية. «تهين» : فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المحذوفة منعا من التقاء الساكنين ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : «أنت». «الفقير» : مفعول به منصوب. «علّك» : حرف مشبّه بالفعل ، والكاف ضمير في محلّ نصب اسم «علّ». «أن» : حرف مصدرية ونصب. «تركع» : فعل مضارع منصوب ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : «أنت». والمصدر المؤول من «أن» وما بعدها في محل رفع خبر «علّ». «يوما» : ظرف زمان منصوب ، متعلّق بـ «تركع». «والدهر» : الواو حاليّة. «الدهر» : مبتدأ مرفوع. «قد» : حرف تحقيق. «رفعه» : فعل ماض ، والهاء ضمير في محلّ نصب مفعول به ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره : «هو».

وجملة : «لا تهين» بحسب الواو. وجملة : «تركع» صلة الموصول الحرفي لا محل لها من الإعراب. وجملة : «علك أن ...» استئنافية لا محل لها من الإعراب. وجملة «والدهر قد رفعه» في محلّ نصب حال. وجملة «رفعه» في محلّ رفع خبر المبتدأ.

الشاهد فيه قوله : «علّك ...» حيث جاءت «علّ» لغة في «لعلّ».

٣٠٩ ـ التخريج : الرجز لأبي النجم العجلي في الدرر ٢ / ١٦٦ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ص ٤٣٣ ؛ وسمط اللآلي ص ٣٢٨ ، ٧٥٨ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٧٩ ؛ والممتع في التصريف ١ / ٣٩٥ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٣٤ ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٧٦. ـ

٤٥٠

و «لأنّ» ، قال امرؤ القيس [من الكامل] :

٣١٠ ـ عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الدّيار كما بكى ابن خذام

و «أنّ» ، قال الله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) المعنى : لعلّها. و «لغنّ» و «غنّ».

______________________

ـ اللغة : الرّهان : المسابقة على الخيل.

المعنى : أرسل إلينا جوادك لعلّنا نرسله في المسابقات.

الإعراب : أغد : فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة من آخره ، والضمّة دلالة عليه و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (أنت). لعنّا : لغة في «لعنّا» وهي حرف مشبّه بالفعل ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ نصب اسمها. في الرهان : جار ومجرور متعلّقان بـ (نرسله). نرسله : فعل مضارع مرفوع بالضمّة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (نحن) ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به.

وجملة «أغد» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «لعنّا نرسله» : استئنافية لا محل لها ، وجملة «نرسله» : في محلّ رفع خبر (لعلّ).

والشاهد فيه قوله : «لعنّا» لغة في (لعلّنا).

٣١٠ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ١١٤ ؛ وجمهرة اللغة ص ٥٨٠ ؛ والحيوان ٢ / ١٤٠ (وفيه «حمام» مكان «خذام») ؛ وخزانة الأدب ٤ / ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، ٣٧٨ ؛ والدرر ٢ / ١٦٦ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٧٩ ؛ ولسان العرب ١٢ / ١٦٩ (خذم) ؛ والمؤتلف والمختلف ص ١١ (وفيه «حمام» مكان «خذام») ؛ وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ١٩ ؛ ورصف المباني ص ١٢٧ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٣٤.

اللغة : عوجا : أقيما ، أو اعطفا رأسي بعيريكما. الطلل : آثار الديار. المحيل : الذي مضى عليه حول (سنة). ابن خذام : شاعر قديم ، ويقال : ابن خدام.

المعنى : يخاطب صديقيه (المتوهّمين) : ميلا إلى هذه الآثار ، لعلّنا نبكي عليها كما بكى ابن خذام على آثار الديار قبلنا.

