شرح جمل الزجّاجى - ج ١

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »

شرح جمل الزجّاجى - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن مؤمن بن محمّد بن علي ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي « ابن عصفور »


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2263-0
ISBN الدورة:
2-7451-2263-0

الصفحات: ٥٨٤

واستدلّ على ذلك بأنّك لو قلت : «إنّما الميت من يعيش» ، كان خلفا ، لكن أخذ التمام فيها بالنظر إلى اللفظ لا إلى المعنى.

وهذا الذي ذهب إليه باطل ، بل لو أسقطت الحال ، لكان هذا الكلام تامّا على معنى ما ، ألا ترى أنّك لو قلت : «هذا زمان إنّما الميت فيه يعيش» ، تشير بذلك إلى فساده ، كان كلاما مستقلّا.

ومثال مجيئها بعد معرفة : «أقبل عبد الله باكيا» ، فعبد الله معرفة. والذي يقارب المعرفة النكرة الموصوفة «وأفعل من».

أما النكرة الموصوفة فوجه قربها من المعرفة اختصاصها بالصفة وأمّا «أفعل من» فوجه قربها من المعرفة اختصاصها ، ولذلك لم تقبل الألف واللام ، ومن ذلك قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) (١).

ولا تجيء الحال من نكرة غير مقاربة للمعرفة وهي متأخّرة عنها إلّا حيث سمع ، ولا يقاس على شيء من ذلك ، والذي سمع من ذلك : «وقع أمر فجأة» ، و «مررت بماء قعدة رجل» (٢).

فإن تقدّمت الحال على صاحبها جازت من معرفة ، نحو : «جاء ضاحكا زيد» ، ومن نكرة ، نحو : «جاء ضاحكا رجل» ، لأنّها لا تكون صفة ، لأنّ الصفة لا تتقدّم على الموصوف ، فلزم النصب.

______________________

ـ والهاء ضمير متّصل مبنيّ في محلّ جرّ بالإضافة. قليل : حال ثالثة منصوبة ، وهو مضاف. الرجاء : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

جملة «يعيش» صلة الموصول لا محلّ لها من الإعراب.

الشاهد فيه قوله : «الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء» فإنّ هذه الأحوال (كئيبا ، كاسفا باله ، قليل الرجاء) لا يستغني الكلام عنها ، لأنها إذا أسقطت صار الكلام : «إنما الميت من يعيش» ، وفي هذا تناقض. ويروى البيت باستبدال كلمة «الرخاء» أو «الغناء» بكلمة «الرجاء».

(١) الدخان : ٤ ـ ٥.

(٢) أي : مقدار ما أخذ من الأرض قعوده.

٣٢١

باب الابتداء

[١ ـ تعريف الابتداء] :

الابتداء هو جعل الاسم أوّل الكلام لفظا أو تقديرا ، معرّى من العوامل اللفظية لتخبر عنه.

فمثال جعله في أول الكلام لفظا : «زيد قائم» ، ومثال جعله أولا تقديرا : «أقائم زيد»؟ ، فـ «زيد» وإن كان مؤخّرا في اللفظ فهو مقدّم في التقدير. والمبتدأ هو الاسم المجعول في أول الكلام لفظا أو نيّة.

والخبر هو الجزء المستفاد من الجملة ، وذلك أنّك إذا قلت : «زيد قائم» ، فإنّ المستفاد من هذه الجملة إنّما هو الإخبار عن زيد بالقيام.

[٢ ـ شروط الابتداء بالنكرة] :

والمبتدأ لا يكون إلّا معرفة ولا يكون نكرة إلّا بشروط وهي :

أن تكون النكرة موصوفة ، نحو قوله تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) (١).

أو مقاربة للمعرفة وهي «أفعل من» ، نحو : «أفضل من زيد ضاحك» ، و «خير من عمر خارج» ، ومقاربته للمعرفة في كونه لا يقبل الألف واللام ، لا تقول : «الأفضل من زيد».

______________________

(١) البقرة : ٢٢١.

٣٢٢

أو تتقدمها أداة استفهام ، نحو قولك : «أرجل في الدار أم امرأة»؟ أو أداة نفي ، نحو : «ما أحد قائم» ؛ أو تكون النكرة في معنى الدعاء ، نحو قوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١). أي : سلام الله على آل ياسين ؛ أو يكون في الكلام معنى التعجب ، نحو : «ما أحسن زيدا» ، في مذهب سيبويه ، و «عجب لزيد».

أو يكون الكلام بها في معنى كلام آخر ، وذلك لا يحفظ إلّا في : «شرّ أهرّ ذا ناب» (٢) ، و «شيء ما جاء بك» ، لأنّ المعنى : ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ ، وما جاء بك إلّا شيء ، أو تكون النكرة عامّة ، نحو قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣). أو يتقدّمها خبرها بشرط أن يكون ظرفا أو مجرورا ، نحو قولك : «في الدار رجل» ، و «عندك امرأة» ، أو تكون النكرة في جواب من سأل بالهمزة و «أم» ، نحو قوله : «رجل» ، في جواب من قال : «أرجل عندك أم امرأة»؟ وذلك أنّ الجواب هنا لا يكون إلا بأحد الاسمين.

وزاد أهل الكوفة في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون خلفا من موصوفها ، أي : صفة في الأصل قد خلفت موصوفها ، نحو : «مؤمن خير من مشرك» ، لأنّه في معنى : عبد مؤمن خير من عبد مشرك.

وزاد الأخفش في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون في معنى الفعل ، نحو : «قائم زيد» ، على أن يكون قائم «مبتدأ» و «زيد» فاعل وقد سدّ الفاعل مسدّ الخبر. ويكون على هذا مفردا على كلّ حال ، فتقول : «قائم الزيدان» ، و «قائم الزيدون». ويستدلّ على ذلك بقراءة من قرأ : ودانية عليهم ظلالها (٤) ، برفع التاء. فـ «دانية» عنده مبتدأ و «ظلالها» فاعل به وقد سدّ مسدّ خبره.

وذلك لا دليل فيه ، لاحتمال أن تكون «دانية» خبرا مقدما و «ظلالها» مبتدأ. وهو أيضا في القياس غير صحيح ، لأنّ اسم الفاعل إذا ثبت أنّه أجري مجرى الفعل في عمله فلا يلزم

______________________

(١) الصافات : ١٣٠.

(٢) هذا القول من أمثال العرب ، وقد ورد في خزانة الأدب ٤ / ٤٦٩ ، ٩ / ٢٦٢ ؛ وزهر الأكم ٣ / ٢٢٩ ؛ ولسان العرب ٥ / ٢٦١ (هرر) ؛ والمستقصى ٢ / ١٣٠ ؛ ومجمع الأمثال ١ / ٣٧٠. وذو الناب : الكلب.

وأهرّ الكلب : جعله يهرّ ، أي : جعله يصوّت دون أن ينبح. يضرب عند ظهور أمارات الشرّ.

(٣) الروم : ٣٢.

(٤) الدهر : ١٤.

٣٢٣

أن يجرى مجرى الفعل في وقوعه أول الكلام والابتداء به ، فلا بد من دليل آخر يدلّ على ذلك.

وأما ما أجازه أهل الكوفة من الابتداء بالنكرة إذا كانت خلفا فحسن جدا.

