الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

الكلام في قول القائل : (كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل)

ومن كلامه أيضا ـ رحمه الله تعالى ـ على قول القائل : «كأنّك بالدّنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل».

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. اختلف في «كأنّك بالدّنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» في مواضع :

أحدها : في تعيين قائله ،

والثاني : في معنى (كأنّ).

والثالث : في توجيه الإعراب.

فأمّا قائله : فاختلف فيه على قولين :

أحدهما : أنّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

والثاني : أنّه الحسن البصريّ رحمه الله ، وقد جزم بهذا جماعة فلم يذكروا غيره منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمرون الحلبي في (شرح المفصّل) وأبو حيّان المغربيّ في (شرح التسهيل).

وأمّا معنى (كأنّ) : فاختلف فيه أيضا على قولين :

أحدهما للكوفيّين : زعموا أنّها حرف تقريب ، وليس فيها معنى التشبيه ، إذ المعنى على تقريب زوال الدنيا ، وتقريب وجود الآخرة. وجعلوا من ذلك قولهم : «كأنّك بالشتاء مقبل ، وكأنّك بالفرج آت». وهذا تستعمله الناس في محاوراتهم ، ويقصدونه كثيرا ، يقولون : «كأنّك بفلان قد جاء».

والثاني للبصريّين : زعموا أنّها حرف تشبيه ، مثلها في قولك : كأنّ زيدا أسد. ولم يثبتوا مجيئها للتّقريب أصلا ، والمعنى : كأنّ حالتك في الدنيا حال من لم يكن فيها ، وكأنّ حالك في الآخرة حال من لم يزل بها. فالمشبّه والمشبّه به الحالتان لا الشخص والفعل الذي هو الجنس.

وإيضاح هذا : أنّ الدّنيا لمّا كانت إلى اضمحلال وزوال ، كان وجود الشّخص بها كلا وجود ، وأنّ الآخرة لمّا كانت إلى بقاء ودوام ، كان الشخص كأنّه لم يزل فيها. لا وشكّ أنّ المعنى المشهور ل (كأن) هو التشبيه ، فمهما أمكن الحمل عليه لا ينبغي العدول عنه ، وقد أمكن على وجه ظاهر فانبغى المصير إليه.

وأمّا توجيه الإعراب ، وهو الذي يسأل عنه ، فاضطربت أقوال النحويين فيه اضطرابا كثيرا. والذي يحضرني الآن من ذلك أقوال :

٦١

أحدها : للإمام أبي عليّ الفارسيّ ـ رحمه الله ـ زعم أن الأصل : كأنّ الدّنيا لم تكن والآخرة لم تزل ، ثمّ جيء بالكاف حرفا لمجرّد الخطاب ، لا موضع لها من الإعراب ، كما أنّها مع اسم الإشارة كذلك ، وكذلك هي في قولهم «أبصرك زيدا» أي : أبصر زيدا ، والكاف حرف لا مفعول لأنّ (أبصر) إنّما يتعدّى إلى واحد. وجيء بالباء زائدة في اسم كأنّ ، كما زيدت في أصل المبتدأ في قولهم : «بحسبك درهم» ، وقولهم : «خرجت فإذا بزيد».

وهذا القول اشتمل على أمرين مخالفين للظاهر ، وهما إخراج الكاف عن الاسميّة إلى الحرفيّة ، وإخراج الباء عن التّعدية إلى الزّيادة.

والقول الثاني : لأبي الحسن بن عصفور ـ وهو قول أفقه من قول الفارسيّ ـ : زعم أنّ الكاف حرف خطاب اتّصلت ب (كأنّ) فأبطلت إعمالها ، وأزالت اختصاصها ، ولهذا دخلت على الجملة الفعليّة. وباء (بالدّنيا) و (بالآخرة) زائدة ، كما زيدت في المبتدأ الذي لم تدخل عليه (كأنّ) ، وقد مثّلناه. والذي حمله على زعمه زوال إعمالها ، أنّه لم يثبت زيادة الباء في اسم (كأنّ) ، وثبتت زيادتها في المبتدأ. وقد اشتمل قوله على أربعة أمور :

منها : الأمران اللذان استلزمهما قول الفارسي ، وقد شرحناهما.

ومنها : دعواه إلغاء (كأنّ). ولم يثبت ذلك إلّا إذا اقترنت ب (ما) الزائدة ، كما في قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ) [الأنفال : ٦] ، ودعواه أنّ الياء حرف تكلّم كما أنّ الكاف حرف خطاب ، وهو لم يصرّح بهذا ولكنّه يلزمه لأنّه لا يمكنه أن يدّعي أنّه اسمها ، لأنّه قد ادّعى إلغاءها. ولا يمكنه أن يدّعي أنّه مبتدأ لأمرين :

أحدهما : أنّ الياء ليست من ضمائر الرفع وإنّما هي من ضمائر النصب والجرّ ، كما في قولك : أكرمني غلامي.

والثاني : أنها لو كانت مبتدأ لكان ما بعدها خبرا ، ولو قيل مكان «كأنّي بك تفعل» : أنا تفعل ، لم ترتبط الجملة بالضمير ، وقد استقرّ أنّ الجملة المخبر بها لا بدّ لها من رابط يربطها.

ومنها : أنّه صرّح بأنّها قد دخلت على الجملة الفعلية في قولهم : «كأنّي بك تفعل». فلا يخلو : إمّا أن يدّعي أنّ الباء في بك زائدة والكاف مبتدأ والأصل «أنت تفعل» فلمّا دخلت الباء على الضمير المرفوع ، انقلبت ضمير جرّ ، أو يدّعي أنّ الباء متعلّقة ب (تفعل). فإن ادّعى الأوّل فالجملة اسميّة لا فعلية. وبطل قوله : إنّها دخلت

٦٢

على الجملة الفعلية. وإن ادّعى الثاني ، فلا يجوز في العربيّة أن تقول : عجبت منّي ولا عجبت منك ، لا يكون الفاعل ضميرا متّصلا بالفعل ، والمفعول ضميرا عائدا إلى ما عاد إليه ضمير الفاعل وقد تعدّى إليه الفعل بالجارّ ولهذا زعم أبو الحسن في قوله :  [المتقارب]

٦١٧ ـ هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

أنّ (على) اسم منصوب بهوّن ، لا حرف متعلّق بهوّن ، لأنّ الكاف على التقدير الأوّل مخفوضة بإضافة (على) ولا عمل فيها البتّة. وعلى التقدير الثاني منصوبة الموضع بالفعل ، ولا يجوز تعدّي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل. وينبغي له أن يقول بذلك في مثل قوله تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧]. وفي هذا الموضع مباحث (٢) ليس هذا موضعها ، لأنّ فيها خروجا عن المقصود.

والقول الثالث : لجماعة من النحويّين ، رحمهم الله تعالى : أنّ الكاف اسم (كأنّ) ، و «لم تكن» الخبر ، والباء ظرفيّة متعلّقة ب (تكن) إن قدّرت كان تامّة ، أو بمحذوف هو الخبر إن قدّرت ناقصة. وعلى هذا القول فالتاء في تكن للخطاب لا للتأنيث ، وضميرها للمخاطب لا للدّنيا. وكذا البحث في لم تزل.

وعلى القولين الأوّلين الأمر بالعكس التاء للتأنيث والضميران للدنيا والآخرة. وهذا القول خير من القولين قبله ، والمعنى : كأنّك لم تكن في الدنيا ، وكأنّك لم تزل في الآخرة.