الإعراب : عوجا : فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بألف الاثنين ، و «الألف» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل. على الطلل : جار ومجرور متعلّقان بـ (عوجا). المحيل : صفة (الطلل) مجرورة بالكسرة. لأنّنا : لغة في (لعلّنا) : حرف مشبّه بالفعل ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ نصب اسمها. نبكي : فعل مضارع مرفوع بضمّة مقدّرة على الياء ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (نحن). الديار : مفعول به منصوب بالفتحة. كما : «الكاف» : اسم بمعنى مثل مبني على الفتح في محل نصب نائب مفعول مطلق ، «ما» : حرف مصدري ، والمصدر المؤول من (ما) ، ومن الفعل (بكى) مضاف إليه. ابن : فاعل مرفوع بالضمّة. خذام : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «عوجا» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «لأننا نبكي» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «نبكي» : في محلّ رفع خبر (لعلّنا). وجملة «بكى» : صلة الموصول الحرفي لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «لأننا» لغة في (لعلّنا).

(١) الأنعام : ١٠٩.

٤٥١

و «لعلّ» مركّبة من اللام و «علّ» ، والدليل على ذلك أنّ اللام لا تخلو أن تكون أصلا أو زائدة. فباطل أن تكون أصلا بدليل سقوطها في لغة من قال : «علّ» ، فثبت أنّها زائدة. فإمّا أن تكون زيادتها على أنّها حرف هجاء أو على أنّها لام للتأكيد ضمّت لـ «علّ». فباطل أن تكون حرف هجاء لأنّ اللام لا تزاد إلّا في «ذلك» و «عبدل» ، فثبت أنّها لام تأكيد ، ضمّت إلى «علّ».

فإن قيل : وهل تدخل لام التأكيد على حروف المعاني؟ فالجواب : إنّ ذلك قد جاء ، قال [من الرجز] :

٣١١ ـ فباد حتّى لكأن لم يسكن

فأدخل لام التأكيد على «كأن» ، فكذلك أدخلها على «علّ».

ومعناها الترجّي في المحبوبات ، نحو : «لعلّ الله يرحمني» ، والتوقّع في المحذورات ، نحو : «لعلّ العدوّ يأتي».

[١٠ ـ كأنّ] :

وأما «كأنّ» فهي للتشبيه ، نحو : «كأنّ زيدا الأسد». وذهب بعض النحويين إلى أنّ

______________________

٣١١ ـ التخريج : الرجز بلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٣٣٢ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٤٠٨.

اللغة : باد : هلك واندثر.

المعنى : لقد فني واندثر حتى كأنّه لم يكن مسكونا في يوم من الأيام.

الإعراب : فباد : «الفاء» : بحسب ما قبلها ، «باد» : فعل ماض مبني على الفتح ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). حتى : حرف غاية وابتداء. لكأن : «اللام» : حرف تأكيد. «كأن» : حرف مشبّه بالفعل ، مخفّفة من (كأنّ) ، و «اسمها» : ضمير الشأن المحذوف بتقدير : (لكأنه). لم يسكن : «لم» : حرف جزم وقلب ونفي ، «يسكن» : فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم ، وحرّك بالكسرة لضرورة الشعر ، و «نائب الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو).

وجملة «فباد» : بحسب الفاء. وجملة «لكأنه لم يسكن» : استئنافية لا محل لها. وجملة «لم يسكن» : في محلّ رفع خبر (كأن).

والشاهد فيه قوله : «حتى لكأن» حيث دخلت (لام التوكيد) على (كأن).

٤٥٢

«كأنّ» تكون بمنزلة «إنّ» للتأكيد ، واستدلّ على ذلك بقول الشاعر [من الوافر] :

٣١٢ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعرّا

كأنّ الأرض ليس بها هشام

وذلك أنّ هذا الشاعر يرثي هشاما ، فمعلوم أنّه ليس بالأرض ، والمعنى إذن : لأنّ الأرض ليس بها هشام إذ محال أن يقول الإنسان : كأنّ الأرض ليس بها هشام على جهة التشبيه و «هشام» ليس بالأرض.

وهذا البيت لا حجّة فيه ، لاحتمال أن تكون «كأنّ» فيه للتشبيه ، وذلك أنّ هشاما وإن كان قد مات فجسده في الأرض ، فكان ينبغي لبطن مكة بسبب ذلك أن لا يتغيّر ، فلما تغيّر بطن مكة واقشعرّ ، صارت الأرض كأنّ هشاما ليس بها.

