الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

المسألة الثانية عشرة : فإن قال لها : «أنت طالق» أن دخلت الدار ـ بفتح أن ـ طلقت لوقتها ؛ لأنّ المعنى : أنت طالق من أجل أن دخلت الدار ، أو لأن دخلت الدار ، فقد صار دخول الدار علّة طلاقها والسّبب الذي من أجله طلّقها ، لا شرطا لوقوع الطّلاق كما كان في باب (إن). وهي تطلق إذا فتح (أن) كانت دخلت الدّار أو لم تدخل ، فإنّ الطلاق يقع بها في وقته. وكذلك إذا شدّد (أنّ) وفتحها فقال : «أنت طالق أنّك دخلت الدار» طلقت لوقتها كانت دخلت الدّار أو لم تكن دخلت.

وشرح ذلك أنّه لو بلغه أنّها دخلت دار زيد ولم تكن دخلتها في الحقيقة فقال لها : أنت طالق ثلاثا ، فقالت له : لم طلّقتني فقال : من أجل أنّك دخلت دار زيد ، فقالت : إنّي لم أدخلها قطّ وقع الطلاق ولم يكن ذلك بمانع من وقوعه.

وكذلك إذا قال لها : «أنت طالق أن دخلت دار زيد» فكأنّه طلّقها ثمّ خبّر بالعلّة التي من أجلها طلّقها والسبب ، والإخبار بذلك لا يمنع من وقوع الطّلاق.

وكذلك لو قال لها : «أنت طالق إنّك دخلت الدار» ـ فكسر (إنّ) وشدّدها ـ طلقت وهذا لم يخبرها بالعلّة التي من أجلها طلّقها ، ولكنّه طلّقها ثمّ خبّرها بخبر منقطع من الأوّل ، وكأنّه خبّرها بما ليس ممّا هما فيه بشيء ، فالإخبار به والإمساك عنه سواء ، إذ ليس بشرط للطّلاق ولا بعلّة له. فهذا الفرق بين كسر (إنّ) وتشديدها ، وبين فتحها وتشديدها ، وفتحها وتخفيفها ، وكسرها وتخفيفها فاعلم ذلك.

المسألة الثالثة عشرة : فإن قال لها : «أنت طالق إذ دخلت دار زيد» فكأنّه قال لها : أنت طالق وقت دخولك دار زيد فيما مضى ، وهي في تقدير : أنت طالق أمس ، فالطلاق يقع بها وذكره المضيّ لغو. وهذا في اللغة كلام متناقض ، قد نقض آخره أوّله ، اللهمّ إلّا أن يكون قد طلّقها يوم دخولها دار زيد ، ثمّ خبّرها الآن بما كان منه في ذلك الوقت ، وإن كانت لم تدخل دار زيد قطّ ، فقال لها أنت طالق إذ دخلت دار زيد فكأنّه قال لها : أنت طالق أمس ، ثمّ كذب عليها بقوله : دخلت دار زيد ، فسواء هذا وقوله : «أنت طالق أمس» ، و: «أنت طالق إذ دخلت دار زيد». ولو حمل هذا على حقيقة اللّغة كان قوله : «أنت طالق إذ دخلت دار زيد» ، و: «أنت طالق أمس» كلاما مستحيلا ، لأنّه متناقض ؛ كأنّه قال : «طلّقتك أمس» ، وأمّا قوله : أطلّقك أمس فمحال ، لانتقاض أوّله بآخره. وأمّا قوله : «طلّقتك أمس» ؛ فإن كان قد فعل فقد مضى القول فيه ، وإن كان لم يفعل فإنّما كذب في إخباره ، وباب وقوع الطّلاق فيه ما يذهب إليه الفقهاء في ذلك.

٢٦١

المسألة الرابعة عشرة : إذا قال : «كلّما دعوتك فإن أجبتني فعبدي حرّ» ، فدعاه ثلاث مرّات وأجابه مرّة فإنّه يعتق واحد من عبيده ؛ لأنّ الإجابة مشترطة مع الدّعاء ، وهي تتردّد فلا يعتق العبد إلّا بدعاء معه إجابة. وكذلك إذا قال لامرأته : «كلّما ناديتك فإن أجبتني فأنت طالق تطليقة» ، فناداها ثلاث مرّات فأجابته مرّة طلقت واحدة.

المسألة الخامسة عشرة : أنشد الكسائيّ : [الطويل]

٧٧٠ ـ فإن ترفقي يا هند فالرّفق أحزم

وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطّلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم

فبيني بها إن كنت غير رفيقة

وما لامرئ بعد الثّلاث تقدّم

أمّا قوله : أنت طلاق ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مصدرا موضوعا موضع اسم الفاعل كما قيل : رجل عدل أي : عادل ، ورجل صوم أي : صائم ، وفطر وزور ، أي : مفطر وزائر ، كما قال الله عزّ وجلّ : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] أي : غائرا. وقد يقع المصدر في موضع اسم المفعول أيضا كما قيل : «رجل رضى أي : مرضيّ». فكأنّه قال : أنت طالق ، فوضع طلاقا موضع طالق اسم الفاعل كما ترى. وهذه المصادر إذا وضعت موضع أسماء الفاعلين والمفعولين فإن شئت تركتها أيضا على لفظ واحد مفرد في الواحد والاثنين والجمع والمؤنّث فتقول : رجل عدل ، ورجلان عدل ، ورجال عدل ، ونسوة عدل ، وإن شئت ثنّيت وجمعت ، فقد قيل : عدول ومقانع ، أنشدنا أبو عبد الله نفطويه قال : أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ : [الطويل]

٧٧١ ـ طمعت بليلى أن تريع وإنّما

تقطّع أعناق الرّجال المطامع

وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن

شهود على ليلى عدول مقانع

فجمع «عدلا» و «مقنعا» ، فقال : «عدول» ، و «مقانع» ، كما ترى.

والوجه الثاني في قوله : «فأنت طلاق» أن يكون حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه كما قيل : صلّى المسجد ، يراد : صلّى أهل المسجد ، وكما قال الله عزّ

__________________

٧٧٠ ـ مرّ تخريج البيت الثاني في الشاهد رقم (٥٩٩) ، والثلاثة معا بنفس المراجع السابقة.

٧٧١ ـ البيتان في شرح المفصّل (١ / ١٣) ، والأول في اللسان (ريع) ، والثاني لكثير في اللسان (عدل) ، وتاج العروس (عدل) ، وليس في ديوانه ، وللبعيث في لسان العرب (قطع) و (قنع) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٩٤٢) ، وشرح المفصّل (١ / ١٣).

٢٦٢

وجلّ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] ، يريد أهل القرية ، وأصحاب العير ؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. فكذلك أراد : أنت ذات طلاق ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قالت (١) الخنساء : [البسيط]

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

أي : ذات إقبال وإدبار. وقد يجوز أن يكون جعلها الإقبال والإدبار لكثرة ذلك منها مجازا واتّساعا ، وأنشد سيبويه : [المتقارب]

٧٧٢ ـ وكيف أواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب

يريد : كخلالة أبي مرحب ، والخلالة الصداقة.

وأمّا قوله : والطّلاق عزيمة ثلاثا : فإنّه إذا نصب الثّلاث فكأنّه قال : فأنت طالق ثلاثا ، يوقع بها الثلاث ، ويكون قوله «والطلاق ..» عزيمة منّي جدّا غير لغو.

