المفصل في صنعة الإعراب

أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري

المفصل في صنعة الإعراب

المؤلف:

أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

١
٢

٣
٤

مقدمة

«المفصل في صنعة الاعراب» كما سماه صاحبه ، والمفصّل في النحو كما دعاه ياقوت الحموي وابن خلّكان وبروكلّمان ، والمفصل في علم العربية وفقا لأحدى طبعاته ، كتاب لا يحتاج إلى تعريف ، أو لأن يعرف ، لأنه منذ تأليفه سنة ٥١٥ ه‍ ، ١١٢١ م سار في الآفاق وأقبل عليه طلاب العلم والباحثون يتدارسونه ويشرحونه. وقد أحصى بروكلمان له نحو واحد وعشرين شرحا. واقدم شرح له وضعه مؤلفه الزمخشري ذاته ، ثم توالت الشروحات على الشكل التالي :

* التخمير للقاسم بن الحسين الخوارزمي المتوفى سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢٠ م.

* المحصل لأبي البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين العكبري المتوفى سنة ٦١٦ ه‍ ١٢١٩ م.

* شرح لأبي البقاء بن يعيش المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ ١٢٤٥ م.

* المفضل لعلي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ ١٢٤٥ م.

٥

* سفر الصلاة وسفر الإفادة للسخاوي السابق.

* الإيضاح للقمان بن عمر بن الحاجب المتوفى سنة ٦٤٦ ه‍ ١٢٤٩ م.

* المفضل لعبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري المتوفى سنة ٦٥١ ه‍ ١٢٥٣ م.

* المكمل لمظهر الدين الشريف الرضي محمد أكمله سنة ٦٥٩ ه‍ ١٢٦١ م.

* المحصل لكشف أسرار المفصل للمؤيد يحيى بن حمزة بن السيد المرتضى ابن رسول الله المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍ ١٣٤٨ م.

* الأقليد لأحمد بن قاسم الجندي الأندلسي من أعلام القرن الثامن الهجري.

* شرح لمجهول.

* شرح لأبي القاسم بن أحمد الصديقي الأندلسي.

* شرح لمحمد بن محمد الخطيب فخر القسرخاني.

* المحصل لمحمد بن سعد المروزي.

* التاج المكلل للمهدي لدى الله أحمد بن يحيى المرتضى المتوفى سنة ٨٤٠ ه‍ ١٤٣٧ م.

* شرح الشواهد لعمران بن الخوارزمي.

* الوشاح الحامدي المفضل على مخدرات المفصّل لمحمد طيب المكي الهندي ، طبع في المطبعة السعيدية سنة ١٣١٨ ه‍.

٦

* ذكر معاني أبنية الأسماء الموجودة في المفصل لابن مالك.

* شرح الشواهد لمجهول.

وآخر شرح للكتاب اضطلع به محمد بدر الدين أبي فراس النعساني الحلبي ودعاه «المفضل في شرح شواهد المفصل» وفرغ من تسويده ظهر يوم الخميس سابع شهر شعبان سنة ١٣٢٣ ه‍ ، وطبع بالقاهرة في السنة نفسها على هامش كتاب المفصل بعنوان : «كتاب المفصل في علم العربية» للإمام الزمخشري مع شرح شواهده للسيد محمد بن بدر الدين أبي فراس النعساني الحلبي.

وقد اعتمدنا هذا الشرح الأخير الذي أفاد من الشروحات السابقة وأكملها (١). ولكننا رأينا من الخير إدخال تعديلات عليه أهمها تبويب الكتاب تبويبا جديدا ، لأن الطبعة السابقة تفتقر إلى التبويب الواضح الشامل. ولقد راعينا تقسيم الزمخشري له إلى أربعة أقسام : قسم الأسماء ، وقسم الأفعال ، وقسم الحروف ، وقسم المشترك بينها. ولكننا فرعنا كل قسم إلى أبواب وأنواع وفصول. وهذا العمل الذي سها عنه المؤلف والشارح ، لا بد منه ليسهل على القارىء الإحاطة بالموضوع. وعدا ذلك قمنا بمهمة أخرى هي وضع عناوين فرعية للفقر لنيسر على القارىء تناول المادة وفهمها. هذا بالإضافة إلى إعادة النظر بتقسيم الفقر ، وتقسيم الجمل التي يتألف منها النص ، ووضع علامات الوقف بينها من نقطة وفاصلة وقاطعة وإشارة استفهام وتعجب إلخ.

