الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

يتمّ به معناها ، وكون المقدّر مدلولا عليه بما ذكر أولى فتعيّن أن يقدّر : ولا ذو عهد في عهده بكافر. والكفار المقدّر الحربيّ ، إذ المعاهد يقتل بالمعاهد وحينئذ : فالكافر الملفوظ به الحربيّ تسوية بين الدّليل والمدلول عليه.

ويجاب من وجهين :

أحدهما : أنّا لا نسلّم احتياج ما بعد (ولا) إلى تقدير ؛ لجواز أن يكون المراد به : أنّ العهد عاصم من القتل.

والثاني : أنّ حمل الكافر المذكور على الحربيّ لا يحسن ؛ لأنّ هدر دمه من المعلوم من الدّين بالضّرورة ، فلا يتوهّم متوهّم قتل المسلم به.

ويبعد هذا الجواب قليلا أمران : أحدهما : أنّ مدلول الحديث حينئذ مستغنى عنه بما دلّ عليه قوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] ، فالحمل على فائدة جديدة أولى. الأمر الثاني : أنّ صدر الحديث نفي فيه القتل قصاصا لا مطلق القتل ، فقياس آخره أن يكون كذلك.

والوجه الثاني : أنّا لا نسلّم لزوم تساوي الدليل والمدلول عليه ، لأنّهما كلمتان لو لفظ بهما ظاهرتين أمكن أن يراد بأحدهما غير ما أريد بالأخرى فكذلك مع ذكر إحداهما وتقدير الأخرى. ويؤيّده عموم : (وَالْمُطَلَّقاتُ) [البقرة : ٢٢٨] ، وخصوص (وَبُعُولَتُهُنَ) [البقرة : ٢٢٨] مع عود الضّمير عليه.

٢ ـ والجواب الثاني : أنّ الأصل : لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر ، ثمّ أخّر المعطوف على الجارّ والمجرور وليس في الكلام حذف البتّة ، بل تقديم وتأخير ، وحينئذ فالتقدير : «بكافر حربيّ» وإلّا لزم ألّا يقتل ذو العهد بذي العهد وبالذّمّي.

٣ ـ والثالث : أن (ذو عهد) مبتدأ و (في عهده) خبره ، والواو للحال أي : (لا يقتل مسلم بكافر والحال أنّه ليس ذو عهد في عهده). ونحن لو فرضنا خلوّ الوقت عن عهد لجميع أفراد الكفّار لم يقتل مسلم بكافر.

وهذا الجواب حكي عن القدوري وفيه بعد ، لأنّ فيه إخراج الواو عن أصلها ـ وهو العطف ـ ومخالفة لرواية من روى : «ولا ذي عهد ...» بالخفض ؛ إمّا عطفا على (كافر) كما يقوله الأكثرون ، وإمّا على (مسلم) كما قاله الحنفيّة ، ولكنه خفض لمجاورته المخفوض. وأيضا فإنّ مفهومه حينئذ أنّ المسلم يقتل بالكافر مطلقا في حالة كون ذي العهد في عهده ، وهذا لا يقوله أحد ؛ فإنّه لا يقتل بالحربيّ اتّفاقا. إلّا

٨١

أنّه لا يلزم الحنفيّة ؛ فإنّهم لا يقولون بالمفهوم فضلا عن أن يقولوا إنّ له عموما ، ولكن ينتقل البحث معهم إلى أصل المسألة. وقد يقال أيضا : إنّ كون مثل هذا الكلام لا يحتاج إلى تقدير ـ بناء على حمله على التّقديم والتّأخير ـ بعيد ، لأنّ الكلام إذا مضى على وجه كانت فيه أجزاؤه على الظاهر حالّة محلّها لم يجز.

٤ ـ والجواب الرابع : أنّ «ولا ذو عهد» معطوف ، والعطف يقتضي المغايرة ، فوجب أن يحمل الكافر الأول على غير ذي العهد ليتغايرا ؛ قاله بعضهم ، وهذا غريب ، فإنّ ذا العهد معطوف على مسلم لا على كافر ، والعطف إنّما يقتضي المغايرة بين المتعاطفين. ثمّ لو كان المراد بالكافر ذا العهد لكان ذكر ذي العهد ثانيا استعمالا للظاهر في موضع المضمر ، وهو لا يجوز ، أو لم يحسن أن يحمل بعد ذلك على خلاف ذلك ، لأنّ فيه تراجعا ونقضا لما مضى عليه الكلام ، ولهذا قال أبو عليّ ومن وافقه في قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤] إنّ التقدير : فعدّتهنّ ثلاثة أشهر ، وإنّه حذف الخبر من الثاني لدلالة خبر الأول عليه.

وقال بعض الناس : الأولى أن يقدّر الخبر مفردا أي : واللّائي لم يحضن كذلك. لأنّ تقليل المحذوف أولى ولأنّه لو نطق بالخبر لم يحسن أن تعاد الجملة برأسها. فاتّفق الفريقان على أنّ الخبر محذوف. ولم يحملوه على أنّ التقدير : واللّائي يئسن واللّائي لم يحضن فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. والذي ظهر أن ذلك ليس إلّا لما ذكرنا. ولهذا أيضا يظهر أنّهم منعوا من التنازع في المتقدّم نحو «زيدا ضربت وأكرمت» ، وفي المتوسّط نحو «ضربت زيدا وأكرمت» ، لأنّ الاسم المتقدّم مستوفيه العامل قبل أن يجيء الثاني فإذا جاء الثاني لم يقدّر طالبا له بعد ما أخذه غيره. وذلك في المتوسّط أوضح ، لأنّ المعمول يلي العامل الأوّل. انتهى ـ هكذا وجدت بخطّه رحمه الله ـ.

مسألة اعتراض الشّرط على الشّرط

للشيخ جمال الدين رحمه الله

هذا فصل نتكلّم فيه بحول الله تعالى وقوّته على مسألة اعتراض الشّرط على الشّرط :

اعلم أنّه يجوز أن يتوارد شرطان على جواب واحد في اللّفظ ، على الأصحّ ؛ وكذا في أكثر من شرطين. وربّما توهّم متوهّم من عبارة النّحاة حيث يقولون :

٨٢

اعتراض الشّرط على الشّرط ، أنّ ذلك لا يكون في أكثر من شرطين ، وليس كذلك ، ولا هو مرادهم. ولنحقّق أوّلا الصورة التي يقال فيها في اصطلاحهم : اعتراض الشّرط على الشّرط ـ فإن ذلك ممّا يقع فيه الالتباس والغلط ؛ فقد وقع ذلك لجماعة من النّحاة والمفسّرين ـ ثمّ تكلّم على البحث في ذلك والخلاف في جوازه وتوجيهه.

فنقول : ليس من اعتراض الشّرط على الشّرط واحدة من هذه المسائل الخمس التي سنذكرها :

أحدها : أن يكون الشّرط الأوّل مقترنا بجوابه ، ثمّ يأتي الشّرط الثاني بعد ذلك ، كقوله سبحانه : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨٤] خلافا لمن غلط فيه فجعله من الاعتراض. وقائل هذا من الحقّ على مراحل ؛ لأنّه إذا ذكر جواب الأوّل تاليا له ، فأيّ اعتراض هنا؟

الثّانية : أن يقترن الثّاني بفاء الجواب لفظا نحو : إن تكلّم زيد فإن أجاد فأحسن إليه ؛ لأنّ الشّرط الثاني وجوابه جواب الأوّل.

الثالثة : أن يقترن بها تقديرا نحو (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الواقعة : ٨٨] ، خلافا لمن استدلّ بذلك على تعارض الشّرطين ، لأنّ الأصل عند النّحاة : مهما يكن من شيء فإن كان المتوفّى من المقرّبين فجزاؤه روح ، فحذفت (مهما) وجملة شرطها ، وأنيبت عنها (أمّا) فصار : (أمّا فإن كان). ففرّوا من ذلك لوجهين :

أحدهما : أنّ الجواب لا يلي أداة الشّرط بغير فاصل.