وإذا قال : فأنت طلاق والطلاق عزيمة ثلاث برفع «ثلاث» فكأنّه قال : أنت طالق ، والطلاق عزيمة ثلاث يرفع أي الطلاق ثلاث ، أي : الذي بمثله يقع الفراق هو الثلاث فيكون (ثلاث) خبرا ثانيا عن الطّلاق أو موضّحا للعزيمة. وإن شاء كان تقديره : «فأنت طالق ثلاثا» ، ثمّ فسّر ذلك بقوله : والطلاق عزيمة ثلاث ، كأنّه قال : والطلاق الذي ذكرته أو نويته عزيمة ثلاث ففسّره بهذا. ودليل هذا : إذا نوى الثلاث ، ودليل قصد الثلاث ، قوله في البيت الذي بعده : «فبيني بها» ، فهذا يدلّ على أنّه أراد الثلاث والبينونة.

ويجوز نصب «عزيمة» إذا رفع الثلاث فقال : «والطلاق عزيمة ثلاث» فينتصب على إضمار فعل ، كأنّه قال : والطلاق ثلاث أعزم ذلك عزيمة ، ويجوز أن يكون تقدير قوله : «والطلاق إذا كان عزيمة ثلاث» كما تقول : عبد الله راكبا أحسن منه ماشيا ، وكما تقول : هذا بسرا أطيب منه رطبا.

وأمّا قوله : ومن يخرق أعقّ وأظلم فمن كلام الشعر لا يجوز في منثور الكلام. آخر المسائل.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٠).

٧٧٢ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ٢٦) ، والكتاب (١ / ٢٧٥) ، وسمط اللآلي (ص ٤٦٥) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٩٤) ، ولسان العرب (رحب) و (خلل) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٨٩) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق (ص ١١٢) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٠٢) ، ولسان العرب (شرب) و (برر) ، ومجالس ثعلب (ص ٧٧) ، والمحتسب (٢ / ٢٦٤) ، والمقتضب (٣ / ٢٣١).

٢٦٣

مسألة

فيها : الكلام على نصب «ضبّة» في قول صاحب (المنهاج) «وما ضبّب بذهب أو فضّة ضبّة كبيرة لزينة حرم». تحرير الشيخ الإمام العالم العلّامة كمال الدين أبي بكر بن محمّد السيوطي الشافعي رحمه الله تعالى وغفر له.

بسم الله الرحمن الرحيم

نقلت من خطّ والدي ـ رحمه الله ـ ما صورته : الحمد لله مسألة : عرض الاجتماع ببعض الأشياخ أعزّه الله تعالى ، فذكر لي أنّ بعض أصحابنا الشّافعيّة سأله عن وجه نصب (ضبّة) من قول صاحب (المنهاج) : «وما ضبّب بذهب أو فضّة ضبّة كبيرة لزينة حرم». وقال أعزّه الله :

وأخبرني ـ يعني السائل ـ أنّ الأصحاب اختلفوا في وجه نصب (ضبّة) ، وأنّ بعضهم قال : هو خبر كان محذوفة ، والمعنى : وكان ضبّة ، أو : وإن كان ضبّة. وقال بعضهم : هو مصدر وتقديره : تضبيبا ضبّة. وقال بعضهم : هو آلة. وقال بعضهم : توسّع المصنّف فأطلق الضبّة على المصدر ، وربّما قيل غير ذلك.

وقد ظهر لي ـ على أنّ إطلاق هذا اللّفظ بإزاء هذا المعنى عربيّ ـ أنّ هذه الأقوال كلّها لا تسلّم.

أمّا قول من قال : وكان ضبّة أو وإن كان ضبّة ، فغنيّ عن الجواب لأنّه يلزم منه عود الضمير في كان المقدّرة على (ما) الواقعة على الإناء المضبّب ، فيكون المعنى : وما ضبّب وكان المضبّب ضبّة ، أو : وإن كان المضبّب ضبّة ، ولا يخفى فساده سواء جعلت (كان) تامّة أو ناقصة ، والواو عاطفة ، أو للحال. هذا كلام الشيخ سلّمه الله تعالى وقد اقتضى أمرين :

أحدهما : أنّ اسم كان المقدّرة ضمير.

والثاني : أنّه عائد على (ما) الواقع على المضبّب. وكلّ منهما ليس بلازم.

أمّا الأوّل : فلأنّه يجوز أن يكون اسم كان ظاهرا تقديره : وكانت الضّبّة ضبّة كبيرة ... إلى آخره.

وأمّا الثاني : فلأنّا إذا جعلنا اسم كان ضميرا كان عائدا على الضّبّة المفهومة من قوله : وما ضبّب ، لأنّ مفسّر الضمير يجوز الاستغناء به بمستلزم له كقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨] فعفي يستلزم عافيا والضمير في إليه عائد عليه ، وكقوله : [الطويل]

٢٦٤

٧٧٣ ـ لكالرّجل الحادي وقد تلع الضّحى

وطير المنايا فوقهنّ أواقع

فالحادي يستلزم إبلا محدوّة ، وضمير «فوقهنّ» عائد عليهنّ. إذا تقرّر ذلك فقد حذف كان واسمها ظاهرا قدّرناه أو ضميرا ، وبقي خبرها.

فإن اعترض معترض بأنّ حذف كان مع اسمها إنّما يحسن ويكثر بعد (إن) و (لو). أجبنا بأنّه يكفينا في التخريج وقوعه في كلام العرب وإن كان قليلا ، فقد خرّج سيبويه ـ رحمه الله تعالى ـ قول الرّاجز : [الرجز]

٧٧٤ ـ من لد شولا فإلى إتلائها

على أنّ التّقدير : من لد أن كانت شولا. وأمكننا أن نخلص عن اعتراضه بوجه آخر وهو أن نقول : أصله : فإن كانت الضّبّة ضبّة كبيرة ، فحذفت واسمها بعد (إن) وبقي خبرها ثمّ حذف (إن) بعد ذلك وجوّز حذفه دلالة (حرم) الذي هو الجواب عليه ، فإنّ حذف الشّرط مع القرينة جائز مع (إن) ، وإنّما الخلاف في غيرها من أدوات الشرط.

واشترط ابن عصفور والأبّدي تعويض (لا) من الفعل المحذوف. قال في الارتشاف : وليس بشيء. ومن أمثلة حذف الشّرط مع إن بدون (لا) قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) [الأنفال : ١٧] تقديره والله أعلم : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم أنتم ولكنّ الله قتلهم ، وقوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) [الشورى : ٩] تقديره : إن أرادوا أولياء بحقّ فالله هو الوليّ بحقّ ، وقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦] أي : إن لم يتأتّ أن تخلصوا العبادة لي في أرض فإيّاي في غيرها فاعبدون. وهذا هو الأنسب ليوافق عبارة المنهاج عبارة أصله ، فإنّ عبارة المحرّر : «والمضبّب بالذّهب أو الفضّة إن كانت ضبّة كبيرة وفوق قدر الحاجة حرم استعماله ، وإن كانت صغيرة ...» إلى آخره. فهذا يشعر بأنّ صاحب

__________________

٧٧٣ ـ الشاهد بلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب (٢ / ٨٠١) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٦٩٧) ، ولسان العرب (وقع) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٢٤).

٧٧٤ ـ الرجز بلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٢٦٠) ، وخزانة الأدب (٤ / ٢٤) ، والدرر (٢ / ٨٧) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٥٤٦) ، وشرح الأشموني (١ / ١١٩) ، وشرح التصريح (١ / ١٩٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٣٦) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٤٩) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٠١) ، ولسان العرب (لدن) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٢٢) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥١) ، وهمع الهوامع (١ / ١٢٢).

