الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

أحدهما : فعللة ، والآخر : فعلال ، كسرهفة وسرهاف وزلزلة وزلزال ، وفعلال أحقّ بهما لوجهين :

أحدهما : أنّ فعلل مشاكل لأفعل في عدّة الحروف وفتح الأوّل والثالث والرابع وسكون الثاني فجعل إفعال مصدر أفعل ، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران كما تشاكل الفعلان ، فكان فعلال أحقّ بهما من فعللة.

والثاني : أنّ أصل المصدر أن يباين وزنه وزن فعله ، وفعلال أشدّ مباينة لفعلل في وزنه من فعللة ، فكان أحقّ به منه ، وإن كانا سيّين في الاطّراد مع رجحان فعللة في الاستعمال على فعلال في قولهم : وسوس الشيطان وسواسا ووعوع الكلب وعواعا وعظعظ السّهم في مرّه عظعاظا إذا التوى ، والجاري على القياس وسواس ووسوسة ووعواع ووعوعة وعظعاظ وعظعظة ، والفتح نادر لأنّ الرباعيّ الصحيح أصل للرباعي المكرّر أوّله وثانيه كما مرّ ، ولم يأت مصدر الصحيح مع كونه أصلا إلّا على فعللة وفعلال بالكسر ، فلا ينبغي للرباعي المكرّر لفرعيته أن يكون مصدره إلّا كذلك وهذا يقتضي أن لا يكون له مصدر على فعلال بالفتح وإن ورد حكم بشذوذه ، وأيضا فإنّ فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغا من فعلل المكرّر ليكون فيه نظير فعّال من الثلاثي كضرّاب لأنهما متشاكلان وزنا فاقتضى هذا أن لا يكون لفعلال المفتوح الفاء في المصدرية نصيب ، كما لم يكن لفعّال فيها نصيب ، فلذلك استندر وقوع وسواس ووعواع وعظعاظ مصادر ، وإنّما حقّها أن تكون صفات دالّة على المبالغة في الوسوسة والوعوعة والعظعظة ، فحق ما وقع منها في موضع محتمل للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية تخلّصا من الشذوذ ومخالفة المطّرد الشائع الذائع ، وليس بمحقّ من زعم في شيء من الصفات الواردة على هذا الوزن أنّه مصدر مضاف إليه ذو تقديرا ، ويدلّ على فساد قوله أمران :

أحدهما : أنّ كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرا فمجرّده للمصدرية أكثر من استعماله صفة كرضى وصوم وفطر ، وفعلال الموصوف به لم يثبت مجرّده للمصدرية إلّا في وسواس وأخواته ، على أنّ منع مصدريتها ممكن ، وذلك أنّ من سمع منه «وسوس إليه الشيطان وسواسا» بالفتح لا يتعثّن كونه قاصدا للمصدرية ، بل يحتمل أن يقصد الحاليّة ، فإنّ الحال قد يؤكّد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى ، كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩] وكقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) [النحل : ١٢] ، فإنما تتعيّن المصدرية في وسواس أن لو سمع مضافا إلى الشيطان معلقا به معمول ، كما سمع

٤١

ذلك في الوسوسة كقول بعضهم : «وسوسة الشيطان إلى النفس داء» ، تتعيّن المصدرية في مثل هذا لا بالانتصاب بعد الفعل.

الثاني : أنّ المصدر المضاف إليه ذو تقديرا لا يؤنّث ولا يثنّى ولا يجمع ، بل يلزم طريقة واحدة لتعلم أصالته في المصدرية وفرعيته في الوصفية ، فيقال : امرأة صوم ورجل صوم ورجلان صوم ورجال صوم أو نساء ، وفعلال الموصوف به ليس كذلك ، لأنه يؤنّث ويثنّى ويجمع وجوبا ، فيقال : رجل ثرثار وتمتام (١) وفأفاء ولضلاض أي : ماهر بالدلالة ، وهرهار أي : ضحّاك ، وجحجاح : سيّد ، وفجفاج : كثير الكلام ، وكهكاه ووطواط : ضعيف ، وعسعاس ، وحسحاس : خفيف الحركة ، وهفهاف : خميص البطن ، وبجباج : ممتلئ الجسم ودعداع ودحداح أي : قصير ، وتختاخ : ألكن وسمسام : سريع وقعقاع المفاصل أي : مصوّت ، وشيء خشخاش أي : يابس مصوّت ، وسبع قضقاض كاسر ، وحيّة نضناض : يحرّك لسانه كثيرا ، وكلّ ذلك يؤنّث بالتاء ويثنّى ويجمع ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم : «أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجالس يوم القيامة الثّرثارون المتفيهقون» (٢) ، ومنه ريح زفزافة أي : محرّكة للحشيش وسفسافه تنخل التراب بمرّها ، ودرع فضفاضة : واسعة ، الفعل من كل ذلك فعلل والمصدر فعللة وفعلال بالكسر ، ولم ينقل في شيء منها فعلال بالفتح ، ومن أجاز ذلك كالزمخشري فقياسه غير صحيح لأنّ القياس على النادر لا يصحّ ، فثبت ما قصدته من بيان أصالة الوصفية في فعلال وغرابة المصدرية فيه وامتناعها منه ، فالقول المرضيّ أنّ الوسواس في قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) [الناس : ٤] هو الشيطان ، لا على حذف مضاف ، بل على أنّه من باب فعلال المقصود به المبالغة في فعلل كثرثار ونظائره ، والله أعلم بالصواب.

وسئل ابن مالك أيضا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم : «غير الدجّال أخوفني عليكم» (٣) فأجاب : الكلام على لفظه ومعناه ، أمّا لفظه : فلتضمّنه إضافة أخوف إلى ياء المتكلم مقرونة بنون الوقاية ، وهو إنّما يعتاد مع الفعل المتعدي ، لأنّ هذه النون تصون الفعل من محذورات :

أحدها : التباسه بالاسم المضاف إلى ياء المتكلم ، فلو قيل : «ضربني» ضربي لالتبس بالضّرب وهو العسل الأبيض الغليظ ، فنفت نون الوقاية هذا المحذور.

__________________

(١) التمتمام : الذي يعجل بكلامه فلا يفهم ما يقول.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده (٤ / ١٩٤).

(٣) أخرجه مسلم في صحيحه (٤ / ٢٢٥١).

٤٢

الثاني : أمر مؤنّثه بأمر مذكره ، فلو قلت : أكرمي بدل أكرمني قاصدا مذكّرا لم يفهم المراد ، فنفت النون ذلك.