وينبغي عندي أن يزاد في شروط الابتداء بالنكرة أن يكون الموضع موضع تفصيل ، نحو قوله [من الطويل] :

٢٢٧ ـ [إذا ما بكى من خلفها انصرفت له]

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل

فـ «شقّ» الثاني مبتدأ ، و «عندنا» في موضع الخبر ، و «لم يحوّل» خبر ثان في معنى الأول. فإنّما جاز الابتداء بـ «شقّ» الثاني وإن كان نكرة ، للتفصيل ، لأنّه في تقدير : والشقّ الآخر عندنا. فإن قيل : فلم لا يكون «شق» مبتدأ و «عندنا» في موضع الصفة ولم يحوّل في موضع الخبر ، ولا يحتاج إلى إثبات الابتداء بالنكرة في موضع التفصيل؟ فالجواب : إنّ ذلك لا يجوز لأنّ الخبر ينبغي أن يعطي ما لا يعطيه المبتدأ ، وأنت إذا جعلت و «شقّ عندنا» مبتدأ

______________________

٢٢٧ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ١٢ ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣١٦.

اللغة : انصرفت : انحرفت ومالت. الشقّ : النصف من كلّ شيء. يحوّل : ينتقل عن موضعه.

المعنى : يتابع وصف مغامراته العاطفية ، فيقول إنه لها بامرأة مرضع ، بكى رضيعها فمالت إليه بنصفها ترضعه ، وبقيت له بنصفها الثاني الذي لم يغيّر موضعه.

الإعراب : إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان مبني على السكون في محل نصب متضمن معنى الشرط متعلق بالفعل (انصرفت). ما بكى : «ما» : زائدة ، «بكى» : فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). من خلفها : جار ومجرور متعلّقان بـ (بكى) ، و «ها» : ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه. انصرفت : فعل ماض مبني على الفتح ، و «التاء» : للتأنيث ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). له : جار ومجرور متعلّقان بـ (انصرفت). بشق : جار ومجرور متعلّقان بـ (انصرفت). وشق : «الواو» : حالية ، «شق» : مبتدأ مرفوع بالضمّة. عندنا : مفعول فيه ظرف مكان منصوب بالفتحة ، و «نا» : ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه ، والظرف متعلّق بالخبر المحذوف ، وهو الخبر على رأي من يجيزون وقوع الظرف والجار والمجرور خبرا. لم يحوّل : «لم» : حرف جزم وقلب ونفي ، «يحوّل» : فعل مضارع للمجهول مجزوم ، و «نائب الفاعل» : ضمير مستتر تقديره : (هو).

وجملة «إذا ما بكى ... انصرفت» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «بكى» : في محلّ جرّ بالإضافة. وجملة «انصرفت له» : جواب شرط غير جازم لا محلّ لها. وجملة «شق عندنا» : في محلّ نصب حال. وجملة «لم يحوّل» : في محل رفع خبر ثان لـ (شق).

والشاهد فيه قوله : «وشق عندنا» حيث جاء المبتدأ نكرة ، وسوّغ الابتداء بها أنها جاءت للتفصيل.

٣٢٤

كان معنى «لم يحوّل» مفهوما منه ، ألا ترى أنّ معنى «عندنا» ومعنى «لم يحوّل» واحد.

كذلك ينبغي أن يزاد في شروط الابتداء بالنكرة أن تكون النكرة لا تراد بعينها ، نحو : «رجل خير من امرأة» ، تريد : رجل واحد من هذا الجنس ، أي : واحد من جنس الرجال هو خير من كلّ واحد من جنس النساء ، إلّا أنّ معناه يؤول إلى العموم ، إلّا أنّه يخالف العموم في أنّه يدلّ على كلّ واحد من جهة البدل أعني أنّه لا يتناول الجميع في دفعة واحدة ، و «كلّ» يتناول الجميع دفعة واحدة.

ولا يجوز الابتداء بالنكرة من غير شرط من هذه الشروط أصلا ، ولا في ضرورة ، لأنّ الابتداء بالنكرة إنّما امتنع لأنّه غير مفيد ، وهو بالإضافة إلى الكلام والشعر واحد ، وأمّا قوله [من المتقارب] :

٢٢٨ ـ مرسّعة بين أرساغه

به عسم يبتغي أرنبا

فإنّما جاز ذلك لأنّ النكرة هاهنا لا تراد لعينها ، ألا ترى أنّه لا يريد مرسّعة دون مرسّعة. بخلاف قوله : «رجل قائم» ألا ترى أنّ «رجلا» هاهنا لا يقع إلا على الذي يقع منه

______________________

٢٢٨ ـ التخريج : البيت لامرىء القيس في ديوانه ص ١٢٨ ؛ وإنباه الرواة ٤ / ١٧٤ ؛ ولسان العرب ٨ / ١٢٣ ، ١٢٤ (رسع) ، ٨ / ٣١٨ (لسع) ، ١٢ / ٤٠١ (عسم) ، ؛ ومجالس ثعلب ١ / ١٠٢ ؛ والمعاني الكبير ص ٢١١ ؛ وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ص ٧٣ ؛ وشرح الأشموني ص ٩٨ ؛ وشرح المفصل ١ / ٣٦.

اللغة : المرسّعة : التعويذة التي تعلّق بين الكوع والكرسوع مخافة العطب. الرسغ : المفصل بين الكفّ والساعد. العسم : اليبس أو الاعوجاج في الرسغ.

المعنى : يخاطب الشاعر في بيت سابق أخته ، ويطلب منها أن لا تتزوّج رجلا جبانا ، يضع التعاويذ خوف العطب ، ويقعد عن الحروب ، وفي رسغه يبس ، يبحث عن الأرانب ليتّخذ من كعابها تمائم. لأنّ العرب كانت تزعم أنّ كعاب الأرانب تبعد أذيّة السحرة والجنّ.

الإعراب : «مرسّعة» : مبتدأ مرفوع. «بين» : ظرف مكان منصوب ، متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ ، وهو مضاف. «أرساغه» : مضاف إليه مجرور ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. «به» : جار ومجرور متعلّقان بخبر المبتدأ المحذوف. «عسم» : مبتدأ مؤخّر مرفوع. «يبتغي» : فعل مضارع مرفوع ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : «هو». «أرنبا» : مفعول به منصوب بالفتحة.

وجملة : «مرسّعة بين أرساغه» في محلّ نصب نعت «بوهة» في البيت السابق. وجملة «به عسم» في محل نصب نعت «بوهة». وجملة «يبتغي أرنبا» في محلّ نصب نعت «بوهة».

الشاهد فيه قوله : «مرسّعة» حيث أتت مبتدأ وهي نكرة ، وذلك لأنّها مبهمة.

٣٢٥

القيام خاصة. وقول من قال : «إنّما جاز ذلك في الضرورة» فاسد لأنّه ليس من أحكام الضرائر أن يجوز بسببها الكلام الذي لا يفيد.

وأما سيبويه فلم يشترط في الابتداء بالنكرة أكثر من شرط واحد وهو أن يكون في الإخبار عنها فائدة ، لكن النحويين تتبعوا المواضع التي يكون الإخبار فيها عن النكرة مفيدا فوجدوا ذلك منحصرا فيما ذكرنا.

إلّا أنّه يدخل على سيبويه إجازة مثل «رجل في الدار» ، لأنّ فائدته وفائدة : «في الدار رجل» ، واحدة ، وهو مع تقديم الظرف جائز فينبغي أن يجوز مع تأخيره ، وقد أجمع النحويّون قاطبة على أنّ ذلك لا يجوز ، وأنّه ليس بمسموع من كلام العرب. وإنّما لم يجز ذلك وإن كان فيها فائدة لما علل به الكسائي من اللبس. وذلك أنّك لو قلت : «رجل في الدار» ، لم يعلم هل المجرور صفة أو خبر ، لأنّ النكرة إذا جاء بعدها الظرف والمجرور فينبغي أن يحملا على الصفة لأنّ النكرة لإبهامها محتاجة إلى النعت.