٢٦٥

المنهاج ـ رحمه الله ـ لمّا اختصر ما في المحرّر وحذف أوّلا «كان واسمها» ذكر الشّرط.

ثمّ قوله في ردّ هذا الوجه : «سواء جعلت كان تامّة أو ناقصة». كيف يصحّ فرض (كان) تامّة والمدّعى أنّ (ضبّة) منصوب بها فتأمّل. هذا آخر كلام الوالد على هذا الوجه ثم شرع في ذكر كلام المعترض على بقيّة الأوجه ثمّ قال :

وأمّا قول من قال : تضبيبا ضبّة : فليس بشيء ، لأنّه لم يعرب (ضبّة) وإنّما أكّد الفعل بمصدره القياسيّ وأبقى الضبّة على حالها.

وأمّا قول من قال : إنّ (ضبّة) مفعول مطلق لأنّه آلة التّضبيب أو توسّع المصنّف فأطلق الضبّة على المصدر ونصبها مفعولا مطلقا : فشبهته قوية جدّا لأنّ لفظ (ضبّة) موافق في المعنى واللّفظ للفعل قبله. ويردّ بأنّ الضبّة ليست بآلة للتّضبيب ، لأنّ كلّ الآلات تكون موجودة قبل الفعل معدّة معروضة له ، كالسّوط قبل الضّرب ، والقلم قبل الكتاب. وأيضا فإطلاق آلة المصدر عليه سماع كضربته سوطا ، ولا تقول كتبته قلما. والضبّة عبارة عن الرّقعة التي يرقع بها الإناء ونحوه ، وقد كانت قبل ذلك جنسا من الأجناس صيّر المضبّب بفعله فيه ضبّة ، ففعله فيه يسمّى تضبيبا ، والضبّة عبارة عن الذات وكانت قبل ذلك جنسا لا تسمّى ضبّة.

ولو سلّمنا أنّها من الألفاظ التي أطلقها العرب على المصادر وليست بمصادر كالآلات والعدد وما أضيف إليها ونحوه فإنّ وصفها بكبيرة يردّه ، لأنّ المعاني لا توصف بكبر ولا صغر ، وإنّما توصف بالقلّة والكثرة والقوّة والضّعف ، ونحوها من أوصاف المعاني.

وإذا صحّ ذلك فلا يقال : توسّع المصنّف فنصب الضّبّة على المصدريّة ، لأنّ معنى توسّع : ارتكب لغة مولّدة ، فهو قلّة حشمة وأدب على المصنّف ، لكنّه لا ينبغي أن يقال حتّى يقع العجز بعد النظر والاجتهاد ، لأنّ المولّد إذا صنّف في الفروع أو غيرها يعذر في ارتكابه لغته المولّدة لأنّه لو كلّف الكلام باللّسان العربي دائما صعب عليه ، لأنّه لا يقدر عليه إلّا بكلفة. فإذا عجزنا عن الدخول بكلامه في اللّسان العربيّ عذرناه ولا جناح عليه. انتهى.

واقتضى كلامه أنّ نزاعه إنّما هو في تعليل كونه مطلقا بجعله آلة. وأمّا نفس الدّعوى فلا نزاع فيها ، فإنّ المصدر قد ينوب عنه في الانتصاب على أنّه مفعول مطلق ملاق له في الاشتقاق ، وإن كان اسم عين حاصلا بفعل فاعل المصدر كقوله تعالى :

٢٦٦

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] فقد انتصب (نباتا) على أنّه مفعول مطلق ، وليس بآلة بل النبات ذات حاصلة بفعل الفاعل.

والذي ظهر لي فيه بعد البحث مع نجباء الأصحاب فيه ، ونظر المحكم والصّحاح وتهذيب اللّغة وغيرها ـ ولم نجده متعدّيا بهذا المعنى ـ أنّ الباء في (بذهب) بمعنى (من) البيانيّة ، ارتكبه على مذهب كوفيّ ، و (ضبّة) منصوب على إسقاط الخافض إمّا من باب : [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

وهو ظاهر. ولا يردّ عليّ بإدخاله فيه بكونهم لم يعدّوه من أفعاله ، لأنّا نقول : ما قيس على كلامها فهو من كلامها ، وقد قالوا في ضبط أفعال باب (أمرته) : كلّ فعل ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر ، وأصل الثاني منهما حرف الجرّ فهو من باب (أمر) وهذا الضابط يشمله لا محالة ، وهو أولى من أن يدّعى أنّه منصوب من باب قوله (٢) الشاعر : [الوافر]

تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

كلامكم عليّ إذا حرام

على إسقاط الخافض ، لأنّ هذا يحفظ ولا يقاس عليه.

وارتكابه يخلّص من مشكلات كثيرة ، ودعواه أقلّ ضررا من دعوى اللّحن لعالم. ويكون (بذهب) في موضع نصب على الحال من النّكرة لتقدّمه عليها ، لأنّه لو تأخّر كان صفة لها ، والباء بمعنى (من) البيانيّة. والتقدير : وما ضبّب بضبّة من ذهب أو فضّة كبيرة لزينة حرم.

ويمكن أن يدّعى أنّه من باب (أعطى) ، وليس بظاهر ، لأنّ سقوط الحرف فيه ظاهر ، وليس فيه معطى ولا معطى له.

و (ما) مبتدأ ، وهي موصولة صلتها جملة (ضبّب) وفي (ضبّب) ضمير نائب فاعل وهو العائد ، وهو المفعول الأوّل إن جعلناه من باب (أمر) أو (أعطى) وجملة (حرم) خبره. فإن قلت لا يصحّ أن يكون (حرم) خبرا عن (ما) ، لأنّ (ما) واقعة على المضبّب ، والمضبّب جماد لا يوصف بحرام ولا بحلال ، قلت : هو على حذف مضاف أي : واستعمال ما ضبّب حرام على المكلّف ، وكذلك يقدّر في كلّ موضع ،

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢٤).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٤٦).

٢٦٧

قاله الفقهاء ، لأنّ الجمادات كالخمر لا توصف بحرام ولا بحلال ، وإنّما يوصف بهما فعل المكلّف ، فإذا قالوا : الخمر حرام ، إنّما يريدون استعمالها ، وحذفوه اختصارا للعلم به. آخر الكتاب.

مهمة من أبحاث شيخنا العلّامة الكافيجي ـ نفعنا الله به ـ

قال : في قول النّحاة «كان زيد قائما» أبحاث :

الأوّل : أنّهم يقولون : إنّه موضوع لتقرير الفاعل على صفة ، فكيف يتصوّر له الوضع مع أنّه لا يدلّ إلّا على الكون المخصوص نسبة وزمانا. فيكون مجازا إن وجد العلاقة والقرينة مع أنّهم لا يقولون عن آخرهم بذلك.

والجواب : أنّ اللام في قولهم : لتقرير الفاعل ، لام الغرض والتعليل لا لام التّعدية فلا يكون التقرير موضوعا له.

الثاني : أن الغرض منه بيان اتّصاف الشيء بصفة ، فأين سبب التّقرير؟ فكيف يفيد التّقرير؟.