وزعم أبو الحسن بن الطراوة أنّ «كأنّ» تكون بمعنى «ظننت» ، واستدلّ على ذلك بأنّك تقول : «كأن زيدا قائم» ، والقائم هو زيد والشيء لا يشبّه بنفسه. فالجواب عن ذلك : إنّ الشيء قد يشبّه في حال ما بنفسه في حال أخرى ، فتكون إذ قلت : «كأنّ زيدا قائم» ، مشبّها لزيد غير قائم به قائما ، أو يكون قائما غير زيد ويكون في الكلام حذف كأنك قلت : كأنّ هيئة زيد قائم.

______________________

٣١٢ ـ التخريج : البيت للحارث بن خالد في ديوانه ص ٩٣ ؛ والاشتقاق ص ١٠١ ، ١٤٧ ؛ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٧١ ؛ وجواهر الأدب ص ٩٣ ؛ والدرر ٢ / ١٦٣ ؛ وشرح التصريح ١ / ٢١٢ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٥ ؛ ولسان العرب ١٢ / ٤٦١ (قثم) ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٣٣.

اللغة : بطن مكّة وباطنها : ما غمض منها وأطمأن ، سهلها وحزنها ورياضها. المقشعر : المرتعد المرتجف. هشام : هو هشام بن المغيرة المخزومي.

المعنى : ارتجفت سهول مكة ورياضها حزنا على فقيدها ، فهي قد خلت من هشام بن المغيرة.

الإعراب : فأصبح : «الفاء» : للاستئناف ، «أصبح» : فعل ماض ناقص. بطن : اسم (أصبح) مرفوع بالضمّة. مكة : مضاف إليه مجرور بالفتحة عوضا عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. مقشعرّا : خبر (أصبح) منصوب بالفتحة. كأنّ : حرف مشبّه بالفعل. الأرض : اسم (كأن) منصوب بالفتحة. ليس : فعل ماض ناقص. بها : جار ومجرور متعلّقان بخبر (ليس) المحذوف. هشام : اسم (ليس) مرفوع بالضمّة.

وجملة «فأصبح» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «كأن الأرض» : استئنافية لا محلّ لها. وجملة «ليس بها هشام» : في محلّ رفع خبر (كأن).

والشاهد فيه قوله : «كأن الأرض» حيث جاءت (كأن) لتفيد معنى التأكيد.

٤٥٣

وزعم بعض النحويين أنّها تكون تقريبا ، وذلك في نحو : «كأنّك بالشتاء مقبل» ، و «كأنّك بالفرج آت». ألا ترى أنّ المعنى على تقريب الشتاء ، وتقريب إتيان الفرج ، ولا يتصوّر التشبيه إذ لا يتصوّر أن يشبّه المخاطب بالشتاء ، ولا بالفرج إذ ليس المقصود ذلك.

والصحيح عندي أنّ «كأنّ» للتشبيه ، فكأنّك أردت أن تقول : كأنّ الفرج آت ، وكأنّ الشتاء مقبل ، إلّا أنّك أردت أن تدخل الكاف للخطاب وألغيت «كأنّ» لزوال اختصاصها بالجملة الاسمية لمّا لحقها اسم الخطاب ، كما ألغيت لمّا لحقها «ما» في نحو «كأنّما» ، لزوال الاختصاص ، وكذلك تلغى إذا لحقها ضمير المتكلم في نحو : «كأنّي بك تفعل» ، ألا ترى أنّها إذ ذاك تدخل على الجملة الفعلية التي هي تفعل.

والباء في «بالشتاء مقبل» ، زائدة ، وكأنه قال : «كأنّك الشتاء مقبل» ، أراد أن يقول : «كأنّ الشتاء مقبل» ، فألحق الكاف للخطاب وألغى «كأنّ» ، وزاد الباء في المبتدأ ، كما زيدت في «بحسبك زيد».