__________________

(١) اعترف النعساني في شرحه بأنه أفاد من الشراح السابقين ولا سيما ابن يعيش.

٧

وإذا رغبنا في معرفة سبب سيرورة هذا الكتاب وخلوده وجدناه في أسلوبه المحكم الذي يتماز بالشمول والدقة والوضوح.

يتمثل الشمول ببحث جميع المسائل التي تتعلق بقواعد اللغة العربية ، لم يغادر منها شيئا ذا بال. تلك المسائل طرقها الذين سبقوه وقتلوها تنقيبا ونظرا ، وأماطوا اللثام عن غوامضها ، واسرفوا في الجدال حولها ، وكونوا مذاهب ومدارس تميزت عن بعضها البعض باختلاف الرؤية إلى مسائل النحو ، وتباين مناهج الإستقراء والإستنباط والتقعيد ، أهمها مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ومدرسة بغداد. ونبغ أعلام كبار أرسوا أسس علم النحو ورفعوا بنيانه أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي (١) (١٠٠ ـ ١٧٠) وسيبويه (٢) (.. ـ ١٨٠ ه‍) والكسائي (٣) (.. ـ ١٨٩ ه‍) والاخفش (.. ـ ٢١٥ ه‍) (٤) وسواهم. وقد اطلع الزمخشري على تصانيفهم وآرائهم ، وأشار إلى ذلك في كتابه هذا. فهو يذهب مثلا إلى أن المنع من الصرف يحتاج إلى توافر اثنين من تسعة ، وتكرر واحد منها هي : العلمية ، والتأنيث اللازم لفظا أو معنى ، ووزن الفعل ، والوصفية ، والعدل من صيغة إلى أخرى ، والجمع على مفاعل ومفاعيل ، والتركيب ، والعجمة ، والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث في نحو

__________________

(١) ولد ومات بالبصرة (١٠٠ ـ ١٧٠ ه‍) وعاش فقيرا صابرا. وهو استاذ سيبويه وواضع علم العروض وعلم المعجم. له كتاب العروض وكتاب العين.

(٢) سيبويه هو عمر بن عثمان الحارثي بالولاء. تتلمذ على الخليل في البصرة وناظر الكسائي في بغداد فأجازه الرشيد. ووضع «الكتاب» في النحو.

(٣) هو علي بن حمزة الأسدي بالولاء ، امام في اللغة والنحو والقراءة. نشأ في الكوفة ، وسكن بغداد ، وتوفي بالري. أدب الرشيد وولده الأمين. ألف «معاني القرآن».

(٤) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء ، نحوي وعالم باللغة ، من أهل بلخ ، سكن البصرة وأخذ العربية عن سيبويه. اهم كتبه تفسير معاني القرآن ، والاشتقاق ، والقوافي. واكتشف بحر الخبب.

٨

سكران وعثمان ، إلا لضرورة الشعر. أما السبب الواحد فليس مانعا أبدا برأيه. ثم يقول : «وما تعلق به الكوفيون في إجازة منعه في الشعر ليس يثبت. وما أحد سببيه أو أسبابه العلمية فحكمه الصرف عند التنكير كقولك رب سعاد وقطام لبقائه بلا سبب أو على سبب واحد ، إلا نحو أحمر فإن فيه خلافا بين الأخفش وصاحب الكتاب. وما فيه سببان من الثلاثي الساكن الحشو كنوح ولوط منصرف في اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل لمقاومة السكون أحد السببين ، وقوم يجرونه على القياس فلا يصرفونه وقد جمعها الشاعر في قوله :

لم تتلفع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد في العلب».

فهو كما ترى يبدي رأيه في المسألة ثم يناقش آراء أصحاب مدرستي الكوفة والبصرة ، فيشك في رأي الكوفيين ، ويشير إلى خلاف البصريين ، ويحكم القرآن والشعر.

