الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

قولك في الجواب : إنه كلام تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع إلى آخره ، فنقول بموجبه : لكن بالنسبة إلى من كانت حاسّته غير سليمة أو سدّ عن الإصاخة إلى الحقّ سمعه وأبى أن ينطق به لسانه ، وهذا قريب ممّا حكى الله سبحانه وتعالى عن الكفار المعاندين : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ، وقولك : «كم عرض على ذي طبع سليم وذهن مستقيم فلم يفهم معناه ولم يعلم مؤدّاه» نقول : هذا كلام متهافت ، إذ لو كانوا ذا طبع سليم وذهن مستقيم لفهموا معناه وتفطّنوا لموجبه ومقتضاه ، فإنّ ذا الطّبع السليم من يدرك اللّمحة وإن لطف شأنها ، ويتنبّه على الرّمزة وإن خفي مكانها ، ويكون مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقّادها ، ولكنّهم كانوا مثلك كزّا جاسيا وغليظا جافيا غير داربين بأساليب النظم والنثر ، غير عالمين كيف يرتّب الكلام ويؤلّف وكيف ينظم ويرصف (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] أما سمعت قول بعض الفضلاء : [البسيط]

٥٨٩ ـ عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر

أو نقول : فرضنا أنّهم كما زعمت ذوو فهم سليم وطبع مستقيم ، لكنّهم ما اشتغلوا بالعلوم حقّ الاشتغال ، فأين هم من فهم هذا المقال؟ أما سمعت قول من قال : [الكامل]

٥٩٠ ـ لو كان هذا العلم يدرك بالمنى

ما كان يبقى في البريّة جاهل

وقول الآخر : [البسيط]

٥٩١ ـ لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبرا

ومع أنّ هذه الغوامض كما نبّه عليه الزمخشري لا يكشف عنها من الخاصّة إلّا أوحدهم وأخصّهم وإلّا واسطتهم وفصلهم ، وعامّتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمنّ عليهم بجزّ نواصيهم وإطلاقهم ، هذا مع أنّ مقامات الكلام متفاوتة ، فإنّ مقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة ، وخطاب الذكيّ يباين خطاب الغبيّ ، فكما يجب على البليغ في موارد التفصيل والإشباع أن

__________________

٥٨٩ ـ الشاهد للبحتري في ديوانه (ص ٩٥٥) ، والموازنة بين أبي تمام والبحتري (١ / ٣٠٣) ، والدرر (٢ / ٢٢٢).

٥٩١ ـ البيت بلا نسبة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (١٥١٢).

٢١

يفصّل ويشبع فكذلك الواجب عليه في خطاب الإجمال أن يجمل ويوجز ، أنشد الجاحظ : [الكامل]

٥٩٢ ـ يرمون بالخطب الطّوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرّقباء

وأئمة صناعة البلاغة يرون سلوك هذا الأسلوب في أمثال هذه المقامات من كمال البلاغة وإصابة المحزّ ، فنقول : إنما أوجز الكلام وأوهم المرام اختبارا لتنبّهك أو مقدار تنبّهك ، أو نقول : عدل عن التصريح احترازا عن نسبة الخطأ إليك صريحا ، والعدول عن التصريح باب من البلاغة يصار إليه كثيرا وإن أورث تطويلا ، ومن الشواهد لما نحن فيه شهادة غير مردودة رواية صاحب المفتاح عن القاضي شريح (٢) «أنّ رجلا أقرّ عنده بشيء ثم رجع ينكر ، فقال له شريح : شهد عليك ابن أخت خالك ، آثر شريح التطويل ليعدل عن التصريح بنسبة الحماقة إلى المنكر ، لكون الإنكار بعد الإقرار إدخالا للعنق في ربقة الكذب لا محالة».

وأمّا قولك : «ثانيا : فسّره بما لا يدلّ عليه بمطابقة ولا بتضمّن ولا بالتزام» ثم تقول : «حاصله كذا» فنفيت أوّلا الدّلالات ، ثم أثبتّ ثانيا له معنى وذكرته ، فأنت كاذب إمّا في الأوّل أو الثاني ، وأيضا قد قلت : «أوّلا : إنه كهذيان المحموم ليس له مفهوم ، ثم قلت : حاصله كذا ، فقد أدخلت عنقك في ربقة الكذب ، اتّق الله فإنّ الكذب صغيرة والإصرار عليها كبيرة ، والمعاصي تجرّ إلى الكفر ، قال الله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) [الروم : ١٠] ، ثم إنّ قولك : «حاصله أنّ ثبوت أحد الأمرين هاهنا متحقّق ، وإنما التردّد في التعيين ، فحقيق أن يسأل عنه بالهمزة مع أم دون هل مع أو ، فإنّه سؤال عن أصل الثبوت» يوهم أنّك الذي استنبطت هذا المعنى من كلامه وفهمته منه ، وليس كذلك ، بل لمّا بلغك هذا الجواب بقيت حائرا مليّا لا تفهم مراده ولا تعرف معناه ، وكنت تعرّضته على من زعمت أنّهم كانوا ذا طبع سليم وفهم مستقيم ، فما فهموا معناه وما عثروا على مؤدّاه ، فصرت ضحكة للضاحكين وسخرة للساخرين ، فلمّا حال الحول وانتشر القول جاء ذاك الألمعيّ أعني الشيخ أمين الدين حاجي ددا وتمثّل بين يدي والدي وقال كما قلت : [المتقارب]

__________________

٥٩٢ ـ الشاهد لأبي دؤاد بن حريز الإيادي في البيان والتبيين (١ / ١٥٥) ، ولأبي داود بن جرير في زهر الآداب (١ / ٩٦) ، وبلا نسبة في الصناعتين (ص ١٩٨).

(١) انظر مفتاح العلوم (ص ٩٧).

٢٢

٥٩٣ ـ أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

فقرأ عليه قراءة تحقيق وإتقان وتدقيق ، فلمّا كشف له الوالد الغطاء ظهر له أنّ كلامك كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، فجاء إليك وأفرغ في صماخيك ، وأقرّ عينيك ، فكان الواجب عليك أن تقول : صاحبه كذا على ما فهمته من بعض تلامذته ، لئلّا يكون انتحالا ، فإنّ ذلك خيانة ، والله لا يحب الخائنين ، فإن كابرت وجعلتني من المدّعين فقل : فأت بآية إن كنت من الصادقين فقلت : أمّا بالنسبة إلى الآخرة فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ، وأمّا بالنسبة إلى الدّنيا ففضلاء التّبريزيين ، فإنهم عالمون بالحال عارفون بالأمر على هذا المنوال ، ولهذا ما وسعك أن تكتب هذه الهذيانات وأنت في تبريز مخافة أن تصير هزأة للساخرين وضحكة للناظرين ، بل لمّا انتقلت إلى أهل بلد لا يدرون ما الصحيح تكلّمت بكلّ قبيح ، لكن وقعت فيما خفت منه.

وأمّا قولك : «ثالثا : لا نسلّم تحقّق أحد الأمرين حقيقة إلى آخر ما قلتم» فكله مخالف للظاهر ، والأصل عدمه ، وتحقيق الجواب فيه يظهر ممّا أذكره في آخر الجواب الرابع.

وأمّا قولك : «رابعا : إنّ أو هذه أهي الإضرابيّة؟ أفهذا باعك في الوجوه الإعرابية؟» فنقول : أولا : لا شك أنّك عند تسطير هذا السؤال ما خطر لك هذا بالبال بل لمّا اعترض عليك تمحّلت هذا بالقال ، وثانيا : المثال الذي ذكرته غير مطابق لكلامك ، لو فرضنا أنّه من كلام الفصحاء ، وثالثا : أنّه لا يستقيم أن تكون «أو» في كلامك للإضراب لفوات شرطه ، فإنّ إمام هذا الفن سيبويه إنّما أجاز أو الإضرابية بشرطين : أحدهما : تقدّم نفي أو نهي. والثاني : إعادة العامل ، نحو : ما قام زيد أو ما قام عمر ، ولا يقم زيد أو لا يقم عمر ، ونقله عنه ابن عصفور ، هكذا مذكور في (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) ، ثم قال مصنفه ابن هشام المصري (١) : «وممّا يؤيّد نقل ابن عصفور أنّ سيبويه قال (٢) في : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] : ولو قلت : أو لا تطع كفورا انقلب المعنى ، يعني أنّه يصير إضرابا عن النهي الأول ونهيا عن الثاني فقط. انتهى.