والثّاني : أنّ الفاء في الأصل للعطف ، فحقّها أن تقع بين شيئين ، وهما المتعاطفان ، فلمّا أخرجوها في باب الشّرط عن العطف ، حفظوا عليها المعنى الآخر ، وهو التوسّط موجوب أن يقدّم شيء ممّا في حيّزها عليها إصلاحا للّفظ. فقدّمت جملة الشّرط الثّاني لأنّها كالجزء الواحد ؛ كما قدّم المفعول في (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩] ، فصار : أمّا إن كان من المقرّبين فروح ، فحذفت الفاء التي هي جواب (إن) ، لئلا تلتقي فاءان. فتلخّص أنّ جواب (أمّا) ليس محذوفا ، بل مقدّما بعضه على الفاء ، فلا اعتراض.

الرابعة : أن يعطف على فعل الشّرط شرط آخر كقوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد : ٣٦ ـ ٣٧] ، ويفهم من كلام ابن مالك أنّ هذا من اعتراض الشّرط على الشّرط ، وليس بشيء.

٨٣

الخامسة : أن يكون جواب الشّرطين محذوفا. فليس من الاعتراض نحو (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) [هود : ٣٤] الآية ، وكذلك (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها) [الأحزاب : ٥٠] الآية ، خلافا لجماعة من النحويّين منهم ابن مالك وحجّتنا على ذلك أنّا نقول : نقدّر جواب الأوّل تاليا له مدلولا عليه بما تقدّم عليه ، وجواب الثاني كذلك ، مدلولا عليه بالشّرط الأوّل وجوابه المقدّمين عليه. فيكون التقدير في الأولى : إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، وكذا التقدير في الثّانية. ومثل ذلك أيضا بيت الحماسة : [البسيط]

٦٢٤ ـ لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشّرّ في شيء وإن هانا

فتدبّره فإنّه حسن.

وإذ قد عرفت أنّا لا نريد شيئا من هذه الأنواع بقولنا : «اعتراض الشّرط على الشّرط» ، فاعلم أنّ مرادنا نحو : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» ، وقد اختلف أوّلا في صحة هذا التركيب ؛ فمنعه بعضهم على ما حكاه ابن الدّهّان ، وأجازه الجمهور. واستدلّ بعض المجيزين بالآيات السابقة ، وقد بيّنا أنّها ليست ممّا نحن فيه لا في ورد ولا صدر وإنّما الدليل في قوله سبحانه : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) إلى قوله (لَعَذَّبْنَا) [الفتح : ٢٥] فالشّرطان وهما (لو لا) و (لو) قد اعترضا وليس معهما إلا جواب واحد متأخّر عنهما ، وهو (لعذّبنا) ، وفي آية أخرى على مذهب أبي الحسن وهي قوله سبحانه : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] ، فإنّه زعم أنّ قوله جلّ ثناؤه : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] على تقدير الفاء أي : (فالوصية.) فعلى مذهبه يكون ممّا نحن فيه ؛ وأمّا إذا رفعت (الْوَصِيَّةُ) ب (كُتِبَ*) فهي كالآيات السابقات في حذف الجوابين. وهذان الموطنان خطرا لي قديما ولم أرهما لغيري. وممّا يدلّ عليه أيضا قول الشاعر : [البسيط]

٦٢٥ ـ إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم

__________________

٦٢٤ ـ الشاهد لقريط بن أنيف أحد شعراء بلعنبر في خزانة الأدب (٧ / ٤٤١) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٦٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٧٢) ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني (٢ / ٦٤٣) ، ومجالس ثعلب (٢ / ٤٧٣) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٥٧).

٦٢٥ ـ الشاهد بلا نسبة في خزانة الأدب (١١ / ٣٥٨) ، والدرر (٥ / ٩٠) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٩٦) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٥٤) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦١٤) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٥٢) ، وهمع الهوامع (٢ / ٦٣).

٨٤

وقد استعمل ذلك الإمام أبو بكر بن دريد ـ رحمه الله ـ في مقصورته حيث يقول : [الرجز]

٦٢٦ ـ فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا لا لعا

وإذ قد عرفت صورة المسألة وما فيها من الخلاف ، وأنّ الصحيح جوازها ، فاعلم أنّ المجيزين لها اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشّرطين على ثلاثة مذاهب فيما بلغنا :

أحدها : أنّه إنّما يقع بمجموع أمرين ، أحدهما : حصول كلّ من الشّرطين ، والآخر : كون الشّرط الثاني واقعا قبل وقوع الأوّل ، فإذا قيل : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق».

فإن ركبت فقط ، أو لبست فقط ، أو ركبت ثمّ لبست لم تطلق فيهنّ ؛ وإن لبست ثمّ ركبت طلقت. هذا قول جمهور النحويّين والفقهاء. وقد اختلف النحويّون في تأويله على قولين :

أحدهما : قول الجمهور : أنّ الجواب المذكور للأوّل ، وجوب الثاني محذوف لدلالة الأوّل وجوابه عليه. الدليل على أنّ الشّرط الأوّل وجوابه يدلّان على جواب الشّرط (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨٤] ، فهذا بتقدير : إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكّلوا ، فحذف الجواب لدلالة ما تقدّم عليه ، وهذا القول من الحسن بمكان ، لأنّ القاعدة أنّه إذا توارد ـ في غير مسألتنا ـ على جواب واحد شيئان كلّ منهما يقتضي جوابا ، كان الجواب المذكور للأوّل ، كقولك : «والله إن تأتني لأكرمنّك» ـ بالتّأكيد ـ جوابا للأوّل ، و «وإن تأتني والله أكرمك» ـ بالجزم ـ جوابا للشّرط. وكذا القياس يقتضي في مسألة توارد شرط على شرط أن يكون الجواب للسابق منهما ، ويكون جواب الثاني محذوفا لدلالة الأوّل وجوابه عليه ، فمن ثمّ لزم في وقوع المعلّق ـ على ذلك ـ أن يكون الثاني واقعا قبل الأوّل ضرورة لأنّ الأوّل قائم مقام الجواب ، حتى إنّ الكوفيّين وأبا زيد والمبرّد ـ رحمهم الله ـ يزعمون في نحو «أنت ظالم إن فعلت» (٢) أنّ السابق على الأداة هو الجواب لا دليل على الجواب ، الجواب لا بدّ من تأخّره على الشّرط لأنّه أثره ومسبّبه ، فكذلك الدليل على الجواب ، لأنه قائم مقامه ومغن في اللفظ عنه.

__________________

٦٢٦ ـ الشاهد لابن دريد في مقصورته شرح التبريزي (ص ٥٢) ، والمغني (ص ٦٨٠) ، والخزانة (٤ / ٥٤٨).

(١) انظر الكتاب (٣ / ٩١) ، والمغني (ص ٦٨٧) ، والخصائص (١ / ٢٨٣).

٨٥

وقد يجوز في هذا أنّ في كلّ من الجملتين مجازا ، فمجاز الأولى بالفصل بينها وبين جوابها بالشّرط الثاني ، ومجاز الثانية بحذف جوابها. وعلى هذا فيجوز كون الشّرط الأوّل ماضيا ومضارعا ، وأمّا الشّرط الثاني فلا يجوز في فصيح الكلام أن يكون إلّا ماضيا ، لأنّ القاعدة في الجواب أنّه لا يحذف إلّا والشرط ماض ، فأمّا قوله (١) :[البسيط]

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم

فضرورة كقوله : [مشطور الرجز]

٦٢٧ ـ يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

القول الثاني : قول ابن مالك ـ رحمه الله ـ أنّ الجواب للأوّل كما يقوله الجمهور ، لكنّ الشرط الثاني لا جواب له ، لا مذكور ولا مقدّر ، لأنّه مقيّد للأوّل تقييده بحال واقعة موقعه ، فإذا قلت : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» فالمعنى : إن ركبت لابسة فأنت طالق ؛ وكذلك التقدير في البيت :

إن تستغيثوا بنا مذعورين تجدوا.