والقول الرابع : لابن عمرون رحمه الله : إنّ الكاف اسم كأنّ ، و (بالدنيا) و (بالآخرة) خبران ، وكلّ من جملتي «لم تكن» و «لم تزل» في موضع نصب على الحال. وإنّما تمّت الفائدة بهذا الحال ، والفضلات كثيرا ما يتوقف عليها المعنى المراد من الكلام ، كقولهم : «ما زلت بزيد حتّى فعل» ، فإنّ الكلام لا يتمّ إلّا بقولهم : حتى فعل. وقد جاء ذلك في الحال كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، ف (ما) مبتدأ و (لهم) الخبر ، والتقدير : وأيّ شيء استقرّ لهم. و (معرضين) حال من الضمير المجرور باللام ، ولا يستغني الكلام عنه ، لأن الاستفهام في المعنى عنه لا عن غيره.

__________________

٦١٧ ـ الشاهد للأعور الشني في الدرر (٤ / ١٣٩) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٣٣٨) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٤٢٧) ، ولبشر بن أبي خازم في العقد الفريد (٣ / ٢٠٧) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٦٧٩) ، والجنى الداني (ص ٤٧١) ، وخزانة الأدب (١٠ / ١٤٨) ، ومغني اللبيب (١ / ١٤٦) ، والمقتضب (٤ / ١٩٦) ، وهمع الهوامع (٢ / ٢٩).

(١) انظر هذه المباحث في المغني (ص ١٥٦) ، والخزانة (٤ / ٢٥٤).

٦٣

وخطر لي وجه ظننت أنّه أجود من هذه الأقوال. وهو أنّ الكاف اسم كأنّ ، و «لم تكن» الخبر ، و (الدنيا) في موضع الحال من اسم كأن ، والعامل في الحال العامل في صاحبها ، وهو (كأنّ) ، كما عملت في «رطبا ويابسا» من قوله :  [الطويل]

٦١٨ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

المعنى : كأنّك في حالة كونك في الدّنيا لم تكن ـ أي بها ـ وكأنّك في حالة كونك في الآخرة لم تزل ـ أي بها ـ. وهذا عكس قول ابن عمرون. فإن قلت : يدلّ على صحّة ما قاله من أنّ الجملة «لم تكن» و «لم تزل» حال لا خبر ، أنّه قد روي : «كأنّك بالدّنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل» والجملة الحاليّة تقترن بالواو ، بخلاف الجملة الخبريّة ، ويقال : «كأنّك بالشمس وقد طلعت» ، قلت : إن سلم ثبوت الرّواية فالواو زائدة ، كما قال الكوفيّون في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الحج : ٢٥] : يصدّون هو الخبر ، والواو زائدة. وكما قال أبو الحسن في قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) [هود : ٧٤] : إنّ (وجاءته البشرى) جواب (لمّا) والواو زائدة. وفي قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، إنّ (فتحت) جواب (إذا) والواو زائدة ، إلى غير ذلك. وأمّا «كأنّك بالشمس وقد طلعت» فلا نسلّم ثبوته. وهو مشكل على قولي وقوله ، إذ لا يصحّ على قوله أن يكون (بالشمس) خبرا عن اسم كأنّ ، والتقدير : كأنّك مستقرّ بالشمس ، ولا يصحّ على قولي أن تكون «قد طلعت» خبرا عن اسم كأنّ ، لعدم الضّمير. فإذا كان لا يخرّج على قولي ولا على قوله فما وجه إيراده على ما قلته؟ فإن قلت : قد عدلت عمّا قاله من أن الظرف خبر والجملة حال إلى عكس ذلك ، قلت لوجهين :

أحدهما : أنّ على ما قلته يكون الخبر محطّ الفائدة ، وعلى ما قاله : يكون محطّ الفائدة الحال كما تقدّم شرحه ، ولا شكّ أنّ كون الخبر محطّ الفائدة أولى.

والثاني : أنّ العرب قالت : «كأنّك بالشّتاء مقبل وكأنّك بالفرج آت» ، فلفظوا بالمفرد الحالّ محلّ الجملة مرفوعا لا منصوبا.

__________________

٦١٨ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٣٨) ، وشرح التصريح (١ / ٣٨٢) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٤٢) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٤٤) ، ولسان العرب (أدب) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١٦) ، والمنصف (٢ / ١١٧) ، وتاج العروس (بال) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٣٢٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٢١٨).

٦٤

نعم قول ابن عمرون متّجه في قول الحريري (١) : [مجزوء الوافر]

كأنّي بك تنحطّ

إلى القبر وتنغطّ

فهذا لا ينبغي أن يعدل عنه عند تخريجه ، فيكون الظرف خبرا و «تنحطّ» حالا عن ياء المتكلّم لعدم الرابط على أنّ المطرّزيّ خرّجه على أنّ الأصل : كأنّي أبصرك ، ثم حذف الفعل لدلالة المعنى عليه ، فانفصل الضمير وزيدت الباء في المفعول. ولا شكّ أنّ فيه تكلّفا من وجهين إضمار الفعل ، وزيادة الباء ، مع إمكان الاستغناء عن ذلك ، ثمّ يكون قوله (تنحطّ) حالا من الكاف لا خبرا. والفائدة متوقّفة عليه ، إذ لو صرّح بالمحذوف فقيل : «كأنّي أبصرك» لم يتمّ المراد فما قاله ابن عمرون أولى ، لسلامته من هذا التكلّف. ولا يلزم من تعين قول ابن عمرون في هذا الموضع أن يحمل عليه «كأنّك بالدّنيا لم تكن» لأنّ ذاك تركيب آخر مغاير لهذا التّركيب.

ومثل قول الحريري قولهم «كأنّي بك تفعل كذا».

وقد انتهى القول في هذه المسألة ، على ما اقتضاه الحال من ضيق الوقت والمجال المتقاضى للكلام المذكور. والحمد لله أوّلا وآخرا ، وصلّى الله على محمد وآله وصحبه ، وسلّم تسليما كثيرا. نجزت يوم الإثنين السادس والعشرين من شهر الله المحرّم سنة أربع وخمسين وسبعمائة.

الكلام في قولهم : أنت أعلم ومالك ، وعلى أيّ شيء عطف

قال شيخنا الإمام العالم العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام رحمه الله :

وقفت على أسئلة مشكلة لبعض علماء عصرنا وها أنا موردها مفصّلة ومدوّن كلّ منها بما تيسّر لي من الجواب. وما توفيقي إلّا بالله ، عليه توكّلت وإليه أنيب.

السؤال الأوّل : قال رحمه الله : المسؤول الاطلاع على ما نقل الناس في قولهم : «أنت أعلم ومالك» (٢) ، وتبيين المعطوف عليه ما هو؟ على القول بأنه عطف لفظي غير راجع إلى المعنى.

وأقول : إنّ الكلام في هذا الموضع في مقامين :

__________________

(١) انظر مقامات الحريري (ص ٨٠) ، المقامة الحادية عشرة ، والمغني (ص ٢١٠) ، وشرح أبيات المغني للبغدادي (٤ / ١٧٤).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٦٠).

٦٥

أحدهما : في بيان إشكال هذا المثال.