وأما من زعم أنّ ذلك على حذف مضاف والتقدير : كأنّ زمانك مقبل بالشتاء ، وذلك أنّه لما كان الشتاء قريب الوقوع جعل الزمان الحاضر في وقت الخطاب كأنّه مقبل به ، فمذهبه باطل ، لأنّ ذلك لا يطرد في كل موضع. ألا ترى أنّ ذلك لا يتصوّر في مثل : «كأنّي بك تفعل كذا» ، ألا ترى أنّه لا يتصوّر أن تقول : «كأنّ زماني بك تفعل كذا». فتقرّر إذن أنّها للتشبيه.

وهي عند النحويين مركبة من «إنّ» وكاف التشبيه. وذلك أن الأصل : «إنّ زيدا كقائم» ، فاعتني بحرف التشبيه وقدم على «أنّ» ، فلمّا خرجت عن الصدر فتحت فصار : «كأنّ زيدا قائم». ولا يتصوّر أن تكون الكاف دخلت على «أنّ» المفتوحة ، لأنّ المفتوحة مع صلتها بتقدير المصدر وليس كذلك : «كأنّ زيدا قائم».

والذي حمل على ادعاء التركيب فيها أنّه قد تقرر التشبيه بالكاف في نحو : «زيد كعمرو» ، ولم يتقرر بـ «إنّ» ، وإذا أمكن أن يكون التشبيه بالحرف الذي تقرر ذلك فيه كان أولى.

٤٥٤

[١١ ـ العطف على الاسم أو الخبر] :

وينبغي أن تعلم أنه لا يخلو أن تعطف في هذا الباب على الاسم أو على الخبر. فإن عطفت على الخبر كان المعطوف على حسب المعطوف عليه في الرفع ، نحو : «إنّ زيدا قائم وضاحك» ، و «كأنّ زيدا قاعد وضاحك».

وإن عطفت على الاسم فلا يخلو أن تعطف قبل الخبر أو بعده ، فإن عطفت قبل الخبر فالنصب ليس إلّا ، تقول : «إنّ زيدا وعمرا قائمان» ، وكذلك سائر أخوات «إنّ» إلّا فيما شذّ من ذلك ، فسمع فيه الرفع على الموضع ، فإنه يحفظ ولا يقاس عليه.

والذي سمع من ذلك : «إنّك وعمرو ذاهبان». فأما قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ ...) الآية (١). فإنّ من الناس من جعله من قبيل : «إنّك وزيد ذاهبان». فيكون قوله : والصابئون ، معطوفا على موضع اسم إنّ قبل دخولها فيكون من قبيل ما حمل فيه على المعنى قبل تمام الكلام ، ويكون قوله تعالى : «من آمن منهم» (٢) إلى آخر الآية جملة من شرط وجزاء في موضع خبر «إنّ».

فإن قيل : فكيف يقول : «من آمن منهم» ، والذين آمنوا لا يتصوّر التبعيض في حقّهم ، لأنّهم كلّهم مؤمنون؟ فالجواب : إنّه يتخرج ذلك على أن يكون معنى قوله : «من آمن منهم» ، من دام على الإيمان ، فيكون ذلك نظير قوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٣). ألا ترى أن نفس الإيمان والتوبة وعمل الصالحات هو الهدى ، فدلّ ذلك على أن المعنى : ثم دام على الهدى.

وقد يجوز في هذا الوجه أن يكون : «من آمن منهم» بدلا من قوله : «والصابئون والنصارى» ، كأنّه قال : إن الذين آمنوا والذين هادوا ومن آمن من الصابئين والنصارى ، أو يكون «فلهم أجرهم» جملة في موضع الخبر.

والصحيح أنّه لا ينبغي أن تحمل الآية على ذلك ما أمكن حملها على ما هو أحسن منه ، وقد يتصوّر ذلك بأن يكون خبر «إنّ» محذوفا ويكون اسم «إنّ» : «الذين آمنوا» ، كأنه قال : إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربّهم ، ويكون قوله : «والذين هادوا والصابئون

______________________

(١) المائدة : ٦٩.