فهو موافق للجمهور في اشتراط تأخير المقدّم وتقديم المؤخّر ، لكنّ تخريجه مخالف لتخريجهم.

وعندي أنّ ما ادّعوه أولى من جهات :

أحدها : أنّ دعواهم جارية على القياس ، فإنّ الشّرط يكون جوابه ظاهرا ومقدّرا. ودعواه خارجة عن القياس ، لأنّه جعله شرطا لا جواب له ، لا في اللّفظ ولا في التّقدير ، وكان ادّعاء ما يجري على القياس أولى.

الثاني : أنّ ما ادّعاه لا يطّرد له إلّا حيث يمكن اجتماع الفعلين كالأمثلة

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٢٥).

٦٢٧ ـ الشاهد لجرير بن عبد الله البجلي في الكتاب (٣ / ٧٦) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٢١) ، ولسان العرب (بجل) ، وله أو لعمرو بن خثارم العجليّ في خزانة الأدب (٨ / ٢٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٩٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٣٠) ، ولعمرو بن خثارم البجلي في الدرر (١ / ٢٧٧) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب (ص ٢٠٢) ، والإنصاف (٢ / ٦٢٣) ، ورصف المباني (ص ١٠٤) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٨٦) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٤٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٣٥٤) ، وشرح المفصّل (٨ / ١٥٨) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٥٣) ، والمقتضب (٢ / ٧٢) ، وهمع الهوامع (٢ / ٧٢).

٨٦

السابقة. أمّا إذا قيل : «إن قمت إن قعدت فأنت طالق» ، فإنّه لا يمكن أن يقدّر في ذلك : إن قمت قاعدة ، فإنّ هذا من المحال ، وينبغي على قوله أنّها لا تطلق. وكذلك إذا لم يجتمع الفعلان في العادة ، وإن لم يتضادّا نحو : «إن أكلت إن شربت» وكذلك إذا قال : «إن صلّيت إن توضّأت أثبت» ، فإنّه لا يصحّ أن يقدّر : إن صلّيت متوضّئا ، بمعنى موقعا للوضوء ، فإنّهما لا يجتمعان.

الثالث : أنّ الشرط بعيد من مذهب الحال ، ألا ترى أنّه للاستقبال ، والحال حال كلفظها وبابها المقارنة ؛ وإذا تباعد ما بين الشيئين لم يصحّ التجوّز بأحدهما عن الآخر. وقد نص هو على أنّ الجملة الواقعة حالا شرطها ألّا تصدّر بدليل استقبال ، لما بينهما من التّنافي. نعم رأيت في مسائل القصريّ عن الشيخ أبي علي ـ رحمه الله ـ إجازة ذلك في نحو : «لأضربنّه إن ذهب أو مكث» و «لأضربنّه إن ذهب وإن مكث».

والذي يتحرّر لي أنّ الحال ـ كما ذكر النّحاة ـ على ضربين : حال مقارنة ، وحال منتظرة وتسمّى حالا مقدّرة (١) ، فالأولى واضحة ، الثانية نحو : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] ، فإن الخلود ليس شيئا يقارن الدخول ، وإنما هو استمرار في المستقبل. ويقدّر النحويّون ذلك : ادخلوها مقدّرين الخلود. وكذلك (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) [الفتح : ٢٧] أي : مقدّرين ، فإنّهم في حالة الدخول لا يكونون محلّقين ومقصّرين ؛ إنّما هم مقدّرون الحلق والتقصير فهذه الحال لا يمتنع اقترانها بحرف الاستقبال لأنّها مستقبلة بخلاف الحال الأولى. وعلى هذا صحّة مسألة أبي عليّ وصحّة تخريج المصنّف مسألة الشّرط ، أعني صحّتها من هذا الوجه ، لا صحّتها مطلقا ، فإنّها معترضة بغير ذلك. نعم ، ويتّضح ـ على هذا ـ بطلان تعميم ابن مالك امتناع اقتران الحال بحرف الاستقبال. وقد اتّضح الأمر في تحقيق هذين الوجهين والحمد لله.

والمذهب الثاني : فيما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين : حكى لي بعض علمائنا عن إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ أنّ القائل إذا قال : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» كان الطلاق معلّقا على حصول الرّكوب واللّبس سواء أوقعا على ترتيبها في الكلام ، أم متعاكسين أم مجتمعين. ثم رأيت هذا القول محكيّا عن غير الإمام رحمه الله.

والذي يظهر لي فساد هذا القول ، لأنّ قائله لا يخلو أمره من أن يجعل الجواب المذكور لمجموع الشرطين ، أو للأوّل فقط ، أو للثاني فقط.

__________________

(١) انظر المغني (ص ٥١٧).

٨٧

لا جائز أن يجعله جوابا لهما معا ؛ لأنّه إمّا أن يقدّر بين الشرطين حرفا رابطا ، أو لا. فإن لم يقدّر لم يصحّ أن يوردا على جواب واحد ، لأنّ ذلك نظير أن تقول : «زيد عمرو عندك» وتقول : (عندك) خبر عنهما. فيقال لك : هلّا إذ شركت بين الاسمين في الخبر الواحد أتيت بما يربط بينهما ، وإن قدّرته فلا يخلو ذلك الذي تقدّره من أن يكون فاء أو واوا إذ لا يصحّ غيرهما ، فإن قدّرته فاء كالفاء المقدّرة في قوله : [البسيط]

٦٢٨ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان]

أي : فالله يشكرها ، فالشّرط الثاني وجوابه جواب الأوّل. فعلى هذا لا يقع الطلاق إلّا بوقوع مضمون الشّرطين ، وكون الثاني بعد الأوّل ؛ كما أنّك لو صرّحت بالفاء كان الحكم كذلك ، وهذا خلاف قوله. ثمّ حذف الفاء لا يقع إلّا في النادر من الكلام أو في الضّرورة ، فلا يحمل عليه الكلام وإن قدّرت الواو كما هي مقدّرة في قول الله سبحانه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) [الغاشية : ٨] ، أي : ووجوه يومئذ ناعمة ، عطفا على (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] ، فلا شكّ أنّ الطلاق يقع بكلّ من الأمرين على هذا التقدير. ولكنّ هذا التقدير لا يتعيّن ، لجواز أنّ المتكلّم إنّما قدّر الفاء ، فلا يقع إلّا بالمجموع مع الترتيب المذكور ، أو يكون الكلام لا تقدير فيه ، فلم قلت يتعيّن تقدير الواو؟.

ولا جائز أن يجعله جوابا للأوّل فقط ، وجواب الثاني محذوفا ، لدلالة الشرط الأوّل وجوابه عليه لأنّه على هذا التقدير يلزمه أن يقول بقول الجمهور ، وهو لا يقول به.

ولا جائز أن يجعله جوابا للثاني : لأنّك إمّا أن تجعل جواب الشرط الأوّل هو الشرط الثاني وجوابه أو محذوفا يدلّ عليه الجواب المذكور للثّاني.