والثاني : في الجواب عمّا تضمّنه السؤال. فأمّا الأوّل : فاعلم أنّه لا يخلو ما بعد الواو في هذا المثال ، من أن يكون معطوفا على المبتدأ ، أو على الخبر ، أو على ضميره ، أو غير معطوف ، وكلّ مشكل :

أمّا الأوّل : فلاستلزامه مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في التجرّد للإخبار عنه ب «أعلم».

وأما الثاني : فلاستلزامه مشاركته له في الإخبار به عن «أنت».

وأما الثالث : فلاستلزامه مشاركته في إسناد «أعلم» إليه. وكلّ ذلك ظاهر الامتناع من حيث المعنى. ويلزم على الثالث أيضا من حيث الصناعة ، رفع اسم التفضيل للظاهر في غير مسألة الكحل ، والعطف على الضمير المرفوع المتّصل من غير توكيد ولا فصل ، وهما ضعيفان. فإن استسهل الأول بأنّهم يغتفرون في الثواني ما لا يغتفرون في الأوائل أجيب : بأنّ اغتفارهم ذلك ، لم يثبت في مسألة رفع اسم التفضيل الظاهر في غير محلّ النزاع فيحمل هذا عليه.

وأمّا الرابع : فإنّه لا بدّ من تقدير خبر آخر حينئذ ، فإن قدّر المحذوف مبتدأ ، فالتقدير : أنت ومالك» وإن قدّر خبرا فالتقدير : «مالك أعلم» وكلاهما ظاهر الاستحالة. ولا يمكن أن يقدّر مبتدأ أو خبر غير ما تقدّم ذكره ؛ لأنّ مثل هذا الحذف مشروط بكون المحذوف مماثلا للمذكور ، كما في قوله تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] ، وقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] ، في قول من قدّر «أم» منقطعة ؛ وذلك لما استقرّ عليه قول الجمهور ، من أنّ «أم» المنقطعة لا تقع إلّا بين جملتين ؛ فيجب على قولهم تقدير الخبر ، كما وجب في «إنّها لإبل أم شاء» (١) تقدير المبتدأ. وأمّا إذا قدّرت «أم» المتّصلة ـ وهو الظاهر ـ فلا حذف.

وأمّا الثاني : فمجموع ما رأيت في ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ «مالك» معطوف على «أنت» ، و «أعلم» خبر عنهما. واعتذر عن نسبة «أعلم» إلى المال بوجهين ؛ أحدهما : أنّه لمّا كان النظر في المال ، يلزم منه في الأكثر مجيئه على حسب اختيار الناظر فيه ، نسب العلم إليه مجازا. قاله ابن الصائغ وعلى قوله قالوا : وللتّشريك في اللفظ والمعنى كما هو قاعدتها. وفي هذا الوجه نظر ، بعد تسليم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، لأنّا لا نعلمهم أجازوه إلّا في

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٩٥).

٦٦

المجازيّ اللغويّ. أمّا في المجازيّ العقليّ ؛ بأن يسند اللفظ إلى أمرين معا : إلى أحدهما بطريق الحقيقة ، وإلى الآخر بطريق المجاز فلا. ثمّ لا خفاء بما في هذا الوجه من البعد في المعنى.

الوجه الثاني : أنّ هذا عطف لفظيّ ، لم يقصد به التشريك في المعنى. وهذا القول مشكل في الظاهر لمخالفته لما عليه إطباق النحويّين من أنّ الواو العاطفة للمفرد تقتضي التشريك في اللفظ والمعنى ، ولم أر من وفّاه حقّه من الشرح. وأقول :لا خفاء بأنّ المعنى : أنت أعلم بمالك. وهذا هو أصل الكلام. ثمّ إنّ العرب أنابوا واو العطف عن باء الجرّ ، للتوسيع في الكلام ، وليتناسب اللفظان المتجاوران ، وليفاد بالحرف الواحد معنى الحرفين ؛ فإنّ الواو حينئذ تفيد في المعنى الإلصاق لنيابتها عن حرف ، وتفيد في اللفظ تشارك الاسمين في الإعراب اعتبارا بأصلها وظاهر لفظها. وعلى هذا فاللفظ لفظ المعطوف ، والمعنى معنى المفعول ، فلا إشكال في اللفظ ولا في المعنى. وليس هذا من البدل التصريفيّ الذي لحظ فيه قرب المخرج ، أو اتّحاده ، كما أبدلت واو القسم من بائه حين كانا حرفين شفهيّين ، لأنّ ذلك يقتضي الاشتراك في العمل ؛ وإنّما هو من باب ترك كلمة ، والإتيان بأخرى مكانها لتقارب معناها ـ كالإتيان بالواو في نحو «سرت والنّيل» مكان «مع» ـ لكون الباء للإلصاق ، وواو العطف للجمع ، وهما متقاربان.

والذي يدلّ على مجيء الواو خلفا عن الباء قولهم : «بعت الشّاء شاة ودرهما» أي شاة بدرهم ؛ لأنّا قاطعون بأنّ الدّرهم ثمن لا مبيع ، ولأنّهم قالوا أيضا : «بعت الشاء شاة بدرهم». وهذا الذي ذكرته هو أصحّ وأوضح ما يقال في المسألة. ومتبوعي فيه الجرمي من المتقدّمين ، وابن مالك من المتأخّرين. فمن كلامهما أخذت ، وعلى ما أشارا إليه اعتمدت. أمّا الجرميّ : فإنّه نصّ على أنّ الواو هنا بمعنى الباء ولكنّه أهمل التنبيه على فائدة هذا العطف. وأمّا ابن مالك (١) فلأنّه ذكر أنّ المقصود التناسب اللفظيّ ، وأنّه كالخفض على الجوار ، ولكنّه أهمل التنبيه على نيابة الواو عن الباء ، وذلك هو الذي انبنى عليه كون هذا العطف ، لا يقتضي التشريك في الحكم. وقد وفّيت بجميع ما قالا ، وأضفت إليه ما لم يذكرا ممّا لا بدّ منه. ويظهر لي أنّ الصواب خلاف ما زعماه ، من أنّ المعطوف عليه المبتدأ ، وأنّ الصواب أنّه الخبر. وهو قول ابن طاهر ؛ وذلك لأنّه حمل على الأقرب ، وأنّ هذا العطف كالخفض في «هذا جحر ضبّ خرب» (٢) ، وذلك يقتضي تجاور الاسمين ، ولأنّ الباء

__________________

(١) انظر قاعدة (الخفض على الجوار) في المغني (٧٦٠).

(٢) انظر الكتاب (١ / ١١٣).

٦٧

ملحوظة المعنى كما ذكرنا ، ومعناها متعلّق بالخبر. فليكن العطف على الخبر ليتّحد التعلّقان المعنويّ واللفظيّ.

الوجه الثاني : «أنّه معطوف لفظا ومعنى على الخبر ، وكأنّه قيل : أنت ومالك. وذلك على قول ابن خروف في «كلّ رجل وضيعته» (١) : إنّ الخبر العاطف والمعطوف لكونها بمنزلة (مع) ومجرورها» قاله ابن الصائغ. وفيه نظر لأمرين :

أحدهما : أنّه ليس المراد الإخبار عن الشخص بأنّه أعلم على الإطلاق ، وبأنّه مع مال ، لم يحل بينهما حائل.

والثاني : أنّ التفريع على هذا القول الضعيف إنّما يقتضي أن المعطوف عليه المبتدأ لا الخبر ، كما أنّه في «كلّ رجل وضيعته» كذلك. ثمّ المعروف عن ابن خروف أنّ الواو ومصحوبها أغنيا عن الخبر كإغناء الوصف في : أقائم الزيدان ، لا لأنهما الخبر.