والجواب : أنّهم إذا قصدوا تمكّن الشيء في صفة وثباته فيها وضعوا له صيغا مخصوصة مثل قولهم : تمكّن زيد في القيام ، أو : استقرّ فيه ، إلى غير ذلك ، أو يأتون بألفاظ تدلّ على ذلك بمعونة المقام ، وبالذوق السليم والطبع المستقيم ، مثل قولهم : «زيد على القيام» ، قال الله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]. فلمّا دلّ (كان) على كون زيد قائما ، يفهم منه أنّ الغرض منه بيان ثبات زيد في صفة القيام فكيف لا ولأيّ شيء أبلغ في ذلك من طريق الائتلاف والاتّحاد ، ونظيره أنّ الاتحاد أقوى دلالة على الاختصاص من دلالة طرق الاختصاص عليه. وإذا تحقّق هذا الطريق بجزم بأنّه يفيد غرض التقرير.

الثالث : لا شكّ أنّ الصفة يتصوّر حصولها وتقرّرها في الموصوف كما هو المعقول والمنقول فلا يتصوّر حصول الموصوف في الصّفة فضلا عن التقرير فيها وإلّا فيلزم الدّور فإنّ حصول الصفة بدون تحقّق الموصوف لا يتصوّر ضرورة.

الجواب : إنّ الغرض منه هو الدّلالة على اعتبار التّمكّن لا على حصوله فيها في نفس الأمر كما مرّت الإشارة إليه.

الرابع : أنّه إذا قيل : «زيد قائم مستمرّ» يفهم منه ذلك الغرض فما الحاجة إلى مجيء (كان)؟

٢٦٨

الجواب : لا نسلّم أنّه يفيد الغرض الذي هو بيان تمكّن الفاعل في صفة ، لا بيان تمكّن الصّفة فيه ، فبينهما بون بعيد ، وبعد التسليم أنّه من باب تعيّن الطريق ، وهو خارج عن قانون التوجيه.

تنبيه : إنّهم إذا أرادوا نسبة الشيء إلى صفته يقولون : «كان زيد قائما» ، كما يقولون : «زيد قائم» ، إذا قصدوا نسبة القيام إلى زيد ، ويقولون : «قام زيد» ، إذا قصدوا إفادة النّسبة بينهما.

الخامس : أنّ الحدث مسلوب عن الأفعال الناقصة فلا يتصوّر الفاعل بدون الفعل كما لا يتصوّر المضاف بدون الإضافة فما المراد من الفاعل في قولهم : «لتقرير الفاعل على صفة».

الجواب : إنّ (كان) لمّا تعلّق به ورفعه سمّي فاعلا على سبيل المجاز وإن كان موصوفا بالقيام فيكون له جهتان وكذلك يسمّى اسم كان أيضا.

السادس : أنّه يدلّ على الكون المخصوص نسبة وزمانا كما يدلّ (ضرب) في قولك : «ضرب زيد قائما» على الضّرب المخصوص فلا فرق بينهما ، فما معنى قولهم : الحدث مسلوب عن الأفعال النّاقصة.

الجواب : إنّ الظاهر هو ما قلته لكنّ التحقيق أنّ المقصود منه كما عرفته هو الدّلالة على تمكّن الموصوف في صفته فيكون هو العمدة ونصب الذّهن ومطرح نظر العقل لا غير ، وأمّا الدّلالة على الكون المخصوص فهي وسيلة إلى ذلك المقصود وحاكية عنه ، كالمرآة بالنسبة إلى صورة المرئيّ ، فيكون ساقطا عن درجة الاعتبار فكان المراد من مسلوبيّة الحدث عدم اعتبار الحدث قصدا ، فإذا لم يكن مقصودا فلا يسمّى الحدث فيه معنى ، لأنّهم لا يطلقون المعنى على شيء إلّا إذا كان مقصودا ، وأمّا إذا فهم الشيء على سبيل التّبعيّة فيسمّى معنى بالعرض لا بالذات. وقولهم : «الإطلاق» ينصرف إلى الكمال من قبيل المثل السّائر ، ويشعر بما مرّ أنّهم يقولون : إنّه مسلوب الحدث عنه ولا يقولون : إنّه لا يدلّ على الحدث.

السابع : أنّ المقصود هو بيان متعلّق الكون فما السرّ في تعلّق التّصديق بالكون لا بمتعلّقه.

الجواب : أنّ الكون لمّا ذكر أوّلا توجّه التصديق إليه ، فلا حاجة إلى تعلّقه بمتعلّقه.

تنبيه : إنّ التصديق قبل دخول (كان) يتوجّه إلى متعلّق الكون أصالة وكذا

٢٦٩

الحال في متعلّقات أفعال القلوب وأنت خبير بأنّه لا استبعاد في كون الأمر جهة قصد وغير جهة قصد باختلاف الاعتبار.

الثامن : أنّه يدلّ على الكون المخصوص كسائر الأفعال فما السرّ في سلب الحدث فيه دون غيره.

الجواب : أنّ سائر الأفعال له معنى متحصّل في نفسه دون الأفعال النّاقصة ، فإن قلت : فما السرّ في عدم تحصّل معنى (كان) مع أنّه دالّ عليه. قلت : إنّ الغرض المذكور جعله من قبيل الألفاظ الدالّة على الإضافة المخصوصة ، وأنت خبير بأنّ كون اللّفظ موضوعا لمعنى لا يقتضي أن يكون حاصلا منه بنفسه كالحروف.

فإن قلت : تحصّل معنى سائر الأفعال مسلّم في المعاني الإفرادية ، لكن لا فرق بينه وبين الأفعال الناقصة في المعاني التركيبية وكلامنا فيها.

قلت : الحقّ ما ذكرته لكن لمّا كان معاني سائر الأفعال معتدّا بها في حالة الإفراد دون معنى الفعل النّاقص وكانت معتدّا بها في حالة التركيب بخلاف معاني الأفعال الناقصة كما أومأنا إليه ، قالوا : سلب الحدث فيها دون غيرها.

التاسع : أنّ المراد من الكون المخصوص في «كان زيد قائما» ما هو؟ أوجود زيد وهو غير مراد ، وكذا تحقّق نسبة القيام إليه.

الجواب : إنّ الحصر ممنوع بأنّه عبارة عن تعلّق زيد بالقيام وأنت خبير بأنّ التعلّق لا ينحصر في المسند كما بيّنّاه. فإن قلت : أليس يوجب وجود النّسبة في الخارج ، فإنّه يدلّ على الزمان الماضي. قلت : إنّ الزمان الماضي ظرف لمتعلّق النّسبة وهو موجود فيه لا النّسبة فإنّه ظرف لنفسها لا لوجودها.

العاشر : إنّ (كان) لمّا دلّ على ظرف القيام كان ينبغي أن يتأخّر عن القيام فلأيّ شيء صدّروا بكان.

قلت : لأنّ الغرض الأصليّ من استعمال (كان) ليس إلّا بيان تمكّن الفاعل في صفته وإن كان له دلالة على الظّرفيّة ضمنا فقدّم لاعتبار الباعث القويّ.

فإن قلت : لا شكّ أنّ القيام قيد داخل في الكون المخصوص ، فما معنى قولهم : (كان) قيد للقيام باعتبار دلالته على الزّمان الماضي فما التوفيق بين المعقول والمنقول؟

قلت : أوّلا الأصل في مباحث الألفاظ هو النّقل لا العقل ، وثانيا : أنّ كون

٢٧٠

(كان) قيدا للقيام باعتبار التحقّق والمآل وكون القيام قيدا ل (كان) باعتبار الظّاهر المتبادر فلا منافاة بينهما.