لا سبيل إلى الأوّل لأنّه على هذا التقدير تجب الفاء في الشّرط الثاني ، لأنّه لا يصحّ للشرط أن يلي الشرط. لو قلت : إن إن ، لم يصحّ. وكلّ جواب لا يصلح أن

__________________

٦٢٨ ـ الشاهد لكعب بن مالك في ديوانه (ص ٢٨٨) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٠٩) ، وله أو لعبد الرحمن بن حسان في خزانة الأدب (٩ / ٤٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٧٨) ، ولعبد الرحمن بن حسان في خزانة الأدب (٢ / ٣٦٥) ، ولسان العرب (بجل) ، والمقتضب (٢ / ٧٢) ، ومغني اللبيب (١ / ٥٦) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٣٣) ، ونوادر أبي زيد (ص ٣١) ، ولحسان ابن ثابت في الكتاب (٣ / ٧٣) ، والدرر (٥ / ٨١) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٤٠) ، والخصائص (٢ / ٢٨١) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٢٦٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢٨٦) ، وشرح المفصّل (٩ / ٢).

٨٨

يكون شرطا فإنّه يتعيّن اقترانه بالفاء ، ولا فاء هنا فاستحال هذا الوجه. فإن قلت : لعلّه يجعله مثل قوله (١) : [البسيط]

من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّر عند الله مثلان]

فهذا وجه ضعيف كما قدّمنا ، فلم حمل الكلام عليه؟ بل لم أوجب أن يكون الكلام محمولا عليه؟ ولا سبيل إلى الثاني لأنّه خلاف المألوف في العربيّة فإنّ منهاج كلامهم أن يحذف من الثاني لدلالة الأوّل لا العكس. فأمّا قوله (٢) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض [والرأي مختلف]

فخلاف الجادّة ، حتّى لقد تحيّل له ابن كيسان فجعل (نحن) للمتكلّم المعظّم نفسه ، ليكون (راض) خبرا عنه. فأنت ترى عدم أنسهم بهذا النّوع حتى تكلّف له هذا الإمام هذا الوجه. حكى ذلك عنه أبو جعفر النحّاس في شرح الأبيات ، ولأنّه أيضا خلاف المألوف من عادتهم في توارد ذوي جوابين من جعل الجواب للثّاني.

ثمّ الذي يبطل هذا المذهب من أصله أنّا تأمّلنا ما ورد في كلام العرب من اعتراض الشّرط على الشّرط ، فوجدناهم لا يستعملونه إلّا والحكم معلّق على مجموع الأمرين ، بشرط تقدّم المؤخّر وتأخّر المقدّم. فوجب أن يحمل الكلام على ما ثبت في كلامهم كقوله (٣) : [البسيط]

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا [تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم]

فإنّ الذّعر مقدّم على الاستغاثة ، والاستغاثة مقدّمة على الوجدان. فهذا ما عندي في دفع هذا المذهب.

المذهب الثالث : أنّ الشرط الثاني جوابه مذكور ، والشرط الأوّل جوابه الشرط الثاني وجوابه. فإن قيل : «إن ركبت إن لبست فأنت طالق» ، فإنّما تطلق إذا ركبت أوّلا ثمّ لبست. وهذا القول راعى من قال به ترتيب اللفظ وإعطاء الجواب لما جاوره. وإنّما يستقيم له هذا العمل على تقدير الفاء في الشّرط الثاني ، ليصحّ كونه جوابا للأوّل ، وعلى هذا فلا يلزم مضيّ فعل الشرط الأوّل ، ولا الثّاني ، لأنّ كلّا منهما قد أخذ جوابه.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٢٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٠).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٢٥).

٨٩

وهذا القول باطل بأمور :

أحدها : أنّ الفاء لا تحذف إلّا في الشعر.

الثاني : أنّ القاعدة في اجتماع ذوي جواب أن يجعل الجواب السّابق منهما.

والثالث : أنّه لا يتأتّى له في نحو قوله (١) : [البسيط]

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا ..

 ...

البيت ، لأنّ الذّعر مقدّم على الاستغاثة.

فهذا ما بلغنا من الأقوال في هذه المسألة وما حضرنا فيها من المباحث. وتحرّر لنا أنّه إذا قيل : «إن تذعروا إن تستغيثوا بنا تجدوا» أو «إن تتوضّأ إن صلّيت أثبت» كان كلاما باطلا لما قرّرناه من أنّ الصحيح أنّ الجواب للشرط الأوّل ، وأنّ جواب الثاني محذوف مدلول عليه بالشرط الأل وجوابه ، فيجب أن يكون الشرط الأوّل وجوابه مسبّبين عن الشّرط الثاني ، والأمر فيما ذكرت بالعكس. والصواب أن يقال : «إن صلّيت إن توضّأت أثبت» بتقدير : إن توضّأت فإن صلّيت أثبت. وكنّا قدّمنا أنّه يعترض أكثر من شرطين ، وتمثيل ذلك : «إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فعبدي حرّ» (٢) ، فإن وقع السؤال أولا ، ثمّ الوعد ، ثمّ الإعطاء ، وقعت الحرّية. وإن وقعت على غير هذا الترتيب فلا حريّة على القول الأوّل ، وهو الصحيح. ويأتي فيه ذلك الخلاف في التّوجيه ، فالجمهور يقولون : (فعبدي حرّ) جواب (إن أعطيتك) ، و (إن أعطيتك فعبدي حرّ) دالّ على جواب (إن وعدتك). وهذا كلّه دال على جواب (إن سألتني) ، وكأنّه قيل : إن سألتني فإن وعدتك فإن أعطيتك فعبدي حرّ.

وعند ابن مالك : أنّ المعنى : إن أعطيتك واعدا لك سائلا إيّاي فعبدي حرّ. ف (واعدا) حال من فاعل (أعطيتك) و (سائلا) حال من مفعوله. وقوله (فعبدي حرّ) جواب للشّرط الأوّل. هذا مقتضى قوله في الشرطين وهو ضعيف ـ والله أعلم

الكلام على إعراب قوله تعالى : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ)

فإنه من المهمات

قال (٣) ابن هشام في (المغني) في باب التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصّواب خلافها : «السابع عشر : قولهم في نحو : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٢٥).

(٢) انظر همع الهوامع (٢ / ٦٣).

(٣) انظر المغني (ص ٧٣٦).

٩٠

[العنكبوت : ٤٤] : إن (السماوات) مفعول به والصواب أنّه مفعول مطلق ، لأنّ المفعول ما يقع عليه اسم المفعول بلا قيد كقولك : ضربت ضربا ، والمفعول به ما لا يقع عليه ذلك إلّا مقيّدا بقولك : (به) ، كضربت زيدا. وأنت لو قلت : (السماوات) مفعول كما تقول (الضرب) مفعول كان صحيحا ، ولو قلت (السماوات) مفعول به كما تقول (زيد) مفعول به لم يصحّ.

«إيضاح آخر» : المفعول به ما كان موجودا قبل الفعل الذي عمل فيه ، ثمّ أوقع الفاعل به فعلا ، والمفعول المطلق ما كان الفعل العامل فيه هو فعل إيجاده ، والذي غرّ أكثر النحويّين في هذه المسألة أنّهم يمثّلون المفعول المطلق بأفعال العباد ، وهم إنّما يجري على أيديهم إنشاء الأفعال لا الذوات ، فتوهّموا أنّ المفعول المطلق لا يكون إلّا حدثا ولو مثّلوا بأفعال الله تعالى لظهر لهم أنّه لا يختصّ بذلك لأنّ الله تعالى موجد للأفعال وللذّوات جميعا ، لا موجد لها في الحقيقة سواه سبحانه وتعالى. وممّن قال بهذا القول الذي ذكرته الجرجانيّ ، وابن الحاجب في (أماليه).

وكذا البحث في : «أنشأت كتابا» ، و «عمل فلان خيرا». و (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ*) [البقرة : ٢٥ ـ ٨٢ ـ ٢٧٧]» انتهى.