الوجه الثالث : أنّه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : أنت أعلم وأنت ومالك ، فحذف المبتدأ لدلالة ما تقدّم عليه ؛ فالتقى واوان ، فحذفت الأولى لئلّا يدخل حرف على مثله قاله ابن الصائغ أيضا ؛ وفيه نظر ، لأنّه خلاف المعنى ؛ إذ معنى الكلام حينئذ : أنت أعلم من غيرك على الإطلاق ، وأنت ومالك مقرونان. ثمّ مثل هذا لا يسمّى خبرا إلّا بتجوّز ، على قول ابن خروف. ثم قال :

السؤال الثاني : وما معنى المعيّة في نحو : «أنت أعلم ومالك».

أقول : الصواب ما قدّمناه ، ومن أنّ معنى الواو هنا كمعنى الباء ، وهو قول الجرميّ ومن وافقه. وأمّا معنى المعيّة فبعيد ، وإن كان سيبويه قد ذكره ، ونصّه في ذلك : «فإنّما أردت : أنت أعلم مع مالك» (٢) انتهى. وقد يكون مراده تفسير ما يتحصّل من المعنى ؛ وذلك لأنّه ليس المراد الإخبار بأنّ المخاطب أعلم على الإطلاق ، بل إنّه إذا كان مع ماله ، كان أعلم كيف يدبّره ، أو أنّه إذا اعتبر مع ماله كان أعلم به. وفي كلام سيبويه من هذه التجوّزات ما لا خفاء به لمن وقف على كلامه ولهذا قال ابن النّحاس وغيره : إنّه خاطب بهذا الكتاب قوما قد اعتادوا المجازات والكنايات. ثمّ قال :

السؤال الثالث : وهل تجوّز النصب في نحو «كلّ رجل وضيعته» تجوّزه هنا أم لا؟ وما توجيه الجواز إن قيل به؟

__________________

(١) انظر الكتاب (٣٥٨ ، ٤٦٢).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٦٠).

٦٨

وأقول : إنّ المجوّز لذلك هو الصّيمريّ (١) ، نصّ عليه في التّبصرة ولم يتعرّض لهذا المثال. وظاهر كلام ابن مالك أنّ النصب فيه لا يجيزه أحد فإنّه قال ـ وقد ذكر «أنت ورأيك» و «أنت أعلم ومالك» ـ ما نصّه : «ولا خلاف في وجوب الرفع فيما أشبه المثالين المذكورين (٢) ، ومن ادّعى جواز النصب في نحو «كلّ رجل وضيعته» على تقدير : كلّ رجل كائن وضيعته ، فقد ادّعى ما لم يقله عربيّ انتهى. فخصّ نحو «كلّ رجل وضيعته» بالخلاف.

والذي يظهر في الفرق بينهما أمران :

أحدهما : ظهور معنى المعيّة في «كلّ رجل وضيعته» ، وخفاؤه في «أنت أعلم ومالك» ، وقد مضى شرح ذلك.

والثاني : أنّه بني الجواز على أنّ التقدير : كلّ رجل كائن وضيعته ، كما تقدّم عنه. و «كائن» يصحّ له أن يعمل في المفعول معه ؛ وأمّا «أنت أعلم ومالك» فإنّ ما قبل الواو منه كلام تامّ ، فلا يمكن أن يقدّر فيه عامل. ولا يصلح «أعلم» للعمل في المفعول معه ، لأنّه لا يعمل فيه على الصحيح ، إلّا ما يصحّ له العمل في المفعول به ، لا كلّ ما يصحّ له العمل في الحال ، خلافا لأبي عليّ. ولهذا منع سيبويه «هذا لك وأباك» (٣) ، وإن وجد حرف التنبيه والإشارة والظرف ، وكلّ منهن صالح للعمل في الحال. والفرق بينهما ، أنّ الحال شبيهة بالظرف ، فعمل فيها روائح الفعل ، ولا كذلك المفعول معه. ولو صحّ معنى المعيّة في المثال المذكور وقال قائل بجواز النصب فيه لأمكن توجيهه إمّا على قول الجرجانيّ أو الكوفيّ أو الفارسي في أنّ الناصب للمفعول معه (الواو) أو الخلاف أو كلّ ما ينصب الحال. ولهذا جوّز الفارسيّ «هذا لك وأباك» ، وجوّز في قوله :[البسيط]

٦١٩ ـ [لا تحسبنّك أثوابي فقد جمعت]

هذا ردائي مطويّا وسربالا

أن يكون العامل «هذا». ثم قال :

السؤال الرابع : وما توجيه القول بوجوب حذف الخبر من نحو : «أنت أعلم

__________________

(١) الصّيمريّ : هو عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمريّ النحوي ، أبو محمد ، له كتاب «التبصرة في النحو» ، كتاب جليل أكثر ما يشتغل به أهل المغرب (انظر بغية الوعاة ٢ / ٤٩).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٦٠).

(٣) انظر الكتاب (١ / ٣٧٠) أما «هذا لك وأباك» فقبيح أن تنصب «الأب» لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلّم بالفعل.

٦١٩ ـ الشاهد بلا نسبة في الدرر (٣ / ١٥٤) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٢٤) ، وشرح التصريح (١ / ٣٤٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٨٦).

٦٩

وعبد الله» (١) إذا جعلنا «أعلم» خبرا عن «أنت» ، و «عبد الله» مبتدأ حذف خبره وما المانع من ذكر الخبر إذا جعلنا الواو للمعيّة أو للعطف المحض.

وأقول : لم أقف لأحد ـ على القول بوجوب حذف الخبر في ذلك ـ غير ابن مالك. وهو مخالف لقولهم : إنّ الخبر لا يجب حذفه إلّا إذا سدّ شيء مسدّه. ولهذا ردّوا تجويز الأخفش في نحو «ما أحسن زيدا» ، أن تكون ما موصولة ، أو موصوفة ، وتجويز بعضهم في : نعم الرجل زيد ، كون المخصوص مبتدأ محذوف الخبر ، وقول الفارسيّ في «ضربي زيدا قائما» : إنّ الخبر مقدّر بعد الحال. ومن العجب أنّ ابن مالك من جملة من ردّ بذلك ، وذهل عنه هنا.

ثمّ إذا سلّم أنّ ذلك ليس بشرط استنادا إلى إعراب هؤلاء الأئمّة فقد يوجّه بأمرين :

أحدهما : أنّ «أعلم» لمّا كان صالحا للإخبار به عن الاثنين ، وكان تقدير «عبد الله» مقدّما على «أعلم» ممكنا ، صار وإن كان مبتدأ ، كأنّه معطوف ، و «أعلم» وإن كان خبرا عن «أنت» وحده ، كأنّه خبر عنهما معا ، فمنع ذلك ظهور خبر آخر. وهذا بخلاف نحو : زيد قائم وعمرو ، فإنّ الخبر المذكور لا يصلح للاسمين معا.

والثاني : أنّ المعنى هنا : أنت أعلم بعبد الله ، وذلك كلام تامّ لا يحتاج إلى خبر فكذا ما بمعناه وكلّ من الوجهين معترض.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه وجوب الحذف في نحو : «زيد في الدار وعمرو» ، ولا قائل به. وفي الحديث : «أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة» (٢) إلى آخره.