الثالث : ذهاب الوهم إلى أنّ المضارع صار مبنيّا وذلك لو أوقعته على ياء المتكلم غير مقرونة بالنون لخفي إعرابه ، وظنّ به البناء على مراجعة الأصل ، فإنّ إعرابه على خلاف الأصل وأصله البناء ، فلو قلت بدل يكرمني : يكرمي لظنّ عوده إلى الأصل ، فزيادة النون تمكّن من ظهور إعرابه ، والاسم مستغن عن النون في الوجهين الأوّلين ، وأمّا الثالث : فللاسم فيه نصيب ، لكنّ أصالته في الإعراب أغنته وصانته من ذهاب الوهم إلى بنائه ، لا بسبب جليّ ، لكنّه وإن أمن ظنّ بنائه فلم يؤمن التباس بعض وجوه إعرابه ببعض ، فكان له في الأصل نصيب من إلحاق النون ، وتنزّل إخلاؤه منها منزلة أصل متروك ينبه عليه في بعض المواضع ، كما نبه بالقود واستحوذ على أصل قاد واستحاذ ، وكان أولى ما ينبّه به على ذلك أسماء الفاعلين ، فمن ذلك ما أنشده الفراء من قول الشاعر (١) : [الوافر]

فما أدري وكلّ الظّنّ ظنّي

أمسلمني إلى قومي شراح

فرخّم شراحيل دون نداء اضطرارا ، ومثله ما أنشده ابن طاهر في تعليقه على كتاب سيبويه : [الطويل]

٦٠١ ـ وليس بمعييني وفي النّاس مقنع

صديقي إذا أعيى عليّ صديق

وأنشد غيره : [الطويل]

٦٠٢ ـ وليس الموافيني ليرفد خائبا

فإنّ له أضعاف ما كان آملا

ولأفعل التفضيل أيضا شبه بالفعل وخصوصا بفعل التعجب ، فجاز أن تلحقه النون المذكورة في الحديث ، كما لحقت اسم الفاعل في الأبيات المذكورة ، وهذا أجود ما يقال في هذا اللفظ عندي ، ويجوز أن يكون «أخوف لي» وأبدلت اللام نونا كما في لعنّ مكان لعلّ وفي رفنّ بمعنى رفلّ ، وهو الفرس الطويل.

وأما الكلام من جهة المعنى ففيه وجوه :

أظهرها كون أخوف أفعل التفضيل صيغ من فعل المفعول كقولهم : أشغل من

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣١٧).

٦٠١ ـ الشاهد بلا نسبة في شرح الأشموني (١ / ١٢٦).

٦٠٢ ـ الشاهد بلا نسبة في الدرر (١ / ٢١٣) ، وشرح الأشموني (١ / ٥٧) ، ومغني اللبيب (٢ / ٣٤٥) ، والمقاصد النحوية (١ / ٣٨٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٥).

٤٣

ذات النّحيين (١) ، وأزهى من ديك (٢) ، وأعنى بحاجتك ، و «أخوف ما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّون» (٣) ، إذ المراد أنّ المعبّر عنه بذلك شغل وزهي وعني أكثر من شغل غيره وزهوه وعنايته ، وكذا «أخوف ما أخاف» أي : الأشياء التي أخافها على أمتي أحقّها بأن يخاف الأئمّة المضلّون ، فمعنى الحديث هاهنا : غير الدّجّال أخوف مخوفاتي عليكم ، فحذف المضاف إلى الياء فاتصل بها «أخوف» معمودة بالنون كما تقرّر ، ويحتمل أن يكون أخوف من أخاف بمعنى خوّف ، ولا يمنع ذلك كونه عن ثلاثي فإنّه على أفعل ، وما على وزن أفعل والثلاثي فيه سواء عند سيبويه في التفضيل والتعجب ، صرّح به مرارا ، فالمعنى : غير الدّجّال أشدّ موجبات خوفي عليكم ، ثم اتّصل بالياء معمودة بالنون على ما تقرر ، ويحتمل أن يكون من وصف المعاني بصفات الأعيان مبالغة كشعر شاعر ، وهذا الشعر أشعر من هذا ، وعجب عاجب ، وموت مائت ، وخوف خائف ، ويقال : فلا أخوف من خوفك ، ومنه قول الشاعر : [المتقارب]

٦٠٣ ـ يداك يد خيرها يرتجى

وأخرى لأعدائها غائظه

فأمّا الّتي يرتجى خيرها

فأجود جودا من اللّافظه

وأمّا الّتي يتّقى شرّها

فنفس العدوّ بها فائظه

فنصب جودا بأجود على التمييز ، وذلك يوجب لكونه فاعلا معنى ، لأنّ كل منصوب على التمييز بأفعل التفضيل فاعل في المعنى ، ونصبه علامة فاعليّته ، وجرّه علامة أنّ أفعل بعض منه ، ولهذا معنى «زيد أحسن عبدا» أنّ عبده فاق عبيد غيره في الحسن ، وإن جررت فمعناه أنّه بعض العبيد الحسان وهو أحسنهم ، فمعنى الحديث على هذا : خوف غير الدّجّال أخوف خوفي عليكم ، ثم حذف المضاف إلى غير وأقيم هو مقام المحذوف ، وحذف خوف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه ، فاتّصل أخوف بالياء معمودة بالنون ، ويحتمل أن يكون أخوف فعلا مسندا إلى واو هي ضمير عائد على غير الدجال لأنّ من جملة ما يتناوله غير الدجال الأئمة

__________________

(١) ذكره الميداني في مجمع الأمثال (١ / ٣٧٦).

(٢) انظر مجمع الأمثال (١ / ٣٢٧).

(٣) أخرجه أحمد في مسنده (٦ / ٤٤١).

٦٠٣ ـ الأبيات لطرفة في ديوانه (ص ١٥٥) ، والبيت الأول في شرح التصريح (١ / ١٨٢) ، والأول والثاني في المقاصد النحوية (١ / ٥٧٢) ، والبيت الأول بلا نسبة في أوضح المسالك (١ / ٢٢٨) ، وتخليص الشواهد (ص ٢١٢) ، وخزانة الأدب (١ / ١٣٣) ، وشرح الأشموني (١ / ١٠٦) ، ولسان العرب (غيظ) ، والبيت الثاني بلا نسبة في لسان العرب (فيظ) ، وتاج العروس (فيظ) ، والبيت الثالث بلا نسبة في لسان العرب (فيظ).

٤٤

المضلون ، وهم ممّن يعقل فغلّبوا ، فجيء بالواو ثم اجتزئ عنها بالضمة وحذفت ، كقوله : [الوافر]

٦٠٤ ـ فيا ليت الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الأساة

وقوله : [الرمل]

٦٠٥ ـ دار حيّ وتنوها مربعا

دخل الضّيف عليهم فاحتمل

فاسألن عنّا إذا النّاس شتوا

واسألن عنّا إذا النّاس نزل

أراد : كانوا ، فحذف الواو وأبقى الضمة ، وكذلك أراد الآخر احتملوا ونزلوا فحذف الواو ثم سكّن اللام من احتمل ونزل للوقف ، هذا ما تيسّر ولله الحمد.

وسئل ابن مالك أيضا : أيجوز صرف أريس في قولهم : بئر أريس؟ فأجاب : نعم وهو في الأصل عبارة عن الأصل ، ويطلق على الأكّار وعلى الأمير ، وقيل : إن أريد به الأمير فهو مقلوب رئيس.

وسئل رحمه الله أيضا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم : «إلّا جاء كنزه يوم القيامة شجاع أقرع» (٢) ، فأجاب : فاعل جاء الكانز وكنزه مبتدأ وأقرع خبره ، والجملة حالية ، لأنّ الجملة الابتدائية المشتملة على ضمير ما قبلها تقع حالا ، واقترانها بالواو أكثر ، وقد جرّدت منه في قوله تعالى : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الأعراف : ٢٤] ، (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠] ، وتقول العرب : «رجع فوره على بدئه» (٣) «وكلّمته فاه إلى فيّ» (٤) ، وقال الشاعر : [الطويل]

٦٠٦ ـ ويشرب أسآري القطا الكدر بعد ما

سرت قربا أحناؤها تتصلصل

ومثله : [الكامل]

٦٠٧ ـ راحوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدو بها عتد وأى

__________________

٦٠٤ ـ الشاهد بلا نسبة في معاني القرآن (١ / ٩١) ، ومجالس ثعلب (ص ٨٨) ، والإنصاف (ص ٣٨٥) ، وشرح المفصّل (٧ / ٥) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٨) ، والدرر (١ / ٣٣).

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٢ / ٦٨٤).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٤٦٠).