فلا يمكن حمل أو في كلامك على الإضراب ، فظهر من القصير باعه في علم

__________________

(١) انظر مغني اللبيب (ص ٦٧).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٢٠٨ ، ٢١٣).

٢٣

الإعراب ، أمثلك يعرّض بهذا لمن كان أدنى تلامذته فارسا في علم الإعراب مقدّما في حملة الكتاب؟ لكنّ نحوك انحصر في الجمل الذي صنّف لصبيان الكتّاب ، وحرمت من الكنوز التي أودعها سيبويه في هذا الكتاب ، ثم على تقدير إتيان أو للإضراب مطلقا كما ذهب إليه بعضهم لا يندفع الإيراد ، لأنّ من شرط ارتفاع شأن الكلام في البلاغة صدوره من بليغ عالم بجهة البلاغة بطرق حسن الكلام ، وأن يكون السامع معتقدا أنّ المتكلّم قصد هذا في تركيبه عن علم منه ، لا أنّه وقع اتّفاقا بلا شعور منه ، فإنه إذا أساء السامع اعتقاده بالمتكلم ربّما نسبه في تركيبه ذلك إلى الخطأ ، وأنزل كلامه منزلة ما يليق به من الدرجة النازلة ، وممّا يشهد لذلك ما نقل صاحب (المفتاح) (١) عن عليّ رضي الله عنه أنّه كان يشيّع جنازة ، فقال له قائل : من المتوفّي؟ بلفظ اسم الفاعل سائلا عن المتوفّى ، فلم يقل : فلان ، بل قال : الله تعالى ، ردّا لكلامه عليه بخطأ أو منبّها له بذلك ، على أنّه كان يجب أن يقول : من المتوفّى بلفظ اسم المفعول ، ويقال : إنّ هذا الواقع كان أحد الأسباب التي دعته إلى استخراج علم النحو ، فأمر أبا الأسود الدّؤلي بذلك ، ولا شكّ أنّه يقال : توفّى على البناء للفاعل أي : أخذ ، وحينئذ يكون كناية عمّن مات ، بمعنى أنّ الميّت أخذ بالتّمام مدّة عمره فمات ، فالمتوفّي هو الميّت بطريق الكناية ، ويقال : توفّي على البناء للمفعول أي : أخذ روحه ، وحينئذ يكون الميّت هو المتوفّى حقيقة ، والمتوفّي هو الله ، ولمّا سأل من هو من الأوساط من علي عن الميّت بلفظ المتوفّي الذي هو من تركيب البلغاء أجابه بما يليق به : إنّ المتوفّي هو الله تعالى ، وفيه بيان أنّه يجب أن يقول : من المتوفّى بلفظ اسم المفعول الذي يليق به ، كما تقوله الأوساط لأنه لا يحسن الكناية.

وإذا سمعت ما تلونا عليك وتأمّلت المقصود من إيرادنا هذا الكلام عليك تتيقّن الجواب عن الثالث والرابع في ذهنك اليقين الجليّ.

وأمّا قولك : «خامسا : هب هذا خطأ صريحا ، أليس المقصود هنا كالصّبح فما كان لو اشتغلت بالجواب» فنقول : الجواب عليه من وجهين :

أحدهما : أنّ الأئمة قد صرّحوا بأنّه لا يكتب على الفتوى إلّا بعد تصحيح السؤال.

والثاني : أنّه يحتمل أن يكون قد أحسن الظنّ في حقّك بأنّ مثل هذا لا يخفى

__________________

(١) انظر مفتاح العلوم للسكاكي (ص ١٢٢).

٢٤

عليك ، ومع ذلك يكون قد خطر له أنّك قد فعلت هذا امتحانا ، هل يتفطّن أحد لتركيبك أم لا؟ فعلى هذا كيف يتعدّى عن التنبيه على المقصود؟.

وأمّا قولك : «سادسا : قد أوجب الشّرع ردّ التحيّة ، فالجواب عنه أيضا من وجهين :

أحدهما : أنّ الواجب هو الرّدّ لا الكتابة ، فيحتمل أن يكون قد ردّ بلسانه وما كتب ، وما أعرف أحدا من الأصحاب قال بوجوب الكتابة ، أو ما سمعت ما أجاب به الفضلاء ، عن المزنيّ حيث قيل : إنّه لم يكتب أوّل (المختصر) (١) بسم الله الرحمن الرحيم؟».

والثاني : فإنّك زعمت في الوجه الثامن أنّك ما خصصته بالسؤال ، بل أوردت على وجه التعميم والإجمال ، فنقول حينئذ : لا يجب عليه بعينه ردّ السّلام ، بل على واحد لا بعينه ، لكن أعذرك في مسألة ردّ التحيّة ، لأنّك في الفقه ما وصلت إلى باب الطهارة ، فكيف بمسائل تذكر في أواخر الفقه؟.

وأمّا قولك : «سابعا : زعم أنّه من بنات خلع عليهنّ الثياب» فالجواب عنه : أنّ الزعم قول يكون مظنّة الكذب ، وما ذكره من الحق الأبلج ، ومن ظنّ خلاف ذلك فقد وقع في الباطل ، لأنّ مراده ببنات خلع عليهنّ الثياب نتائج فكره التي انتشرت في البلاد ، كشرح المنهاج والمصباح وشرح التصريف واللباب وحواشي (شرح المفصّل) ، و (المفصل) و (المفتاح) وحواشي المصابيح وحواشي شرح السنة وحواشي (الكشاف) وحواشي الطوالع والمطالع ، وشرح الإشارات وغير ذلك ممّا يطول ذكره.

وقولك : «فلا ريب أنّها تكون ميّتة أو بالية» دالّ على جهلك ، لأنّ قول العالم لا يموت ولو مات العالم ، ولهذا يحتجّ به ، أما قال بعضهم (٢) : «العلماء باقون ما بقي الدّهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة»؟ ، وقولك : «مصداق كلامه أن ينبش عنها فنرى ما هيه» قلت : الحذر الحذر ، فإنّها نار حامية ، وقولك : «أو يأتي بمثلها فنرى ماهيه» قلت : نعم ، لكن بشرط أن تنزع من أذنيك صمام الصّمم حتى أفرغ فيهما شيئا من مباحث الحكم ، فأقول وبالله التوفيق : مما ذكره والدي في الفرق أنّ صاحب الكشاف إنّما حكم بأنّ قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) إذا كان صفة سورة يجوز أن يعود الضمير إلى (ما) وإلى عبدنا ، وإن كان متعلّقا ب (فأتوا) تعيّن أن يكون الضمير

__________________

(١) انظر كتاب مختصر المزني : هو كتاب في الفقه الشافعي.

(٢) القول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في نهج البلاغة (١٨ / ٣٤٦) ، والعقد الفريد (٢ / ٢١٢).