وأمّا الثاني : فمن وجهين أحدهما : اقتضاؤه وجوب الحذف على تقدير الواو للعطف المحض ، وإنّما المدّعى وجوبه مطلقا ، والثاني : أنّه إحالة لصورة المسألة ، فإنّ المدّعى جوازها على إضمار الخبر ، والتوجيه المذكور يقتضي أنّه لا خبر في اللفظ ، ولا في التقدير. ثمّ قال :

السؤال الخامس : وما وجه الحكم برجحان النصب على المعيّة على العطف في نحو «لا تتغذّ بالسمك واللبن ، ولا يعجبك الأكل والشّبع» مع أنّ المقصود فيها المعيّة مطلقا ، وليس العطف هنا بمقصود. وهلّا كان النصب متعيّنا لتأديته مراد المتكلّم وإخلال العطف بذلك.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٣٦٠).

(٢) أخرجه أبو داود في سننه (٥ / ٣٩) ، وابن ماجه في سننه (١ / ٤٨).

٧٠

وأقول : لا يمتنع التعبير بالعبارات المجملة ، عند التمكّن من العبارات المعيّنة للمعنى المراد. والعطف إنّما يخلّ بالتنصيص على معنى المعيّة لإفادتها مطلقا ، فإنّ أحد محتملات الواو العاطفة معنى المعيّة. وإنّما تتعيّن العبارة التي لا تحتمل غير المراد إذا أريد التنصيص على ذلك المعنى ، ولم تحتف بالكلام قرينة ترشد إليه.

وقد جوّزوا لقاصد نفي الجنس ب «لا» على سبيل الإجمال أن يعملها عمل (ليس) ، وأوجبوا إعمالها عمل (إنّ) إذا أريد التنصيص (١). وجوّز سيبويه والمحقّقون لمن قال : «طالني زيد» و «جاءني عمرو» إذا بناهما للمفعول إن يخلص الضمّ والكسر وأن يشمّ (٢). والذي يقتضيه النظر أنّه تتعيّن العبارة الناصّة إذا أريد التنصيص ، والمجملة إذا أريد الإجمال ، ويجوز الأمران إذا لم يرد أحد الأمرين بعينه ، وتترجّح الناصّة حينئذ على المجملة. ولم يمش ابن مالك في ذلك على قاعدة ، لأنّه قال في نحو : «جاءني» بوجوب الإشمام أو الضمّ ، وفي نحو «طالني» : بوجوب الإشمام أو الكسر. وقال في باب «لا» : يجوز إلحاقها ب (ليس) إن لم يرد التنصيص على العموم. وقال في المفعول معه برجحان النصب إذا خيف بالعطف فوات ما يضرّ فواته. ثم قال :

السؤال السادس : «وما وجه تقسيمهم مسائل الباب إلى ما يجب نصبه ، وإلى ما يرجح ذلك فيه ، وإلى ما يرجح عطفه ، مع أنّهم يقولون : إنّ المفعول معه لا بدّ أن يدخله معنى المفعول به ، وقد سمّاه سيبويه بذلك ، ومقتضى هذا أنّه يتعيّن النصب عند قصد هذا المعنى ، إذا وجد المسوّغ اللفظي ، فكيف يحكم برجحانه على العطف في بعض الصور؟ بل كيف يحكم بتساوي الأمرين في بعضها أيضا؟ فإن قيل : الحكم بما ذكر إنّما هو بالنظر إلى صور التراكيب اللفظية وإن اختلف المعنيان ، أشكل حينئذ كلام ابن مالك رحمه الله تعالى ـ حيث حكم برجحان العطف حيث أمكن ذلك بلا ضعف. وهذه العبارة يندرج تحتها نحو : «قام زيد وعمرو» وهذا التركيب إن نظرنا إليه مع قطع النظر عمّا يقصد من المعنى ، يقتضي تساوي الأمرين كما قال (٣) أبو الحسن بن عصفور. فما وجه كلام ابن مالك وهل يتمّ كلامه فتجيء الصور في هذا الباب خمسا أو لا يتمّ فتكون أربعا.

وأقول : أمّا ما تضمّنه صدر السؤال من الإشكال فقد ذكر في أثنائه ما يرفعه ،

__________________

(١) انظر شرح شذور الذهب (ص ٢٠٩) ، وأوضح المسالك (١ / ٢٧٤) ، والمغني (ص ٢٦٤).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٤٨٦).

(٣) انظر المقرّب (١ / ١٥٩).

٧١

وهو أنّ الحكم بالأقسام المذكورة إنّما هو بالنظر إلى صور التراكيب اللفظية. ولا يلزم ابن مالك الحكم بتساوي الأمرين في نحو : «قام زيد وعمرو» ، بل الحكم برجحان العطف ، وهو قائل به ، ووجه لزوم ذلك من ظاهر كلامه ، لأنّ العطف قد أمكن بلا ضعف. وهذا هو مقتضى النظر لأنّ العطف هو الأصل وقد أمكن وسلم عن معارض. وأمّا كلام ابن عصفور فالقياس الذي ذكرناه ، يأباه ، فالصور أربع لا خمس.

وليعلم أنّ تسمية سيبويه المفعول معه مفعولا به مشكلة ، والناس فيها فريقان : فمنهم من تأوّلها ـ وهو ابن مالك فقال حين ذكر أنّ الباء تأتي للمصاحبة ، ما نصّه : «ولمساواة هذه الباء ل «مع» قد يعبّر سيبويه عن المفعول معه بالمفعول به» انتهى. ومنهم من أجراها على ظاهرها. والقول عندي : إن بعض الأمثلة يكون الاسم فيه على معنى «مع» ، ويسمّى مفعولا معه ، وبعضها يكون فيه على معنى الباء ويسمّى مفعولا به ، وأنّ سيبويه إنّما أراد ذلك. وها أنا مورد كلامه لتتأمّلوه : قال رحمه الله : «وينتصب فيه الاسم لأنّه مفعول معه ومفعول به» (١) ثمّ قال : «وذلك قولك : «ما صنعت وأباك» ، و «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها» ، إنما أردت : «ما صنعت مع أبيك» ، و «لو تركت الناقة مع فصيلها». فالفصيل مفعول معه ، والأب كذلك ، والواو لم تغيّر المعنى ، ولكنّها تعمل في الاسم ما قبلها. ومثل ذلك : ما زلت وزيدا حتّى فعل ، أي : ما زلت بزيد حتّى فعل ، فهو مفعول به و «ما زلت أسير والنيل» (٢) أي : مع النيل ، و «استوى الماء والخشبة» ، أي : بالخشبة» (٣) انتهى. فانظر إلى كلامه رحمه الله ، حيث قال مفعولا معه ، ومفعولا به ، ثم فسّر بعض الأمثلة ب «مع» وبعضها بالباء. وأنّه حيث قدّر أحد الأمرين يكون ذلك المعنى إمّا متعيّنا ، أو أظهر من المعنى الآخر. فمن تأمّل هذا الكلام بالإنصاف علم أنّ مراده ما ذكرت.

ولم يتّسع الوقت للنظر فيما قال شارحو (الكتاب) في هذا الموضع ، وهذا مبلغ فهمي في كلامه رحمه الله ، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٣٦٠).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٥٦).

(٣) انظر الكتاب (١ / ٣٥٦).