(٣) انظر الكتاب (١ / ٤٦٠).

٦٠٦ ـ الشاهد للشنفرى في ديوانه (ص ٦٦) ، وخزانة الأدب (٧ / ٤٤٧) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٠٦) ، ونوادر القالي (ص ٢٠٥) ، وبلا نسبة في شرح عمدة الحافظ (ص ٤٥٥).

٦٠٧ ـ الشاهد للأسعر الجعفي في لسان العرب (عتد) و (وأى) ، وجمهرة اللغة (ص ٣١٢) ، ومقاييس اللغة (١ / ٢٥٤) ، والأصمعيات (ص ١٤١) ، والمعاني الكبير (ص ١٠١٣) ، ومجمل اللغة (١ / ٢٧٠) ، وبلا نسبة في لسان العرب (بصر) ، وتهذيب اللغة (٢ / ١٩٥) ، والمخصص (٦ / ٩٣) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٥٥).

٤٥

أي : قويّ.

ومثله : [الطويل]

٦٠٨ ـ ولو لا سواد اللّيل ما آب عامر

إلى جعفر سرباله لم يمزّق

ويجوز جعل كنزه فاعل جاء وشجاع خبر مبتدأ محذوف ، والجملة في موضع الحال ، أي : جاء وهو شجاع أو صورته شجاع ، ولا يعد فيه لأنّ فيه حذف المبتدأ والواو ، إذ الاهتمام بهذه الواو أقلّ من الاهتمام بالفاء المقترنة بمبتدأ وقع جواب شرط ، وقد حذفا معا في قوله : [الكامل]

٦٠٩ ـ أأبيّ لا تبعد فليس بخالد

حيّ ومن يصب الحمام بعيد

أي : فهو بعيد ، فحذف الفاء وهي ألزم من الواو.

مسألة

فعل الأمر لا يعمل في غير ضمير المخاطب

قال ابن مالك : لا يصحّ في «قم أنت وزيد» الحكم بعطف زيد على فاعل قم لأنّ العامل فيه هو العامل في المعطوف عليه ، وقم ونحوه من أفعال الأمر لا يعمل في غير ضمير المخاطب ، فيحمل ما وقع من ذلك على أنّ «زيد» مرفوع بفعل دلّ عليه «قم» أي قم أنت وليقم زيد ، وعليه يحمل قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] ، وإليه أشار سيبويه بقوله : يقال دخلوا أوّلهم وآخرهم ، ولا يقال : ادخلوا أوّلكم وآخركم لأنّ «ادخل» لا يصحّ إسناده إلى أولكم وآخركم ، وذكر أنّ عيسى بن عمر أجاز ذلك ، وهو نظير (٣) : [الطويل]

ليبك يزيد ضارع [لخصومة

ومختبط مما تطيح الطّوائح]

يعني أنّ أوّلكم وآخركم مرفوع بفعل مضمر دلّ عليه ادخلوا كما أنّ ضارعا مرفوع بفعل دل عليه ليبك.

__________________

٦٠٨ ـ الشاهد لسلامة بن جعفر في ديوانه (ص ١٧٦) ، والأصمعيات (ص ١٣٥) ، ولسان العرب (جنن) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١٠) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (١ / ٢٥٨).

٦٠٩ ـ الشاهد لعبد الله بن عنمة في خزانة الأدب (٩ / ٤٢) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٠٤١).

(١) مرّ الشاهد رقم (٢١٦).

٤٦

مسألة

نسبة الحال إلى المضاف إليه

قال ابن مالك : نسبة الحال إلى المضاف إليه على أوجه : وجه يجوز إجماعا إذا كان المضاف مصدرا أو صفة عاملة ك : أعجبني قيام زيد مسرعا وإنّ زيدا ضارب عمرو متّكئا ، ووجه يمتنع إجماعا حيث لم يكن المضاف مصدرا ولا صفة ولا بعض ما أضيف إليه ك : ضربت غلام زيد متّكئا ، وثالث : مختلف فيه إذا كان المضاف بعض المضاف إليه أو يشبه بعضه ، كقوله : [الطويل]

٦١٠ ـ كأنّ يدي حربائها متشمّسا

يدا مذنب يستغفر الله تائب

ومنه قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧]. وقد صحّ جوازه عن أبي الحسن الأخفش في أمالي ابن الحاجب.

وقال ممليا على قول الشاعر (٢) : [المديد]

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

قال : لا يصحّ أن يكون له عامل لفظي هنا يعمل في غير ، وإذا لم يكن له عامل لفظي فإمّا أن يكون مبتدأ وإمّا أن يكون خبر مبتدأ ، ولا يصحّ أن يكون مبتدأ لأنه لا خبر له ، لأنّ الخبر إمّا أن يكون ثابتا أو محذوفا ، والثابت لا يستقيم لأنّه إمّا على زمن وإمّا ينقضي ، وكلاهما مفسد للمعنى ، وأيضا فإنّك إذا جعلته مبتدأ لم يكن بدّ من أن تقدّر قبله موصوفا ، وإذا قدّر قبله موصوف لم يكن بدّ من أن يكون غير له ، وغير هاهنا ليست له وإنما هي لزمن ، ألا ترى أنّك لو قلت : «رجل غيرك مرّ بي» لكان في غيرك ضمير عائد على رجل؟ ولو قلت : «رجل غير متأسّف على امرأة مرّ بي» لم يستقم لأنّ غيرا هاهنا لمّا جعلته في المعنى للمرأة خرج عن أن يكون صفة لما قبله ، ولو قلت : «رجل غير متأسّف مرّ بي» جاز لأنّها في المعنى للضمير ، والضمير عائد على المبتدأ فاستقام ، فتبيّن أن لا يكون مبتدأ لذلك ، وإن جعل الخبر محذوفا لم يستقم لأمرين :

أحدهما : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه ، والآخر : أنّه لا قرينة تشعر به ، ومن شرط صحة حذف الخبر وجود القرينة ، وإن جعل خبر مبتدأ لم يستقم لأمور :

__________________

٦١٠ ـ الشاهد لذي الرمّة في ديوانه (ص ٢٠٣) ، ولسان العرب (شمس).

(١) مرّ الشاهد (٤٨٩).

٤٧

أحدها : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه.

الثاني : أنّ حذف المبتدأ مشروط بالقرينة ولا قرينة.

الثالث : أنّك إذا جعلته خبر مبتدأ لم يكن بدّ من ضمير يعود منه إلى المبتدأ ، لأنه في معنى مغاير ، ولا ضمير يعود على ما تقدّره مبتدأ ، فلا يصحّ أن يكون خبرا ، فتبيّن إشكال إعرابه.