وعند ما بحث في الفاعل وعامله ذهب مذهب البصريين في وجوب إعمال الأقرب من فعلين يسبقان الفاعل نحو ضربت وضربني قومك ويقول : «قال سيبويه : ولو لم تحمل الكلام على الآخر لقلت ضربت وضربوني قومك. وهو الواحد المختار الذي ورد به التنزيل ، وقال الله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) وقال : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) وإليه ذهب أصحابنا البصريون. وقد يعمل الأول وهو قليل ، ومنه قول عمر ابن أبي ربيعة : «تنخل فاستاكت به عود إسحل» وعليه الكوفيون». فالزمخشري يعلن نسبته إلى مدرسة البصرة ، وابتعاده عن مدرسة الكوفة.

ويؤثر ما ورد في القرآن على ما ورد في الشعر العربي.

ويقف الزمخشري الموقف ذاته بصدد مسألة العامل في إسم إن وخبرها. فيؤيد البصريين الذين ينعتهم بأصحابه ، والذين يذهبون إلى أن رفع

٩

خبر إن ونصب اسمها إنما هو أن إنّ ذاتها بنظرهم حرف مشبه بالفعل تعمل عمل الفعل. ويشرح مذهبهم ويستشهد عليه. بينما يشير إلى رأي الكوفيين إشارة خاطفة بقوله : «وعند الكوفيين هو مرتفع (أي خبر إن) بما كان مرتفعا به في قولك زيد أخوك ، ولا عمل للخلاف فيه».

ويؤكد الزمخشري انحيازه إلى البصريين وابتعاده عن الكوفيين مرة أخرى عند ما يقول بشأن بناء فعل الأمر «وهو مبني على الوقف عند أصحابنا البصريين. وقال الكوفيون هو مجزوم بلام مضمرة. وهذا خلف من القول».

ويبدو اعتماده الشديد على سيبويه في رجوعه الكثير إليه في معظم المسائل ، وتبنيه آراءه ، وعدم مناقشته أو مخالفته. وكأنه وضع كتابه ، أي كتاب سيبويه في النحو ، أمامه ، وراح يتتبع مسائله ، وكثيرا ما يورد كلامه حرفيا ، أو يورد الشواهد التي ساقها ، ويقول : وشاهد الكتاب كذا وكذا ، وعند سيبويه كذا وكذا ، وقال سيبويه.

ونراه يكثر الرجوع بعد سيبويه إلى الأخفش. وكثيرا ما اختلف هذان النحويان ، وتعارضت أفكارهما. ونلقى الزمخشري يذكر آراءهما دون أن يتخذ موقفا مؤيدا أو معارضا لأحدهما. فيقول مثلا بصدد ما التي تسبق فعل التعجب : «واختلفوا في ما. فهي عند سيبويه غير موصولة ولا موصوفة ، وهي مبتدأ ما بعده خبره. وعند الأخفش موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ محذوف الخبر. وعند بعضهم فيها معنى الإستفهام كأنه قيل : أي شيء أكرمه». ويؤكد هذا الموقف المحايد بين ذينك العالمين بصدد زيادة من في الإضافة ويقول : «وهي مزيدة في نحو ما جاءني من أحد راجع إلى هذا ، ولا تزاد عند سيبويه إلا في النفي ، والأخفش يجوز الزيادة في الإيجاب ويستشهد بقوله عز وعلا (يَغْفِرْ لَكُمْ

١٠

مِنْ ذُنُوبِكُمْ)».

ويمكن القول بصورة عامة إنّ الزمخشري يتبنى النحو البصري ويعتمده في مفصله ، ولا يورد آراء النحويين الكوفيين إلا لتسفيهها أو نقدها. يبدو هذا في قوله مثلا بصدد ليت : «ليت هي للتمني كقوله تعالى : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ). ويجوز عند الفراء (١) أن تجري مجرى أتمنى فيقال : ليت زيدا قائما ، كما يقال أتمنى زيدا قائما. والكسائي يجيز ذلك على إضمار كأن. والذي غرهما منها قول الشاعر : يا ليت أيام الصبا رواجعا». وقد ذكرت ما هو عليه عند البصريين». ولم يخرج عن هذا المنهج إلا نادرا ، فتسمعه يقول بصدد حرف التعليل كي «... واختلف في إعرابها ، فهي عند البصريين مجرورة وعند الكوفيين منصوبة بفعل مضمر ، كأنك قلت : كي تفعل ما ذا. وما أرى هذا القول بعيدا عن الصواب».