فإن قيل : فينبغي على هذا أن لا يجوز : «زيد القائم» ، لئلا يؤدّي إلى اللبس ، لأنّه يحتمل أن يكون «القائم» نعتا ، فالجواب : إنّ النكرة أحوج إلى النعت من المعرفة فلذلك كان اللبس إليها أسرع منه إلى غيرها.

وقد يجوز على هذا أن يدخل في امتناع «رجل في الدار» بحث عموم قول سيبويه : إنّه لا يخبر عن النكرة إلا حيث يكون في الإخبار عنها فائدة ، لأنه إذا أدّى إلى اللبس صار غير مفيد ، لأنّه لا يعلم المراد به.

[٣ ـ أقسام الخبر] :

وأما الخبر فينقسم قسمين : مفرد وجملة. فالمفرد ينقسم ثلاثة أقسام : قسم هو الأول نحو : «زيد قائم» ، فزيد هو القائم والقائم زيد.

وقسم منزّل منزلة الأول ، نحو : «زيد زهير شعرا» ، فزيد ليس هو بزهير ولكنه مشبه به ومنزل منزلته.

وقسم موضوع موضع ما هو الأول ، نحو : «زيد عندك» ، و «زيد في الدار».

٣٢٦

وكذلك سائر الظروف والمجرورات ، ألا ترى أنّ «عندك» ليس بزيد ، وكذلك «في الدار» ليس أيضا بزيد. لكنهما نزّلا منزلة «كائن» و «مستقر» الذي هو الأول.

وفي جعل الظروف والمجرورات من حيّز المفردات خلاف ، فمنهم من ذهب إلى أنّها من حيّز الجمل ، واستدلّ على ذلك بوصل المرصولات بهما ، نحو : «جاءني الذي عندك ، والذي في الدار» ، والموصولات لا توصل إلا بالجمل. ومنهم من ذهب إلى أنه يجوز فيهما أن يكونا من حيّز الجمل وأن يكونا من حيّز المفردات وجعل ذلك على حسب العامل فيهما الذي نابا منابه ، فإذا قلت : «زيد في الدار» ، إن قدّرت أصل المسألة : «زيد مستقرّ في الدار» ، كان من حيّز المفردات لنيابته مناب المفرد ، وإن قدّرت أصل المسألة : «زيد استقرّ في الدار» ، كان من حيّز الجملة لنيابته مناب الجملة.

ومنهم من جعله قسما برأسه ليس من حيّز الجمل ولا من حيّز المفردات ، وهو مذهب أبي بكر بن السراج. واستدل على ذلك بأنك تقول : «إنّ في الدار زيدا» ، ولو كان بمنزلة «مستقرّ» أو «استقرّ» ، لم يجز تقديمه على اسم «إنّ» كما لا يجوز تقديمها عليه ، حكى ذلك عنه الفارسي في الشيرازيات (١) ، والصحيح أنّه من قبيل المفردات لأنه لا يحتمل الصدق والكذب.

وأما الجمل فتنقسم قسمين : اسمية وفعلية ، فالاسميّة هي جملة المبتدأ والخبر أو ما أصله المبتدأ والخبر بشرط أن يكون الناسخ للابتداء الحرف. والفعلية هي الجملة التي صدرها الفعل.

ويشترط في الجملة أن يكون فيها ضمير يعود على المبتدأ ، نحو : «زيد أبوه قائم» ، أو تكرار المبتدأ ، نحو : «زيد قائم زيد» ، ومنه قوله [من الكامل] :

٢٢٩ ـ ليت الغراب غداة ينعب دائما

كان الغراب مقطّع الأوداج

______________________

(١) هي المسائل التي كتبها الفارسيّ وهو في شيراز.

٢٢٩ ـ التخريج : البيت لجرير في ديوانه ١ / ١٣٦.

اللغة : ينعب : يصيح. الأوداج : جمع ودج وهو عرق في العنق. ـ

٣٢٧

أو إشارة إلى المبتدأ ، ومنه قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) (١). في قراءة من رفع «لباسا» ، كأنّه قال : هو خير منه. ومنه قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢). أي : إنّ صبره.

أو تكون الجملة هي المبتدأ في المعنى ، نحو قولك : هجّيري أبي بكر لا إله إلّا الله ، فلا إله إلّا الله هي الهجّيري ، ومنه : «هو زيد قائم» ، إذا جعلت الضمير ضمير الأمر والشأن.

أو تكون الجملة «نعم» وفاعلها و «بئس» وفاعلها ، نحو : «زيد نعم الرجل» ، و «زيد بئس الرجل» ، وسنذكر السبب في أن لم يحتج في ذلك إلى ضمير يعود على المبتدأ. وزاد أبو الحسن في الروابط أن يكون في الجملة اسم ظاهر هو المبتدأ في المعنى وإن لم يكن من لفظه ، نحو : «زيد قام أبو عمرو» ، إذا كان «أبو عمرو» كنية لـ «زيد». واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣). فـ «إنّ» وما بعدها خبر لـ «من» الأولى ولا ضمير فيها يعود عليها ، والمعنى عنده : فإنّ الله يضلّه. وبقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٤). فقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ ،) إلى آخر الآية جملة في موضع خبر «إنّ» الأولى وليس فيها ضمير يعود على اسم «إنّ» ، والتقدير : إنّا لا نضيع أجرهم.

______________________

ـ المعنى : يتمنى لو أن طيور الغربان التي تصيح دائما بفراق المحبّين ميتة ، مذبوحة الأعناق.

الإعراب : ليت : حرف مشبّه بالفعل. الغراب : اسم (ليت) منصوب بالفتحة. غداة : مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة متعلق بالفعل (كان) أو (مقطع). ينعب : فعل مضارع مرفوع بالضمة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هو). دائما : ظرف لاستغراق الزمان منصوب بالفتحة متعلق بالفعل (ينعب). كان : فعل ماض ناقص. الغراب : اسم (كان) مرفوع بالضمّة. مقطّع : خبر (كان) منصوب بالفتحة. الأوداج : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «ليت الغراب ... كان الغراب مطلع» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «ينعب» : في محلّ جرّ مضاف إليه. وجملة «كان الغراب مقطّع» : في محلّ رفع خبر (ليت).

والشاهد فيه قوله : «ليت الغراب ... كان الغراب» حيث تكرر اسم «ليت» وهو «الغراب» ، في جملة خبر «ليت».

(١) الأعراف : ٢٦.

(٢) الشورى : ٤٣.

(٣) فاطر : ٨.

(٤) الكهف : ٣٠.

٣٢٨

وهذا الذي استدلّ به لا حجة فيه. أمّا قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (١) ، فخبره محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وهو قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٢). فكأنّه في التقدير : أفمن زيّن له سوء عمله فله عذاب شديد أمّا من آمن وعمل صالحا فله مغفرة وأجر كبير ، فحذف لفهم المعنى ، ومثل ذلك في القرآن كثير ، وأما قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣) ، فجملة اعتراض وما بعده هو الخبر ، لكن ينبغي أن يجوز مثل هذا الذي ذهب إليه أبو الحسن من الاستغناء عن الضمير باسم ظاهر هو المبتدأ في المعنى كما جاز ذلك في الصلة ، فقد حكي من كلامهم : «أبو سعيد الذي رويت عن الخدريّ» ، والمعنى عنه ، ومنه : «الحجّاج الذي رأيت ابن يوسف» ، أي : الذي رأيته ، ومنه قوله [من الطويل] :

فيا ربّ ليلى أنت في كلّ موطن

وأنت الذي في رحمة الله أطمع (٤)

أي في رحمته ، إلّا أنّ ذلك قليل جدا.