٢٥

للعبد ، لأنّه إذا كان صفة فإن عاد الضمير إلى (ما) تكون من زائدة ، كما هو مذهب الأخفش في زيادة (من) إذ المعنى حينئذ : فأتوا بسورة مثل القرآن في حسن النظم واستقامة المعنى وفخامة الألفاظ وجزالة التركيب ، وليس النظر إلى أن يكون مثل بعض القرآن أو كلّه ، بل لا وجه لهذا الاعتبار ، يؤيده قوله تعالى في موضع آخر : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس : ٣٨] ، وقال تعالى في موضع آخر : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] ، فلا تكون من للتبعيض ولا ابتدائية لأنه ليس المقصود أن يكون مبدأ الإتيان هذا أو ذاك ، وإن عاد الضمير على عبدنا تكون من ابتدائية ، وهو ظاهر ، وأمّا إذا كان «من مثله» متعلقا ب (فأتوا) فلا يجوز أن تكون (من) زائدة ، لأنّ حرف الجرّ إذا كان زائدا لا يكون متعلّقا بشيء ، فتعيّن أن يكون المعنى ، فأتوا بسورة من مثل عبدنا ، وتكون «من» ابتدائية ، ثم قال : أو نقول : إنّما قال صاحب الكشاف : إنّ «من مثله» إن كان صفة سورة يحتمل عود الضمير إلى ما وإلى عبدنا ، لصحّة أن يقال : سورة كائنة من مثل ما نزّلنا ، بأن تكون السورة بعض مثل ما نزّل ، أو تكون مثل ما نزّل مبتدأ نزوله ، ولصحّة أن يقال : سورة كائنة من مثل عبدنا بأن يكون قد قاله ، ويكون تركيبه وكلامه ، وأمّا إن كان «من مثله» متعلّقا ب (فأتوا) فيتعيّن أن يكون عائدا إلى عبدنا ، لاستقامة أن يقال : فأتوا من مثل عبدنا أي : من عبد مثله ، بأن يكون كلامه ، ولا يستقيم أن يقال : فأتوا من عبد مثل ما نزّلنا أو من جهته ، إذ لا يستقيم أن يقال : أتى هذا الكلام من فلان ، إلّا إذا كان ذلك الفلان ممّن يمكن أن يكون هذا كلامه ، ويكون هذا الكلام منقولا منه مرويّا عنه ، وهذا ظاهر ، ولهذا ما بسط الزمخشري الكلام فيه ، بل اقتصر على ذكره ، والله أعلم.

وأمّا قولك : «ثامنا : إنّ السؤال لم يخصّ به مخاطب دون مخاطب» فهذا كلام المجانين ، لأنّك بعثت هذا السؤال على يد الشيخ علاء الدين الباورديّ إلى خدمته وطلبت منه الجواب ، لكن لمّا اشتبه عليك القول أخذت تبدي النّزق والعول ، فتارة تمنع وتخاله صوابا ، وأخرى تردّ وتظنّه جوابا ، أما تستحي من الفضلاء الذين كانوا مطّلعين على هذا الحال؟ ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال : «إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النّبوّة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (١) ، ثم إنّ الذي يقضى منه التعجب حالك في قلّة الإنصاف ، وفرط الجور والاعتساف ، وذلك أنّ هذا ما هو أوّل سؤال سألته عنه ، بل ما زلت منذ تولّيت القضاء كلّا عليه حيث صرت ، غير منفكّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ، باب : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وابن ماجه في سننه ، كتاب الزهد رقم (٤١٨٣) ، وأبو داود في سننه كتاب الأدب رقم (٤٧٩٧).

٢٦

من اقتباس الأحكام من فتاواه ، أينما توجّهت تسأله عن آية من التفسير وينبّهك على تصحيح التقرير ، جاش منك الحميّة فشرعت تجحد فضله وتنكر سبقه ، هيهات هيهات : [السريع]

٥٩٤ ـ [لا نسب اليوم ولا خلّة]

اتّسع الخرق على الرّاقع

وقولك : «راعيت فيه طريق التعظيم والإجلال» ، نعم هذا كان الواجب عليك ، لأنّك أنت السائل ، والسائل كالمتعلّم والمسؤول منه كالمعلّم ، فالواجب عليك تعظيمه ، وعليه أن يرشدك ، وقد فعل بأن هداك إلى تصحيح السؤال ، وقولك : «فأنّى رأى نفسه أهلا لهذا الخطاب» قلت : من فضل الله العظيم بأن جعله أستاذ العلماء في زمانه (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] ، ولقد أحسن بديع الزمان حيث قال (١) : [الوافر]

٥٩٥ ـ أراك على شفا خطر مهول

بما آذيت نفسك من فضول

طلبت على تقدّمنا دليلا

متى احتاج النّهار إلى دليل

وقولك : هلّا درأه عن نفسه إلى من هو أجلّ منه قدرا وأنور بدرا» فالجواب عنه من وجهين :

الأول : أنّك بعثت إليه وسألت منه ، فصار كفرض العين بالنسبة إليه ، فلذا قال ما حاصله أنّ السؤال يحتاج إلى التصحيح بالنظر الدقيق ، ليصير مستحقا للجواب من أهل التدقيق.

والثاني : قل لي من كان في تبريز ذلك الزمان ممّن يماثله أو يدانيه؟

وقولك : «في هذه البلدة من زعماء التحرير وفحول النّحارير» فمسلّم ، لكن كلّهم أو أكثرهم تلامذته أو تلامذة تلامذته ، وهذا لا ينكره غير جاهل مارد أو جاحد

__________________

٥٩٤ ـ الشاهد لأنس بن العباس بن مرداس في تخليص الشواهد (ص ٤٠٥) ، والدرر (٦ / ١٧٥) ، وشرح التصريح (١ / ٢٤١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٠١) ، ولسان العرب (قمر) و (عتق) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٣٥١) ، وله أو لسلامان بن قضاعة في شرح أبيات سيبويه (١ / ٥٨٣) ، ولأبي عامر جدّ العباس بن مرداس في ذيل سمط اللآلي (ص ٣٧) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٤٢١) ، وأوضح المسالك (٢ / ٢٠) ، وشرح الأشموني (١ / ١٥١) ، وشرح شذور الذهب (ص ١١٢) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٠٢) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٠١) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٢٦) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٤٤).

٥٩٥ ـ انظر مقامات الهمذاني (٩٩) ، ومعاهد التنصيص (٤ / ١١٨).

٢٧

معاند ، أو ما كانوا يهذبون إلى درر فوائده من كلّ فجّ عميق ، ويجتمعون على اجتلاب درر مباحثه فريقا بعد فريق؟ وما أحسن قول من قال : [الكامل]

٥٩٦ ـ وجحود من جحد الصّباح إذا بدا

من بعد ما انتشرت له الأضواء

ما دلّ أنّ الفجر ليس بطالع

بل إنّ عينا أنكرت عمياء

وأمّا قولك : «تاسعا : البليغ من عدّت هفواته والجواد من حصرت عثراته إلى آخر ما هذيت» فالجواب عنه : حاشا أن تكون من البلغاء الذين تكون هفواتهم معدودة ، أو من الجواد الذي تكون عثراته محصورة ، فإنّك قد عثّرت في هذا السؤال والجواب تعثيرا كثيرا كما ترى ، ولو لا دعدعتنا لك لبقيت عاثرا أبدا ، وقد قيل : [الطويل]

٥٩٧ ـ لحى الله قوما لم يقولوا لعاثر

ولا لابن عمّ كبّه الدّهر دعدعا

بل أنت كما قال الشاعر (٢) : [الطويل]

فضول بلا فضل وسنّ بلا سنا

وطول بلا طول وعرض بلا عرض

وأمّا قولك : «عاشرا : أظنّك قد غرّك رهط احتفّوا من حولك ، وألقوا السّمع إلى قولك إلى الآخر» فالجواب : أنّ هذا ظنّ فاسد ، قد نشأ من سوء فهمك وخطأ قياسك لأنّك قسته على نفسك ، والأمر على عكس ذلك ، لأنّك قد ركبت الشّطط والأهوال ، وبذلت العمر والأموال حتى اجتمع عندك جمع من الفسقة الجهّال ، لا يعرفون الحلال من الحرام ، ولا يميزون الجواب من السؤال ، يعظّمونك في الخطاب ، ويصدّقونك في الغياب ، يمثلونك بذوي الرقاب فقل بالله قولا صادقا ، هل تقدّمت في مدّة حياته في مجالس التدريس وحلق المناظرة؟ وهل عليك للعلم جمال وأبّهة؟ أو ما كنت بالعامة مشتبه وبالأتراك معتده؟ يجرّونك إلى كل بلد سحيق ويرمونك في كلّ فجّ عميق ، وهلّا سفّهت رأي مخدومك محمد بن الرشيد وزير السلطان أبي سعيد حين بني باسمه المدرسة الحجرية في الرّبع الرّشيدية ، وحضرت بين يديه يوم الإجلاس صامتا كالبرمة عند الهرّاس وفقدت الحواس وكنت كالوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ، فنعوذ بالله من أمثالك من الجنّة والناس ، وأمّا الذين اجتمعوا عند والدي واشتغلوا عليه وتمثّلوا بين يديه فهم العلماء الأبرار والصّلحاء

__________________

٥٩٧ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (دعع) ، والمخصص (١٢ / ١٨٨) ، وتاج العروس (دعع) ، وشرح المفصّل (٤ / ٣٤) ، والمخصص (١٢ / ١٨٨).