وأولى ما يقال أنّه أوقع المظهر موقع المضمر لمّا حذف المبتدأ من أوّل الكلام ، وكأن التقدير : زمن ينقضي بالهمّ والحزن غير متأسّف عليه ، فلمّا حذف المبتدأ من غير قرينة تشعر به أتى به ظاهرا مكان المضمر ، فصارت العبارة فيه كذلك ، وهو وجه حسن ، ولا بعد في مثل ذلك ، فإنّ العرب تجيز : «إن يكرمني زيد إنّي أكرمه» وتقديره : إني أكرم زيدا إن يكرمني ، فقد أوقعت زيدا موقع المضمر لمّا اضطرّت إلى إعادة الضمير إليه وأوقعت المضمر موقع المظهر لمّا أخرته عن الظاهر ، فقد تبيّن لك اتّساعهم في مثل ذلك وعكسه ، ويحتمل أن يقال : إنهم استعملوا غيرا بمعنى لا كما استعملوا لا بمعنى غير ، وذلك واسع في كلامهم ، وكأنه قال : لا تأسف على زمن هذه صفته ، ويدلك على استعمالهم غيرا بمعنى لا قولهم : زيد عمرا غير ضارب ، ولا يقولون : زيد عمرا مثل ضارب ، لأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، ولكنّه لمّا كانت غير تحمل على لا جاز فيا ما لا يجوز في مثل وإن كان بابهما واحدا ، وإذا كانوا قد استعملوا «أقلّ رجل يقول ذلك» بمعنى النفي مع بعده عنه بعض البعد فلأن يستعملوا «غير» بمعنى لا مع موافقتها لها في المعنى أجدر فإن قيل : فإذا قدّرتموها بمعنى لا فلا بدّ لها من إعراب من حيث كونها اسما فما إعرابه؟ قلنا : إعرابه كإعراب قولك : أقلّ رجل يقول ذلك ، وهو مبتدأ لا خبر له استغناء عنه ، لأنّ المعنى : ما رجل يقول ذلك ، وإذا كان كذلك صحّ المعنى من غير احتياج إلى خبر ، ولا استنكار بمبتدأ لا خبر له ، إذا كان في المعنى بمعنى جملة مستقلة ، كقولهم : أقائم الزيدان ، فإنّه بالإجماع مبتدأ ولا مقدّر محذوف ، والزيدان فاعل به ليس بخبر ، فهذا مبتدأ لا خبر له في اللفظ ولا في التقدير ، وإنما استقام لأنّه في المعنى : أيقوم الزيدان؟ وكذلك قول بعض المحققين في نزال وتراك : إنه مبتدأ وفاعله مضمر ولا خبر له لاستقامة المعنى من حيث كان معناه : انزل واترك ، وقد ذهب كثير إلى أنّه منصوب انتصاب المصدر ، كأنه قيل في نزال : انزل نزولا ، وهذا عندنا ضعيف ، فإنّه لو كان كذلك لوجب أن يكون معربا ، ونحن نفرّق بين سقيا وبين تراك ، فكيف يمكن حملهما على إعراب واحد وهو أن يكونا مصدرين مع أنّ أحدهما معرب والآخر مبنيّ؟.

٤٨

هل الصحيح هزّة أم فترة

وقال وقد استفتي في قول الشاعر : [الطويل]

٦١١ ـ وإنّي لتعروني لذكراك فترة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

فقيل له : إنّ شخصين تنازعا ، فقال أحدهما : البيت هزّة ورعدة ، ولا يستقيم معنى البيت على فترة ، فسئل هل يستقيم معنى البيت على هذه الرواية وقد نقلها غير واحد ممّن يوثق بنقله عن الأمالي لأبي علي البغدادي؟ فكتب مجيبا بخطّ يده الكريمة ما هذه صورته : وهو أن يقال : يستقيم ذلك على معنيين :

أحدهما : أن يكون معنى لتعروني لترعدني أي : تجعل عندي العرواء ، وهي الرعدة ، كقولهم : عري فلان إذا أصابه ذلك ، لأنّ الفتور الذي هو السكون من الإجلال والهيبة تحصل عنده الرعدة غالبا عادة ، فيصح نسبة الإرعاد إليه ، فيكون «كما انتفض» منصوبا انتصاب قولك : «أخرجته كخروج زيد» إمّا على معنى : كإخراج خروج زيد ، وإمّا لتضمّنه معنى خرج غالبا ، فكأنه قيل : خرج ، فصحّ لذلك مثل خروج زيد ، وحسن ذلك تنبيها على حصول المطاوع الذي هو المقصود في مثل ذلك ، فيكون أبلغ من الاقتصار على المطاوع ، إذ قد يحصل المطاوع دونه ، مثل : أخرجته فلم يخرج.

والثاني : أن يكون معنى لتعروني لتأتيني وتأخذني فترة أي سكون للسرور الحاصل عن الذكرى ، وعبّر بها عن النشاط لأنّها تستلزمه غالبا تسمية للمسبّب باسم السبب ، كأنه قال : ليأخذني نشاط كنشاط العصفور ، فيكون «كما انتفض» إمّا منصوبا نصب «له صوت صوت حمار» وله وجهان :

أحدهما : أن يكون التقدير : يصوّت صوت حمار ، وإن لم يجز إظهاره استغناء عنه بما تقدّم.

والثاني : أن يكون منصوبا بما تضمّنته الجملة من معنى يصوّت. وإمّا مرفوعا صفة لفترة ، أي : نشاط مثل نشاط العصفور ، وهذه الأوجه الثلاثة المذكورة في الوجه الثاني في إعراب «كما انتفض» تجري على تقدير رواية رعدة وهزة.

__________________

٦١١ ـ الشاهد لأبي صخر الهذلي في الأغاني (٥ / ١٦٩) والإنصاف (١ / ٢٥٣) ، وخزانة الأدب (٣ / ٢٥٤) ، والدرر (٣ / ٧٩) ، وشرح أشعار الهذليين (٢ / ٩٥٧) ، وشرح التصريح (١ / ٣٣٦) ، ولسان العرب (رمث) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٦٧) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٦٤٦) ، وأوضح المسالك (٢ / ٢٢٧) ، وشرح الأشموني (١ / ٢١٦) ، وشرح المفصّل (٢ / ٦٧) ، والمقرّب (١ / ١٦٢) ، وهمع الهوامع (١ / ١٩٤).

٤٩

هذا ما كتبه مجيبا به ، وروى الرّمّانيّ عن السّكّري عن أبي سعيد الأصمعي : [الطويل]

٦١٢ ـ إذا ذكرت يرتاح قلبي لذكرها

كما انتفض العصفور بلّله القطر

وهو ظاهر حينئذ.

القول في بيت ابن قلاقس : وسئل عن قول ابن قلاقس الإسكندري : [السريع]

٦١٣ ـ ما بال هذا الرّيم أن لا يريم

لو كان يرثي لسليم سليم

فقال : سليم الثاني فاعل ليرثي بمعنى سالم ، وسليم الأول بمعنى لديغ ، فإنّهم يقولون للّديغ سليم وللأعمى بصير على سبيل التفاؤل ، ولا يحسن أن يكون سليم الثاني تأكيدا للأول على وجه التأكيد اللّفظي ، لأنّه أوّلا قد فهم منه قصد التجانس ، وليس هذا عندهم معدودا في التجانس ، وأيضا فإنه يلزم أن يكون ليرثي مضمر عائد على الرّيم وليس عليه المعنى ، فظهر أن يكون الوجه على ما ذكرناه ، ويكون جواب لو محذوفا دلّ عليه ما قبله لأنّ ما قبله يدلّ على إنكار ذلك ، وهو كونه لا يريم والتعجب منه ، ثم قال : لو كان يرثي لسليم سليم على أحد وجهين : إمّا على الإنكار على نفسه في إنكار الأول ، أي : لو كان يرثي للّديغ سالم لتوجّه الإنكار أو التعجب ، أمّا إذا كان جاريا على المعتاد فلا معنى للإنكار أو التعجب ، وإمّا على أن يكون الجواب ما دلّ عليه قوله : أن لا يريم ، وكأنه قال : لو كان يرثي لسليم سليم لرام ، فإن قيل : فقد تقدّم ذكر الرّيم فليكن فاعل يرثي باللام لأنّه معهود سابق ، فالجواب : إنّ ذلك إنّما يكون إذا أعيد اللفظ الأول مثل قولهم : جاءني رجل ، ثم يقول : ما فعل الرجل ، فإنما فعلوا ذلك لئلّا يؤدّي إلى إلباس بغيره فإن قيل : لا يلائم عجز البيت صدره لأنّ الأوّل خاصّ وآخره عامّ ، لأنّ لو من حروف الشرط ، والمعلّق على الشرط يعمم بدليل قولهم : لو أكرمتني أكرمتك ، وهذا عام فالجواب : إنما يمتنع لو لم يكن المذكور في صدر البيت داخلا في العموم ، فأما إذا كان داخلا في العموم فلا يمتنع ، لأنّ المعنى : لو كان يرثي سليم ما لسليم ، فيدخل الريم وغيره.