وذهب بعض النحويين إلى أنّ هذه الجملة الواقعة موقع خبر المبتدأ يشترط فيها أن تكون محتملة للصدق والكذب ، فإذا وجد في كلامهم نحو : «زيد اضربه» ، و «زيد لا تضربه» ، حمله على إضمار القول ، تقديره : زيد أقول لك : اضربه ، أو أقول لك : لا تضربه ، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن السراج. والذي حمله على ذلك أنّ الجملة خبر للمبتدأ ، وحقيقة الخبر ما احتمل الصدق والكذب. وذلك فاسد ، لأنّا قد أجمعنا على أن خبر المبتدأ يكون مفردا وإن لم يحتمل الصدق والكذب ، فكذلك يسوغ في الجمل التي لا تحتمل الصدق والكذب أن تقع أخبارا للمبتدأ كما وقع المفرد ، ولا يحتاج إلى تكلّف إضمار القول ، فالخبر إذن لفظ يقال بالاشتراك.

فإن قيل : إنّ الخبر وإن لم يكن محتملا للصدق فإنّما ساغ جعله خبرا لكونه إذا قرن بالمبتدأ صار منهما كلام يحتمل الصدق والكذب ، والأمر والنهي ليسا كذلك ، ألا ترى أنّك

______________________

(١) فاطر : ٨.

(٢) فاطر : ٧.

(٣) الكهف : ٣٠.

(٤) تقدم بالرقم ٨٥.

٣٢٩

إذا قلت : «زيد قام» ، فإنّ ذلك يحتمل الصدق والكذب ، وليس كذلك : «زيد اضربه» ، و «زيد لا تضربه» ، وأمثالهما.

فالجواب : إنّ المفرد قد يكون خبرا وإن لم يكن منه مع المبتدأ كلام محتمل للصدق والكذب ، نحو : «أيّ رجل أخوك»؟ و «كيف زيد»؟ وأمثال ذلك.

وأما الظروف والمجرورات فيشترط فيها أن تكون تامة ، والتامة هي التي يكون في الإخبار بها فائدة. ولا بد من إعطاء قانون تعرف به ما السبب في أن كان بعض الظروف ناقصا وبعضها تامّا.

فالظروف كما تقدم لا تكون أخبارا إلّا بنيابتها مناب الخبر ، فينبغي أن تعلم أنّ الخبر لا يجوز حذفه وإقامة الظرف أو المجرور مقامه إلا إذا كان الحذف يفهم منه المحذوف ، وإلّا فلا بدّ من ذكر الخبر ، فعلى هذا يجوز أن تقول : «زيد في الدار» إذا أردت : «مستقرّ في الدار» ، لأنّ «في» للوعاء ، فمعناها موافق الاستقرار ، فلو قلت : «زيد في الدار» ، على معنى ضاحك في الدار لم يجز بل لا بدّ من الإتيان بـ «ضاحك» ، لأنّه لا يعلم من «في» أنّ المحذوف ضاحك كما يعلم منها الاستقرار وكذلك تقول : «زيد لك» ، إذا أردت مملوكا أو مستحقا لك ، لأنّ الملك والاستحقاق مفهوم من اللام ، ولو قلت : «زيد لك» ، تريد : محبّ لك ، لم يجز لأنّ ذلك لا يفهم من اللام. فإذا كان الحرف له معنى صالح مع كل شيء على السواء ، وليس هو في أحد المعاني أظهر من الآخر كان المجرور به أبدا ناقصا ، وذلك نحو : «زيد بك» ، لا يجوز لأنّه لا يعلم هل المراد : زيد واثق بك أو مسرور بك أو غير ذلك ، لأنّ الباء معناها الإلصاق ، فهي صالحة مع كل محذوف ، لأنّها تلزقه بالمجرور.

وأما الظروف فإنّ الذي يحذف معها أبدا الاستقرار ، وذلك أنّ كلّ ظرف فهو على تقدير «في» بدليل أنّك تردّها في ضمير الظرف ، فتقول : «يوم الجمعة قمت فيه» ، و «في» لا يحذف معها كما تقدّم إلّا الاستقرار أو ما في معناه ، فلذلك تقول : «زيد خلفك» ، إذا أردت : «مستقرّ خلفك» ، ولو أردت «ضاحكا» أو غيره لم يجز إلّا أن تأتي به ، ولذلك لم تكن ظروف الزمان أخبارا عن الجثث ، لأنّك لو قتل : «زيد اليوم» تريد : مستقرّ اليوم ، لم يكن مفيدا ، لأنّه معلوم أنّ كلّ موجود فإنّ «اليوم» يكون زمانا له ، لأنّ الجزء الواحد من الزمان يكون زمانا لجميع الموجودات ، وليس كذلك المكان.

٣٣٠

وكذلك لو كان الزمان مختصّا بوصف أو بغير ذلك من أنواع الاختصاص ، لم يقع خبرا للجثث لما ذكرنا من أنه لا فائدة فيه ، وما جاء من ذلك فمؤوّل ، فقد حكي من كلامهم : «اليوم خمر وغدا أمر» (١) ، ومن كلامهم أيضا : «الجباب شهرين ، والثلج شهرين» ، وقال الشاعر [من الرجز] :

٢٣٠ ـ أكلّ عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه

______________________

(١) هذا القول من أمثال العرب ، وقد ورد في أمثال العرب ص ١٢٧ ؛ وتمثال الأمثال ص ٣١٠ ؛ وجمهرة الأمثال ص ٢٧٢ ، ٤٣١ ؛ وجمهرة اللغة ص ٥٥٣ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٣٣٢ ، ٨ / ٣٥٦ ؛ والعقد الفريد ٣ / ٣٢٠ ؛ وكتاب الأمثال ص ٣٣٣ ؛ وكتاب الأمثال للسدوسي ص ٦٨ ؛ والمستقصى ١ / ٣٥٨ ؛ ومجمع الأمثال ٢ / ٤١٧ ، ٤٢١.

والمثل قاله امرؤ القيس حين أخبر بمقتل والده ، وهو يضرب في تنقّل الدهر بحالاته.

٢٣٠ ـ التخريج : الرجز لقيس بن حصين في خزانة الأدب ١ / ٤٠٩ ؛ والكتاب ١ / ١٢٩ ؛ ولصبي من بني سعد قيل إنه قيس بن الحصين في المقاصد النحوية ١ / ٥٢٩ ؛ ولرجل ضبي في الأغاني ١٦ / ٢٥٦ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٠٢ ؛ وتخليص الشواهد ص ١٩١ ؛ والرد على النحاة ص ١٢٠ ؛ ولسان العرب ١٢ / ٥٨٥ (نعم) ؛ واللمع في العربيّة ص ١١٣.

اللغة : النعم : الإبل والشّاء. تحوونه : تملكونه وتضمّونه. يلقحه : يجعله لاقحا حاملا. تنتجونه : تتولّون وضعه ؛ ونتجت الناقة إذا ولّدتها.