فإن قلت : إذا كان القيام قيدا ل (كان) فينبغي أن يقيّد بدون ذلك القيد لأنّ القيد لترتيب الفائدة لا لتحصيلها.

قلت : إنّه قيد لازم من حيث إنّ وضع (كان) لإفادة تعلّق الموصوف بالصّفة فلا بدّ منه لفظا أو تقديرا كما في أفعال القلوب.

الحادي عشر : إنّ (كان) إذا كان بمعنى (وجد) يكون من الفعل التامّ ، وإذا كان دالّا على كون زيد قائما يكون من الأفعال الناقصة ، فمعنى الوجود حاصل فيهما ، فما السرّ في جعل أحدهما تامّا دون الآخر؟

والجواب : أنّ التأمّل الصادق في معناهما يطلع على الفرق بينهما فإنّ الأول يدلّ على نسبة الوجود إلى زيد فقط ، فقد تمّ به ، والثاني يدلّ على تعلّق زيد بالقيام فلا يتمّ بزيد وحده فيكون ناقصا وأمّا الفرق بين الوجودين فمعلوم ممّا سبق.

الثاني عشر : أنّ القوم اختلفوا في أنّه فعل أو حرف فهل يرجع إلى النّزاع اللفظيّ أو يمكن الترجيح بالحمل على الصواب؟

الجواب : أنّ النزاع المتبادر من كلامهم يرجع إلى التفسير ، ولكن المختار هو الحرف إن اعتبر القصد الأصليّ في دلالة الفعل على معناه ، وإلّا فهو الفعل بلا شبهة.

«قال شيخنا : ـ نفع الله به ـ» : هذا بعض ما سنح لي في هذا المقام والله أعلم.

أبحاث في قولهم (زيد قائم)

فائدة من مولّدات شيخنا العلّامة الكافيجي (١) أيّده الله تعالى :

قال رضي الله عنه : أمّا بعد فإنّ في مثل : «زيد قائم» أبحاثا :

١ ـ أن سبب أجزاء القضيّة اللغويّة جزءان.

__________________

(١) محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي البرعمي ، العلامة محيي الدين أبو عبد الله الكافيجيّ الحنفي ، كان عالما ، إماما في المعقولات كلها : الكلام ، وأصول اللغة والنحو والصرف والإعراب والمعاني والبيان والجدل والفلسفة ... من تصانيفه : شرح قواعد الإعراب ، وشرح كلمتي الشهادة ، ومختصر في علوم الحديث ، ومختصر في علوم التفسير يسمّى التيسير وغيرها. (ت ٨٧٩ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ١١٧).

٢٧١

٢ ـ أن سببها الوضع والعلم به.

٣ ـ أنّ سبب أجزاء العقليّة جزءان آخران ولهما أسباب أيضا.

٤ ـ أنّ الحسّ لا يتصرّف في النّسبة وأحوالها لعجزه لعدم العادة بذلك.

٥ ـ أنّ العقل يتصرّف في ذلك لقدرته عليه ، فلذلك كان الخارجيّ بسيطا وجاز أن يكون الذّهنيّ مركّبا.

٦ ـ أنّ اعتبار المركّب مطابق للبسيط الخارجيّ.

٧ ـ أنّ سبب الكلّيات يمكّن العقل من ذلك.

٨ ـ أنّ سبب النّسب كون غير متعقّل في التعقّل وفي الوجود أيضا ، فيكون التّسبّب من باب الاجتماع والافتراق سواء كان حقيقيّا أو اعتباريّا.

٩ ـ أنّ وقوع النّسبة الذهنيّة غير معقولة وإن كانت كناية عن الكون الخارجيّ ، وأمّا كونها الذّهنيّ فليس فيه فائدة.

١٠ ـ أن مطابقتها ليست مناط الإدراك فإنّه ليس بمعلوم وليس فيه فائدة وأنّها لوهم التّسوية.

١١ ـ أنّ إيقاعها سواء كان فعلا أو إدراكا هما عند الأشعري بناء على مسألة خلق الأعمال.

١٢ ـ أنّه علم عند الفلاسفة وفعل عند الحكيم.

١٣ ـ أنّ مذهبهم حقّ وأنّ مذهبه باطل.

١٤ ـ أنّه نزاع لفظيّ.

١٥ ـ أنّ تصديقا لفظيا على المذهبين أيضا.

١٦ ـ أنّه يقتضي تسعة إدراكات عليهما.

١٧ ـ أنّه لا بدّ من اعتبار الشّرط في صدق كلّ قضيّة.

١٨ ـ أنّ الجزاء الواقع صار محلّ الحكم فما السرّ فيه؟ ولم ينعقد ذلك فيما عداه؟

١٩ ـ أنّ مطابقة النّسبة للنّسبة لا حاصل لها اللهمّ إلّا أن يقال إنّها تحصّل المقصود اللفظيّ. وأجيب : أنّ المطابقة إنّما هي باعتبار العقل لا بحسب الخارج نفسه.

٢٠ ـ أنّ درك العقل ذلك إنّما هو من عند الله عند أهل الحقّ خلافا للحكماء فإنّهم قالوا : يدرك الكليّ بالذّات والجزئيّ بالآلة.

٢١ ـ أنّ منشأ الحمل لا يتّحد مع الموضوع وأمّا المحمول فهو يتّحد معه والسرّ في ذلك يحتاج إلى تأمّل.

٢٢ ـ أنّ القضيّة ليس لها تحقّق في الخارج.

٢٣ ـ أنّها معدومة.

٢٧٢

٢٤ ـ أنّ الاعتبار بوجود الموضوع وبتحقّق منشأ الحمل.

٢٥ ـ أنّ فيه وغيرها أبحاثا كثيرة محتملة بحسب العقل ولو لا ذلك كثرت المسائل والعلوم والأبحاث.

٢٦ ـ أنّ مطابقة النّسبة الخارجية عبارة عن كون المنسوب منه محتاجا إلى غيره في التحقّق.

٢٧ ـ أنّ بينهما تغايرا بالاعتبار وأنّهما متّحدتان في نفس الأمر عن ذلك الاعتبار.

٢٨ ـ أنّها تخيّليّة صرفة لا كون ولا اجتماع ولا افتراق بحسب نفس الأمر.

٢٩ ـ أنّها من قبيل اشتباه الخياليّة بالأمور العينيّة ولهذا لا تتحقّق أمور متعدّدة ذواتا في نفس الأمر.

٣٠ ـ أنّها مأخوذة من الأمور الخارجيّة الغير القائمة بنفسها بل بغيرها.

٣١ ـ أنّها تفيد أمورا صادقة وإن كانت ممّا شهده على ما ترى.

٣٢ ـ أنّ العقل يتعقّل ارتباط المحمول بالموضوع صادقا بلا نسبة بينهما وإنّما يحتاج إليها بناء على العادة الخارجية.

٣٣ ـ أنّها اعتبارات وأدوات يستعين العقل بها على تحصيل المقاصد.

٣٤ ـ أنّ سبب عدم تحقّق النّسبة عدم تحقّق المأخذ بخلاف الكلّيات ولهذا لا تنتهي إلى موجود والكلّي ينتهي إليه.

٣٥ ـ أنّ سبب التسلسل فيها يجدّد اعتبار العقل ولهذا لا يتصوّر في تحقّق الوجود.

٣٦ ـ أنّها ليست مأخوذة من أمر محقّق بخلاف الكلّي.