جواب سؤال سائل سأل عن حرف (لو) للشيخ تقي الدين بن تيمية

في قول عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه.

قال فيه : جواب سؤال سائل عن حرف (لو) لسيّدنا وشيخنا الإمام العالم

__________________

٦١٣ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٩٦).

٥٠

العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام الأئمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين بركة الإسلام حجّة الأعلام برهان المتكلّمين ، قامع المبتدعين ذي العلوم الرفيعة والفنون البديعة ، محيي السّنّة ومن عظمت به لله علينا المنّة ، وقامت به على أعدائه الحجّة ، واستبانت ببركته وهدية المحجّة ، تقيّ الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ، أعلى الله مناره وشيّد من الدين أركانه (١) : [الكامل]

ماذا يقول الواصفون له

وصفاته جلّت عن الحصر

هو حجّة لله قاهرة

هو بيننا أعجوبة الدّهر

هو آية في الخلق ظاهرة

أنواره أربت على الفجر

نقلت هذه الترجمة من خطّ العلّامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ كمال الدين الزّملكاني رحمه الله.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

نقلت من خطّ الحافظ علم الدين البرزالي : قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة القدوة الحافظ الزاهد العابد الورع إمام الأئمة حبر الأمة مفتي الفرق علامة الهدى ترجمان القرآن حسنة الزمان عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ زكي الشريعة ذو الفنون البديعة ، ناصر السنة قامع البدعة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ، أدام الله بركته ورفع درجته : الحمد لله الذي علّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الباهر البرهان ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجانّ ، صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما يرضى به الرحمن ، سألت ـ وفّقك الله ـ عن معنى حرف لو ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» على معناها المعروف ، وذكرت أنّ الناس يضطربون في ذلك ، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة ، مع بعد عهدي بما بلغني ممّا قاله الناس في ذلك ، وأن ليس يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك ، فأقول والله الهادي النصير.

__________________

(١) انظر البداية والنهاية (١٤ / ١٣٧).

٥١

الجواب مرتّب على مقدّمات :

أحدها : أنّ حرف لو المسؤول عنها من أدوات الشرط وأنّ الشرط يقتضي جملتين ، إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب ، وربّما سمّي المجموع شرطا وسمّي أيضا جزاء ، ويقال لهذه الأدوات الجزاء ، والعلم بهذا كله ضروريّ لمن كان له عقل وعلم بلغة العرب ، والاستعمال على ذلك أكثر من أن يحصر ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) [النساء : ٤٦] ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء : ٦٤] ، (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) [الأنفال : ٢٣] ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة : ٤٧] ، (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) [المائدة : ٨١].

الثانية : أنّ هذا الذي يسمّيه النحاة شرطا هو في المعنى سبب لوجود الجزاء ، وهو الذي يسمّيه الفقهاء علّة ومقتضيا وموجبا ونحو ذلك ، فالشرط اللفظي سبب معنوي فتفطّن لهذا ، فإنّه موضع غلط فيه كثير ممّن يتكلّم في الأصول والفقه ، وذلك أنّ الشرط في عرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهم الكلام والأصول وغيرهم هو ما يتوقّف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب ، وعلامته أنّه يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ، ثم هو منقسم إلى ما عرف كونه شرطا بالشرع كقولهم : الطّهارة والاستقبال واللباس شرط لصحة الصلاة ، والعقل والبلوغ شرط لوجوب الصلاة ، فإنّ وجوب الصلاة على العبد يتوقف على العقل والبلوغ ، كما تتوقّف صحّة الصلاة على الطهارة والسّتارة واستقبال القبلة ، إن كانت الطهارة والسّتارة أمورا خارجة عن حقيقة الصلاة ، ولهذا يفرّقون بين الشرط والرّكن بأنّ الرّكن جزء من حقيقة العبارة أو العقد ، كالركوع والسجود وكالإيجاب والقبول ، وبأنّ الشرط خارج عنه ، فإنّ الطهارة يلزم من عدمها عدم صحة الصلاة ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة ، وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها ، كما يقولون في باب الجمعة : منها ما هو شرط للوجوب بنفسه ومنها ما هو شرط للوجوب بغيره ، ومنها ما هو شرط للإجزاء دون الصحة ، ومنها ما هو شرط للصحة ، وكلام الفقهاء في الشروط كثير جدّا ، لكن الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنّما يتمّ على قول من يجوّز تخصيص العلة منهم ، وأمّا من لا يسمّي علّة إلّا ما استلزم من الحكم ولزم من وجودها وجوده على كل حال فهؤلاء يجعلون الشرط وضد المانع من جملة أجزاء

٥٢

العلة وإلى ما يعرف كونه شرطا بالعقل وإن دلّ عليه دلائل أخرى كقولهم : الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام ، والعلم شرط في الإرادة ونحو ذلك ، كذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تعرف بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك ، وقد تسمّى هذه شروطا عقلية والأول شروطا شرعية ، وقد يكون من هذه الشروط ما يعرف اشتراطه بالعرف ومنه ما يعرف باللغة كما يعرف أنّ شرط المفعول وجود فاعله ، وإن لم يكن شرط الفاعل وجود مفعول ، فيلزم من وجود المفعول المنصوب وجود فاعل ، ولا ينعكس ، بل يلزم من وجود اسم منصوب أو مخفوض وجود مرفوع ، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوب ولا مخفوض ، إذ الاسم المرفوع مظهرا أو مضمرا لا بدّ منه في كلّ كلام عربيّ ، سواء كانت الجملة اسميّة أو فعليّة ، فقد تبيّن أنّ لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدلّ عدمه على عدم المشروط ما لم يخلفه شرط آخر ، ولا يدلّ ثبوته من حيث هو شرط على ثبوت المشروط ، وأمّا الشرط في الاصطلاح الذي يتكلم به في باب أدوات الشرط اللفظية ، سواء كان المتكلم نحويا أو فقهيا وما يتبعه من متكلّم وأصولي ونحو ذلك ، فإنّ وجود الشرط يقتضي وجود المشروط الذي هو الجزاء والجواب ، وعدم الشرط هل يدل على عدم المشروط؟ مبنيّ على أنّ عدم العلة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل ، قد أومى إليه الخوف لو فرض عدمه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله لأنّ ترك المعصية له قد يكون لخوف الله ، وقد يكون لأمر آخر ، إمّا لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه ، أو لعدم المقتضي إليها كما كان يقال عن سليمان التيمي رحمه الله : إنه كان لا يحسن أن يعصي الله ، فقد أخبرنا عنه أنّ عدم خوفه لو فرض موجودا لكان مستلزما لعدم معصية الله لأنّ هذا العدم مضاف إلى أمور أخرى إمّا عدم مقتض أو وجود مانع مع أنّ هذا الخوف حاصل ، وهذا المعنى يفهمه من الكلام كلّ أحد صحيح الفطرة ، لكن لمّا وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوع توسّع إمّا في التعبير وإمّا في الفهم اقتضى ذلك خللا إذا بني على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم ، فإذا كان للإنسان فهم صحيح ردّ الأشياء إلى أصولها وقرّر الفطر على معقولها ، وبيّن حكم تلك القواعد وما وقع فيها من تجوّز أو توسّع ، فإنّ الإحاطة في الحدود والضوابط غير تحرير ، ومنشأ الإشكال أخذ كلام بعض النحاة مسلّما : إنّ المنفي بعد لو مثبت والمثبت بعدها منفي ، أو إنّ جواب (لو) منتف أبدا وجواب (لو لا) ثابت أبدا ، أو إنّ (لو) حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره ، و (لو لا) حرف يدلّ على امتناع الشيء لوجود غيره مطلقا ، فإنّ هذه العبارات إذا قرن بها غالبا كان الأمر قريبا ، وأمّا أن يدّعى أنّ هذا مقتضى الحرف دائما فليس كذلك ، بل الأمر كما