(١) انظر حاشية مقامات الحريري (ص ٤٣٥).

٢٨

الأخيار ، بذلوا له الأنفس والأموال ، منهم الإمام الهمام الشيخ شرف الدين الطّيبي شارح (الكشاف والتبيان) ، وهو كالشمس لا يخفى بكل مكان ، ومنهم الإمام المدقّق نجم الدين سعيد (١) شارح (الحاجبية) ، و (العروض الساويّة) (٢) ، وهو الذي سار بذكره الرّكبان ، ومنهم النّوران فرج بن أحمد الأردبيلي ومحمد بن أبي الطيّب الشيرازي ، وهما كالتّوءمين تراضعا بلبان أيّ لبان ورتعا من العلوم في عشب أحصب من نعمان ، ومنهم قاضي القضاة نظام الدين عبد الصّمد ، وهو ممّن لا يشقّ غباره ولا يخفى على غير المعترض مقداره ، فكم لوالدي من مثلهم من التلامذة في كلّ بلد ، بحيث إنّي لو أريد أن أذكرهم ببعض تراجمهم أحتاج إلى مجلّدات ، فيكون تضييعا للقرطاس وتضييقا للأنفاس ، فهؤلاء لعمري رجال إذا أمعن المتأمّل فيهم عرف أنّ ماءهم يبلغ قلّتين فلم يحمل خبثا.

وقولك : «فاقبل النصيحة» فنقول : أيّها المستنصح ألا نصحت نفسك حتى كنّا سلمنا من هذا الهذيان؟ أمّا سمعت قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] ، وقول الشاعر : [الكامل]

٥٩٨ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

فأنت الباعث لي على هذه الكلمات ، وإلّا أين أنا والبحث عن أمثال هذه الأسرار والخوض في الجواب عن نتائج قرائح الأخيار؟ قال الشاعر : [الطويل]

٥٩٩ ـ وما النّفس إلّا نطفة في قرارة

إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها

__________________

(١) هو سعيد العجمي المشهور بالنجم سعيد ، شارح (الحاجبية) ، جعله شرحا للمتن والشرح الذي عليه للمصنف وفيه أبحاث حسنة (بغية الوعاة ١ / ٥٩١).

(٢) العروض الساويّة : قصيدة لاميّة لصدر الدين محمد بن ركن الدين الساوي ، واسمها القصيدة الحسناء ، وهي قصيدة في العروض والقوافي ، شرحها كثيرون ، منهم نجم الدين سعيد بن محمد السعيدي.

٥٩٨ ـ الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه (ص ٤٠٤) ، والأزهية (ص ٢٣٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٣٨) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٣) ، وللمتوكل الليثي في الأغاني (١٢ / ١٥٦) ، والعقد الفريد (٢ / ٣١١) ، ولأبي الأسود أو للمتوكل في لسان العرب (عظظ) ، ولأحدهما أو للأخطل في شرح شواهد الإيضاح (ص ٢٥٢) ، وللأخطل في الكتاب (٣ / ٤٣) ، والردّ على النحاة (ص ١٢٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ٢٤) ، ولحسان بن ثابت في شرح أبيات سيبويه (٢ / ١٨٨) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٨٦٤) ، وأوضح المسالك (٤ / ١٨١) ، وجواهر الأدب (ص ١٦٨) ، والجنى الداني (ص ١٥٧) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٦٦).

٥٩٩ ـ البيت لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير في ديوانه (ص ٤٦) ، والكامل (١ / ٢٩) ، ومعجم الشعراء (ص ٧٨).

٢٩

لكن الضرورة إلى هذا المقدار دعتني ، وفي المثل : «لو ذات سوار لطمتني» (١) ، وقال الشاعر : [الوافر]

٦٠٠ ـ فنكّب عنهم درء الأعادي

وداووا بالجنون من الجنون

ثم إني أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم غفّار الذنوب ستّار العيوب وأتوب إليه ، وأحلف بالله العظيم إنّ القاضي عضد الدين ما كان يعتقد في والدي الذي عرّض به في الجواب ، بل كان معظّما له غاية التعظيم حضورا وغيبة ، وحاشا لله أن أعتقد أيضا فيه ما تعرضت له في بعض المواضع ، بل أنا معظّم له ، معتقد أنّه كان من أكابر الفضلاء وأماثل العلماء ، وكذا والدي كان يعظّمه أكثر من ذلك ، نعم إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ، والشيطان قد ينزع بين الأحبّة والإخوة ، وإنما كتبت هذه الكلمات استيفاء للقصاص ، فلا يظن ظانّ أني محقّر له ، فإنّه قد يستوفى القصاص مع التعظيم ، ويعرف هذا من يعرف دقائق الفقه ، ثم إنّي أرجو من كرم الله تعالى أن يتجاوز عنّا جميع ما زلّت به القدم ، وطغى به القلم ، وأن يجعلنا ممّن قال في حقهم : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧]. والحمد لله ربّ العالمين.

رأي مظفر الدين الشيرازي

(وهذه رسالة في ذلك تأليف صاحبنا العلامة مظفر الدين الشيرازي)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أطلع أنوار القرآن فأنار أعيان الأكوان وأظهر ببدائع البيان قواطع البرهان ، فأضاء صحائف الزمان وصفائح المكان ، والصلاة والسّلام على الرسول المنزّل عليه والنبيّ الموحى إليه الذي نزلت لتصديق قوله وتبيين فضله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] محمّد المؤيّد ببيّنات وحجج قرآنا عربيا غير ذي عوج ، وعلى آله العظام وصحبه الكرام ما اشتمل الكتاب على الخطاب ، ورتّبت الأحكام في الأبواب ، بينما الخاطر يقتطف من أزهار أشجار الحقائق ريّاها ، ويرتشف من نقاوة سلافة كؤوس الدقائق حميّاها ما كان يقنع باقتناء اللّطائف بل كان يجتهد في التقاط النواظر من عيون الظرائف إذ انفتحت عين النظر على غرائب سور القرآن وانطبعت في بصر الفكر بدائع صور الفرقان ، فكنت

__________________

(١) المثل في مجمع الأمثال للميداني (٢ / ١٧٤).

٦٠٠ ـ البيت لأبي الغول الطهويّ في الشعر والشعراء (ص ٤٢٩) ، وشرح الحماسة للمرزوقي (ص ٤٣).