المعنى : أتضمّون الإبل والشاء في كل عام بعد ما سهر عليها قوم حتى غدت لواقح ، ثم تأتون أنتم فتولّدونها ؛ وهي إشارة إلى ما يستولون عليه في غاراتهم على الأقوام الأخرى.

الإعراب : «أكلّ» : «الهمزة» : حرف استفهام ، «كل» : ظرف زمان منصوب بالفتحة متعلق بمحذوف خبر مقدّم. «عام» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «نعم» : مبتدأ مؤخّر مرفوع بالضمّة. «تحوونه» : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. «يلقحه» : فعل مضارع مرفوع بالضمة ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. «قوم» : فاعل «يلقحه» مرفوع بالضمة. «وتنتجونه» : «الواو» : للعطف ، «تنتجون» : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به.

وجملة «أكلّ عام نعم» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «تحوونه» : في محلّ رفع صفة لـ «نعم». وجملة «يلقحه» : في محلّ رفع صفة لـ «نعم». وجملة «تنتجونه» : معطوفة على جملة في محلّ رفع.

الشاهد فيه قوله : «أكلّ عام نعم» حيث حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، والأصل «إحراز نعم» أو «حواية نعم».

٣٣١

وقال الآخر [من الطويل] :

٢٣١ ـ أفي كلّ عام مأتم تبعثونه

على محمر ثوّبتموه وما رضا

وذلك كله على حذف مضاف تقديره : «اليوم شرب خمر» ، و «لبس الجباب شهرين وشرب الثلج شهرين» ، و «أفي كلّ عام حدوث مأتم»؟ ، و «أكلّ عام أخذ نعم»؟ وكذلك إذا قلت : كان الحجّاج زمن ابن مروان ، تقديره : كان أمر الحجّاج زمن ابن مروان.

وإنّما جاز وقوع ظروف الزمان أخبارا عن المصادر ، نحو : «القتال اليوم» ، لأنّك قصدت أن تخبر بوقت القتال وهو وقت وقوعها ، وذاك قد يكون غير معلوم ، فيكون في الإخبار به فائدة.

فإن أردت بالإخبار بظرف الزمان عن وقت وقوع الجثث ، فقد آل المعنى إلى الإخبار عن المصدر ، لأنّ الوقوع من المصادر.

______________________

٢٣١ ـ التخريج : البيت لزيد الخيل الطائي في ديوانه ص ٦٧ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٤٩٣ ، ٥٠٠ ؛ والرد على النحاة ص ١٢٠ ؛ وسمط اللآلي ص ٤٩٦ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢١ ؛ والشعر والشعراء ١ / ٢٩٣ ؛ والكتاب ١ / ١٢٩ ، ٤ / ١٨٨ ؛ ولسان العرب ١٢ / ٤ (أتم) ؛ ونوادر أبي زيد ص ٨٠.

اللغة : المأتم : الجماعة من النساء يجتمعن لحزن أو فرح. فرس محمر : هجين يشبه الحمير. ثوبتموه : أعطيتموه أجرا وثوابا. رضا : أصلها رضي ، ثمّ قلبت الياء ألفا على لغة طيّىء لفتح ما قبلها.

المعنى : إنكم تجمعون نساء ليبكين في كل عام على فرس هجين جعلتموه جزاء لنا على معروف صنعناه لكم.

الإعراب : أفي كلّ : «الهمزة» : حرف استفهام ، «في كلّ» : جار ومجرور متعلّقان بالخبر المقدم المحذوف. عام : مضاف إليه مجرور بالكسرة. مأتم : مبتدأ مرفوع بالضمّة. تبعثونه : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة ، و «الواو» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. على محمر : جار ومجرور متعلّقان بـ (تبعثونه). ثوبتموه : «ثوّب» : فعل ماض مبني على السكون ، و «تم» : ضمير متصل في محلّ رفع فاعل ، و «الواو» : للإشباع ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. وما : «الواو» : حالية ، «ما» : نافية. رضا : فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف ، مبني للمجهول ، ونائب الفاعل : ضمير مستتر تقديره (هو).

وجملة «في كل عام مأتم» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «تبعثونه» : في محلّ رفع صفة لـ (مأتم). وجملة «ثوبتموه» : في محلّ جرّ صفة لـ (محمر). وجملة «ما رضا» : في محلّ نصب حال.

والشاهد في قوله : «في كل عام مأتم» حيث أخبر بـ (في كل عام) عن اسم العين «مأتم».

٣٣٢

[٤ ـ رابط الجملة الواقعة خبرا بالمبتدأ] :

وقد تقدم أنّ الجملة لا بدّ فيها من رابط يربطها بالمبتدأ ، وهو إمّا ضمير وإمّا اسم إشارة ، وإمّا تكرير المبتدأ بلفظه ، إلّا أن تكون الجملة «نعم» وفاعلها «وبئس» وفاعلها أو تكون هي المبتدأ في المعنى.

وأمّا المفرد فلا يخلو أن يكون ظرفا أو مجرورا أو غير ذلك ، فإن كان ظرفا أو مجرورا ، فإنّه يحتمل ضميرا مرفوعا عائدا على المبتدأ ، وذلك نحو : «زيد عندك» ، و «عمرو في الدار» ، ألا ترى أنّ التقدير كما تقدّم : عمرو مستقرّ في الدار ، وزيد كائن عندك. وفي «كائن» و «مستقرّ» ضمير عائد على المبتدأ ، فلمّا أنبت الظرف والمجرور منابهما تحمّلا الضمير الذي كان فيهما.

فإن كان غير ظرف ولا مجرور ، فلا يخلو أن يكون مشتقّا أو غير مشتق ، فإن كان غير مشتقّ لم يتحمّل ضميرا ، نحو : «هذا زيد» ، و «أخوك عمرو» ، فزيد وعمرو ليس فيهما ضمير لأنّهما ليسا مشتقين ، فلّما كانا كذلك لم يجز أن يقدّرا عاملين في ضمير مرفوع ، إذ لا يعمل إلّا الفعل أو ما في معنى الفعل. وأما الجامد الذي لا رائحة للفعل فيه فلا ينبغي أن يعمل.

وإن كان مشتقّا كان فيه ضمير مرفوع عائد على المبتدأ ، نحو : «زيد قائم» ، ففي «قائم» ضمير مرفوع على أنّه فاعل به ، وهو عائد على «زيد» ، ولو أردت العطف عليه ، لقلت : «زيد قائم هو وعمرو» ، فأكّدته بضمير الرفع المنفصل ، ثم عطفت عليه ، ولا يجوز مثل ذلك في : «هذا زيد» ، ونحوه. فدلّ ذلك على أنّ الجامد لا يتحمّل ضميرا.

والضمير الذي يكون في خبر المبتدأ لا يخلو من أن يكون مرفوعا أو منصوبا أو مخفوضا ، فإن كان مرفوعا لم يجز حذفه أصلا إلّا أن يكون مبتدأ ، نحو : «زيد هو القائم» ، فإنه يجوز حذفه ، فتقول : «زيد القائم» ، وتجعل «القائم» خبرا لمبتدأ مضمر إن شئت إذ لا مانع من ذلك.

فإن كان منصوبا لم يجز حذفه إلّا أن يكون العامل فيه فعلا أو ما جرى مجراه من

٣٣٣

أسماء الفاعلين والمفعولين فإنّه قد يجوز ذلك في الضرورة ، نحو قوله [من الرجز] :

٢٣٢ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

يريد : لم أصنعه ، فحذف الضمير. وإنّما لم يجز ذلك إلّا في ضروة لما فيه من تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، ألا ترى أنّ «لم أصنع» مفرّغ للعمل في «كلّه» ، ولم يعمل فيه.