٥٣

ذكرناه من أن (لو) حرف شرط تدلّ على انتفاء الشرط ، فإن كان الشرط ثبوتيّا فهي (لو) محضة ، وإن كان الشرط عدميّا مثل (لو لا) و (لو) لم دلّت على انتفاء هذا العدم بثبوت نقيضه فيقتضي أنّ هذا الشرط العدميّ مستلزم لجزائه إن وجودا وإن عدما وأنّ هذا العدم منتف ، وإذا كان عدم شيء سببا في أمر فقد يكون وجوده سببا في عدمه ، وقد يكون وجوده أيضا سببا في وجوده بأن يكون الشيء لازما لوجود الملزوم ولعدمه ، والحكم ثابت مع العلة المعينة ومع انتفائها لوجود علة أخرى ، وإذا عرفت أنّ مفهومها اللازم لها إنّما هو انتفاء الشرط وأنّ فهم نفي الجزاء منها ليس أمرا لازما ، وإنّما يفهم باللزوم العقلي أو العادة الغالبة وعطفت على ما ذكرته من المقدّمات زال الإشكال بالكليّة ، وكان يمكننا أن نقول : إنّ حرف لو دالة على انتفاء الجزاء ، وقد تدلّ أحيانا على ثبوته إمّا بالمجاز المقرون بقرينة أو بالاشتراك ، لكن جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك أقرب إلى القياس مع أنّ هذا إن قاله قائل كان سائغا في الجملة ، فإنّ الناس ما زالوا يختلفون في كثير من معاني الحروف هل هي مقولة بالاشتراك أو التواطؤ أو بالحقيقة والمجاز؟ وإنما الذي يجب أن يعتقد بطلانه ظنّ ظانّ ظنّ أن لا معنى للو إلّا عدم الجزاء والشرط ، فإنّ هذا ليس بمستقيم البتّة ، والله سبحانه أعلم.

الكلام على مسألة الاستفهام

للشيخ الإمام جمال الدين بن هشام نفع الله ببركته جميع الأنام وغفر له ولجميع أهل الإسلام إنه على ما يشاء قدير والحمد لله.

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والتسليم على محمد أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحابته أجمعين وبعد ؛ فهذه مسألة في شرح حقيقة الاستفهام ، والفرق بين أدواته ، على حسب ما التمس منّي بعض الإخوان ، وبالله تعالى المستعان ، وعليه التّكلان ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ، وفيه فصول :

الفصل الأول في تفسيره : اعلم أنّ حقيقة الاستفهام أنّه طلب المتكلّم من مخاطبه أن يحصّل في ذهنه ما لم يكن حاصلا عنده ممّا سأله عنه. وقال بعض الفضلاء : ينبغي أن يكون المطلوب تحصيل ذلك في ذهن أعمّ من المتكلّم وغيره ، كما أنّ حقيقة الاستغفار الذي هو طلب الغفر ـ وهو السّتر ـ أعمّ من أن يكون

٥٤

المطلوب له هو المتكلّم أو غيره ؛ ولهذا تقول : استغفرت لفلان كما تقول : استغفرت لنفسي ، وفي التنزيل : (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) [النساء : ٦٤] ، وتكون فائدة الاستفهام لغيرك أن يتكلّم المجيب الجواب فيسمعه من جهل فيستفيده. فقلت : لو صحّ ذلك لم يطبق العلماء على أنّ ما ورد منه في كلامه سبحانه مصروف إلى معنى آخر غير الاستفهام ، ولو كان على ما ذكر لم يستحل حمله على الظاهر ، ويكون المراد منه أنه يجيب بعض المخاطبين فيفهم الجواب من لم يكن عالما به. فإن قيل فما سبب الفرق بين طلب المغفرة مثلا وطلب الاستفهام قلت : طلب الإنسان المغفرة لغيره ممّا يقع في العادة كما يطلب لنفسه ، وأمّا طلبه لغيره أن يفهّمه الشخص المطلوب منه مع كون الطالب عالما فهو وإن كان ممكنا إلّا أنّه لا تدعو الحاجة إلى إرادته غالبا ؛ فإنّ المتكلّم إذا كان عالما ، كان أسهل من طلبه من غيره تفهيم غيره أن يفهّمه هو ، فلذلك لم ينصرف إرادة الواضع إلى ذلك القصد لعدم الحاجة إليه غالبا.

الفصل الثاني : في تفسير المطلوب بأداة الاستفهام وتقسيم الأداة باعتباره : اعلم أنّ المطلوب حصوله في الذّهن إمّا تصوّر أو تصديق ، وذلك لأنّه إمّا أن يطلب حكما بنفي أو إثبات ، وهو التّصديق ، أو لا ، وهو التصوّر ، والأدوات بالنسبة إليهما ثلاثة أقسام ؛ مختصّ بطلب التصوّر ، وهو (أم) المتّصلة وجميع أسماء الاستفهام ، ومختصّ بطلب التصديق ، وهو (أم) المنقطعة و (هل) ، ومشترك بينهما ، وهو الهمزة التي لم تستعمل مع (أم) المتّصلة ، تقول في طلب التصوّر : أزيد الخارج ، فإنّ المطلوب تعيين الفاعل لا نفس النّسبة ؛ وفي طلب التصديق : «أخرج زيد» ، كذا مثّلوا ، والظاهر أنّه محتمل لذلك بأن يكون المتكلّم شاكّا في حصول النّسبة ، ومحتمل لطلب تصوّر النّسبة. وبيان ذلك أنّ المتكلّم إذا شكّ في أنّ الواقع من زيد خروج أو دخول ، فله في السؤال طرق ؛ إحداها : «أخرج زيد أم دخل» ، وجوابه بالتّعيين ، فيحصل مراده بالتّنصيص عليه. والثانية : «أخرج زيد». والثالثة : «أدخل زيد» ، فإنّه يجاب في كلّ منهما بنعم أو ب (لا) ، ويحصل له مراده. وإنّه إذا أجيب بنعم علم ثبوت ما سأل عنه ، وانتفى الفعل الذي لم يسأل عنه. وإذا أجيب ب (لا) علم انتفاء ما سأل عنه ، وثبوت ما لم يسأل عنه.

وتلخيصه : أنّ تصديق المذكور يقتضي تكذيب غيره وبالعكس ، وغرض السائل حاصل على كلّ تقدير. وغاية ما يخلف في هاتين الطريقتين أنّ السامع لا يعلم هل السائل متردّد بين نسبتين ، أو بين حصول نسبة وعدمها ، وهذا أمر خارج عمّا نحن فيه.