(٢) المائدة : ٦٩.

(٣) طه : ٨٢.

٤٥٥

والنصارى» ، معطوفات عليه ، وقوله : «من آمن منهم» ، جملة في موضع الخبر. وهذا الوجه حسن جدّا لأنّه ليس فيه أكثر من حذف خبر «إنّ» لفهم المعنى وقد تقدم مجيء ذلك في فصيح الكلام.

وقد يتصوّر فيه آخر وإن كان دون هذا الوجه في الجودة. وهو أن تجعل «الصابئون» مبتدأ و «النصارى» معطوفا عليه ، والخبر محذوف ، ويكون «من آمن منهم بالله» ، إلى آخره في موضع خبر «إنّ» ، ويكون في هذا الوجه تقديم المعطوف على ما عطف عليه ، لأن قوله : «والصابئون والنصارى» ، على هذا جملة معطوفة على الجملة من «إنّ» واسمها وخبرها ، كما يجوز تقديم المعطوف على المعطوف عليه في نحو :

جمعت وفحشا غيبة ونميمة

 .......... (١)

فكذلك يجوز تقديمه على بعض المعطوف عليه إلّا أنّ هذا الوجه ضعيف لما فيه من الفصل بين اسم «إنّ» وخبرها.

هذا مذهب البصريين. وزعم الكسائي ومن أخذ بمذهبه من أهل الكوفة أن هذه الحروف تنقسم قسمين : قسم لا يجوز فيه إلّا العطف على اللفظ وهو «أنّ» و «كأنّ» ، و «ليت» و «لعلّ». تقول : «كأنّ زيدا وعمرا قائمان» ، و «كأنّ زيدا وبكرا ذاهبان».

ولا يجوز الرفع ، و «يعجبني أن زيدا وعمرا منطلقان» ، و «ليت زيدا وعبد الله خارجان» ، و «لعلّ عبد الله وبكرا ذاهبان» ، ولا يجوز في شيء من ذلك الرفع ، لأن هذه الحروف قد غيّرت معنى الابتداء وحكمه كما تقدم.

وقسم يجوز فيه العطف على اللفظ وعلى الموضع ، فتقول : «إنّ زيدا وعمرا قائمان» ، و «لكنّ زيدا وعمرا ذاهبان» ، وإن شئت رفعت «عمرا» قياسا على قولهم : «إنّك وعمرو ذاهبان» لأنّ «لكنّ» بمنزلة «إنّ» في أنّها لم تغيّر معنى الخبر كـ «ليت» ، ولا صيّرت الجملة بتقدير مفرد مثل «أنّ».

ومذهب الفراء كمذهب الكسائيّ في كلّ شيء إلّا أنّه لا يجوز عنده الرفع في العطف على اسم «إنّ» و «لكنّ» إلّا إذا لم يظهر الإعراب في الاسم ، لأنّه لم يسمع من كلامهم الرفع

______________________

(١) تقدم بالرقم ١٤٣.

٤٥٦

في المعطوف إلا حيث لا يظهر الإعراب في المعطوف عليه ، وهو : «إنّك وعمرو ذاهبان».

والسبب في ذلك من طريق القياس أنّ الأول إذا لم يظهر فيه الإعراب سهل مخالفة الثاني المعطوف عليه له ، وإذا كان الأول معربا ظهر قبح المخالفة. وذلك عندنا باطل ، ظهر الإعراب أو لم يظهر ، وذلك أن الحمل على الموضع لا ينقاس إلا حيث يكون الموضع مجرورا ، نحو : «ليس زيد بقائم ولا قاعد». ألا ترى أن قولك : «بقائم» في موضع نصب بـ «ليس» ، والناصب هو «ليس» ولم يذهب. وإذا قلت : «إن زيدا قائم» ، المعنى : زيد قائم ، إلّا أن الرافع لزيد إنّما كان التعري وقد ذهب. وأيضا فإنّ الحمل على المعنى إنّما يكون بعد تمام الكلام ، فتقول مثلا : «إن زيدا قائم وعمرو» ، لأن معنى «إن زيدا قائم» : زيد قائم.