٣٠

لالتقاط للدّرر أغوص في لجج المعاني ، وطفقت لاقتناص الغر أعوم في بحار المباني ، إذ وقع المحطّ على آية هي معترك أنظار الأفاضل والأعالي ، ومزدحم أفكار أرباب الفضائل والمعالي ، كلّ رفع في مضمارها راية ونصب لإثبات ما سنح له فيها آية ، فرأيت أن قد وقع التخالف والتشاجر والمناقشة في التعاظم والتفاخر ، حتى إنّ بعضا من سوابق فرسان هذا الميدان قدوتنا ضلوا عن سهام الشتم والهذيان ، فما وقفوا في موقف من المواقف أبدا ، وما وافق في سلوك هذا المسلك أحد أحدا ، ثم إني ظفرت على ما جرى بينهم من الرسائل واطّلعت على ما أورد في الكتب من تحقيقات الأفاضل ، فاكتحلت عين الفكر من سواد أرقامهم وانفتحت حدقة النّظر على عرائس نتائج أفهامهم ، فبينما كنت ناظرا بعين التأمّل في تلك الأقوال إذ وقع سنوح الذهن في عقال الإشكال ، فأخذت أحلّ عقدها بأنامل الأفكار ، وأعتبر دررها بمعيار الاعتبار ، فرأيت أنّ لأسرار قد خفيت تحت الأستار وأنّ الأجلّة ما اعتنقوها بأيدي الأفكار ، فما زلت في بساط الفكر أجول ، وما زال ذهني عن سمت التأمّل لا يزول ، حتى آنست أنوار المقصود قد تلألأت عن أفق اليقين ، وشهدت بصحتها لسان الحجج والبراهين ، فشرعت أحقّق المرام وأحرّر الكلام في فناء بيت الله الحرام راجيا منه أن لا أزلّ عن صوب الصّواب ، وأن لا أملّ عن الاجتهاد في فتح هذا الباب سائلا منه الفوز بالاستبصار عمّن لا تفتر عين فهمه عن الاكتحال بنور التحقيق ، ولا يقصر شأو ذهنه عن العروج إلى معارج التّدقيق ، فوجدت بعون الله لكشف كنوز الحقائق معينا ولتوضيح رموز الدقائق نورا مبينا ، ثم جعلت كسوة المقصود مطّرزة بطراز التحرير ، ليكون في معرض العرض على كلّ عالم نحرير موردا ما جرى بين الأجلّة عند الطّراد في مضمار المناظرة ، وما أفادوا بعد الاختبار بمسبار المفاكرة ، مذيّلا بما سنح لي في الخطر الفاتر وذهني القاصر متوكّلا على الصّمد المعبود ، فإنّه محقّق المقصود بمحض الفيض والجود.

قال صاحب الكشاف عند تفسير قول الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ :) «من مثل : متعلّق بسورة صفة لها ، أي : بسورة كائنة من مثله والضمير لما نزّلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلّق بقوله : فأتوا والضمير للعبد» انتهى.

وحاصله أنّ الجارّ والمجرور أعني «من مثله» إمّا أن يتعلّق ب (فأتوا) على أنّه ظرف لغو أو صفة لسورة على أنه ظرف مستقرّ وعلى كلا التقديرين فالضمير في مثله إمّا عائد إلى ما نزلّنا أو إلى عبدنا ، فهذه صور أربع جوّز ثلاثا منها تصريحا منع واحدة

٣١

منها تلويحا ، حيث سكت عنها ، وهي أن يكون الظرف متعلّقا ب (فأتوا) والضمير لما نزّلنا ، ولمّا كانت علّة عدم التجويز خفيّة استشكل خاتم المحققين عضد الملة والدين واستعلم من علماء عصره بطريق الاستفتاء ، وهذه عبارته نقلناها على ما هي عليه تبرّكا بشريف كلامه : «يا أدلّاء الهدى ومصابيح الدّجى ، حيّاكم الله وبيّاكم ، وألهمنا الحقّ بتحقيقه وإيّاكم ، ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم للهدى ملتمس ، ممتحن بالقصور لا ممتحن ذو غرور ، ينشد بأطلق لسان وأرقّ جنان (١) :  [المتقارب]

ألا قل لسكّان وادي الحمى

هنيئا لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

قد استبهم قول صاحب (الكشاف) أفيضت عليه سجال الألطاف : من مثله متعلّق بسورة صفة لها أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزّلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلق بقوله : فأتوا والضمير للعبد» حيث جوّز فى الوجه الأول كون الضمير لما نزّلنا تصريحا ، وحظره في الوجه الثاني تلويحا ، فليت شعري ما الفرق بين «فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا» ، وهل ثمّ حكمة خفيّة أو نكتة معنوية أو هو تحكّم بحت؟ بل هذا مستبعد من مثله فإن رأيتم كشف الريبة وإماطة الشبهة والإنعام بالجواب ، أثبتم أجزل الأجر والثواب».

ثم كتب الفاضل الجاربردي في جوابه كلاما معقّدا في غاية التعقيد ، لا يظهر معناه ولا يطّلع أحد على مغزاه ، رأينا أنّ إيراده في أثناء البحث يشتّت الكلام ويبعد المرام ، فأوردناه في ذيل المقصود مع ما كتب في ردّه خاتم المحققين.

وقال العلامة التفتازاني في شرحه (للكشاف) : الجواب أنّ هذا أمر تعجيز باعتبار المأتيّ به ، والذّوق شاهد بأنّ تعلّق «من مثله» بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء ، ومثل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في البشرية والعربية موجود بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة ، وأمّا إذا كان صفة للسورة فالمعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة ولا يقتضي وجود المثل ، بل ربّما يقتضي انتفاءه حيث يتعلّق به أمر التعجيز ، وحاصله أنّ قولنا : ائت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل بخلاف قولنا : ائت ببيت من مثل الحماسة ، انتهى كلامه.

وأقول : لا يخفى أنّ قوله : «يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٥٨٢).

٣٢

منه بشيء» يفهم منه أنّه اعتبر مثل القرآن كلا له أجزاء ، ورجع التعجيز إلى الإتيان بجزء منه ، ولهذا مثّل بقوله : ائت من مثل الحماسة ببيت ، فكان مثل الحماسة كتابا أمر بالإتيان ببيت منه على سبيل التعجيز ، وإذا كان الأمر على هذا النّمط فلا شكّ أنّ الذّوق يحكم بأنّ تعلّق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى بشيء منه ، وأمّا إذا جعلنا مثل القرآن كليّا يصدق على كلّه وبعضه وعلى كلّ كلام يكون في طبقة البلاغة القرآنية فلا نسلّم أنّ الذّوق يشهد بوجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء ، بل الذوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكليّ فرد غير القرآن ، والأمر راجع إلى الإتيان بفرد آخر من هذا الكليّ على سبيل التعجيز ، ومثل هذا يقع كثيرا في محاورات الناس ، مثلا إذا كان عند رجل ياقوتة ثمينة في الغاية قلّما يوجد مثلها يقول في مقام التصلّف : من يأتي من مثل هذه الياقوتة بياقوتة أخرى؟ والناس يفهمون منه أنّه يدّعي أنّه لا يوجد آخر من نوعه ، فظهر أنّه على هذا التقدير لا يلزم من تعلّق «من مثله» بقوله : فأتوا أن يكون مثل القرآن موجودا ، فلا محذور.

وأمّا المثال المقيس عليه أعني قوله : ائت من مثل الحماسة ببيت ، فنقول : هذا لا يطابق الغرض ، فإنّ الحماسة إنما تطلق على مجموع الكتاب ، فلا بدّ أن يكون مثله كتابا آخر أيضا ، وحينئذ يلزم المحذور ، وأمّا القرآن فإنّ له مفهوما كليّا يصدق على كلّ القرآن وأبعاضه وأبعاض أبعاضه إلى حدّ لا تزول عنه البلاغة القرآنية ، وحينئذ يكون الغرض منه المفهوم الكليّ ، وهو نوع من أنواع الكلام البليغ فرده القرآن وقد أمر بإتيان فرد آخر من هذا النوع فلا محذور.

قال في شرحه (المختصر على التلخيص) ، في معرض الجواب عن هذا السؤال : قلت لأنّه يفتقر إلى ثبوت مثل القرآن في البلاعة وعلو الطبقة بشهادة الذوق ، إذ العجز إنما يكون عن المأتي به ، فكان مثل القرآن ثابتا ، لكنّهم عجزوا عن أن يأتوا منه بسورة ، بخلاف ما إذا كان وصفا للسورة ، فإنّ المعجوز عنه هو السورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف ، فإن قلت : فليكن العجز باعتبار المأتي به ، قلت : احتمال عقلي لا يسبق إلى الفهم ولا يوجد له مساغ في اعتبارات البلغاء واستعمالاتهم ، فلا اعتداد به. انتهى كلامه.