غير أن خاصة الشمول التي يمتاز بها الكتاب يشوبها عيبان : نقص في بعض المسائل ، وتجاوز للحد في مسائل أخرى. فمن المسائل التي لم يستوف البحث فيها اسم المفعول واسم الآلة والفعل الماضي ، وحروف الإستثناء ، ونائب الفاعل. ومن المسائل التي جاوز فيها حد التقعيد ذكر اللغات المختلفة في المسألة الواحدة. فهو عند ما يتحدث عن الوقف في الكلمات المعتلة الآخر وما قبله ساكن يقول إنّ حكمه حكم الصحيح ،

__________________

(١) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي (١٤٤ ـ ٢٠٧ ه‍) امام الكوفيين واعلمهم باللغة والنحو. ولد في الكوفة وانتقل الى بغداد ، وتولى تربية ولدي المأمون فيها وتوفي في طريق مكة وكان مع نبوغه في اللغة والنحو فقيها متكلما ينزع الى الاعتزال. اهم كتبه : الممدود والمقصور ، ومعاني القرآن ، واللغات ، وما تلحن به العامة.

١١

وإذا «كان الآخر ألفا قالوا في الأكثر الأعرف هذه عصا وحبلى ، ويقول ناس من فزارة وقيس حبلي بالياء ، وبعض طيء حبلو بالواو ، ومنهم من يسوي في القلب بين الوقف والفصل ، وزعم الخليل أن بعضهم يقلبها همزة فيقول هذه حبلأ ورأيت حبلأ ، وهو يضربها. وألف عصا في النصب هي المبدلة في التنوين ، وفي الرفع والجر هي المنقلبة عند سيبويه ، وعند المازني هي المبدلة في الأحوال الثلاث».

وفي مسألة التقاء الساكنين يقول «وقد حركوا في نحو ردّ ولم يرد بالحركات الثلاث ، ولزموا الضم عند ضمير الغائب ، والفتح عند ضمير الغائبة. فقالوا ردّه وردّها. وسمع الأخفش ناسا من بني عقيل يقولون مده وعضّه بالكسر ، ولزموا فيه الكسر عند ساكن يعقبه فقالوا : رد القوم ، ومنهم من فتح وهم بنو أسد فقال : فغضّ الطرف إنّك من نمير .. وقد جد في الهرب من التقاء الساكنين من قال دأبة وشأبة ، ومن قرأ : ولا الضألين ، ولا جأن. وهي عند عمرو بن عبيد ومن لغته النقر في الوقف».

وفي مسألة إبدال الحروف تطغى الخلافات على معظم الحروف وتنفرد كل قبيلة بلغة خاصة بحيث يعسر وضع قاعدة عامة. فالهاء مثلا تبدل من الهمزة مخالفة طي فيقولون وهن فعلت فعلت بدل أن فعلت فعلت ، وهي مبدلة من الألف المنقلبة عن الواو في هنوات ، ومن الياء في هذه أمة الله ، ومن التاء في طلحة وحمزة في الوقف. وحكى قطرب أن في لغة طيء : كيف البنون والبناه ، وكيف الأخوة والأخواه».

أما خاصة الدقة فتظهر في التعاريف التي يضعها ، وهي تعاريف جامعة مانعة مختصرة تخلو من الحشو والنافل وتنأى عن التعقيد والإخلال بالفكرة. فهو يعرف الكلمة مثلا فيقول : «الكلمة هي اللفظة الدالة على

١٢

معنى مفرد بالوضع». ويعرف الاسم بقوله : «الاسم هو ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الإقتران». ويعرف الصفة بقوله : «هي الأسم الدال على بعض أحوال الذات نحو طويل وقصير وعاقل وأحمق وقائم وقاعد وسقيم وصحيح وفقير وغني وشريف ووضيع ومكرم ومهان».

بيد إنّ الإمعان في الإيجاز واستعمال الكلمات الدقيقة المعنى أو المصطلحة يسيء أحيانا إلى الوضوح ويسبب الإبهام. فهو مثلا في كلامه على انتصاب المنادى يقول إنّه ينصب لفظا أو محلا. «فانتصابه لفظا إذا كان مضافا كعبيد الله ، أو مضارعا له لقولك يا خيرا من زيد ويا ضاربا زيدا ويا مضروبا غلامه ، ويا حسنا وجه الأخ ، ويا ثلاثة وثلاثين ، أو نكرة لقوله :

فيا راكبا إمّا عرضت فبلغا

نداماي من نجران ألا تلاقيا

وانتصابه محلا إذا كان مفردا معرفة لقولك يا زيد ويا غلام ويا أيها الرجل ، أو داخلة عليه لام الإستعانة أو لام التعجب ..». فقوله «إذا كان مفردا معرفة» مبهم لأنه يعني بالمفرد غير المضاف وشبهه ، ويعني بالمعرفة ما كان معينا سواء كان علما أو غير علم.