وأما «إنّ زيدا وعمرو قائمان» فلا ينبغي أن يجوز ، لأن «إن زيدا» لا معنى له ، فلا يتصور الحمل على المعنى قبل حصوله.

وينبغي أن تعلم أنك إذا عطفت على اسم «إنّ» وأخواتها فإنّه ينبغي أن يكون الخبر على حسب المعطوف والمعطوف عليه ، فتقول : «إن زيدا وعمرا قائمان» ، ولا يجوز : قائم ، إلّا حيث سمع ، وذلك نحو قوله [من الخفيف] :

إن شرخ الشباب والشعر الأسود

ما لم يعاص كان جنونا (١)

يريد : ما لم يعاصيا. وكذلك قول الآخر [من الوافر] :

٣١٣ ـ فمن يك سائلا عنّي فإنّي

وجروة لا ترود ولا تعار

______________________

(١) تقدم بالرقم ١٤٩.

٣١٣ ـ التخريج : البيت لشداد بن معاوية (والد عنترة) في الأغاني ١٧ / ١٣٩ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٥٧ ؛ والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٦ ؛ والكتاب ١ / ٣٠٢ ؛ ولسان العرب ١٤ / ١٤٠ (جرا) ؛ ولعنترة أو لوالده في ديوان عنترة ص ٣٠٩ ؛ ولزيد الخيل في ديوانه ص ١٠٤ ؛ وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٩٤.

اللغة : ترود : تذهب وتجيء. جروة : اسم فرس الشاعر. تعار : تطلب للتداول.

المعنى : أقول لمن يسأل عني : أنا وفرسي (جروة) لا نذهب ولا نجيء طلبا للمأكل ، ولا نرتهن لأحد يطلبنا استعارة حين يشاء. ـ

٤٥٧

وكان ينبغي أن يقول : لا نرود ولا نعار ، فيكنّي بالنون عن نفسه وعنها. وكذلك قول الآخر [من الطويل] :

٣١٤ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

كان ينبغي أن يقول : لغريبان.

فأكثر النحويين جعل هذا من المحذوف للدلالة ، فكأنّه قال : إن شرخ الشباب ما لم يعاص والشعر الأسود ما لم يعاص ، فحذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه ، وكأنّه قال : فإنّه لغريب وقيّار بها لغريب ، ولما كان باب الحذف أن يكون من الثاني لدلالة الأول عليه

______________________

ـ الإعراب : فمن : «الفاء» : بحسب ما قبلها ، «من» : اسم شرط جازم في محلّ رفع مبتدأ. يك : فعل مضارع ناقص مجزوم بالسكون المقدّر على النون المحذوفة ، و «اسمه» : ضمير مستتر تقديره (هو). سائلا : خبر (يكن) منصوب بالفتحة. عني : جار ومجرور متعلّقان بـ (سائلا). فإني : «الفاء» : رابطة لجواب الشرط ، «إن» : حرف مشبّه بالفعل ، و «الياء» : ضمير متصل في محلّ نصب اسم (إن). وجروة : «الواو» : حرف عطف ، «جروة» : معطوف على (ياء المتكلم) في (فإني) منصوب بالفتحة ، ويصحّ القول : إنّ (الواو) للمعية ، و (جروة) : مفعول معه منصوب بالفتحة. لا ترود : «لا» : حرف نفي ، «ترود» : فعل مضارع مرفوع بالضمّة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هي). ولا تعار : «الواو» : للعطف ، «لا» : للنفي ، «تعار» : فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بالضمّة ، و «نائب الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هي).

وجملة «من يك ... فإني ...» : بحسب الفاء. وجملة «يك سائلا» : في محل رفع خبر المبتدأ. وجملة «فإني ...» : في محلّ جزم جواب الشرط. وجملة «لا ترود» : في محلّ رفع خبر (إني). وجملة «لا تعار» : معطوفة عليها في محلّ رفع خبر.