وأقول : لا يخفى أنّ كلامه هاهنا مجمل ليس نصّا فيما قصد به في كلامه في شرح الكشاف ، وحينئذ نقول : إن أراد بقوله : «إذ العجز إنما يكون عن المأتي به فكان مثل القرآن ثابتا» أن العجز باعتبار المأتي به مستلزم أن يكون مثل القرآن

٣٣

موجودا ويكون العجز عن الإتيان منه بشهادة الذوق مطلقا فهو ممنوع ، لأنه إنما يشهد الذوق بلزوم ذلك إذا كان المأتيّ منه ـ أعني مثل القرآن ـ كلا له أجزاء ، والتعجيز باعتبار الإتيان بجزء منه كما قررناه سابقا ، وإن أراد أنه إنما يلزم بشهادة الذوق إذا كان المأتيّ منه كلا له أجزاء فمسلّم ، لكن كونه مرادا هاهنا ممنوع ، بل المراد هاهنا أنّ المأتيّ منه نوع من أنواع الكلام ، والتعجيز راجع إليه باعتبار الأمر بإتيان فرد آخر كما صوّرناه في مثال الياقوتة فتذكّر.

قال المدقق صاحب (الكشف) (١) في شرحه على هذا الموضع من كلام الكشاف : ويجوز أن يتعلّق ب (فأتوا) والضمير للعبد ، أمّا إذا تعلّق بسورة صفة لها فالضمير للمنزّل أو للعبد على ما ذكره وهو ظاهر ، ومن بيانية أو تبعيضية على الأول لأنّ السورة المفروضة مثل المنزّل على معنى سورة هي مثل المنزّل في حسن النظم ، أو لأنّ السورة المفروضة بعض المثل المفروض ، فالأول أبلغ ، ولا يحمل على الابتداء على غير التبعيضيّة أو البيان ، فإنّهما أيضا يرجعان إليه على ما آثر شيخنا الفاضل رحمه الله ، وابتدائية على الثاني ، وأمّا إذا تعلّق بالأمر فهي ابتدائية والضمير للعبد ، لأنّه لا يتبيّن إذ لا مبهم قبله ، وتقديره : رجوع إلى الأول ولأنّ البيانية أبدا مستقر على ما سيجيء إن شاء الله تعالى ، فلا يمكن تعلّقها بالأمر ولا تبعيض إذ الفعل يكون واقعا عليه كما في قولك : أخذت من المال ، وإتيان البعض لا معنى له ، بل الإتيان بالبعض ، فتعيّن الابتداء ، ومثل السورة والسورة نفسها إن جعل مقحما لا يصلحان مبتدأ بوجه ، فتعيّن أن يرجع الضمير إلى العبد ، وذلك لأن المعتبر في مبدئية الفعل المبدأ الفاعلي أو المادي أو الغائي أو جهة ملتبس بها ولا يصح واحد منها. فهذا ما لوّح إليه العلّامة ، وقد كفيت بهذا البيان إتمامه» ، انتهى كلامه.

وأقول : حاصل كلامه أنّه بطريق السّبر والتقسيم حكم بتعيين من للابتداء ، ثم بيّن أنّ مبدئية الفعل لا تصحّ هاهنا إلّا للعبد ، فتعيّن أن يكون الضمير راجعا إليه ، ولا يخفى أنّ قوله : «ولا تبعيض إذ الفعل حينئذ يكون واقعا عليه إلخ ..» محلّ تأمّل إذ وقوع الفعل عليه لا يلزم أن يكون بطريق الأصالة ، لم لا يجوز أن يكون بطريق التبعيّة مثل أن يكون بدلا ، فإنّكم لمّا جوّزتم أن يكون في المعنى مفعولا صريحا كما قررتم في «أخذت من الدراهم» أنّه بمعنى «أخذت بعض الدراهم» ، لم لا تجوّزون أن يكون بدلا من المفعول؟ فكأنه قال : بسورة بعض مثل ما نزّلنا ، فتكون البعضية

__________________

(١) يريد كتاب (كشف الأسرار وعدة الأبرار) تفسير فارسي للشيخ العلامة سعد الدين بن عمر التفتازاني ، انظر كشف الظنون (١٤٨٧).

٣٤

المستفادة من ملحوظة على وجه البدليّة ، ويكون الفعل واقعا عليه فيكون في حيّز الباء ، وإن لم يكن تقدير الباء عليه إذ قد يحتمل في التابعية ما لا يحتمل في المتبوعيّة ، كما في قولهم : ربّ شاة وسخلتها ، لا بدّ لنفي هذا من دليل ، ثم على تقدير التسليم نقول : قوله : لأنّ المعتبر في مبدئية الفعل المبدأ الفاعلي إلى آخره ، محلّ بحث لأنّ التعميم الذي في قوله : أو جهة يلتبس بها غير منضبط ، فإن جهات التلبّس أكثر من أن تحصر من جهة الكمية ، ولا تنتهي إلى حدّ من الحدود من جهة الكيفية ، ولا يخفى أنّ كون مثل القرآن مبدأ ماديا للسورة من جهة التلبّس أمر يقبله الذهن السليم والطبع المستقيم ، على أنّك لو حققت معنى من الابتدائية يظهر لك أن ليس معناه إلّا أن يتعلّق به على وجه اعتبار المبدئية الأمر الذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهّما.

وقد ذكر العلّامة التفتازاني كلام الكشاف للردّ ، وقال في أثناء الردّ : «على أنّ كون مثل القرآن مبدأ ماديا للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدأ فاعليا له». انتهى.

وأقول : لا يخفى أنّ مثل العبد باعتبار الإتيان بالسورة منه هو مبدأ فاعلي للسورة حقيقة لأنّه لو فرض وقوعه لا يكون العبد مؤلفا لمثل السورة مخترعا له فيكون مبدأ فاعليا حقيقيا ، وأمّا مثل القرآن فلا يكون مبدأ ماديّا للسورة إلّا باعتبار التلبّس المصحّح للتشبيه ، فهو أبعد منه غاية البعد ، بل ليس بينهما نسبة ، فإنّ أحدهما بالحقيقة والآخر بالمجاز ، وأين هذا من ذلك؟ نعم كون مثل القرآن مبدأ ماديا ليس بعيدا في نظر العقل باعتبار التلبّس ، تأمّل وأنصف.

قال الفاضل الطّيبي : «لا يقال : إنّ جعل من مثله صفة لسورة ، فإن كان الضمير للمنزّل فهي للبيان ، وإن كان للعبد فمن للابتداء ، وهو ظاهر ، فعلى هذا إن تعلّق قوله : من مثله بقوله : فأتوا فلا يكون الضمير للمنزّل لأنّه يستدعي كونه للبيان ، والبيان يستدعي تقديم مبهم ولا تقديم ، فتعيّن أن تكون للابتداء لفظا أو تقديرا ، أي : أصدروا وأنشئوا واستخرجوا من مثل سورة ، لأنّ مدار الاستخراج هو العبد لا غير ، فلذلك تعيّن في الوجه الثاني عود الضمير إلى العبد ، لأنّ هذا وأمثاله ليس بواف ، ولذلك تصدّى للسؤال بعض فضلاء الدهر وقال : «قد استبهم قول صاحب الكشّاف حيث جوّز في الوجه الأول كون الضمير لما نزّلنا تصريحا ، وحظره في الوجه الثاني تلويحا ، فليت شعري ما الفرق بين «فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا» و «فأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة» ، وأجيب : إنك إذا اطلعت على الفرق بين قولك

٣٥

لصاحبك : ائت برجل من البصرة ، أي كائن منها ، وبين قولك : «ائت من البصرة برجل» عثرت على الفرق بين المثالين وزال عنك التردّد والارتياب».