وقال ابن الحاجب في (أماليه)

قولهم : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ :) من قال إنّ الخلق هو المخلوق فواجب أن تكون السماوات مفعولا مطلقا لبيان النّوع ، إذ حقيقة المصدر المسمّى بالمفعول المطلق أن يكون اسما لما دلّ عليه فعل الفاعل المذكور ، وهذا كذلك لأنّا بنينا على أنّ المخلوق هو الخلق ، فلا فرق بين قولك : خلق الله خلقا وبين قولك : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) إلّا ما في الأوّل من الإطلاق وفي الثاني من التخصيص ، فهو مثل قولك : قعدت قعودا ، وقعدت القرفصاء ، فإنّ أحدهما للتأكيد والثاني لبيان النوع ، وإن استويا في حقيقة المصدريّة ، وهذا أمر مقطوع به بعد إثبات أنّ المخلوق هو الخلق.

ومن قال إنّ المخلوق غير الخلق وإنّما هو متعلّق الخلق ، وجب أن يقول : إنّ السماوات مفعول به ، مثله في قولك : ضربت زيدا ، ولكنّه غير مستقيم لأنّه لا يستقيم أن يكون المخلوق متعلّق الخلق ، لأنّه لو كان متعلّقا له لم يخل أن يكون الخلق المتعلّق قديما أو مخلوقا ، فإن كان مخلوقا تسلسل فكان باطلا ، وإن كان قديما فباطل ، لأنه يجب أن يكون متعلّقه معه ، إذ خلق ولا مخلوق محال ، فيؤدّي إلى أن تكون المخلوقات أزليّة وهو باطل ، فصار القول بأنّ الخلق غير المخلوق يلزم

٩١

منه محال ؛ وإذا كان اللازم محالا فملزومه كذلك. فثبت أنّ الخلق هو المخلوق. وإنّما جاء الوهم لهذه الطائفة من جهة أنهّم لم يعهدوا في الشّاهد مصدرا إلّا وهو غير جسم ، فتوهّموا أنّه لا مصدر إلّا كذلك ، فلمّا جاءت هذه أجساما استبعدوا مصدريّتها لذلك ، ورأوا تعلّق الفعل بها فحملوه على المفعول به. ولو نظروا حقّ النّظر لعلموا أنّ الله تعالى يفعل الأجسام كما يفعل الأعراض ، فنسبتها إلى خلقه واحدة ، فإذا كان كذلك ، وكان معنى المصدر ما ذكرناه وجب أن تكون مصادر.

وليست هذه المسألة وحدها بالذي حملوا فيها أمر الغائب على الشاهد ، بل أكثر مسائلهم التي يخالفون فيها كمسألة الرؤية ، وعذاب القبر وأشباهها.

إعراب (صالحا) في قوله تعالى (وَاعْمَلُوا صالِحاً)

وقد ألّف الشيخ تقيّ الدّين السّبكيّ (١) في هذه المسألة كتابا سمّاه «بيان المحتمل في تعدية عمل» قال : بسم الله الرحمن الرحيم :

سألت وفّقك الله عن قولي في إعراب قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) [سبأ : ١١] : إنّ (صالحا) ليس مفعولا به ، بل هو إمّا نعت لمصدر محذوف كما يقوله أكثر المعربين في أمثاله ، وإمّا حال كا هو المنقول عن سيبويه ، ويكون التقدير : واعملوه صالحا ، والضمير للمصدر. وذكرت أنّ كثيرا من الناس استنكر قولي في ذلك وقالوا : إنّ (عمل) من الأفعال المتعدّية بدليل قوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) [سبأ : ١١] ، وقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) [سبأ : ١٣].

فاعلم وفّقك الله أنّك إذا تدبّرت ما أقوله انحلّت عنك كلّ شبهة في ذلك ، وعلمت أنّ استنكارهم لذلك مسارعة إلى ما لم يحيطوا بعلمه ، وغيبة عن معاني كلام النّحاة وأدلّة العقل ، وبيان ذلك بأمور :

أحدها : أنّ الفعل المتعدّي هو الذي يكون له مفعول به ، والمفعول به هو محلّ فعل الفاعل ، وإن شئت قلت : الذي يقع عليه فعل الفاعل ؛ وكلتا العبارتين موجود في كلام النحاة. وهذا المفعول به هو الذي بنى النحاة له اسم مفعول كمضروب ومأكول ومشروب ؛ فزيد المضروب والخبز المأكول والماء المشروب هي محلّ تلك

__________________

(١) علي بن عبد الكافي بن سليم السبكيّ : تقيّ الدين أبو الحسن الفقيه الشافعي المفسّر النحوي اللغوي المقرئ ، صنّف نحو مائة وخمسين كتابا مطوّلا ومختصرا منها : تفسير القرآن ، وشرح المنهاج في الفقه ، وكشف القناع في إفادة «لو لا» الامتناع ، وغيرها كثير (ت ٧٥٥ ه‍). ترجمته في : بغية الوعاة (٢ / ١٧٦).

٩٢

الأفعال وليست مفعولة ؛ وإنّما هي مفعول بها. ومن ضرورة قولنا (مفعول به) أن يكون المفعول غيره ، ومعنى قوله النّحاة مفعول به : أنّه مفعول به شيء من الأحداث ، والمفعول هو ذلك الحدث الواقع به ، وهو المصدر ، وسمّاه النحاة مفعولا مطلقا ، بمعنى أنّ ما سواه من المفاعيل مفعول مقيّد ؛ فإنّك تقول مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول له ، ومفعول معه ؛ وليس فيها مفعول نفسه إلّا المصدر ، فهو المفعول المطلق أي المجرّد عن القيود ، وهو الصادر عن الفاعل وهو نفس فعله ؛ وأمّا المضروب والمأكول والمشروب فلم يصدر عن الفاعل وإنما صدر عن الفاعل شيء أثّر فيه ،. ومن تدبّر قول النحاة : «مفعول به» ، عرف ذلك وأنّ المفعول غيره. وأطلقوا عليه «اسم مفعول» ولم يقولوا : «اسم مفعول به» لفهم المعنى في ذلك ؛ والشخص في نفسه مضروب بمعنى أنّ الضرب واقع به ، ولا يقال مضروب به ، بل هو مضروب نفسه ، والمعنى وقوع الضرب به ، وذلك مفهوم من معنى الفعل لا من معنى اسم المفعول. ولا يبنى اسم مفعول للمصدر ، وإن كان هو المفعول المطلق ، فلا يقال للضّرب مضروب ؛ وكذلك لا يبنى اسم مفعول من الفعل اللازم إلّا أن يكون مقيّدا بظرف ونحوه. وهذه الأمور كلّها واضحة من مبادئ النحو ، أشهر من أن تذكر ، ولكنّا احتجنا إلى ذكرها ، وكلّ فعل لم يبن منه اسم مفعول لم يقل عنه إنّه متعدّ بل هو لازم وإن كان له مفعول حقيقيّ وهو الفعل ، والعمل هو الفعل ، وهو المفعول المطلق ، فهو مصدر وليس مفعولا به ، ولا يبنى له اسم مفعول فلا يتعدّى فعله إليه تعدّي الفعل إلى المفعول به ، بل تعدّيه إلى المصدر ، فلذلك لم يجز أن يكون «عملت عملا صالحا» متعدّيا إلى (صالحا) على المفعول به.