ومع ذلك نستطيع القول إنّ المفصّل يمتاز بالوضوح. ويعزى ذلك الوضوح إلى عاملين أساسيين هما كثرة الأمثلة وجلاء التصميم. فالمؤلف لا يذكر قاعدة أو يضع تحديدا إلا ويسارع إلى ضرب الأمثلة العديدة التي توضح ما يعني وتزيل كل إبهام أو التباس يخامر الذهن. تلك الأمثلة يستقيها من مصدرين كبيرين هما الشعر والقرآن ، أو يضعها بنفسه ، ويستعين بعلماء اللغة الذين سبقوه كأبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد الفراهيدي وثعلب وقطرب وسواهم وكثيرا ما يتبنى الشواهد التي ذكرها سيبويه في الكتاب.

١٣

أما جلاء التصميم فيتمثل في تقسيم مسائل النحو تقسيما محكما متماسكا بينا يستطيع القارىء أن يطل على هذا العلم أو يشرف عليه فيرى مختلف جوانبه وأجزائه وكأنه يرى مدينة عامرة من برج عال.

لقد قسم الكتاب أربعة أقسام هي الأسماء والأفعال والحروف والمشترك. وصنف الأسماء إلى معربة ومبنية ، ومثناة ، وجموع ، ومعرفة ونكرة ، ومذكر ومؤنث ، ومصغر ، ومنسوب ، وعدد ، ومقصور وممدود ، وشبه فعل ، ومصدر ، واسم فاعل ، واسم مفعول ، وصفة مشبهة ، وافعل تفضيل ، وإسمي الزمان والمكان واسم الآلة ، والأسم الثلاثي ، والاسم الرباعي. وفصل الأسماء المعربة إلى مرفوعات ومنصوبات ومجرورات وتوابع. فالمرفوعات تشمل الفاعل ، والمبتدأ والخبر ، واسم كان واخواتها ، وخبر ان واخواتها ، وخبر لا النافية للجنس. وتضم المنصوبات المفعول به ، والمفعول المطلق ، والمنادى والاختصاص والتحذير ، والمفعول فيه ، والمفعول معه ، والمفعول له ، والحال ، والتميز ، والاستثناء ، وخبر ما ولا المشبّهتين بليس ، والخبر والاسم في بابي كان وإنّ. والتوابع تحوي التأكيد والصفة والوصف بالجمل والبدل والبيان. أما المبنية من الأسماء فهي سبعة : الضمائر والاشارة والوصل واسماء الأفعال والأصوات والظروف والمركبات والكنايات.

والقسم الثاني من الكتاب يتناول الأفعال. ويصنفها المؤلف إلى مضارع ، وماض ، وأمر ، ومتعد وغير متعد ، ومجهول ، وأفعال قلوب ، وأفعال ناقصة ، وأفعال مقاربة ، ومدح وذم ، وتعجب ، وثلاثي ومزيد ورباعي.

والقسم الثالث يشمل الحروف التي يصنفها المؤلف إلى حروف

١٤

الإضافة ، والحروف المشبهة بالفعل ، وحروف عطف ، وحروف نفي ، وحروف تنبيه ، وحروف نداء ، وحروف تصديق ، وإعجاب ، وحروف خطاب ، وحروف صلة وحروف التفسير ، وحروف مصدرية ، وحروف تخصيص ، وحروف تقريب ، وحروف استقبال ، وحروف استفهام ، وحروف شرط ، وحروف تعليل ، واللامات ، وتاء التأنيث ، ونون التأكيد وهاء السكت ، وشين الوقف ، والتنوين ، وحرف الإنكار ، وحروف التذكير والقسم.

أما القسم الرابع من الكتاب فهو يدعوه المشترك ويبحث في الإمالة ، والوقف ، والتقاء الساكنين ، وحكم أوائل الكلم ، وزيادة الحروف ، وإبدال الحروف ، والإعتدال ، والإدغام ..