٣٧ ـ أنّ سبب مطابقته الذّهنيّ كون الخارج عادة دون الذّهنيّ وسبب العادة كون الخروج مجعولا بخلاف الذّهنيّ فإنّه خيال كالصّورة المنطبعة في المرآة.

٣٨ ـ أنّ جميع القضايا اعتباريّة وكذا أحكامها.

٣٩ ـ أنّ بين القضيّة الذّهنية والخارجيّة وجود الموضوع.

٤٠ ـ أنّ وقوع النّسبة مخترع العقل ، ولهذا صار محلّ الفائدة ، وكذا لو كان موضع الإيقاع ولكلّ جديد لذّة.

٤١ ـ أنّ نظر العقل مقصور عليها ولهذا لا ينتقل إلى ما عداها كما انتقل في تصوّر المحكوم عليه إلى المحكوم به.

٤٢ ـ أنّ سبب اقتصار نظره عليها كون المطلوب محبوبا له أعلى المطالب ، والاغتنام به حذرا عن فوات لذّة الحبيب.

٤٣ ـ أنّ سبب الاختراع قصد نيل المطالب مدركة وسبب الإدراك إمّا ذاته أو شيء آخر سواء كان شرطا أو سببا وقد يرتبط المحمول بالموضوع بدون الاختراع

٢٧٣

حين الحكم لكون المحمول مخترعا قبله. وأمّا سبب اختراع النّسبة فهو قصد التعاون أو قياسا على الشاهد في الأعيان.

٤٤ ـ أنّ متعلّق العلم في القضيّة هو التحقّق سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا.

٤٥ ـ أنّ الباعث على الاختراع قصد تعدّد المدرك سواء كان مرتبطا أو لا ، وقصد إرجاعه إيّاه إلى المخترع عنه حتى ينعقد هناك مخترع مطلوب ، ويكون الخارج مطلوبه ويذكر وثوقه به.

٤٦ ـ أنّ الاختراع منحصر في العقل لا يتعدى إلى الحسّ كلّ ذلك بفضل الله تعالى وكرمه وسببه عدم انحصار سبب إدراكه في شيء ، بخلاف الحسّ.

٤٧ ـ أنّ الكلّي المخترع سببه كلّيّة كون وضع مفهومه على الإبهام بلا تخصيص مانع من الاحتمال ، بخلاف الجزئيات.

٤٨ ـ أنّ حاصل الحمل هو الإعلام بالإيجاب في الحمل الإيجابي وبعدمه في السلبي. وأمّا التغاير الذهني فهو المشترك ، فإن قلت : فكيف يتصوّر هذا وأنه حكم متناقض من حاكم واحد في وقت واحد؟. قلت : لا استبعاد لاختلاف الجهة والاعتبار والشّرط.

٤٩ ـ أنّ السّلب في السالبة عدم الوقوع لا الانتزاع على ما يتبادر.

٥٠ ـ أنّ سبب الحمل السلبيّ ، أمّا البعيد فامتياز الذّوات وأمّا السّبب القريب فقصد الإعلام بذلك الامتناع ، ومنشأ الامتياز على قياس ما عرفت في الإيجاب.

٥١ ـ أنّ جميع القضايا في جميع الأشياء منحصرة في الإيجاب والسّلب إن كانت طرق العلم متّضحة.

٥٢ ـ أنّ القضية ليست تحت مقولة وإن كان لها أصل في الجملة.

٥٣ ـ غالب أحوال العقل الميل إلى الارتباط وسببه قصد الاطّلاع على المطالب التي لا يحصل أمثالها غالبا إلّا في ذلك الارتباط.

٥٤ ـ أنّ العقل معتدّ في كلّ الأحوال بدرك مطلوب ، أو بدرك ما يؤدّي إليه ، وأنّ ذلك سبب الحركة الموجبة للحياة لكنّ ذلك بتقدير العزيز العليم.

٥٥ ـ أنّ ذلك كلّه يحصّل الاستعمال لنقصانه لحدوثه وإمكانه وتحصيل القرب من الباري سواء قصد ذلك أو لا.

٥٦ ـ أنّ السبب لا يضرّ المطالب وإن كانت اعتباريّة لا تحقّق لها ، وسبب عدم المضرّة لعدم التدافع والمنازعة.

٥٧ ـ أنّ سبب التفات الحسّ إلى المشاهد دون غيره تعلّق كماله بكماله دون غيره على سبيل العادة.

٢٧٤

٥٨ ـ أنّ سبب التفات العقل إلى تركيب وإلى مركّب ، وإلى كلّي ومعقوله قصد الإفادة وحصول الفائدة ، وتحصيل الفوائد على وجه كلّي والضبط عن الانتشار.

٥٩ ـ أنّ سبب عدم التفاته إلى جزئيّ هو استغناؤه بدرك القوّة الحاسّة وتغيّر الجزئيّات على زعمهم. والصحيح أنّه مدرك له ، لا سيّما على أصل الأشعريّ.

٦٠ ـ أنّ جميع المركّبات تتضمن أحد الأمرين إمّا الاجتماع وإمّا الافتراق سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة.

٦١ ـ أنّ الصفات السلبيّة لكلّ شيء أكثر من الصّفات الإيجابية.

٦٢ ـ أنّ سبب ذلك كثرة المخالفة وقلّة الموافقة.

٦٣ ـ سعة الرّحمة وأنّ مصلحة العامّة متقدّمة على مصلحة الخاصّة.

٦٤ ـ أنّ الفائض من الله تعالى هو الرّحمة وإنّما جاء التضادّ من التراحم.

٦٥ ـ أنّ في أمر القضيّة إشارة إلى المبدأ والمعاد وأن لا اعتبار لأمر إلّا لله الواجب الوجود الباقي.

٦٦ ـ أنّ علم الإنسان اعتباريّ وصعود ونزول وأصحاب ، وأنّه له دخل في مصلحة الوجود الحادث ، وأنّ مقامه العجز والتسليم ، والقدرة والحكم كلّها لله ألا إلى الله تصير الأمور.

٦٧ ـ أنّ مطابقة النّسبة ووقوعها وكيفية الوقوع كلّها اعتبارات للتّقريب وإنّما المعلوم وكذلك العلم له سرّ وحقيقة ، وكذا كلّ شيء لا يعلمه إلّا الله ، قال الله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] وإنّما حال المخلوق كالرّخصة تسير على قدر دركه لا غير.

٦٨ ـ أنّ حقيقة الأمر في حقيقة الأمر هو الاعتماد على صاحب الشّرع لا غير ، هو كالماء وغيره كالسّراب ، بل التفاوت أكثر من ذلك.

٦٩ ـ أنّ طريق العقل إلى الجزئي الكلّيات.

٧٠ ـ أنّ السبب في ذلك قصد حصول علوم على أيسر وجه سواء كانت متعلّقة بالشواهد أو بالضمائر.

٧١ ـ أنّ توجّه العقل إلى الكلّيات لملاءمتها.

٧٢ ـ أنّ سبب الملاءمة كون كلّ واحد منهما موافقا للآخر في التجرّد.

٧٣ ـ أنّ سبب عموم الكلّيات تجرّده عمّا يفيد له التعيين بحسب ذاته ، وأمّا حصول التعيين لها بحسب العارض فلا ينافي تجرّدها في حدّ ذواتها.

٧٤ ـ أنّ سبب عدم عموم الجزئيّ حصول التعيّن له في حدّ ذاته.

٢٧٥

٧٥ ـ أمّا سبب هروب العقل إلى الكلّيات فهو طلب السهولة ؛ فإنّ الكلّي بمنزلة البسيط في المركّب بخلاف الجزئيّ.