الثاني : أنّ الفعل الاصطلاحي يدلّ على معنى وزمان ، وذلك المعني سمّاه النّحاة حدثا وفعلا حقيقيّا ، وسمّوا اللفظ الدالّ عليه مصدرا ومفعولا مطلقا. وهذه الألفاظ صحيحة باعتبار غالب الأفعال ؛ وقد يكون المعنى الذي يدلّ عليه الفعل قائما بالفاعل فقط ، من غير أن يكون صادرا عنه كالعلم ؛ بل قد لا يكون حدثا أصلا ، ولا فعلا حقيقيّا كالعلم القديم ؛ فإنّك تقول : «علم الله كذا» ، فالمعنى الذي يدلّ عليه هذا الفعل ـ وهو العلم القديم ـ ليس بفعل ولا مفعول ولا حدث ، بل هو معنى قائم بالذات المقدّسة على مذهب أهل السّنّة. وتسمية ما اشتقّ منه فعلا أمر اصطلاحيّ ؛ وقصدي من هذا التنبيه على أنّ تسمية النحاة المصدر مفعولا مطلقا وفعلا ليس مطّردا في جميع موارده. وقد تنبّه بعض النّحاة لما ذكرنا من غير أن يوضّحه هذا الإيضاح بل اقتصر على تقسيم المصدر إلى معنى قائم بالفاعل كالفهم والحذر ، وإلى صادر عنه كالضّرب والخطّ وإن كان الضرب والخطّ قائمين بالفاعل

٩٣

أيضا ، ولم يطلق النّحاة المفعول المطلق على غير ذلك ، وقد ذكرنا أنّ المفعول به شيء وقع عليه المفعول المطلق كما ذكره النّحاة وليس مفعولا ، وإذا نظرت إليه في قولك «ضربت زيدا» ونحوه ظهر ذلك ظهورا قويّا ؛ فإنّ زيدا ليست ذاته من فعل الضّارب.

وهنا قسم آخر وهو قولنا : «خلق الله العالم» اختار ابن الحاجب في (أماليه) انتصاب العالم على المصدر بناء على أنّ الخلق هو المخلوق. وأكثر النحويّين لم ينظروا إلى ذلك وظاهر كلامهم أنّ الخلق غير المخلوق ، كما هو قول طائفة من الأصوليّين ؛ وعلى هذا فالعالم مفعول به ، وهو مفعول لأنّه الأثر الصادر عن الخلق ، وذات العالم موجودة بالفاعل ، بخلاف ذات المضروب ، والنحاة لا يسمّون هذا مفعولا مطلقا ، وإنّما يسمونه مفعولا به ، والخلق نفسه هو المفعول المطلق ، وكذلك في الأفعال العامة كقوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] فالضمير في عملت مفعول به وهو مفعول كالمخلوق ، ولم يذكر النحاة هذا النوع في المفاعيل ؛ والظاهر أنّ النحاة إنّما اقتصروا على ما ذكروه من المفاعيل لأنّ العالم وإن كانت ذاته موجودة بفعل الله تعالى ، فالخلق واقع به ، فاندرج تحت حدّهم المفعول به ، وإن زاد بأمر آخر ، وهو كون ذاته موجودة بفعل الله تعالى. ولم يتعرّض النحاة لهذا الزائد لأنه ليس من صناعتهم ، ولا حاجة لهم إلى ذكره ، لكن يلزم على هذا أن يكون لنا مفعول من غير تقييد ليس بمصدر ، وهم قد قالوا : إنّ المفعول المطلق هو المصدر ، فيجب أن يقال : إنّ في تفسيرهم المفعول المطلق تسمّحا أو اصطلاحا ، وإنّ المفعول هو الذي نشأ عن الفاعل ، فتارة يكون هو الفعل خاصة ، وهو المصدر ؛ وتارة يكون زائدا عليه كهذا المثال. ويحتمل أن يقال إنّ كثيرا من النحاة معتزلة وعند المعتزلة المعدوم شيء ، بمعنى أنّه ذات متقرّرة في العدم فلا تأثير للفاعل في ذاته ، وإبرازه للوجود معنى واقع عليه كالضرب على المضروب. ومنهم من أطلق ذلك عن عمد واعتزال ، ومنهم من قاله تقليدا ، وهكذا الكلام في : «أوجد الله العالم» ، ونحوه من الألفاظ الدالة على إنشاء الذّوات. وهذا الذي قلناه كله على الاصطلاح المشهور عند متأخّري النّحاة ؛ وأما سيبويه رحمه الله ـ وهو إمام الصنعة ـ فأطلق على المفعول به أنه مفعول ولم أر في كلامه «مفعول به» ، فإنه قال : «باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول» (١) و «باب الفاعل الذي يتعدّاة فعله إلى مفعول» (٢). وذكر في الأول :

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٦٧).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٦٨).

٩٤

ذهب وجلس ، وفي الثاني : «ضرب عبد الله زيدا» وقال : «انتصب زيد لأنّه مفعول تعدّى إليه فعل الفاعل» (١). وهذا الذي قاله سيبويه سالم عن الاعتراض وليس فيه إطلاق المفعول على المصدر بل على ما يتعدّى إليه فعل الفاعل ؛ وذلك أعمّ من أن يكون حاصلا بفعل الفاعل ، أو ليس حاصلا بفعله ولكنّ فعل الفاعل واقع عليه. وتسمية الأول مفعولا حقيقة ، وتسمية الثاني مفعولا اصطلاح ، أو على حذف الجارّ والمجرور وإرادة أنّه مفعول به. ولا يرد على عبارة سيبويه شيء ممّا ذكرناه في تسمية معنى المصدر فعلا حقيقيا ولا في تسمية المصدر مفعولا مطلقا. فسبحان من أسعده في عبارته وحماها عن أن يدخل عليها بإفساد.

الثالث : أنّ النحاة اختلفوا في إطلاق المفعول المطلق فقال جمهورهم : إنه يطلق على جميع المصادر. وقال بعضهم : لا يطلق إلا على مصادر الأفعال العامة كعمل وفعل وصنع ؛ وهذا القول كالشاذّ عند النحاة. وقد نبّهنا على أنّ بعض المصادر لا يصحّ أن يقال إنه فعل حقيقي ولا مفعول مطلق ، وهو العلم القديم. ومن هذا يظهر أنّ معنى التعدّي أن يتعلق معنى الفعل بغير الفاعل كقولنا : «علم الله كذا» ، فعلمه متعلّق بالمعلوم ، وتسميته تعالى فاعلا في هذا المثال ليس المراد به أنه فاعل العلم ، لأنّ علمه ليس بمفعول ، وإنّما هو على اصطلاح النحاة في أنّ من أسند إليه فعل على وجه مخصوص يسمّى فاعلا.

الرابع : أنّ غير الله تعالى لا أثر لفعله في الذّوات إجماعا ، أعني : لا يفعل ذاتا ، وهذا متفق عليه بيننا وبين المعتزلة ، وقامت عليه الأدلة العقلية ، ولم يذهب أحد من أهل الملل إلى خلافه ، ولهذا لمّا قال أصحابنا : إنّ أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] ، حاولت المعتزلة الجواب بجعل (ما) موصولة ، فيكون المراد الأصنام ، وهي مخلوقة لله تعالى بالاتفاق. وردّ أصحابنا هذا الجواب بأنّ الآية جاءت للردّ عليهم في عبادتهم إياها ؛ وهم لم يعبدوها من حيث ذواتها ، وإنّما عبدوها من حيث هي معمولة لهم بنحتهم وتصويرهم ؛ كأنه قال : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم ونحتكم ، أو : والنحت الذي تنحتونه ، أو : والمنحوت الذي صوّرتموه بنحتكم. فهذه ثلاثة تقادير لأهل السنة :

أحدها : أن تكون ما مصدرية.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٦٨).

٩٥

والثاني : أن تكون موصولة والمراد بها المصدر ، وبعض النحاة يقدّرها هكذا. في كل مكان أريد بها المصدر فيه ، وينكر جعلها مصدرية وإن كان المشهور خلافه. وعلى هذين التقديرين الدّلالة من الآية لأهل السنة ظاهرة جدا.