وإن كان الضمير مخفوضا لم يخل أن يكون خفضه بإضافة اسم إليه أو بحرف جرّ ؛ فإن كان مخفوضا بإضافة اسم إليه لم يجز حذفه ، نحو : «زيد أبوه قائم» ، وإن كان مخفوضا بحرف جر لم يخل حذفه من أن يؤدّي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، أو لا يؤدّي إلى ذلك ، فإن لم يؤدّ إلى ذلك جاز ، نحو قولك : «السمن منوان (١) بدرهم» ، تريد : منوان منه بدرهم ، فحذفت «منه» لفهم المعنى. ومن ذلك قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٢). فقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ،) في موضع خبر من «طغى» ، والضمير محذوف تقديره : فإنّ الجحيم هي المأوى له.

______________________

٢٣٢ ـ التخريج : الرجز لأبي النجم في تخليص الشواهد ص ٢٨١ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ؛ والدرر ٢ / ١٣ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، ٤٤١ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ؛ وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ؛ والكتاب ١ / ٨٥ ؛ والمحتسب ١ / ٢١١ ؛ ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ؛ وبلا نسبة في الأغاني ١٠ / ١٧٦ ؛ وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ؛ والخصائص ٢ / ٦١ ؛ وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ؛ والكتاب ١ / ١٢٧ ، ١٣٧ ، ١٤٦ ؛ والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٩٧.

الإعراب : قد : حرف تحقيق. أصبحت : فعل ماض ناقص مبني على الفتح ، و «التاء» : للتأنيث. أمّ : اسم (أصبح) مرفوع بالضمّة. الخيار : مضاف إليه مجرور بالكسرة. تدّعي : فعل مضارع مرفوع بضمّة مقدّرة على الياء ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (هي). علي : جار ومجرور متعلّقان بـ (تدّعي). ذنبا : مفعول به منصوب بالفتحة. كلّه : مبتدأ مرفوع بالضمّة ، و «الهاء» : ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه. لم أصنع : «لم» : حرف جزم وقلب ونفي ، «أصنع» : فعل مضارع مجزوم بالسكون ، وحرّك بالكسرة لضرورة القافية.

وجملة «قد أصبحت» : ابتدائية لا محلّ لها. وجملة «تدّعي» : في محلّ نصب خبر (أصبحت). وجملة «كلّه لم أصنع» : في محلّ نصب صفة لـ (ذنبا). وجملة «أصنع» : في محلّ رفع خبر (كلّه).

والشاهد فيه قوله : «كلّه لم أصنع» حيث حذف الضمير المنصوب في جملة الخبر ، العائد على المبتدأ وذلك للضرورة. والتقدير : كلّه لم أصنعه.

(١) المنوان : مثنى «المنا» وهو مكيال للسمن ونحوه ، أو ميزان يساوي رطلين.

(٢) النازعات : ٣٧ ـ ٤٠.

٣٣٤

وإن أدى ذلك إلى تهيئة العامل وقطعه عنه لم يجز ذلك ، نحو : «زيد مررت به» ، لا يجوز أن تقول : «زيد مررت» ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تهيئة «مررت» إلى العمل في «زيد» وقطعه عنه.

[٥ ـ أقسام الخبر بالنسبة إلى الإثبات والحذف] :

والخبر ينقسم بالنظر إلى الإثبات والحذف ثلاثة أقسام : قسم يلزم فيه حذف الخبر ، وذلك المبتدأ الواقع بعد «لولا» ، نحو : «لولا زيد لأكرمتك» ، التقدير : لولا زيد حاضر ، إلا أنّه لا يجوز ذكر الخبر لأنّ الكلام قد طال بالجواب فالتزم فيه الحذف تخفيفا ، ولذلك لحّن المعرّي في قوله [من الوافر] :

٢٣٣ ـ [يذيب الرعب منه كلّ عضب]

فلولا الغمد يمسكه لسالا

فأظهر خبر المبتدأ بعد «لولا».

______________________

٢٣٣ ـ التخريج : البيت لأبي العلاء المعريّ في الجنى الداني ص ٦٠٠ ؛ والدرر ٢ / ٢٧ ؛ ورصف المباني ص ٢٩٥ ؛ وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ١٠٢ ؛ وشرح ابن عقيل ص ١٢٨ ؛ ومغني اللبيب ١ / ٢٧٣ ؛ والمقرب ١ / ٨٤.

شرح المفردات : الرعب : الخوف الشديد. العضب : السيف القاطع. الغمد : قراب السيف.

المعنى : يقول : إنّ سطوته وشدّة إخافته للأعداء تذيب سيوفهم ، ولو لا وجودها في أغمادها لسالت على الأرض.

الإعراب : «يذيب» : فعل مضارع مرفوع بالضمّة. «الرعب» : فاعل مرفوع بالضمّة. «منه» : جار ومجرور متعلّقان بـ «الرعب». «كلّ» : مفعول به منصوب وهو مضاف. «عضب» : مضاف إليه مجرور بالكسرة. «فلولا» : الفاء حرف استئناف ، و «لولا» : حرف امتناع لوجود. «الغمد» : مبتدأ مرفوع. «يمسكه» : فعل مضارع مرفوع بالضمّة ، والهاء ضمير متّصل في محلّ نصب مفعول به ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره «هو». «لسالا» : اللام واقعة في جواب «لو لا» ، و «سالا» فعل ماض والألف للإطلاق ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره «هو».

وجملة : «يذيب الرعب ...» ابتدائيّة لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «لو لا الغمد ...» استئنافية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة : «يمسكه» في محلّ رفع خبر المبتدأ «الغمد». وجملة «لسالا» جواب شرط غير جازم لا محلّ لها من الإعراب.

والتمثيل به في قوله : «فلو لا الغمد يمسكه» حيث أظهر خبر المبتدأ بعد «لولا» وهذا غير جائز فلذلك لحّن في قوله هذا.

٣٣٥

وكذلك المبتدأ إذا كان مصدرا قد سدّ مسدّ خبره الحال. وذلك نحو : «ضربي زيدا قائما» ، و «أكثر شربي السويق ملتوتا» ، و «أكثر ركوبي الفرس دارعا» ، و «أخطب ما يكون الأمير قائما» ، ألا ترى أنّ الأصل : إذا كان ملتوتا ، وإذا كان قائما ، وإذا كان دارعا ، ثم حذف الظرف الواقع خبرا وأنيب الحال منابه ، فلا يجوز في شيء من ذلك إظهار الخبر لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوّض منه ، وذلك غير جائز.

وقسم يلزم فيه إثبات الخبر ، وذلك كلّ خبر لا يكون له لو حذف ما يدلّ عليه ، نحو : «زيد قائم» ، ألا ترى أنّك لو قلت : «زيد» ، وحذفت «قائما» من غير دليل عليه ، لم يدر هل أردت : زيد قائم أو ضاحك أو غير ذلك.

وكذلك خبر «ما» التعجبية في نحو : «ما أحسن زيدا»! لا يجوز حذفه وإن كان له ما يدلّ عليه بعد الحذف ، لأنّه كلام جرى مجرى المثل فلم يغيّر.