٧٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)

هذه مسألة من كلام شيخنا العالم العلّامة جمال الدّين عبد الله بن يوسف بن هشام رحمه الله في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

قال : يجوز في الظّرفين أربعة أوجه (١) :

أحدها : أن يكون الأوّل خبرا ، والثاني متعلّقا به.

والثاني : عكسه وهو أن يكون الثاني خبرا ، والأوّل متعلّقا به. ولا يمنع هذا تقدّم الظرف على عامله المعنويّ فإنّ ذلك جائز باتّفاق كقولهم : «أكلّ يوم لك ثوب».

الثالث : أن يكونا خبرين ، وذلك عند من يجيز تعدّد الخبر.

والرابع : أن يكون الأوّل خبرا ، والثاني حالا. وهذا الوجه أيضا ممّا لا يختلف في جوازه. وربّما سبق إلى الذهن أنّ فيه خلافا ، وليس كذلك ، لتقدّم العامل وهو الظّرف ، وتأخّر المعمول وهو الحال ، فهو نظير قولك : «في الدّار جالسا زيد» (٢) وفي : «هجر مسقرّا سعيد». وهذا ممّا لا شكّ في جوازه.

ويبقى وجه خامس : وهو عكس هذا ، أعني أن يكون الأوّل حالا ، والثاني خبرا ، فهذا نصوص النحويّين متظافرة على منعه. جماعة منهم حكوا الإجماع على ذلك.

قال ابن مالك في (شرح الكافية) : «... ولو قدّمت الحال على العامل الظّرفيّ ، وعلى صاحبها ، لم يجز بإجماع ...». وقال الأبّدي في شرحه الكبير على (الجزوليّة) : «أجاز أبو الحسن تقدّم الحال المعمولة للظّرف مع توسّط الحال بين المبتدأ والخبر. ومنع ذلك مع التقّديم ووجه قوله : أنّ المبتدأ طالب للخبر ، فإذا تقدّم كان الخبر في نيّة التّقديم إلى جانبه فكأنّ الحال مؤخّرة عنهما ولهذا امتنع بالإجماع أن تتقدم عليهما جميعا» انتهى كلامه ملخّصا.

وقال ابن عصفور في (شرح الإيضاح) : «اتّفق البصريّون على امتناع التّقديم عليهما جميعا». فقوله «البصريون» دخل فيهم الأخفش ، لأنّه من أئمّة البصريّين

__________________

(١) انظر إملاء العكبري (١ / ٤٨).

(٢) انظر الأشموني (١ / ٤٢٧).

٧٣

وهو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه. وحيث أطلق النحويّون البصريّين لا يريدون غيره.

وممّن نقل الإجماع عليه أيضا : المام أبو بكر بن طاهر المعروف بالخدبّ ولكن نقل عن أبي الحسن أنّه أعرب «فداء» من قولهم : «فداء لك أبي» حالا. ونقل عن الإمام المحقّق عبد الواحد بن علي الأسديّ المعروف بابن برهان قول أسهل من ذلك ، وهو أنّه أجاز ذلك في الظّرف. وقد وقفت له على ذلك. قال في شرحه للّمع في قوله تعالى : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [الكهف : ٤٤] : (هنالك) ظرف مكان ، وهي حال. و (الولاية) مبتدأ ، (لله) الخبر. ولام الجرّ عملت في الحال مع تقدّمها على اللام لأنّها بلفظ الظّرف. وأنشد لابن مقبل العجلانيّ : [الطويل]

٦٢٠ ـ ونحن منعنا البحر أن تشربوا به

وقد كان منكم ماؤه بمكان

ثمّ قال : «(منكم) حال والعامل فيه الباء في (بمكان)».

وعلى هذا ففي المسألة ثلاثة مذاهب : المنع مطلقا ، وهو قول من عدا الأخفش وابن برهان ، والجواز مطلقا ، وهو قول الأخفش ، والجواز إذا كان العامل ظرفا ، والمنع إذا كان غير ظرف ، وهو قول ابن برهان. وعلى هذين القولين فيجوز الوجه الخامس في الآية. ولكنّهما قولان شاذّان مخالفان لما يقتضيه القياس والسّماع. والذي أجازه أصعب من الذي أجازه ابن برهان ولعلّ الذين نقلوا الإجماع على خلاف ذلك لم يعتدّوا بهما ، أو رأوا أنّ القائل بهما ذهل عن القاعدة. ووقفت للأخفش على خلاف ما نقل عنه ، في (كتابه الصّغير) : «هذا باب من الحال ، اعلم أنّ قولهم : «هذا عبد الله قائما في الدّار» ـ على الحال ـ جائز ؛ وقد قدّمت الحال قبل العامل لأنّ الحال ل (عبد الله). فإذا قدّمت الذي الحال له في المعنى كان جائزا». هذا نصّه ، والنّسخة التي عندي معتمدة ، لأنّها بخطّ أبي الفتح بن جنّي. قوله رحمه الله : «فإذا قدّمت الذي الحال له في المعنى كان جائزا» دليل على أنّك إذا أخّرت الذي الحال له كان ممتنعا. ثمّ إنّه صرّح بذلك بعد فقال : «ولو قلت «قائما في الدار عبد الله» لم يجز» هذا نصّه بحروفه.

فإن قلت : فما تصنع بما احتجّ به ابن برهان؟ قلت لا دليل في شيء منه. أمّا الآية الكريمة (٢) فيجوز في (هنالك) أن تكون ظرفا ل (منتصرا). وعلى هذا الوجه

__________________

٦٢٠ ـ الشاهد لابن مقبل في ديوانه (ص ٣٤٦) ، ولسان العرب (بحر) ، ولبعض الخوارج في المقاصد النحوية (٣ / ١٧٣).

(١) يشير إلى سورة الكهف الآية (٤٤).

٧٤

وقف بعض القرّاء (١) : «وما كان منتصرا هنالك» ، ثمّ ابتدأ «الولاية لله». ويجوز أن يكون خبرا و (لله) متعلّق ب (الولاية). ويجوز أن يكونا خبرين. ومع هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال. وأمّا البيت : فالجواب عنه مستفاد من الكلام الذي قدّمته عن الأبّديّ. وذلك أنّه جعل تقدّم بعض الجملة كتقدّم كلّها ؛ لأنّ بعضها يطلب بعضا. وهنا لمّا تقدّمت (كان) وهي طالبة لاسمها وخبرها ، كانا في نيّة التّقديم ، وكانت الحال متأخّرة عنهما في التقدير على أنّني متردّد في ثبوت هذه المقالة عن ابن برهان ، فإنّني رأيتها في نسخة معتمدة مقروءة على أبي محمّد بن الخشّاب ، وأوّلها ما صدّر به حاشيته ، ثم ذكر ذلك إلى آخره. فالظاهر أنّه ممّا ألحق ، كما ألحقت حواش من كلام الأخفش وغيره في متن كتاب سيبويه.

وأمّا قولهم : «فداء لك أبي» (٢) فإنّه يروى بالرّفع والنّصب والكسر. وبالأوجه الثّلاثة يروى قول نابغة بني ذبيان في معلّقته المشهورة : [البسيط]

٦٢١ ـ مهلا فداء لك الأقوام كلّهم

وما أثمّر من مال ومن ولد

فأمّا الرّفع ، فعلى الابتداء أو الخبر. والأولى أن يكون (فداء) هو الخبر ، و (الأقوام) هو المبتدأ. وكذلك (أبي) في المثال ، لأنّ المعرفة أولى بالابتداء من النكرة هذا قول حذّاق المعربين ، وخالف سيبويه في مثل ذلك ، فأعرب النّكرة المتقدّمة مبتدأ ، والمعرفة المتأخّرة خبرا ، بناء على الأصل ، من أنّ كلّا منهما حال في محلّه ، ولا تقديم ولا تأخير ، وعلى أنّ النكرة التي لها مسوّغ بمنزلة المعرفة ، والمعرفتان إذا اجتمعتا كان المقدّم منها هو المبتدأ (٤).