والثالث : أن تكون موصولة ، والمراد بها المنحوت بقيد النحت ، وفيه جهتان : ذاته ، ولم يعبد من جهتها ، وصنعته وهي التي عبد من جهتها ، وهي مخلوقة لله تعالى بمقتضى الآية ، ودلّت الآية على أنّها معمولة لهم. فإن ثبت أنّ الصورة الحاصلة في الصنم معمولة للآدمي وقعت الدّلالة لأهل السنة من الآية وإلا تعين أن يكون العمل نفسه فتصح الدّلالة لأهل السنة. والراجح من هذين الأمرين سنذكره.

الخامس : الصورة الحاصلة في المراد على قسمين :

أحدهما : ما لا أثر لفعل العباد فيه البتّة ، بل هو من فعل الله تعالى وحده إمّا بلا سبب من العبد ، وإمّا بسبب منهم يحاولونه ، فيوجد الله تعالى تلك الصورة عنده وذلك هو الصور الطبيعية ، وهي كالذوات فلا يقال إنّها مفعولة للعباد البتّة.

والثاني : ما هو أثر صنعة العبد ، وهي الصور الصناعية. ومن أمثلة ذلك الصورة الحاصلة في الصنم بنحت العباد وتصويرهم ؛ هل تقول إنّ تلك الصورة معمولة للعباد أو لله تعالى؟ ولا شكّ أنّ على مذهب أهل السنة لا تردّد في ذلك ؛ فإنّ الكلّ بفعل الله تعالى ؛ وإنّما التردد على مذهب المعتزلة ، أو بالاضافة الكسبية على مذهب أهل السنة. والحق أنّ ذلك ليس من فعل العباد ولا من كسبهم ، فإنّ القدرة الحادثة لا تؤثّر في غير محلّها ، فإذا قلنا : صوّر المشرك الصنم لم يكن من فعل المشرك إلّا التصوير القائم به ، والصورة الناشئة عنه من فعل الله تعالى ، فلا يقال فيها إنّها معمولة للعباد إلّا على جهة المجاز ، وإنّما يقال هي مصوّرة كما يقال في زيد المتعلق به الضرب : إنّه مضروب. وإذا قلنا عمل المشرك الصنم ففي الكلام مجاز بخلاف قولنا صوّر المشرك الصنم. وسببه أنّ (عمل) فعل عامّ ، و (صوّر) فعل خاصّ ، وسيأتي الفرق بين الأفعال الخاصة والعامة. فقولنا : (عمل) يقتضي أنّ الضّم معمول لمن أسند إليه الفعل ، وليس شيء من الصّنم لا من مادّته ولا من صورته فعلا للعبد ، ولا من عمله ؛ فكيف يكون مجموعه من عمله!! فلا بدّ من مجاز (١) ، وفي جهة المجاز وجوه :

أحدها : أن يكون استعمل (عمل) في معنى (صوّر) استعمالا للأعمّ في الأخصّ.

الثاني : أن يكون على حذف مضاف ، كأنّه قال : عمل تصوير الصنم ؛ فلا يكون التصوير على هذا مفعولا به ، بل مصدرا. وهذان الوجهان هما أقرب الوجوه التي خطرت لنا ، فلنقتصر عليهما ، وبالثاني يقوى أنّ المراد في قوله : «وما تعملون التصوير» فيكون حجة لأهل السنة.

٩٦

السادس : الأفعال ضربان : خاصة ـ وهي الأكثر ـ مثل : قام ، وقعد ، وخرج ، في اللّازم ، وضرب ، وأكل ، وشرب ، في المتعدّي. وإنّما كثر هذا الضرب الخاصّ لازما ومتعدّيا لأنّه الذي يحصل به كمال الفائدة في الخبر عن فعل خاصّ ، والأمر به ، والنهي عنه ، ونحو ذلك.

الضرب الثاني : الأفعال العامة : مثل : فعل ، وعمل ، وصنع. وإنّما جاءت هذه الأفعال لأنّه قد يقصد الإخبار عن جنس فعل بدون تخصيص نوعه إما للعلم بالجنس دون النوع وإمّا لغرض آخر وكذلك الأمر به والنهي عنه وما أشبه ذلك ، ولكن هذا القصد أقلّ من قصد كمال الفائدة ، فلا جرم كان هذا الضرب أقلّ من الضرب الأول ، ولم يجئ منه إلّا ألفاظ معدودة. وإذا سئلنا عن هذه الأفعال العامة هل هي متعدية أو لازمة ، لم يجز لنا إطلاق القول بواحد من الأمرين ، لأنّها أعمّ من الأفعال المتعدية ومن الأفعال اللازمة. والأعمّ من شيئين لا يصدق عليه واحد منهما ، فإنّ الأعمّ يصدق على الأخصّ ولا ينعكس ، وإنّما يصحّ أن يقال ذلك عليها بطريق الإهمال الذي هو في قوة جزئيّ. فمتى وجد في كلام أحد من الفضلاء أنّ (عمل) متعدّية وجب حمله على ذلك ، وأنّ مراده أنّها قد تكون متعدّية. وكذا إذا قيل لازمة أو غير متعدّية وأريد به اللّزوم كما هو غالب الاصطلاح. قد يراد بغير المتعدّي أنّه الذي لا يتجاوز معناه من حيث هو هو فيصحّ بهذا الاعتبار أن تقول : إنّ (عمل) لا تتعدى ؛ لأنّ معناها العمل ، والعمل من حيث هو هو لا يتعدى إلّا إذا أريد به عمل خاصّ ، فيكون ذلك العمل الخاص هو المتعدّي لا مطلق العمل ، ومدلول (عمل) إنّما هو مطلق العمل ، فيصحّ أنّ مدلولها لا يتعدّى ، وهكذا فعل وصنع.

السابع : أنّ هذه الأفعال مع عمومها لها مصادر وهي الفعل والعمل والصنع ، وهي أحداث عامة يندرج تحتها غيرها من الأحداث الخاصة. وتلك الأحداث أفعال حقيقة ويصدق عليها مفعولات ، ومعمولات ، ومصنوعات ، باعتبار أنّها صادرة عن الفاعل. والشخص فاعل لفعله فلا شكّ أنّ فعله مفعول له ، فلذلك اتفق النحاة هنا على أنّه يطلق على مصادر هذه الأفعال اسم المفعول المطلق بخلاف الأفعال الخاصة لا يصدق على الضرب أنّه مفعول عند بعضهم وإن كان هو مفعولا في الحقيقة. ولا شكّ أنّه لا يصدق عليه مضروب بلا خلاف. وإنّما صدق على الفعل مفعول لاتّفاقهما في لفظ (فاء ، عين ، لام). وكذلك عمل وصنع ؛ ويقال في العمل والصنع : معمول ومصنوع ، ومع ذلك لا يكون الفعل المذكور متعدّيا ، بل يصحّ ذلك وإن أريد به معنى خاصّ لازم وأريد به مطلق الفعل الذي هو أعمّ من اللازم والمتعدّي ، فإذا قلت : عملت عملا أو فعلت فعلا أو صنعت صنعا فانتصابه على المصدر ليس إلّا ،

٩٧

نعم ؛ إن أردت بالفعل المفعول الذي ليس هو الحدث ، بل المفعول به كان مجازا ، وحينئذ يصحّ فيه أن يكون مفعولا به ، وفيه تجوّز أيضا من جهة أنّ حقيقة المفعول هو الصادر عن الفاعل ، وحقيقة المفعول به هو ما وقع عليه فعل الفاعل على ما تقدّم عن اصطلاح متأخّري النحاة ، وهما متغايران كما قدّمنا.