٧٦ ـ أنّ السبب في ذلك طلب المرام المناسب للمبدأ.

٧٧ ـ أنّ سبب منع تعيين الشّركة التدافع بينهما بحكم العقل بحسب الحسّ أو بالبديهة.

٧٨ ـ أنّ سبب توهّم علوّ الكلّي وتسفّل الجزئيّ إمّا الوهم القياسيّ ابتداء وإمّا قصد التقرير انتهاء.

٧٩ ـ أنّ الكلّي المحمول أيضا ليس له وجود أصلا وإنّما الوجود لمبدأ الكلّية والحمل في بعض الصور.

٨٠ ـ أنّه لا يحصل من حمل الكلّي على الموضوع تحقّق عينيّ في نفس الأمر ، وإنّما يتخيّل للوهم بالاشتباه أو التصوّر لأجل الإيضاح والتّقريب.

٨١ ـ أنّ وصف الموضوعية حالها كوصف الكلّي والمحمول.

٨٢ ـ أنّ مناط الحمل الصدق أو لا صدق والاتّحاد وعدمه لازم لذلك.

٨٣ ـ أنّ الروابط ليس لها دخل في المحمول وسبب ذلك أنّها نسب والمحمول منسوب.

٨٤ ـ أنّ ذلك بحسب التّباين في نفس الأمر بينهما.

٨٥ ـ أنّ سبب ذلك التخييل ، أو قصد التّعاون.

٨٦ ـ أنّ التحقيق قصد الألفة بين مدركة ومدرك الحسّ ، فيكون ذلك سبب الودّ ودفع الوحشة. فيكون كالولد ، فيكون النّسب كالنّسب.

٨٧ ـ أنّ في ذلك إشارة إلى روحانية العقل ، وإلى أرضيّة الجزئيّ ، وإلى الرّضى والسّخط ، وإلى أنّ في كلّ شيء تصوّر الرّوحانيّة وعدمها وتصوّر نسبة الاستقلال. فسبحان من أعلى شأنه وأعجز مخلوقه ، وربط كلّ ممكن بحبل العجز والحيرة.

٨٨ ـ أنّ الخارج كلّه تباين ، وأنّ المعقول الكلّي لا يخلو عن تناسب في بعض الصور ، وعدم التناسب في البعض الآخر إنّما هو بالإضافة إلى أمر خارجيّ.

٨٩ ـ أنّ سبب ذلك تحقّق التدافع بحسب الخارج.

٩٠ ـ أنّ سبب ذلك من الكلّي عدم المنافاة بسبب عدم اتّصافه بالكون الحادث.

٩١ ـ أنّ جميع اعتبار العقل في حقّ الكلّي والمحمول لا تحقّق له أصلا في نفس الأمر ، وأمّا التحقق الوهميّ فإنّما نشأ من قياس المعقول على المحسوس بلا جامع تصوّر التّحقّق له لأجل التقريب على ما مرّ. فعلم من هذا أنّ الكلّي من حيث هو كلّي ليس بمحلّ الحدوث والقدم ولا الوجود والعدم إلى غير ذلك من

٢٧٦

الاعتبارات ، وأنّ الموجودات الحادثة مجازات واعتبارات تعرض على الممكنات تارة ، وأخرى لا تعرض عليها لأمر من الأمور.

٩٢ ـ أنّ الكلّي مثال الآخرة ومثال اللّوح ، وأنّ الجزئي مثال عذاب النار وعين الحجاب ، ومثال السّهو والنّسيان ، إلى غير ذلك من الاعتبارات.

٩٣ ـ أنّ مثالهما مثال الروح والبدن.

٩٤ ـ أنّ مثالهما مثال القهر واللّطف ، ومثالهما مثال كمال القدرة على كلّ شيء في كلّ شيء.

٩٥ ـ أنّ مثالهما مثال مظهر آثار الوصف.

٩٦ ـ أنّ الوجود الحادث ليس مثل الذات القديمة والدليل على ذلك اتّصافه بالحدوث دون القدم.

٩٧ ـ أنّ كلّ ذلك دليل العجز في المخلوق ودليل القدرة في الخالق.

٩٨ ـ أنّ كلّ ذلك أسرار إلهيّة لا يطّلع عليها إلّا الله ، وإنّما يرى ما يرى من جهة عجز الحادث.

٩٩ ـ أنّ ذلك أفاد حيرة الإنسان ، ودعوى العلم منه إمّا عناد وإمّا خلل ، وإمّا تجاسر على أمر لا ينبغي أن يتجاسر عليه ، وإمّا جنون ، وأرى عقله عقل المعتوه.

فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه ترجعون.

١٠٠ ـ أنّ الإنسان متلوّن ومتغيّر أن كان له عقل وكلّ ذلك عدم الوثوق ، والوثوق لا وثوق بالنسبة إلى المبدأ.

١٠١ ـ علم من هذا أنّه واحد في صفة الألوهية لا شريك له فيها. آمنت بأنّه لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وعلى سائر الأنبياء ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

١٠٢ ـ أنّ الانتزاع من الجزئيات اعتباريّ لا تحقّق له في نفس الأمر.

١٠٣ ـ أنّ انتزاع العقل الكلّي من الجزئيّ الغير المحسوس باعتبار المقالة أو باعتبار من عنده.

١٠٤ ـ أنّ مطابقة كلّيّ بجزئي وكذا تصرّف العقل وتطبيقه اعتبار محض أيضا.

١٠٥ ـ أنّ سبب الوقوع بأوضح ما ذكر كون التشبيه مقصودا لارتباط بما هو مقصود أصلي على سبيل المحاكاة.

١٠٦ ـ أنّ سبب كون الوقوع محلّ الحكم دون غيره من المدركات قيام الشاهد قصدا بحسب الخارج بخلاف غيره.

١٠٧ ـ أنّ سبب الوقوف عنده دون غيره لانتهاء رغبته عنده ولحصول طلبته التّركيبية

٢٧٧

بخلاف غيره ، ولهذا لا يستقرّ إذ للعدد فوائد تركيبيّة مرتّبة حتّى ينتهى إلى آخرها.

١٠٨ ـ أنّ العقل لا تنتهي مطالبه دون لقاء ربّه.

١٠٩ ـ أنّها مقولة من المقولات العشر.

١١٠ ـ أنّها سلب عنها قيد الوقوع أو عدمه من جهة اعتبار المسند.

١١١ ـ أنّ النسبة زيدت على جانب منشاها النسبة وكيفيّتها لكن عري عن ذلك في التعقّل.

١١٢ ـ أنّها من النّوع المتكرر على قياس الوجوب والإمكان وإلّا يلزم التّسلسل.

١١٣ ـ على تقدير تحقّقها في الخارج إنّها بسيطة كالجزئيات الحقيقية والأشخاص وإنّما سوّغها العقل أمرا كلّيا تساهلا لا تلازما ، منحصرا في فرد واحد لا غير بناء على أنّ كلّ وجود خارج وجزئيّ حقيقيّ ، وكلّ يتعيّن بنوعها العقل ، كلّها كذلك ، فعلم من هذا أنّ انتقاض بحث التعيّن بتعيّن الواجب إنّما نشأ من تركيب الذّهن يستلزم التركيب الخارجيّ ، وليس كذلك بل لا تلازم بينهما أصلا.

انتهى ما استخرجه نظر شيخنا أيّده الله تعالى ولطف به آمين.