وأمّا النّصب فعلى المصدر ؛ وأصل الكلام : تفديك الأقوام ، ثمّ حذف الفعل ، وأقيم مصدره مقامه ، وجيء ب (لك) للتّبيين كما جيء بها بعد (سقيا) في قولهم : «سقيا لك». وارتفع (الأقوام) في البيت ، و (أبي) في المثال بالمصدر ، أو بالفعل المحذوف ، على خلاف بين النحويين في ذلك.

وأمّا الكسر ـ وهي رواية يعقوب بن السّكّيت وغيره ـ فللنحويّين فيه قولان :

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن (٢ / ٤٣) ، والكشف (٢ / ٤٤).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣٩٦).

٦٢١ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٢٦) ، وخزانة الأدب (٦ / ١٨١) ، ولسان العرب (فدي) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٦ / ٢٣٧) ، وشرح المفصّل (٤ / ٧٣) ، وإعراب القرآن للنحاس (٣ / ٢٨).

(٣) انظر الكتاب (١ / ٣٩٦).

٧٥

أحدهما : أنّه مبتدأ ، وما بعده خبره ، أو بالعكس على الخلاف الذي شرحناه في رواية الرّفع ، وأنّه معدول عن (مفديّ) وبني على الكسر. وليس هذا القول بشيء ، لأنّه لا وجه لبنائه على هذا التّقدير. ثمّ هو فاسد من حيث المعنى ، إذ كان حقّه أن يقول : إنه معدول عن (فاد) ، لأنّ المفديّ هو المخاطب لا الأقوام.

والثاني : أنّه اسم فعل ومعناه : ليفدك الأقوام ، أي : وبني كما بني (نزال) و (دراك) ، كذا وجّهه أبو جعفر النّحّاس في شرح المعلّقات ، وفيه نظر ، فإنّا لا نعلم اسم فعل على وزن فعال ، بكسر الفاء ، ولا اسم فعل ناب عن فعل مضارع مقرون بلام الأمر.

وحكى الفرّاء أنّه قال : «فدى لك» بفتح الفاء وبالقصر وهذا يحتمل أن يكون في موضع رفع ، وأن يكون في موضع نصب ، وقد مضى توجيههما والله تعالى أعلم.

على أي شيء رفع (وخير منك) في قول جابر رضي الله عنه

«كان يكفي من هو أوفى عنك شعرا وخير منك».

من كلام شيخنا الشيخ جمال الدين هشام رحمه الله.

بسم الله الرحمن الرحيم

قول جابر رضي الله عنه : «كان يكفي من هو أوفى منك شعرا وخير منك» (١).

الظّاهر أنّ (خير) مرفوع عطفا على (أوفى) المخبر به عن (هو) ، أي : «كان يكفي من هو أوفى وخير» ، كما تقول : أحبّ من هو عالم وعامل. والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول ، والموصول مفعول (يكفي).

ويقع في النّسخ ، ويجري على ألسنة الطّلبة بنصب خير. وقد ذكر أنّه خرّج على سبعة أوجه :

أحدها : أن يكون عطفا على المفعول ، وهو (من).

الثاني : أن يكون بتقدير (كان) ، مدلولا عليها ب (كان) المذكورة أوّلا ؛ أي : وكان خيرا.

الثالث : على تقدير (يكفي) ، مدلولا عليها ب (يكفي) المذكورة.

الرّابع : على إلغاء (من هو) فيكون (أوفى) مفعولا و (خيرا) معطوفا عليه.

__________________

(١) انظر صحيح مسلم (١ / ١٧٨) ، باختلاف بسيط في اللفظ.

٧٦

الخامس : على إلغاء (من هو أوفى).

السادس : على تقدير : وأكثر خيرا.

السّابع : على العطف على (شعرا).

وهذه كلّها باطلة إلّا السابع ، فإنّه مستبعد.

١ ـ أمّا العطف على (من) ، فإنّه يؤدّي إلى مغايرة المعطوف لمن وقعت عليه (من) ويصير بمنزلة «كان يكفي زيدا وعمرا» ، فيكون الذي هو أوفى غير الذي هو خير. وليس المراد ذلك.

٢ ـ وأمّا تقدير (كان) فباطل من وجهين :

أحدهما : أنّ حذف (كان) مع اسمها وبقاء خبرها ، لا يجوز بقياس إلّا بعد (إن) و (لو) ومن ثمّ قال سيبويه ـ رحمه الله ـ : «لا تقل (عبد الله المقتول) بتقدير : كن عبد الله المقتول» (١) وخالف المحقّقون الكسائيّ في تخريجه قوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] على تقدير : يكن الانتهاء خيرا لكم.

الثاني : أنّا إذا قدّرنا (كان) مدلولا عليها بالأولى قدّرنا مرفوعها مرفوع الأولى كما أنّك إذا قلت : [الرجز]

٦٢٢ ـ علفتها تبنا وماء [باردا

حتى شتت همّالة عيناها]

لا تقدّر : وسقاها غيري ماء بل (وسقيتها). وذلك لأنّ الفعل والفاعل كالشيء الواحد فتقدير أحدهما مستلزم لتقدير الآخر بعينه. فعلى هذا إذا قدّرت (كان) الأولى قدّرت فاعلها ، فيصير : (وكان هو) أي : الصّاع.

٣ ـ وأمّا تقدير (يكفي) : فإنّه يؤذن أيضا بالتّغاير ، كما أنّك إذا قلت : كان يكفي الفقيه ويكفي الزاهد ، آذن بذلك. وسببه أنّ (يكفي) الثّاني إنّما هو لمجرّد التّوكيد ، فذكره بمنزلة لو لم يذكر. وهو لو لم يذكر آذن العطف بالتّغاير ، فكذلك إذا ذكر.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٣٢٢).

٦٢٢ ـ الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج) و (قلد) و (علف) ، وأمال المرتضى (٢ / ٢٥٩) ، والإنصاف (٢ / ٦١٢) ، وأوضح المسالك (٢ / ٢٤٥) ، والخصائص (٢ / ٤٣١) ، والدرر (٦ / ٧٩) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٢٦) ، وشرح التصريح (١ / ٣٤٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٣١٢) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٥٨) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٠٥) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٣٢) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٠١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٠) ، وتاج العروس (علف).

٧٧

٤ ـ ٥ : وأمّا إلغاء (من هو) أو إلغاء (من هو أوفى) : فباطلان من وجهين :

أحدهما : أنّ زيادة الأسماء لا تجوز عند البصريين وكذلك زيادة الجمل. ثمّ إنّ الكوفيّين يجيزون ذلك ، وإنّما يجيزونه حيث يظهر أنّ المعنى مفتقر إلى دعوى الزّيادة كما في قول لبيد : [الطويل]

٦٢٣ ـ إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

فإنّهم قالوا : (اسم) زائد ، لأنّه إنّما يقال : السّلام على فلان ، ولا يقال : اسم السّلام عليك ، فادّعوا زيادة ذلك لهذا المعنى ، وهو مفقود فيما نحن بصدده.