والشاهد فيه قوله : «فإني وجروة لا ترود ولا تعار» حيث جاء بالفعلين (ترود) و (تعار) مفردين مؤنّثين ، علما أنّ الحديث على مثنى (هو وجروة).

٣١٤ ـ التخريج : البيت لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيّات ص ١٨٤ ؛ والإنصاف ص ٩٤ ؛ وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، ١٠ / ٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣٢٠ ؛ والدرر ٦ / ١٨٢ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ؛ وشرح التصريح ١ / ٢٢٨ ؛ وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧ ؛ وشرح المفصل ٨ / ٨٦ ؛ والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ؛ والكتاب ١ / ٧٥ ؛ ولسان العرب ٥ / ١٢٥ (قير) ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٣ ؛ ورصف المباني ص ٢٦٧ ؛ وسر صناعة الإعراب ص ٣٧٢ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ؛ ومجالس ثعلب ص ٣١٦ ، ٥٩٨ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ١٤٤.

شرح المفردات : الرحل : الإقامة. القيّار : هو صاحب القير أي الزفت ، وقيل هنا اسم راحلته.

المعنى : يقول : إنّ من كانت إقامته في المدينة كان غريبا فيها هو وراحلته.

الإعراب : «فمن» : الفاء بحسب ما قبلها ، «من» : اسم شرط جازم في محلّ رفع مبتدأ. «يك» : فعل مضارع ناقص مجزوم لأنّه فعل الشرط ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره : «هو». «أمسى» : فعل ماض ـ

٤٥٨

وكان هنا بالعكس ، لم ينقس. وكذلك ما جاء من هذا.

وأما الفارسي فلم يحمل شيئا من هذا على الحذف بل حمله على أن يكون من باب ما أخبر فيه عن الاثنين لتلازمهما إخبار الواحد. ألا ترى أن «شرخ الشباب» ملازم للشعر الأسود ، وكذلك جعل نفسه مع «قيّار» متلازمين ، وكذلك جعل الآخر نفسه مع «جروة» إشارة لكثرة ملازمة الأسفار. وكأن الذي حمله على ذلك أن ما حفظه من هذا إنّما جاء في الشيئين المتلازمين ، فيكون من باب قوله [من الكامل] :

فكأنّ في العينين حبّ قرنفل

أو سنبلا كحلت به فانهلّت (١)

وقوله :

 ..............

بها العينان تنهلّ (٢)

وقوله :

ولو رضيت يداي بها وضنّت

لكان عليّ للقدر الخيار (٣)

ألا ترى أن الإخبار جاء في هذه الأبيات عن «اليدين» و «العينين» كالإخبار عن الواحد لتلازمهما.

وأما أهل الكوفة فيجعلون هذا مقيسا على أن تكون الواو بمعنى «مع» ، فإذا قلت : «إنّ

______________________

ـ ناقص. «بالمدينة» : جار ومجرور متعلّقان بخبر «أمسى» المحذوف. «رحله» : اسم «أمسى» مرفوع ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل مبنيّ في محلّ جرّ بالإضافة. «فإني» : الفاء رابطة جواب الشرط ، «إني» : حرف مشبّه بالفعل ، والياء ضمير في محلّ نصب اسم «إنّ». «وقيار» : الواو حرف عطف ، «قيّار» : مبتدأ مرفوع بالضمّة خبره محذوف دلّ عليه خبر «إن». «بها» : جار ومجرور متعلّقان بـ «غريب». «لغريب» : اللام المزحلقة ، «غريب» خبر إنّ مرفوع بالضمّة وخبر «قيار» محذوف.

وجملة : «من يك ...» بحسب ما قبلها. وجملة : «يك ...» في محلّ رفع خبر المبتدأ «من».

وجملة : «أمسى بالمدينة رحله» في محل نصب خبر «يك». وجملة : «إني لغريب» في محلّ جزم جواب الشرط. وجملة «قيار ...» اعتراضية لا محل لها من الإعراب.

الشاهد فيه قوله : «لغريب» حيث كان ينبغي أن يقول : «لغريبان».