٥٥

وليس في الأوجه التي يحتملها هذا الكلام أن يكون المراد بالاستفهام طلب تعيين المسند إليه ، وذلك بأن يكون المتكلّم عالما بوقوع الفعل ، ولكن جهل عين الفاعل ؛ فإنّه لو أريد ذلك لم يول أداة الاستفهام ما هو عالم بحصوله وهو الفعل ، ويؤخّر عنها ما هو شاكّ فيه وهو الفاعل. وإنّما كان سبيله أن يعكس الأمر فيقول : «أزيد خرج». وعلى هذا فإذا قيل : «أزيد خرج» احتمل الكلام ما احتمله ذلك المثال ، واحتمل مع ذلك وجها آخر وهو السؤال عن المسند إليه. وتكون الجملة على هذا التقدير الأخير اسمية لا فعلية ، وعلى تقدير أنّ السؤال عن المسند فعلية لا اسمية ، وارتفاع الاسم حينئذ بفعل محذوف على شريطة التفسير ، وعلى تقدير أنّه عن النّسبة محتملة للاسميّة والفعليّة ، والأرجح الفعليّة ؛ لأنّ طلب الهمزة للفعل أقوى فهي به أولى. والنحويّون يجزمون برجحان الفعلية في هذا المثال ونحوه مطلقا ، بناء على ما ذكرنا من أولويّة الهمزة بالجمل الفعلية.

والتحرير ما ذكرنا ، فمتى قامت قرينة ناصّة على أنّ السؤال عن المسند إليه تعيّنت الاسميّة ، أو عن المسند تعيّنت الفعليّة ، وإلّا فالأمر على الاحتمال وترجيح الفعلية كما ذكروا. وأمّا أسماء الاستفهام فكلّها مضمّنة معنى الهمزة التي يطلب بها التصوّر. والنحويون يقولون : «معنى الهمزة» ، ويطلقون ، وهو صحيح إلّا أنّ فيه إجمالا ونقصا في التّعليم ؛ وإنّما لم يوضّحوا ذلك لأنّ الكلام في هذه الأغراض ليس من مقاصدهم.

الفصل الثالث : في الفرق بين قسمي (أم):

تفترق «أم» المتّصلة ، وتسمّى المعادلة أيضا ، و «أم» المنقطعة ، وتسمى المنفصلة أيضا ، من كلّ واحدة من جهتي اللفظ والمعنى من أربعة أوجه :

فأما الأوجه اللفظية : فأحدها : باعتبار ما قبلهما ، وذلك أنّ ما قبل المتّصلة لا يكون إلّا استفهاما لفظا ومعنى ، أو استفهاما لفظا لا معنى. فالأول نحو : «أزيد قائم أم عمرو» ، والثاني نحو : «سواء عليّ أقمت أم قعدت» ، فإنّ الهمزة هنا قد خلع منها معنى الاستفهام ، ولهذا يصحّ في مكانها ومكان ما دخلت عليه المصدر فيقال : «سواء عليّ قيامك وقعودك» ويصحّ تصديق الكلام الذي هي فيه وتكذيبه ، ولا يستحقّ المتكلّم به جوابا ؛ واستعملت في لازم الاستفهام ، وهو التّسوية ألا ترى أنّ الطالب لفهم الشيء استوى عنده وجوده وعدمه ، أعني استواءهما في أصل الاحتمال ، وإن كان أحدهما قد يكون راجحا. وهذا المعنى أشار إليه سيبويه رحمه الله بقوله : «وإنّما جاز الاستفهام هنا لأنّك سويت الأمرين عندك كما استوى ذلك

٥٦

حين قلنا : «زيد عندك أم عمرو» ، فجرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على النّداء نحو قولهم : «اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة» ، انتهى.

وما قبل المنقطعة يكون استفهاما نحو : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد : ١٦] وخبرا نحو : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة : ٢ ـ ٣].

والوجه الثاني : باعتبار ما قبلهما أيضا ، وذلك أنّ الاستفهام قبل المتّصلة لا يكون إلّا بالهمزة التي يطلب بها التصوّر أو التّسوية ، كما قدّمنا ، والاستفهام الذي قبل المنقطعة لا يكون بواحدة منهما ؛ بل تارة يكون بغير الهمزة البتّة كما في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [الرعد : ١٦]. وقول علقمة بن عبدة :

٦١٤ ـ هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

إثر الأحبّة يوم البين مشكوم

وتارة يكون بالهمزة التي يطلب بها التّصديق نحو : «أقام زيد أم قعد عمرو» ، إذا أردت ب (أم) الإضراب عن الأوّل ، فإن أردت الاستفهام عن الواقع من النسبتين ف (أم) متّصلة. فالكلام على هذا محتمل للمتّصلة والمنقطعة بحسب الغرض الذي تريده. هذا معنى كلام جماعة. وقال ابن هشام الخضراويّ : «من شرط (أم) المتّصلة ألّا يكون بعدها فعل وفاعل إلّا وقبلها فعل وفاعل ، والفاعل في كلّ من الجملتين واحد ، نحو : «أقام زيد أم قعد». فإن قلت : «أقام زيد أم قعد عمرو» ، كانت منقطعة ، وكذا إذا كان ما قبلها مبتدأ وخبرا فلا بدّ من اتحاد الخبرين ، نحو : «أزيد منطلق أم عمرو» ، فإن قلت : أم عمرو جالس ، كانت منقطعة ، وكذا إذا خالفت بين الجملتين ، نحو : «أقام زيد أم عمرو منطلق» ، انتهى.

وهذا مخالف لما تقدّم ، ولا شكّ أنّ تخالف الخبرين أو الفاعلين أو الجملتين يقتضي بظاهره الانقطاع ، وأمّا أنّه يصل إلى إيجاب ذلك فلا. وقد نصّوا على اتّصال أم في قوله : [الخفيف]

__________________

٦١٤ ـ البيتان في ديوانه (ص ٥٠) ، والكتاب (٣ / ٢٠٢) ، والأزهيّة (ص ١٢٨) ، وخزانة الأدب (١١ / ٢٨٦) ، والدرر (٥ / ١٤٥) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ١٦٠٠) ، ولسان العرب (أم) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٧٦) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ١٤٠) ، وجواهر الأدب (ص ١٨٩) ، والدرر (٦ / ١٠٥) ، ورصف المباني (ص ٩٤) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٨) ، والمقتضب (٣ / ٢٩٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ٧٧).

٥٧

٦١٥ ـ ما أبالي أنبّ بالحزن تيس

أم جفاني بظهر غيب لئيم

مع اختلاف الفاعلين ، وفي قوله : [الطويل]

٦١٦ ـ ولست أبالي بعد فقدي مالكا

أموتي ناء أم هو الآن واقع

مع اختلاف الخبرين. وقد يجاب بأنّ الجملتين هنا في تأويل المفردين ، فلذلك تعيّن الاتّصال لأنّ ما قبل أم وما يعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، كما في قولنا : «أزيد أم عمرو قائم» ، احتمل الكلام الاتصال والانقطاع باختلاف التّقدير. فإن قيل : فلم جزم الجميع في نحو : «أزيد قائم أم عمرو» ، بالاتصال مع إمكان الانقطاع ، بأن يكون ما بعدها مبتدأ حذف خبره؟ قيل : لأنّ الكلام إذا أمكن حمله على التّمام امتنع حمله على الحذف ، لأنّه دعوى خلاف الأصل بغير بيّنة ، ولهذا امتنع أن يدّعى في نحو جاء الذي في الدّار ، أن أصله : الذي هو في الدار.