الثامن : إذا قلت (عمل محرابا) : فإن أسندت الفعل إلى الله تعالى صحّ ، وانتصب (محرابا) على أنّه مفعول به ، وهو أيضا مفعول ، ومنه قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] وقد بيّنا وجه ذلك فيما سبق ، وإن أسندته إلى غير الله فقلت : عمل النجار محرابا ، لم يكن المحراب مفعولا نفسه لما قدّمنا أنّ عمل العباد لا يتجاوزهم ، ولأنّ مادة المحراب ليست معمولة للعباد ، وهي جزء المحراب ، فأولى أن لا يكون الكلّ معمولا لهم. وفي جعله مفعولا به تفصيل وهو أنّك إن جعلت (عمل) مجازا عن (نجر) كان إعماله في (محرابا) حقيقة على أنّه مفعول به لقولك نجرت محرابا ، فإنّ النّجر واقع على المحراب وقوع الضرب على زيد ، وكان المجاز في لفظ (عمل) ليس إلّا ، وإن جعلت (عمل) على حقيقته ، فإن جعلته على حذف مضاف كما سبق ، فالتقدير : عمل تصوير محراب ، فالتصوير مصدر ، فإذا حذف وأقيم المحراب مقامه أعرب مفعولا به على المجاز ، وإن قدّرته : عملت صنعة محراب ، على أن تكون الصورة الحاصلة في المحراب معمولة بخلاف ما قلناه فيما سبق ، كان كذلك أيضا ؛ وإن جعلت المحراب معمولا باعتبار أنّه محلّ العمل إطلاقا لاسم المحلّ على الحال لزم المجاز أيضا ، فالمجاز لازم على كلّ تقدير ، ولا شكّ في جواز الإطلاق ، قال تعالى : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥].

التاسع : بان بهذا أنّ قوله : (اعْمَلُوا صالِحاً) إنّما ينتصب (صالحا) فيه على غير المفعول به ، ولا يجوز انتصابه على المفعول به إلّا بمجازين :

أحدهما : إطلاق الصالح على المفعول الذي ليس عملا.

والثاني : إضافة العمل إليه ، وشيء ثالث وهو حذف الموصوف من غير دليل ، بخلاف ما إذا قدّرنا (عملا) الذي هو المصدر ، فإنّ الفعل يدلّ عليه. وكلّ واحد من هذه الثلاثة لا يصار إليه من غير ضرورة ، ولا ضرورة في جعله مفعولا به ، فكيف يصار إليه وفيه هذه المحذورات الثلاثة.

العاشر : ظهر بهذا وجه التقدير في قوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) [سبأ : ١١] ، وقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ١٣]. وأمّا قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] ، فانتصاب شكرا على أنّه مفعول

٩٨

له ، وجوّز الزّمخشري فيه أن يكون مفعولا به على المشاكلة ، وفيه مجاز. وأمّا قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) [طه : ١١٢] وما أشبه ذلك فكلّها ترجع إلى المصدر.

الحادي عشر : إنّما فرّقنا بين الأفعال العامة والخاصة لأنّ تعدّي الفعل إلى المفعول معناه وصول معناه إليه ، فالفعل الخاصّ كالضرب مثلا تعدّيه بوصول الضرب إلى المضروب ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الضارب مؤثّرا في ذات المضروب ـ أعني موجدا لها ـ ، والفعل العامّ كعمل مثلا تعدّيه بوصول معناه ، وهو العمل ، والعمل معنى عامّ في الذات وصفاتها فلذلك اقتضي العموم واتحاد المعمول حتّى يقوم دليل على خلافه. فمثار الفرق إنّما هو من معاني الأفعال ووصولها إلى المفعول.

الثاني عشر : من الأفعال نوع آخر مثل (قال) وهو لفظ يخفى فيه الفرق بين القول والمقول واللفظ والملفوظ ؛ لأنّ المقول والملفوظ هو الأصوات والحروف المقطّعة وهي القول واللفظ. والوجه في الفرق بينهما أنّ هنا أمرين : أحدهما حركة اللسان ونحوه مما فيه مقاطع الحروف بتلك الحروف. والثاني : نفس تلك الحروف المقطّعة المسموعة التي هي كيفيات تعرض للصّوت الخارج بتلك الحركات. فالأول هو التلفظ وهو القول واللفظ اللذان هما مصدران ، والثاني : هو المقول والملفوظ ، فإذا قلت : لفظت لفظا ، أو قلت قولا ، لك أن تريد الأول فتنصب اللفظ والقول على المصدرية ، ولك أن تريد الثاني فتنصبهما على المفعول به ، وهما أمران متغايران وإن لم يتجاوزا الفاعل وهو اللافظ القائل المتكلّم ، وليس من شرط تعدّي الفعل أن يتجاوز إلى محل غير الفاعل ، بل الشرط المغايرة سواء تجاوز في محله أو في غير محله.

هذا ما انتهى إليه نظري في هذه المسألة.

الكلام في قولهم في مثل : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

أورد الشيخ عبد القاهر الجرجاني على قولهم في مثل : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [العنكبوت : ٤٤] : «إنّ السماوات : مفعول به» إيرادا هو أنّ المفعول به عبارة عمّا كان موجودا فأوجد الفاعل فيه شيئا آخر ، نحو : ضربت زيدا ، فإنّ زيدا كان موجودا والفاعل أوجد فيه الضرب. والمفعول المطلق هو الذي لم يكن موجودا ، بل عدما محضا ، والفاعل يوجده ويخرجه من العدم. والسماوات في هذا التركيب إنّما كان عدما محضا فأخرجها الله تعالى من العدم إلى الوجود. انتهى.

٩٩

وتبعه على ذلك ابن الحاجب وابن هشام ، ويقال : إنه مذهب الرّمّاني أيضا.

أجاب الشيخ تاج الدين التبريزي عنه : بأنّا لا نسلّم أنّ من شرط المفعول به جوده في الأعيان قبل إيجاد الفعل ، وإنّما الشرط توقف عقلية الفعل عليه ، سواء كان موجودا في الخارج نحو : ضربت زيدا أو ما ضربته ، أم لم يكن موجودا. نحو : بنيت الدار ، قال الله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه : ٥٠] فإنّ الأشياء متعلّقة بفعل الفاعل بحسب عقليّته. ثمّ قد توجد في الخارج وقد لا توجد ، وذلك لا يخرجه عن كونه مفعولا به. وقال الله تعالى : (خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩].

وأجاب الشيخ شمس الدين الأصفهاني في (شرح الحاجبية) : بأنّ المفعول به بالنسبة إلى فعل غير الإيجاد يقتضي أن يكون موجودا ، ثمّ أوجد الفاعل فيه شيئا آخر ، فإنّ إثبات صفة غير الإيجاد يستدعي ثبوت الموصوف أولا ، وأمّا المفعول به بالنسبة إلى الإيجاد فلا يقتضي أن يكون موجودا ثمّ أوجد الفاعل فيه الوجود ، بل يقتضي ألّا يكون موجودا ، وإلّا لكان تحصيلا للحاصل. انتهى.

فائدة

(من) في قولهم : زيد أفضل من عمرو لابتداء الارتفاع

قال سيبويه : «(من) في قوله : «زيد أفضل من عمرو لابتداء الارتفاع» ، واعترض بأنّه لا يقع بعدها (إلى)». انتهى.

وأجاب الشيخ ركن الدين بأنّ المتكلم غرضه بيان ابتداء الفضل ، وليس له غرض في انتهائه ، فتأمّل.

ترك العطف في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ)

من فوائد الشيخ كمال الدين بن الزّملكاني في تفسير قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢] الآية.

في الجواب عن السؤال المشهور ، وهو أنّه كيف ترك العطف في جميع الصفات ، وعطف (النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالواو؟

قال : عندي فيه وجه حسن ، وهو أنّ الصفات تارة تنسق بحرف العطف ، وتارة تذكر بغيره ، ولكلّ مقام معنى يناسبه ؛ فإذا كان المقام مقام تعداد صفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف ، وإن أريد الجمع بين الصّفتين ، أو التنبيه على تغايرهما عطف بالحرف ، وكذلك إذا أريد التنويع لعدم اجتماعهما أتي

١٠٠