(١) تقدم بالرقم ١٧٩.

(٢) تقدم بالرقم ١٧٨.

(٣) تقدم بالرقم ١٧٧.

٤٥٩

زيدا وعمرا قائم» ، فكأنّك قلت : «إنّ زيدا مع عمرو قائم» ، فليس ما يخبر عنه إلا اسم واحد ، ولو أردت العطف عندهم لم يجز إلا أن تثنّي الخبر ، فتقول : قائمان ، واستدلّوا على ذلك بقول الشاعر [من الوافر] :

٣١٥ ـ فإنّك والكتاب إلى عليّ

كدابغة وقد حلم الأديم

ألا ترى أن «كدابغة» لا يكون خبرا إلّا عن الكاف ، فلو أخبر عن المعطوف والمعطوف عليه ، لقال : كدابغة ودبغها ، فيشبّه الكاتب بالدابغة والكتاب بالدبغ ، لكنّه لمّا لم يرد بالواو إلا معنى «مع» ، لم يخبر إلّا عن الاسم الأول. وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون التقدير : كدابغة ودبغها ، فحذف حرف العطف والمعطوف ، فيكون كقولهم : «راكب الناقة طليحان» ، تقديره : راكب الناقة والناقة طليحان.

والصحيح أن الواو وإن كانت بمعنى «مع» ، فإنّها تعطي أن ما بعدها شريك لما قبلها في المعنى ، فلا فرق بينها وبين العاطفة في التشريك ، فينبغي أن يكون الخبر عن الاسمين. ويدلّ على أنّ واو «مع» في ذلك بمنزلة العاطفة ما حكي من قول العرب : «كان زيد وعمرا كالأخوين» ، ألا ترى أن الواو هنا بمنزلة «مع» بدليل نصب ما بعدها ، والخبر بعد ذلك عن

______________________

٣١٥ ـ التخريج : البيت للوليد بن عقبة بن أبي عقبة في ديوانه ص ٧٠ ؛ ولسان العرب ١٢ / ١٤٧ (حلم) ؛ وجمهرة اللغة ص ٥٦٥ ؛ وديوان الأدب ٢ / ٢٥٠ ؛ وتاج العروس (أدم) ؛ وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٥ / ١٠٧ ؛ ومقاييس اللغة ٢ / ٩٣ ؛ ومجمل اللغة ٢ / ١٠٢ ؛ والمخصص ٤ / ١٠٨.

اللغة : الكتاب : الرسالة. عليّ : هو الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. الدابغة : من تقوم بحرفة الدباغة وهي تلوين الجلد. حلم الأديم : فسد الجلد وتثقّب.

المعنى : لا فائدة من كتابة رسالة للإمام عليّ ، فإنّك ورسالتك تشبهان دابغا لجلد فاسد ، فهو لن يحصل على نتيجة مرضية.

الإعراب : فإنك : «الفاء» : حسب ما قبلها ، «إنك» : حرف مشبّه بالفعل ، و «الكاف» : ضمير متصل في محلّ نصب اسم (إنّ). والكتاب : «الواو» : واو المعيّة ، «الكتاب» : مفعول معه منصوب بالفتحة ، أو معطوف على (الكاف) في «فإنك». إلى عليّ : جار ومجرور متعلقان بحال محذوفة لـ (الكتاب). كدابغة : «الكاف» : اسم بمعنى مثل مبني على الفتح في محل رفع خبر (إنّ) ، و (دابغة) مضاف إليه. وقد : «الواو» : واو الحال (حالية) ، «قد» : حرف تحقيق. حلم : فعل ماض مبني على الفتح. الأديم : فاعل مرفوع بالضمة.

وجملة «فإنك ... كدابغة» : بحسب ما قبلها. وجملة «قد حلم الأديم» : في محلّ نصب حال.

والشاهد فيه قوله : «كدابغة» حيث جاء بالخبر مفردا بينما يتحدّث عن مثنى (الكاف والكتاب) ، على اعتبار أنّ (الواو) هنا بمعنى (مع).

٤٦٠