والوجه الثالث : باعتبار ما بعدهما ، وهو أنّ المتّصلة لا تدخل على الاستفهام ، بخلاف المنقطعة ، فإنّها تدخل عليه ويكون بالحرف كما تقدّم في الآية الكريمة ، وفي بيتي علقمة بن عبدة ، وبالاسم كما في قول الله تعالى : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٨٤] ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ ..) [الملك : ٢٠] ، وقول الشاعر (٣) : [البسيط]

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به

رئمان أنف إذا ما ضنّ باللّبن

والوجه الرابع : باعتبار ما قبلهما وما بعدهما جميعا ، وهو أنّ المتّصلة تقع بين المفردين وبين الجملتين ، والمنقطعة لا تقع إلّا بين الجملتين. فأمّا قولهم «إنّها لإبل أم شاء» (٤) فمحول عند النحويين على إضمار مبتدأ ، وقد خرق ابن مالك إجماعهم في ذلك ، فادّعى أنّ المنقطعة قد تعطف المفرد محتجّا بما رواه من قول بعضهم :

__________________

٦١٥ ـ الشاهد لحسان في ديوانه (ص ٨٩) ، والكتاب (٣ / ٢٠٥) ، والأزهيّة (ص ١٢٥) ، والحيوان (١ / ١٣) ، وخزانة الأدب (١١ / ١٥٥) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٤٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٣٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن حاجب (١ / ٤٤٥) ، وجواهر الأدب (ص ١٨٦) ، وخزانة الأدب (١١ / ١٧٢) ، والمقتضب (٣ / ٢٩٨).

٦١٦ ـ الشاهد لمتمم بن نويرة في ديوانه (ص ١٠٥) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٣٦٨) ، وجواهر الأدب (ص ١٨٧) ، والدرر (٦ / ٩٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٢١) ، وشرح التصريح (٢ / ١٤٢) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٣٤) ، ومغني اللبيب (١ / ٤١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٣٦) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (٥٦٧).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ١٩٥) باب «أم» منقطعة.

٥٨

«إنّ هناك لإبلا أم شاء» بالنّصب ومحمل هذا عند الجماعة ـ إن ثبت ـ على إضمار فعل ، أي أم أرى شاء ، لا على العطف على اسم (إن). ولقوله رحمه الله وجه من النّظر ، وهو أنّ المنقطعة بمعنى (بل) والهمزة ؛ وقد تتجرّد لمعنى (بل) ، فإذا استعملت على هذا الوجه كانت بمنزلة (بل) ، وهي تعطف المفردات ، بل لا تعطف إلّا المفردات. فإذا لم يجب ل (أم) هذه أن تعطف المفردات ، فلا أقلّ من أن يجوز. فإن قيل : لو صحّ هذا الاعتبار لكان ذلك كثيرا كما في العطف ب (بل) ، ولم يكن نادرا ، ولا قائل بكثرته ، بل الجمهور يقولون : بامتناعه البتّة ، وابن مالك يقول بندوره ، قيل : الذي منع من كثرته أنّ تجرّد (أم) المنقطعة لمعنى الإضراب مع دخولها على مفرد لفظا قليل. وتبيّن من هذا أنّه كان ينبغي لابن مالك أن يقول : وقد تعطف المفرد إن تجرّدت عن معنى الاستفهام ، وقد يجاب بأنّه استغنى عن هذا التقييد بما هو معلوم من حكم الاستفهام بالهمزة ، وأنّه لا يدخل على المفردات ، فكذا الاستفهام ب (أم) التي هي في قوّة الهمزة و (بل). وأمّا قول الزّمخشريّ في (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا) [الواقعة : ٤٧ ـ ٤٨] : إنّ (آباؤنا) عطف على الضّمير في (مبعوثون) وساغ العطف على الضمير المرفوع المستتر للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بالهمزة ، فمردود بما ذكرناه.

وأمّا أوجه المعنى :

فأحدها : ما أسلفناه في صدر المسألة من أنّ المتّصلة لطلب التصوّر ، والمنقطعة لطلب التصديق.

والثاني : أنّ المتّصلة تفيد معنى واحدا ، والمنقطعة تفيد معنيين غالبا ، وهما الإضراب ، والاستفهام.

والثالث : أنّ المتّصلة ملازمة لإفادة الاستفهام ، أو لازمه وهو التّسوية. والمنقطعة قد تنسلخ عنه رأسا. وسبب ذلك ما قدّمناه ، من أنّها تفيد معنيين فإذا تجرّدت عن أحدهما بقي عليها المعنى الآخر. والمتّصلة لا تفيد إلّا الاستفهام ، فلو تجرّدت عنه صارت مهملة. وممّا يدلّ على أنّ المنقطعة قد تأتي لغير الاستفهام دخولها على الاستفهام كما قدّمنا من الشواهد. وبهذا يعلم ضعف جزم النّحويّين أو أكثرهم في : «إنّها لإبل أم شاء» بأنّ التقدير : «بل أهي شاء» إذ يجوز أن يكون التقدير : «بل هي شاء» على أنّ المتكلّم أضرب عن الأول ، واستأنف إخبارا بأنّها شاء. وعلى هذا المعنى اتّجه لابن مالك أن يدّعي أنّها عاطفة مفردا على مفرد كما قدّمناه ، ويعلم أيضا غلط ابن النحويّة وغيره في استدلالهم بنحو : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ

٥٩

وَالنُّورُ) [الرعد : ١٦] ، وببيتي علقمة على أنّ «هل» بمعنى «قد» ظنّا منهم أنّ معنى الاستفهام لا يفارق «أم» ، والاستفهام لا يدخل على الاستفهام وجعلوا هذا نظير الاستدلال بقوله (١) : [البسيط]

[سائل فوارس يربوع بشدّتنا]

أهل رأونا بوادي القفّ ذي الأكم

وممّا يقطع به على قولهم بالبطلان ، أنّها في البيت داخلة على الجملة الاسمية ، و «قد» لا تدخل عليها فإن قيل : لعلّهم يقدّرون ارتفاع «كبير» بفعل محذوف ، على حدّ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] فالجواب أنّ ذلك ممتنع بعد «قد» فكذلك ما رادفها.

الوجه الرابع : أنّ الاستفهام الذي تفيده المتّصلة لا يكون إلّا حقيقيا ، والذي تفيده المنقطعة يكون حقيقيا نحو : «إنّها لإبل أم شاء» على أحد الاحتمالين ، وغير حقيقيّ نحو : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) [الزخرف : ١٦] ، (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ ..) [الطور : ٣٩ ـ ٤١] الآيات.

تقرير آخر في الفرق بين المتصلة والمنقطعة

اعلم أنّ الفرق بين المتّصلة والمنقطعة من أوجه :

أحدها : أنّ ما قبل المتّصلة لا يكون إلّا استفهاما ، وما قبل المنقطعة يكون استفهاما وغيره.

والثاني : أنّ ما بعدها يكون مفردا وجملة ، وما بعد المنقطعة لا يكون إلّا جملة.

والثالث : أنّها تقدّر مع الهمزة قبلها ب (أيّ) ، ومع الجملة بعدها بالمصدر.

والمنقطعة تقدّر وحدها ب (بل) والهمزة.

والرابع : أنّها قد تحتاج لجواب ، وقد لا تحتاج ، والمنقطعة تحتاج للجواب.

والخامس : أنّ المتّصلة إذا احتاجت إلى جواب ، فإنّ جوابها يكون بالتّعيين.

والمنقطعة إنّما تجاب ب (نعم) أو (لا).

والسادس : أنّ المتّصلة عاطفة ، والمنقطعة غير عاطفة. وممّن نصّ على هذا ابن عصفور في مقرّبه ، وفيه خلاف مشهور ، والله تعالى أعلم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٥٦).

٦٠