وقسم أنت في حذف خبره وإثباته بالخيار ، وهو ما عدا ما ذكرنا ممّا له دليل لو حذف ، نحو قولك في جواب من قال : «من القائم»؟ : زيد ، ألا ترى أنّ المعنى : زيد القائم. فحذفت «القائم» استغناء ، وإن شئت أثبتّ «قائم» ، فقلت : «زيد القائم».

[٦ ـ أقسام المبتدأ بالنسبة إلى الإثبات والحذف] :

والمبتدأ ينقسم بالنظر إلى الإثبات والحذف قسمين : قسم يلزم فيه إثبات المبتدأ وهو «ما» التعجبية ، نحو : «ما أحسن زيدا»! فـ «ما» مبتدأ ولا يجوز حذفها لأنّ التعجب جرى مجرى المثل كما تقدّم فلا يغير ، وكذلك كل مبتدأ لو حذف لم يكن عليه دليل.

وقسم أنت فيه بالخيار ، وهو كل مبتدأ لو حذف كان له ما يدلّ عليه ، نحو قولك : «المسك ، إذا شممت رائحته» ، تريد : هذا المسك ، وإن شئت أظهرت المبتدأ.

[٧ ـ أقسام المبتدأ بالنسبة إلى التقديم والتأخير] :

والمبتدأ والخبر ينقسمان بالنظر إلى التقديم والتأخير ثلاثة أقسام : قسم يلزم فيه تقديم المبتدأ ، وقسم يلزم فيه تقديم الخبر ، وقسم أنت فيه بالخيار. فالقسم الذي يلزم فيه تقديم

٣٣٦

المبتدأ أن يكون المبتدأ اسم شرط ، نحو : «من يقم أقم معه» ، أو اسم استفهام ، نحو قولك : «أيّ رجل قائم»؟ أو «كيف» أو «كم» الخبريّة ، نحو قولك : «كم رجل عندي» ، أو «ما» التعجبية ، نحو قولك : «ما أحسن زيدا» ، أو يكون المبتدأ والخبر معرفتين ، نحو قولك : «زيد أخوك» ؛ أو يكون المبتدأ مشبّها بالخبر ، نحو قولك : «زيد زهير شعرا» ؛ أو يكون المبتدأ ضمير أمر وشأن ، نحو قولك : «هو زيد قائم» ، تريد : الأمر أو الشأن زيد قائم. أو يكون المبتدأ مخبرا عنه بفعل فاعله أو مفعوله الذي لم يسمّ فاعله مضمران ، نحو قولك : «زيد قام» ، و «زيد ضرب».

والقسم الذي يلزم فيه تقديم الخبر أن يكون الخبر اسم استفهام ، نحو قولك : «كيف زيد»؟ أو يكون المبتدأ نكرة لا مسوّغ للابتداء بها إلّا كون خبرها ظرفا أو مجرورا متقدّمين عليها ، نحو : «في الدار رجل» ، و «عندك امرأة» ، أو يكون المبتدأ قد اتّصل به ضمير يعود على الخبر ، نحو قولك : «في الدار ساكنها» ، أو يكون المبتدأ «أنّ» واسمها وخبرها ، نحو قولك : «في علمي أنّك قائم» ؛ أو يكون الخبر «كم» الخبرية ، نحو قولك : «كم درهم مالك».

والقسم الذي أنت فيه بالخيار ما بقي ، مفردا كان الخبر أو جملة ، فمثال تقديم الخبر مفردا من كلامهم : «تميميّ أنا» ، و «مشنوء من يشنؤك». والأصل : أنا تميميّ ، ومن يشنؤك منشوء. ومثال تقديمه جملة قوله [من الطويل] :

٢٣٤ ـ إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

تقديره : أبوه ما أمّه من محارب.

______________________

٢٣٤ ـ التخريج : البيت للفرزدق في ديوانه ١ / ٢٥٠ ؛ والخصائص ٢ / ٣٩٤ ؛ والدرر ٢ / ٧٠ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٥٧ ؛ ومعاهد التنصيص ١ / ٤٤ ؛ والمقاصد النحوية ١ / ٥٥٥ ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٨ ؛ ومغني اللبيب ١ / ١١٦ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١١٨.

اللغة : محارب : اسم رجل ، أو قبيلة. وكليب أيضا.

المعنى : يهجو الشاعر جريرا بحيث يجعل من الممدوح بعيدا عن قوم جرير من محارب وكليب.

الإعراب : «إلى ملك» : جار ومجرور متعلّقان بـ «أسوق» في بيت سابق. «ما» : نافية أو من أخوات «ليس». «أمّه» : مبتدأ مرفوع إذا اعتبرنا «ما» مهملة ، واسم «ما» إذا اعتبرناها عاملة ، وهي مضاف ، والهاء ـ

جمل الزجاجي / ج ١ / م ٢٢

٣٣٧

وإذا اجتمع في هذا الباب اسمان ، فلا يخلو أن يكونا معرفتين ، أو نكرتين ، أو أحدهما معرفة والآخر نكرة ، فإن كانا معرفتين جعلت الذي تقدّر أنّ المخاطب يعلمه مبتدأ والذي تقدّر أنّ المخاطب يجهله خبرا ، وذلك نحو قولك : «زيد أخو عمرو» ، إذا قدّرت أنّ المخاطب يعلم زيدا ويجهل أنّه أخو عمرو ، فإن قدرت أنّ المخاطب يعلم أخا عمرو ، ويجهل أنّه مسمى بزيد ، قلت : «أخو عمرو زيد» ، وذلك أنّ المستفاد عند المخاطب إنما هو ما كان يجهله ، والخبر هو محل الفائدة ، فلذلك جعلت الخبر هو المجهول منهما.

فإن كانا نكرتين ، فإنّ ذلك لا يتصوّر إلا بشرط أن يكون المبتدأ منهما له ما يسوغ الابتداء بالنكرة ، نحو : «أرجل قائم» ، وقد تقدّم ذكر المسوّغات للابتداء بالنكرة.

فإن كان أحدهما معرفة والآخر نكرة ، كان المبتدأ المعرفة والخبر نكرة ، نحو قولك : «زيد قائم» ، لما ذكرنا من أنّ الخبر ينبغي أن يجعل المجهول ، ولا يجوز جعل المبتدأ النكرة والخبر المعرفة إلّا في ضرورة شعر ، نحو قولك : «قائم زيد» ، على أن تقدّر «قائم» هو المبتدأ لا خبرا مقدّما. وبيان ذلك بنواسخ الابتداء ، فممّا جاء من ذلك قوله [من الوافر] :

٢٣٥ ـ قفي قبل التفرّق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا

______________________

ـ ضمير في محلّ جرّ بالإضافة. «من محارب» : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر المبتدأ أو خبر «ما». «أبوه» : مبتدأ مؤخّر مرفوع بالواو لأنّه من الأسماء الستّة ، وهو مضاف ، والهاء ضمير متّصل في محلّ جرّ بالإضافة. «ولا» : الواو حرف عطف ، «لا» : نافية. «كانت» : فعل ماض ناقص ، والتاء للتأنيث. «كليب» : اسم «كان» مرفوع. «تصاهره» : فعل مضارع مرفوع ، والهاء ضمير متّصل في محلّ نصب مفعول به ، وفاعله ضمير مستتر تقديره «هي».

وجملة : «ما أمّه ...» في محلّ رفع خبر مقدّم. وجملة : «أبوه ما أمه ...» في محلّ جرّ نعت «ملك». وجملة «تصاهره» في محل نصب خبر «كان». وجملة : «كانت كليب تصاهره» معطوفة على جملة «ما أمه من ...» فهي مثلها ..