هذا هو كتاب المفصل الذي جاء آية في إحكامه وإحاطته ووضوحه مما جعله عمدة في علم النحو أو صنعة الإعراب حسب تعبير المؤلف ، وحمل الناس على اعتماده في التدريس والتحصيل على مر العصور. ولعلّ هذا ما توخاه الزمخشري عند ما قال في مقدمة الكتاب : «لقد ندبتني ما بالمسلمين من الأرب إلى معرفة كلام العرب ، وما بي من الشفقة والحدب على أشياعي من حفدة الأدب لأنشاء كتاب في الإعراب محيط بكافة الأبواب ، مرتب ترتيبا يبلغ بهم الأمد البعيد بأقرب السعي ، ويملأ سجالهم بأهون السقي ، فأنشأت هذا الكتاب المترجم بكتاب المفصل في صنعة الإعراب ...».

وثمة دافع آخر حمله على تأليف الكتاب أفصح عنه في المقدمة أيضا هو الرد على الشعوبية الذين يكرهون العربية ولغتهم ويجحدون فضلها وينهون عن تعلمها وتعليمها. ويذهب إلى أن العربية هي لغة القرآن ولا يمكن فهم القرآن والإسلام بدون التضلع من اللغة العربية. وإن جميع

١٥

العلوم الإسلامية من فقه وكلام وتفسير وأخبار تفتقر إلى العربية «ومن يجترىء على تعاطي تأويل القرآن بدون تحصيل الأعراب ركب عمياء ، وخبط خبط عشواء ، وقال ما هو تقول وافتراء وهراء ، وكلام الله منه براء».

بهذا الكلام خاطب أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الشعوبيين الذين استشرى أمرهم في زمنه ووطنه حتى نادوا بعدم تعلم اللغة العربية أو تعليمها. وأعلن أنه براء منهم وأنه على العكس متعصب للعرب ولغتهم ، فخور بأنه أحد علماء العربية. وقد نسب إلى مسقط رأسه زمخشر حيث أبصر النور سنة ٤٦٧ ه‍ ١٠٧٥ م. وقام بعدة أسفار في طلب العلم وأخذ عن أبي مضر محمود بن جرير الطبي الأصبهاني وغيره. ووقع في أحد أسفاره عن الدابة وهو ذاهب إلى بخارى فقطعت رجله ، وقيل إنّ قطعها كان بسبب البرد الشديد ، أو بسبب دعاء أمه عليه عند ما رأته يربط عصفورا بخيط ويقطع قائمته. واضطر إلى أن يتخذ رجلا من خشب.

وحج إلى مكة حيث جاور مدة من الزمن فلقب بجار الله. وكان معتزلي المذهب مجاهرا بذلك حتى إنه كتب في مقدمة كتاب الكشاف في تفسير القرآن : الحمد لله الذي خلق القرآن. فقيل له : لن يقرأه أحد ، فغير الجملة بقوله : الحمد لله الذي جعل القرآن. وله عدا الكشاف والمفصل كتب عديدة في النحو والبلاغة والأدب والحكم وأصول الدين وفروعه (١).

__________________

(١) راجع حول ترجمة المؤلف وكتبه : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ج ٧ ، ص ١٤٧ ـ ١٥١ ، طبعة مرجليوث ، القاهرة.

ـ ابن خلكان ، وفيات الاعيان ، ج ٥ ، ١٦٨ ـ ١٧٤ ، طبعة دار الثقافة ، بيروت.

بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي ، ج ٥ ، دار المعارف ، القاهرة.

١٦

مقدمة المؤلف

قال الأستاذ الإمام الأجلّ فخر خوارزم رئيس الأفاضل القاسم محمود ابن عمر الزمخشريّ رحمة الله عليه «الله أحمد» على أن جعلني من علماء العربية. وجبلني على الغضب للعرب والعصبية. وأبي لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز ، وأنضوي إلى لفيف الشّعوبية وأنحاز. وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين ، والمشق بأسنة الطاعنين. وإلى أفضل السابقين والمصلين ، أوجه أفضل صلوات المصلين ، محمد المحفوف من بني عدنان بجماجمها وأرحائها ، النازل من قريش في سرة بطحائها ، المبعوث إلى الأسود والأحمر بالكتاب العربيّ المنوّر. ولآله الطيبين أدعو الله بالرّضوان ، وأدعوه على أهل الشقاق والعدوان.