وقد يقال : إنّ أفسد هذين الوجهين الوجه المدّعى فيه زيادة (من هو) خاصّة. فإنّ ذلك لا يجيزه أحد ، لأنّ المبتدأ يبقى بلا خبر ، والموصول بلا صلة. ويجاب بأنّ دعوى زيادة الاسم لا تخرجه عن استحقاقه لما يطلبه على تقدير عدم الزّيادة.

الثاني : أنّه إذا كان زائدا امتنع العطف عليه ، لأنّه يصير بمنزلة ما لم يذكر ، والعطف عليه يقتضي الاعتداد به وتقدّم جوابه فتناقضا.

٦ ـ وأمّا تقدير (أكثر) : فباطل لأنّ أفعل التفضيل لم يحذف في كلامهم باقيا معموله ، لضعفه في العمل ، وجموده ؛ لأنّه لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث.

٧ ـ وأمّا عطفه على (شعرا) : فهو أقرب من جميع ما ذكر ، لأن (أوفى) بمعنى أكثر ، فكأنّه قيل : أكثر منك شعرا وخيرا ، إلّا أنّ هذا يأباه ذكره (منك) بعد (خير) ، ألا ترى أنّك إذا قلت : كان يكفي من هو أكثر منك علما وعبادة لم يحتج إلى قولك (منك) ثانيا؟ وقد يتكلّف جواز هذا الوجه على أن تجعل (منك) الثّانية مؤكّدة للأولى. والله تعالى أعلم.

__________________

٦٢٣ ـ الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه (٢١٤) ، والأغاني (١٣ / ٤٠) ، وبغية الوعاة (١ / ٤٢٩) ، وخزانة الأدب (٤ / ٣٣٧) ، والخصائص (٣ / ٢٩) ، والدرر (٥ / ١٥) ، وشرح المفصّل (٣ / ١٤) ، ولسان العرب (عذر) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٧٥) ، والمنصف (٣ / ١٣٥) ، وبلا نسبة في أمالي الزّجاجي (ص ٦٣) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٠٧) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٠٧) ، والمقرب (١ / ٢١٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ٤٩).

٧٨

مسألة

نصب لفظ (قيله) في قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)

[الزخرف : ٨٨].

قرأ الجمهور (وقيله) بالنّصب.

فعن الأخفش : أنّه عطف على (سرّهم ونجواهم). وعنه أيضا : أنّه بتقدير : وقيل قيله.

وعن الزّجّاج : أنّه عطف على محلّ «السّاعة». وقيل : على مفعول «يكتبون» المحذوف ، وقيل : يكتبون أقوالهم وأفعالهم ، وقيل : على مفعول «يعلمون» ، أي : يعملون الحقّ وقيله.

وقرأ السّلمي وابن وثّاب وعاصم والأعمش وحمزة : بالخفض (١) ، فقيل : عطف على «الساعة» ، أو على أنّها واو القسم ، والجواب محذوف ، أي : لينصرنّ أو لأفعلنّ بهم ما أشاء.

وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب بالرفع (٢). وخرّج على أنّه معطوف على «علم السّاعة» على حذف مضاف أي : «وعلم قيله» ، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وروي هذا عن الكسائي. وعلى الابتداء ، وخبره «يا ربّ» إلى «لا يؤمنون» ، أو على أنّ الخبر محذوف تقديره مسموع أو متقبّل ، فجملة النداء. وما بعده في موضع نصب ب «وقيله». وقرأ أبو قلابة : «يا ربّ» (٣) بفتح الباء أراد : «يا ربّا» ، كما تقول : يا غلاما ، ويتخرّج على ما أجاز الأخفش : «يا قوم» بالفتحة ، وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها. وقال الزّمخشري : «والذي قالوه ـ يعني من العطف ـ ليس بقوي في المعنى ، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ، ومع تنافر النّظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم ، وحذفه. والرفع على قولهم : «أيمن الله» ، «وأمانة الله» ، و «يمين الله» ، و «لعمرك». ويكون قوله «إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون» جواب القسم كأنّه قال : وأقسم بقيله يا ربّ أو : «وقيله يا ربّ قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون» انتهى. وهو مخالف لظاهر الكلام إذ

__________________

(١) انظر تيسير الداني (ص ١٦٠).

(٢) انظر المحتسب (٢ / ٢٥٨).

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن (٢ / ٢٨٦).

٧٩

يظهر أنّ قوله : «يا ربّ ... لا يؤمنون» متعلّق ب «قيله» ، «ومن كلامه عليه السّلام». وإذا كان «إنّ هؤلاء ...» جواب القسم كان من إخبار الله تعالى عنهم وكلامه. والضمير في «قيله» للرّسول ؛ وهو المخاطب بقوله : فاصفح عنهم» أي أعرض عنهم وتاركهم وقل سلام (١).

مسألة

الكلام في قوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر»

لا خلاف في امتناع قتل المسلم بالحربيّ واختلف في قتله بالذمّي واحتجّ من منعه بحديث : «لا يقتل مسلم بكافر» (٢).

وتقديره : أنّ «كافر» نكرة في سياق النّفي فيعمّ الحربيّ وغيره. واختلف المانعون في الجواب.

فطائفة أجابوا عن ذلك مع قطع النّظر عن الزيادة الواردة في الحديث فقالوا : إنّ قوله «بكافر» عامّ أيد به خاصّ. واختلفوا في توجيه ذلك على قولين :

أحدهما : أنّ المعنى : لا يقتل مسلم بكافر قتله في الجاهلية وذلك أنّ قوما من المسلمين كانوا يطالبون بدماء صدرت منهم في الجاهلية ، فلما كان يوم الفتح قال عليه السّلام : «كلّ دم في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ لا يقتل مسلم بكافر» (٣).

والثاني : أن المراد بالكافر الحربيّ ؛ فإنّ غيره قد اختصّ في الإسلام باسم وهو الذمّي. ولنا أن نمنع الأول : بأنّ العبرة بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السبب ؛ والثاني : بأنّ الكافر لغة وعرفا من قام به الكفر حربيّا كان أو ذمّيّا ، لأنّه اسم فاعل من «كفر» ، والأصل عدم التخصيص. ويؤيّده أنّ الوعيد الوارد في التنزيل للكافرين ليس مخصوصا بالذمّي بالاتّفاق.

وطائفة أجابوا عنه بعد ضمّ تلك الزيادة إليه وهي : «... ولا ذو عهد في عهده.» (٤) ، ولهؤلاء أربعة أجوبة :

١ ـ أحدها : ما نقله عنهم الأصوليّون ؛ وتقديره أنّ هذه الزّيادة مفتقرة إلى ما

__________________

(١) انظر المسألة في مغني اللبيب (ص ٦٠٤) ، ومشكل إعراب القرآن (٢ / ٢٨٥) ، وإملاء العكبري (٢ / ١٢٣).

(٢) أخرجه النسائي في سننه (٨ / ٢١) ، وابن ماجه (ص ٨٨٧) ، وأحمد في مسنده (١ / ٧٩).

(٣) أخرجه ابن ماجه في سننه (٢ / ١٠٢٥).

(٤) انظر سنن أبي داود (٤ / ١٨٠) ، ومسند أحمد (٢ / ١٨٠).

٨٠