الشاهد فيه قوله : «ما أمّه من محارب أبوه» حيث قدّم الخبر وهو الجملة الاسميّة «ما أمّه ...» على المبتدأ «أبوه».

٢٣٥ ـ التخريج : البيت للقطاميّ في ديوانه ص ٣١ ؛ وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٧ ؛ والدرر ٣ / ٥٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٤ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٩ ؛ والكتاب ٢ / ٢٤٣ ؛ ولسان العرب ٨ / ٢١٨ (ضبع) ، ٨ / ٣٨٥ (ودع) ؛ واللمع ص ١٢٠ ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٢٩٥ ؛ والمقتضب ٤ / ٩٤ ؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، ٢٩٣ ؛ والدرر ٢ / ٧٣ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٨ ؛ وشرح المفصل ٧ / ٩١.

اللغة : ضباعا : اسم علم لفتاة ، مرخّم : ضباعة. ـ

٣٣٨

جعل «موقف» وهو نكرة اسم «يك» ، و «الوداع» وهو معرفة خبر «يك». ولا يكون اسم «كان» وأخواتها إلا ما هو مبتدأ في الأصل.

وهذا عندي من قبيل القلب أنه جعل ما ينبغي أن يكون مبتدأ خبرا ، وما ينبغي أن يكون خبرا مبتدأ ، وذلك بالنظر إلى اللفظ. وأمّا المعنى فعلى ما ذكرت لك من الإخبار بالنكرة عن المعرفة. ونظير ذلك ـ أعني ممّا قلب فجعل فيه الخبر مخبرا عنه في اللفظ والمخبر عنه خبرا ـ قوله [من الكامل] :

٢٣٦ ـ كانت فريضة ما تقول كما

كان الزناء فريضة الرجم

وإنّما المعنى كما كان فريضة الزنا الرجم ، فقلب.

______________________

ـ المعنى : تمهلي يا ضباعة لأملأ نظري منك ولا تجعلي فراقنا هذا آخر عهدي بك.

الإعراب : قفي : فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة ، و «الياء» : ضمير متصل في محل رفع فاعل. قبل : مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة الظاهرة متعلق بالفعل قفي وهو مضاف. التفرق : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة. يا ضباعا : «يا» : للنداء ، «ضباعا» : منادى مفرد علم مرخم مبني على الضم المقدر على التاء المحذوفة ، و «الألف» : للإطلاق. ولا يك : «الواو» : عاطفة «لا» : ناهية جازمة ، «يك» : فعل مضارع ناقص مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف. موقف : اسم «يك» مرفوع بالضمة الظاهرة. منك : جار ومجرور متعلقان بصفة محذوفة. الوداعا : خبر «يك» منصوب بالفتحة الظاهرة ، و «الألف» : للإطلاق.

وجملة «قفي» : ابتدائية لا محل لها. وجملة «لا يك موقف منك الوداعا» : معطوفة على ابتدائية لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : (ولا يك موقف منك الوداعا) إذ جاء اسم «كان» نكرة وجاء الخبر معرفة ، وهذا للضرورة.

٢٣٦ ـ التخريج : البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٢٣٥ ؛ ولسان العرب ١٤ / ٣٥٩ (زنى) ؛ وبلا نسبة في أمالي المرتضى ١ / ٢١٦.

اللغة : الزناء : ممارسة الفاحشة. الرجم : الضرب بالحجارة.

المعنى : هذه كانت عقوبتك على ما تقول كعقوبة الزاني حين الرجم.

الإعراب : «كانت» : فعل ماض ناقص ، و «التاء» : للتأنيث ، واسم (كانت) ضمير مستتر تقديره (هي). «فريضة» : خبر (كانت) منصوب بالفتحة. «ما» : اسم موصول في محلّ جرّ مضاف إليه. «تقول» : فعل مضارع مرفوع بالضمّة ، و «الفاعل» : ضمير مستتر تقديره (أنت). «كما» : «الكاف» : حرف جر مكفوف عن العمل ، «ما» : كافّة لا محلّ لها. «كان» فعل ماض ناقص. «الزناء» : اسم «كان» مرفوع بالضمة. ـ

٣٣٩

[٨ ـ رافع المبتدأ والخبر] :

والمبتدأ والخبر مرفوعان ، واختلف النحويون في الرفع لهما ، ففي الرافع للمبتدأ أربعة أقوال. منهم من ذهب إلى أنّ الرافع له التهمّم والاعتناء ، وتهمّمك واعتناؤك به هو جعلك له أولا لفظا أو نيّة. وذلك باطل لأنّ التهمّم معنى ، والمعاني لا يثبت لها العمل في موضع.

ومنهم من ذهب إلى أنّ الرافع له شبهه بالفاعل في أنّه مخبر عنه كالفاعل ، ولا يستغني عن الخبر كما لا يستغني الفاعل عن خبره وهو الفعل. وهذا باطل ، لأنّ الشبه معنى ، والمعاني كما تقدّم لم يثبت لها العمل. وأيضا فإنّ المبتدأ والخبر أصل والفعل والفاعل فرع ، وذلك أنّ اللفظ وافق المعنى في المبتدأ والخبر ، لأنّ المبتدأ قبل الخبر وكذلك هو المعنى ، ألا ترى أنّ المخبر عنه قبل الخبر وليس كذلك الفعل والفاعل ، لأن الفعل الذي هو الخبر مقدّم على المخبر عنه وهو الفاعل ، فاللفظ ليس وفق المعنى. فإذا جعلنا المبتدأ مرفوعا لشبهه بالفاعل كان فيه حمل الأصل على الفرع ، وذلك قليل جدا.

ومنهم من ذهب إلى أنّه ارتفع بالخبر (١) ، وذلك فاسد أيضا ، لأنّ الخبر قد يرفع الفاعل ، نحو : «زيد قائم أبوه» ، على أن يجعل «الأب» فاعلا لـ «قائم» ، ولو جعلناه مع ذلك عاملا في المبتدأ لأدّى ذلك إلى إعمال عامل واحد في معمولين رفعا من غير أن يكون أحدهما تابعا للآخر ، وذلك لا نظير له في كلامهم ، فإذا أمكن حمله على ما له نظير كان أولى.

ومنهم من ذهب إلى أنّه ارتفع لتعرّيه من العوامل اللفظية ، وهو الصحيح عندي ، لأنّ التعرّي ثبت الرفع له بشرط أن يكون الاسم المعرّى قد ركب من وجه ما ، وذلك أن سيبويه حكى أنهم يقولون : واحد واثنان وثلاثة وأربعة ، إذا عدّوا ولم يقصدوا الإخبار بأسماء العدد

______________________

ـ «فريضة» : خبر «كان» منصوب بالفتحة. «الرجم» : مضاف إليه مجرور بالكسرة.

وجملة «كانت فريضة» : ابتدائية لا محلّ لها (ولعلّها خبر مبتدأ سابق). وجملة «تقول» : صلة الموصول لا محل لها.

والشاهد فيه قوله : «كان الزناء فريضة الرجم» حيث قلب فجعل الخبر مخبرا عنه في اللفظ والمخبر عنه خبرا ، والأصل : كما كان فريضة الزنا الرجم.

(١) وهو مذهب الكوفيّين. انظر المسألة الخامسة من مسائل الخلاف في «الإنصاف في مسائل الخلاف» ص ٤٤ ـ ٥١.

٣٤٠