__________________

مقدمة الشارح

الحمد لله حمدا يليق بجلاله ، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وآله ، وسلم تسليما كثيرا ، وبعد فهذا مختصر من القول في شرح أبيات المفصل للأستاذ علامة الدنيا فخر خوارزم جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري تغمده الله برحمته ورضوانه ، وأسكنه فسيح جنانه. فسرت به غريب ألفاظها ، وأعربت عن غامض وجوه إعرابها ، وأزالت به اللبس عن خفي من معانيها ، وبينت فيه مواضع الاستشهاد فيها. ونسبت كل بيت إلى قائله إلا ما لم ار نسبته إلى أحد فأقول لم أر من نسبه إلى قائله فإن كان في قائله اختلاف ذكرت كلام العلماء فيه

١٧

ولعل الذين يغضّون من العربية ويضعون من مقدارها ، ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها ، حيث لم يجعل حيرة رسله وخير كتبه في عجم خلقه ولكن في عربه ، لا يبعدون عن الشعوبية منابذة للحقّ الأبلج ، وزيغا عن سواء المنهج. والذي يقضى منه العجب حال هؤلاء في قلة إنصافهم ، وفرط جورهم واعتسافهم. وذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية فقهيّا وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع ، ومكشوف لا يتقنّع. ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيا على علم الإعراب والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه والأخفش والكسائيّ والفراء وغيرهم من النحويين البصريين والكوفيين والإستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم ، والتشبث بأهداب فسرهم وتأويلهم. وبهذا اللسان مناقلتهم في العلم ومحاورتهم ، وتدريسهم ومناظرتهم. وبه تقطر في القراطيس أقلامهم. وبه تسطر الصكوك والسجلات حكامهم. فهم ملتبسون بالعربية أية سلكوا غير منفكين منها أينما وجّهوا كلّ عليها حيثما سيّروا. ثمّ إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها وتعليمها ، ويدفعون خصلها ، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها ، وينهون عن تعلّمها وتعليمها ، ويمزقون أديمها ، ويمضغون لحمها. فهم في ذلك على المثل السائر : الشعير يؤكل ويذمّ ، ويدّعون الإستغناء عنها. وإنهم ليسوا في شقّ منها. فإن صحّ ذلك فما بالهم لا يطلّقون اللغة رأسا والإعراب ، ولا يقطعون بينهما وبينهم

__________________

وان كان في ألفاظ البيت اختلاف في الرواية سردتها وعزوت كل رواية إلى راويها أو إلى الكتاب الذي وجدتها فيه مع بيان معناها ، وختمت الكلام على كل بيت ببيان معناه إن كان في المعني غموض وإجمال وإلا تركت ذلك واعتمدت على ذهن القارىء في فهم المعنى ولم أنقل من ألفاظ القصيدة التي منها بيت الشاهد إلا مطلع القصيدة غالبا أو ما يتوقف عليه فهم معنى البيت أو ظهور وجه الاعراب فيه على الدوام. واقتصرت من وجوه الاعراب على المذهب المشهور والقول المنصور وما لا يحتاج في تصحيحه أو توضيحه إلى تقدير بعيد أو نكلف شديد. وأعرضت عما سوى هذا من مهجور الأقوال وشاذها فانما المقصود من علم العربية إقامة اللسان ومجانبة الخطأ في الاعراب واللحن في القول ليتوسل بذلك إلى فهم معاني كلام