ثم نقول : إنّ «من» إذا تعلّق بالفعل يكون إمّا ظرفا لغوا ومن للابتداء أو مفعولا به ومن للتبعيض ، إذ لا يستقيم أن يكون بيانا لاقتضائه أن يكون مستقرا والمقدّر خلافه ، وعلى تقدير أن يكون تبعيضا فمعناه : فأتوا بعض مثل المنزّل بسورة ، وهو ظاهر البطلان ، وعلى تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدّي الإتيان بالسورة فقط ، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن ، وهذا على تقدير استقامته فبمعزل عن المقصود ، واقتضاء المقام يقتضي التحدّي على سبيل المبالغة وأنّ القرآن بلغ في الإعجاز بحيث لا يوجد لأقلّه نظير فكيف للكلّ؟ فالتحدّي إذا بالسورة الموصوفة بكونها من مثله في الإعجاز ، وهذا إنما يتأتّى إذا جعل الضمير لما نزّلنا ومن مثله صفة لسورة ومن بيانيّة ، فلا يكون المأتيّ به مشروطا بذلك الشرط لأنّ البيان والمبيّن كشيء واحد ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، ويعضده قول المصنّف في سورة الفرقان : إنّ تنزيله مفرّقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلّما نزل شيء منها أدخل في الإعجاز وأنور للحجّة من أن ينزل كله جملة واحدة ، ويقال لهم : جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه» (١) أي : طوله. انتهى.

وأقول : هذا الكلام مع طول ذيله قاصر عن إقامة المرام ، كما لا يخفى على من له بالفنون أدنى إلمام ، فلا علينا أن نشير إلى بعض ما فيه ، فنقول : قوله : «وعلى تقدير أن يكون تبعيضا فمعناه فأتوا ببعض مثل المنزّل بسورة وهو ظاهر البطلان» فيه بحث ، لأنّ بطلانه لا يظهر إلّا على تقريره ، حيث غيّر النظم بتقديم معنى منّ على قوله : بسورة ، وهذا إفساد بلا ضرورة ، فلو قال : فأتوا بسورة بعض مثل المنزّل على ما هو النظم القرآني ، فهو في غاية الصحة والمتانة ، وحينئذ يكون قولنا : بعض مثل المنزل بدلا ، فيكون معمولا للفعل على ما حقّقناه سابقا حيث قرّرنا على كلام صاحب الكشاف ، فارجع وتأمّل.

ثم قوله : «وعلى تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدّي الإتيان بسورة فقط ، بل يشترط أن يكون بعضا من كلام مثل القرآن» فيه نظر ، لأنّ الإتيان من المثل لا يقتضي أن يكون من كلام مثل القرآن يكون المأتيّ جزءا منه ، بل يقتضي أن يكون من نوع من الكلام عال في البلاغة إلى حيث انتهى به البلاغة القرآنية والمأتيّ به يكون فردا من أفراده ، ولعمري إنه ما وقع في هذا إلّا لأنّه جعل المثل كلّا له أجزاء

__________________

(١) انظر الكشاف (٣ / ٩١).

٣٦

لا كليا له أفراد ، كما فصلنا سابقا في مثال الياقوتة حيث أوردنا الكلام على العلّامة التفتازاني فلا نحتاج إلى الإعادة ، وظنّي أنّ منشأ كلام العلّامة التفتازاني ليس إلّا كلام الفاضل الطيّبي ، تأمّل وتدبّر.

وقد يجاب بوجوه أخر في غاية الضّعف ونهاية الزّيف ، أوردها العلّامة التفتازاني في شرح الكشاف وبيّن ما فيها ، رأينا أن ننقلها على ما هي عليها استيعابا للأقوال ، وليكون للمتأمّل في هذه الآية زيادة بصيرة :

«الأوّل : أنّه إذا تعلّه ب (فأتوا) فمن للابتداء قطعا ، إذ لا مبهم يبيّن ، ولا سبيل إلى البعضية لأنه لا معنى لإتيان البعض ، ولا مجال لتقدير الباء مع «من» ، كيف وقد ذكر المأتيّ به صريحا وهو السورة؟ وإذا كانت «من» للابتداء تعيّن كون الضمير للعبد لأنّه المبدأ للإتيان لا مثل القرآن ، وفيه نظر لأنّ المبدأ الذي تقتضيه من الابتدائية ليس الفاعل حتى ينحصر مبدأ الإتيان بالكلام في المتكلّم ، على أنّك إذا تأمّلت فالمتكلّم ليس مبدأ للإتيان بكلام غيره بل بكلام نفسه ، بل معناه أنّه يتصل به الأمر الذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهّما ، كالبصرة للخروج والقرآن للإتيان بسورة منه.

الثاني : أنّه إذا كان الضمير لما نزلنا ومن صلة فأتوا كان المعنى : فأتوا من منزّل مثله بسورة ، فكان مماثلة ذلك المنزّل بهذا المنزّل هو المطلوب ، لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا ، وظاهر أنّ المقصود خلافه كما نطقت به الآي الأخر ، وفيه نظر لأنّ إضافة المثل إلى المنزّل لا تقتضي أن يعتبر موصوفه منزّلا ، ألا ترى أنّه إذا جعل صفة سورة لم يكن المعنى بسورة من منزّل مثل القرآن بل من كلام العرب ، وكيف يتوهم ذلك والمقصود تعجيزهم عن أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام من مثل القرآن؟ ولو سلم فما ادّعاه من لزوم خلاف المقصود غير بيّن ولا مبيّن.

الثالث : أنّها إذا كانت صلة فأتوا كان المعنى : فأتوا من عند المثل ، كما يقال : ائتوا من زيد بكتاب ، أي : من عنده ، ولا يصحّ ائتوا من عند مثل القرآن بخلاف مثل العبد ، وهذا أيضا بيّن الفساد» انتهى.

وقد ألهمت بحلّ الكلام في فناء بيت الله الحرام ما إذا تأمّلت فيه عسى أن يتّضح المرام ، فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق : إنّ الآية الكريمة ما أنزلت إلا للتحدي ، وحقيقة التحدي هو طلب المثل ممّن لا يقدر على الإتيان به ، فإذا قال المتحدّي : ائتوا بسورة بدون قوله : من مثله ، كلّ أحد يفهم منه أنّه يطلب سورة من مثل القرآن ، وإذا قال : ائتوا من مثله بدون قوله بسورة كل أحد يفهم منه أنه يطلب

٣٧

من مثل القرآن ما يصدق عليه أنه مثل القرآن ، أيّ قدر كان سورة أو أقل منها أو أكثر ، وإذا أراد المتحدّي الجمع بين قوله : بسورة وبين قوله : من مثله فحقّ الكلام أن يقدّم «من مثله» ويؤخّر «بسورة» ، ويقول : فأتوا من مثله بسورة ، حتى يتعلّق الأمر بالإتيان من المثل أوّلا بطريق العموم وكان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلا والكلام مفيدا ، لكن تبرّع ببيان قدر المأتيّ به فقال : بسورة ، فيكون من قبيل التخصيص بعد التعميم في الكلام والتبيين بعد الإبهام في المقام ، وهذا الأسلوب ممّا يعتني به البلغاء ، وأمّا إذا قال : فأتوا بسورة من مثله على أن يكون «من مثله» متعلّقا ب (فأتوا) فإنه يكون في الكلام حشو وذلك لأنه لمّا قال : بسورة عرف أنّ المثل هو المأتي منه فذكر من مثله على أن يكون متعلقا ب (فأتوا) يكون حشوا ، وكلام الله منزّه عن هذا ، فلهذا حكم بأنه وصف للسورة.