١٨

الأسباب؟ فيطمسوا من تفسير القرآن آثارهما ، وينفضوا من أصول الفقه غبارهما. ولا يتكلموا في الإستثناء فإنه نحو ، وفي الفرق بين المعرّف والمنكر فإنه نحو ، وفي التعريفين تعريف الجنس وتعريف العهد فإنهما نحو ، وفي الحروف كالواو والفاء وثم ولام الملك ومن التبعيض ونظائرها ، وفي الحذف والإضمار ، وفي أبواب الإختصار والتكرار ، وفي التطليق بالمصدر واسم الفاعل ، وفي الفرق بين أنّ وإنّ وإذا ومتى وكلما وأشباهها مما يطول ذكره ، فإن ذلك كلّه من النحو. وهلّا سفهوا رأي محمد بن الحسن الشيبانيّ رحمه الله فيما أودع كتاب الإيمان؟ وما لهم لم يتراطنوا في مجالس التدريس وحلق المناظرة ، ثم نظروا هل تركوا للعلم جمالا وأبّهة؟ وهل أصبحت الخاصة بالعامة مشبّهة؟ وهل انقلبوا هزأة للساخرين وضحكة للناظرين؟ هذا وإن الإعراب أجدى من تفاريق العصا. وآثاره الحسنة عديد الحصى. ومن لم يتق الله في تنزيله ، فاجترأ على تعاطي تأويله ، وهو غير معرب ، فقد ركب عمياء وخبط خبط عشواء ، وقال ما هو تقوّل وافتراء وهراء ، وكلام الله منه براء. وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان ، المطلع على نكت نظم القرآن ، الكافل بإبراز محاسنه ، الموكل بإثارة معادنه ، فالصّادّ عنه كالسّادّ لطرق الخير كيلا تسلك ، والمريد بموارده أن تعاف وتترك.

ولقد ندبني ما بالمسلمين من الإرب ، إلى معرفة كلام العرب ، وما بي من الشفقة والحدب ، على أشياعي من حفدة الأدب ، لإنشاء كتاب في

__________________

الله جل شأنه والاحاطة بأسرار تنزيله. ومثل هذا الذي ذكرنا لك أننا خاشينا الخوض فيه إن لم يكن صارفا عما ذكرنا من الغرض من علم الاعراب فهو من غير شك إضاعة للوقت فيما لا يفيد وأشغال للنفس بلا جدوى. وجدير بذي اللب أن لا يصرف شيئا من أمره في مثل هذا. وما زال علم العربية سهلا على محاوله قريبا من يد متناوله والناس في معرفته سواسية غير نفر كانوا في عداد الانعام حتى أدخل العلماء فيه ما ليس منه وشوهوا وجه محاسنه وضيقوا مسالكه فشق على طالبيه وقل جدا عدد المشتغلين فيه. ثم لبس بعد الألف من الهجرة النبوية ثوبا غير ثوبه الثاني فصار أشبه شيء بعلم التوحيد في العصرين الأول والثاني من تدوينه وإقبال العلماء عليه. وصارت تقام البراهين وتشاد الأقيسة على مسائله وملحقاتها ومستتبعاتها

١٩

الإعراب ، محيط بكافة الأبواب ، مرتب ترتيبا يبلغ بهم الأمد البعيد بأقرب السعي ، ويملأ سجالهم بأهون السقي. فأنشأت هذا الكتاب المترجم بكتاب المفصل في صنعة الاعراب مقسوما أربعة أقسام : القسم الأول في الأسماء. القسم الثاني في الأفعال. القسم الثالث في الحروف. القسم الرابع في المشترك من أحوالها. وصنفت كلا من هذه الأقسام تصنيفا ، وفصلّت كل صنف منها تفصيلا. حتى رجع كلّ شيء إلى نصابه واستقرّ في مركزه. ولم أدّخر فيما جمعت فيه من الفوائد المتكاثرة ونظمت من الفرائد المتناثرة مع الإيجاز غير المخل ، والتلخيص غير الممل ، مناصحة لمقتبسيه أرجو أن أجتني منها ثمرتي. دعاء يستجاب ، وثناء يستطاب. والله سبحانه وعزّ سلطانه وليّ المعونة على كلّ خير والتأييد. والمليء بالتوفيق فيه والتسديد.

__________________

وما ضم اليها وقرن معها كما تقام على المطالب العقلية والمسائل النظرية. وجعل ذلك كله بين تلك القواعد الصغيرة القليلة. وأطلق على هذا المزيج اسم العربية فيبست بعد الذبول أزهاره ، واندرست بعد العفاء آثاره ، وصار أعقد من ذنب الضب ، فربما اشتغل به طالبه وهو في قماطه ومات بعد أن جاوز أرذل العمر وهو لم ينته إلى أوساطه. وهذا من سوء اختيار المتوسطين وشدة جمود المتأخرين. ولو وفق الناس المشتغلون بهذا العلم للرجوع إلى ما ألفه المتقدمون فيه لحصلوا منه الكثير في الزمن اليسير. والله المسؤول أن يوفقنا لاكماله كما شرعنا فيه وأن يصرف وجوهنا إلى صوب الصواب في بيان معانيه ، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الله الملك المعبود.

٢٠