وتلخيص الكلام أنّ التحدّي بمثل هذه العبارة على أربعة أساليب : الأول : تعيين المأتي به فقط ، الثاني : تعيين المأتي منه فقط ، الثالث : الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدّما والمأتيّ به مؤخرا ، الرابع : العكس ، ولا يخفى على من له بصيرة في تنفيذ الكلام أنّ الأساليب الثلاثة الأول مقبولة عند البلغاء ، والأخير مردود ، لأنه يبقى ذكر المأتي منه بعد ذكر المأتي به حشوا ، هذا إذا جعل المأتي منه مفهوم المثل ، وأمّا إذا كان المأتيّ منه مكانا أو شخصا أو شيئا آخر ممّا لا يدلّ عليه التحدي فذكره مفيد قدّم أو أخّر ، ولذلك جوّز العلّامة صاحب (الكشاف) أن يكون (مِنْ مِثْلِهِ) متعلّقا ب (فأتوا) حيث كان الضمير راجعا إلى عبدنا.

والحاصل أنّه إذا جعل المثل المأتي منه مفهوم المثل وأريد الجمع بين المأتي منه والمأتي به فلا بدّ من تقديم المأتي منه على المأتي به ، وإلا يكن الكلام ركيكا ، وإذا كان المأتي منه شيئا آخر فالتقديم والتأخير سواء ، وممّا يؤيّد هذا المعنى ما أفاده المحقّقون في قول القائل عند خروجه من بستان المخاطب : أكلت من بستانك من العنب ، أنه لو قال : أكلت من العنب من بستانك يكون الكلام ركيكا بناء على أنّه لمّا قال : أكلت من العنب علم أنّه أكل من البستان ، فقوله : من بستانك يبقى لغوا وأمّا إذا قال أولا : من بستانك أفاد أنّه أكل من البستان بعد أن لم يكن معلوما ، ولكن يبقى الإبهام في المأكول منه ، فلمّا قال : من العنب رفع الإبهام ، هذا وإن لم يكن مثالا لما نحن فيه لكنّه تنظير إذا تأملت فيه تأنّست بالمطلوب الذي نحن بصدده.

لا يقال : فعلى هذا جعله وصفا أيضا لغو ، بناء على أنّ التحدي يدلّ عليه لأنّا

٣٨

نقول بلا شك إن التحدي يدلّ على أنّ السورة المأتيّ بها هي السورة المماثلة ، فإذا قيل : (مِنْ مِثْلِهِ) مقدّما حصل فيه إبهام وإجمال من حيث المقدار ، فإذا قيل بسورة تعيّن المقدار المأتي به ، وحينئذ قوله : «بسورة» لا يفيد إلّا تعيين المقدار المبهم ، إذ بعد أن فهم المماثلة من صريح الكلام تضمحلّ دلالة السياق ، فلا يلاحظ قوله بسورة إلّا من حيث أنّه تفصيل بعد الإجمال ، فلا يكون في الكلام أمر يستغنى عنه ، وأمّا إذا قيل مؤخّرا فإن جعلته وصفا للسورة فقد جعلت ما كان مفهوما بالسياق منطوقا في الكلام بعينه ، وهذا في باب النعت إذا كان لفائدة لا ينكر ، كما في قولهم : أمس الدّابر وأمثاله ، وأمّا إذا جعلت متعلّقا ب (فأتوا) فدلالة السياق باقية على حالها إذ هي مقدّمة على التصريح بالمماثلة ، ثم خرجت بذكر المماثلة ، فكأنك قلت : فأتوا بسورة من مثله من مثله مرتين على أن يكون الأول وصفا والثاني ظرفا لغوا ، وهو حشو في الكلام بلا شبهة ، فإن قلت : فما الفائدة إذا جعلناه وصفا للسورة؟ قلت : الفائدة جليلة ، وهي التصريح بمنشأ التعجيز ، فإنّه ليس إلّا وصف المماثلة ، وعند ملاحظة منشأ التعجيز أعني المثليّة يحصل الانتقال إلى أنّ القرآن معجز والحاصل أنّ الغرض من إتيان الوصف تحقيق مناط علية كون القرآن معجزا حتى يتأمّلوا بنظر الاعتبار فيرتدعوا عمّا هم فيه من الرّيب والإنكار.

هذا ما سنح في الخاطر الفاتر ، والمرجوّ من الأفاضل النظر بعين الإنصاف والتجنّب عن العناد والاعتساف ، فلعمري إنّ الغور فيه لعميق وإنّ المسلك إليه لدقيق ، والله المستعان وعليه التّكلان ، تمت الرسالة والحمد لله رب العالمين.

علّة حذف الواو بين الياء والكسرة

ومن مجموع ابن القماح :

فائدة : إذا كانت الواو فاء الكلمة من الماضي فمضارعه يفعل بكسر العين لفظا أو تقديرا ، وتسقط الواو في المضارع ، مثال اللفظي : يعد ويمق من وعد وومق ، ومثال التقديري : يضع ويسع من وضع ووسع ، فالأصل في الكلّ بالواو ، فحذفت وفتحت عين الفعل للخفّة ، إذ حرف الحلق ثقيل لبعد مخرجه فهي مكسورة تقديرا ، وهو معنى قول الزمخشري : «وسقوطها فيما عينه مكسورة من مضارع فعل أو فعل لفظا أو تقديرا» (١) ، واختلفوا في علة حذف الواو بين الياء والكسرة ، فعلّله الكوفيون (٢)

__________________

(١) انظر المفصّل (ص ١٧٨).

(٢) انظر الإنصاف (ص ٧٨٢).

٣٩

بالفرق بين المتعدي فحذفت فيه لثقله وبين الّلازم فبقيت لخفته ، وهو ضعيف ، فقد حذفت في اللازم في وكف يكف وونم الذباب ينم وعلّله البصريون بالثقل ، وخصّوا الحذف بالواو دون الكسرة أو الياء لأنّ الياء لا تحذف لدلالتها على معنى ، والكسرة لا يفيد حذفها كبير خفة ، فتعيّن حذف الواو ، فنقض الكوفيون عليهم ذلك بأوعد يوعد فقد ثبتت الواو.

قال ابن مالك : الحذف إذا كانت الياء مفتوحة وهذه مضمومة ، قيل له : أنت عللت الحذف بالخفّة ، والضمة أثقل من الفتحة.

قال ابن النحاس : الصواب أنّ هذه وقعت بين همزة وكسرة وأصله يؤوعد لأنه من أوعد.

القول في وسواس

ومن رؤوس المسائل وتحفة طلاب الوسائل للشيخ محيي الدين النواوي رضي الله عنه وعنّا به.

سئل ابن مالك عن وسواس أهو مصدر مضاف إليه ذو مقدرة أم هو صفة محضة للمبالغة؟ فأجاب : الفعل الموزون بفعلل ضربان : صحيح كدحرج وشرهف (١) وهو الأصل ، والثاني : الثنائي المكرّر كحمحم ودمدم (٢) ، وهو فرع لأنّ الأصل السّلامة من التّكرار ، ولأنّ أكثره يفهم معناه بسقوط ثالثه كثجثج (٣) الماء بمعنى ثجّ ، وكفكف الشيء بمعنى كفّه ، وكبكبه (٤) بمعنى كبّه ، ورضرضه بمعنى رضّه ، وذرذره بمعنى ذرّه ، وذفذف (٥) على الجريح بمعنى ذفّف ، وصرصر (٦) الجندب بمعنى صرّ ، وعجعج (٧) الفحل بمعنى عجّ ، وصمصم (٨) السيف بمعنى صمّ ، ومكمك (٩) الفصيل ما في الضّرع بمعنى امتكّه ، ومطمط الكلام بمعنى مطّه أي : مدّه ، ومخمخ المخ أخرجه. وللنوعين مصدران مطّردان :

__________________

(١) شرهف الرجل : أحسن غداءه.

(٢) المحمحة : صوت البرذون عند الشعير. ودمدم الشيء : ألزقه بالأرض.

(٣) ثجّ الماء نفسه : انصبّ.

(٤) كبّ الشيء : قلبه.

(٥) ذفذف على الجريح : أجهز عليه وأسرع بقتله.

(٦) صرصر : صوّت.

(٧) عجعج الفحل : صوّت.

(٨) صمصم السيف : مضى في العظم.

(٩) مكمك الفصيل الضرع : امتصّ جميع ما فيه.

٤٠