الكلام على مسألة «ضربي زيدا قائما»

تأليف عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي عفا الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد حمد الله تعالى والصلاة والسّلام على محمّد وآله وصحبه ؛ فهذه كرّاسة تكلّمت فيها على مسألة «ضربي زيدا قائما» ، وذكرت فيها خلاف العلماء وأدلتهم.

فأقول : اختلف الناس في إعراب هذا المثال : فقال بعضهم : «ضربي» مرتفع على أنّه فاعل فعل مضمر تقديره : يقع ضربي زيدا قائما ، أو : «ثبت ضربي زيدا قائما». وقيل عليه : إنّه تقدير ما لا دليل على تعيّنه ، لأنّه كما يجوز تقدير «ثبت» يجوز تقدير «قلّ» أو «عدم» ، وما لا يتعيّن تقديره لا سبيل إلى إضماره.

وقال آخرون ـ وهو الصحيح ـ : هو مبتدأ ، وهو مصدر مضاف إلى فاعله ، «وزيدا» مفعول به و «قائما» حال.

ثم اختلفوا هل يحتاج هذا المبتدأ إلى تقدير خبر أو لا.

٢٧٨

فقال بعضهم : ليس ثمّ تقدير خبر ، لأنّ المصدر هنا واقع موقع الفعل كما في قولهم : «أقائم الزيدان» ، وردّ بأنّه لو وقع موقع الفعل لصحّ الاقتصار عليه مع فاعله كما صحّ ذلك في «أقائم الزيدان» (١). وحيث لم يصحّ أن يقال : «ضربي» ، ويقصر بطل ما ذكروه.

وقال الكسائي وهشام والفرّاء وابن كيسان : الحال بنفسها هي الخبر لا سادّة مسدّه. ثم اختلفوا ، فقال الكسائي وهشام : إنّ الحال إذا وقعت خبرا للمصدر كان فيها ذكران مرفوعان ، أحدهما من صاحب الحال والآخر من المصدر. وإنّما احتاجوا إلى ذلك لأنّ الحال لا بدّ لها من ضمير يعود على ذي الحال ، وهي خبر ، والخبر عندهم لا بدّ فيه من ضمير يعود على المبتدأ ، لأنّ المبتدأ عندهم إنّما يرتفع بما عاد عليه في أحد مذهبي الكوفيّين و «ضربي» هنا مبتدأ مرفوع ، فلا بدّ له من رافع فاحتاجوا إلى القول بتحمّل قائم ضميره لرفعه ، حتّى إنّهما قالا : يجوز أن يؤكّد اللذين في قائما فيقول : ضربي زيدا قائما نفسه نفسه ، وقيامك مسرعا نفسك نفسه. فإن أكّدت القيام أيضا مع الضميرين قلت : قيامك مسرعا نفسك نفسه نفسه ، فتكرّر النّفس ثلاث مرّات.

وقال الفرّاء : الحال إذا وقعت خبرا للمصدر فلا ضمير فيها من المصدر لجريانها على صاحبها في إفراده وتثنيته وجمعه ، وتعرّيها من ضمير المصدر للزومها مذهب الشّرط ، والشّرط بعد المصدر لا يتحمّل ضمير المصدر ؛ إذا قيل : «ركوبك إن بادرت» ، و «قيامك إن أسرعت» و «ضربي زيدا إن قام» ، فكما أنّ الشرط لا ضمير فيه يعود إلى المصدر فكذلك الحال.

وجاز نصب «قائما» و «مسرعا» وما أشبههما على الحال عند الكسائي وهشام والفرّاء وإن كان خبرا ، لمّا لم يكن عين المبتدأ ، ألا ترى أنّ المسرع هو المخاطب لا القيام ، والقائم هو زيد لا الضّرب ، فلمّا كان خلاف المبتدأ انتصب على الخلاف لأنّه عندهم يوجب النصب.

وقال ابن كيسان : إنّما أغنت الحال عن الخبر لشبهها بالظّرف. وردّ قول الكسائي وهشام بأنّ العامل الواحد لا يعمل في معمولين ظاهرين ليس أحدهما تابعا للآخر رفعا ، فكذلك لا يعمل في مضمرين. وإذا انتفى ذلك انتفى كون الحال خبرا. وممّا يبطل أيضا كون الحال رافعة ضميرين أنّنا لو ثنّينا فقلنا : «ضربي أخويك

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٩٦).

٢٧٩

قائمين» لم يمكن أن يكون في قائمين ضميران لأنّه لو كان لكان أحدهما مثنّى من حيث عوده على مثنّى والآخر مفردا لعوده على مفرد ، وتثنية اسم الفاعل وإفراده إنما هو بحسب ما يرفع من الضمير ، فكان يلزم أن يكون اسم الفاعل مفردا مثنّى في حال واحدة ، وهو باطل.

وأمّا قول الفرّاء : الحال لم تتحمّل ضمير المبتدأ للزومها مذهب الشرط ، فالجواب عنه : أنّ الشرط بمفرده من غير جوابه لا يصلح للخبريّة لأنّه لا يفيد ، وإذا كان كذلك تعيّن أنّ جواب الشرط محذوف فيكون الضّمير محذوفا مع الجواب.

وأما تشبيه ابن كيسان الحال بالظّرف ، فكأنّه قال : ضربي زيدا في حال قيام فليس بشيء لأنّه لو جاز ذلك لهذا التقدير لجاز مع الجثّة أن يقول : «زيد قائما» لأنّه بمعنى : زيد في حال قيام ، وحيث لم يجيزوا ذلك دلّ على فساد ما ذكره.

وأمّا قولهم : إنّه منصوب على الخلاف ، ففاسد أيضا لأنّ الخلاف لو كان عاملا لعمل حيث وجد ، ونحن نرى العرب تقول : «ليس زيد قائما لكن قاعد» ، برفع «قاعد» على الجواز ، و: «ما زيد قائما لكن قاعد» برفعه على الوجوب مع كونه مخالفا لما قبله فبان فساد ما ذكروه.

وقال جماعة بتقدير الخبر ثم اختلفوا في كيفية تقديره ومكانه ، فحكى أبو محمّد ابن السيد البطليوسي وابن عمرون عن الكوفيّين أنّهم قالوا بتقديره بعد «قائم» والتقدير : ضربي زيدا قائما ثابت أو موجود ، وردّ بأنّه تقدير ما لا دليل في اللّفظ عليه ، فإنّه كما تقدّره «ثابت» يجوز أن يقدّر أيضا «منفيّ» أو «معدوم» ، ولأنّه إذ ذاك يكون حذف الخبر جائزا لا واجبا ، لأنّ قائما حينئذ يكون حالا من زيد والعامل فيه المصدر ، فلا تكون الحال سادّة مسدّ الخبر فلا يلزم حذفه. وإنّما يجب حذف الخبر في مثل هذا إذا سدّت الحال مسدّه ، لأنّ الحال إذ ذاك عوض من الخبر ، بدليل أنّ العرب لا تجمع بينهما ، ولا تحذف خبر هذه المصادر إلّا مع وجود الأحوال للمناسبة التي بين الحال والخبر ، لأنّ أصل الخبر التنكير كالحال ، ولأنّ الحال هي صاحبها كما أنّ الخبر المفرد هو المبتدأ ، والحال مقيّدة كما أنّ الخبر كذلك ، ففهم من عدم اجتماعهما قصد العوضيّة ، ولا تتصوّر العوضيّة إلّا على قول من قدّر الخبر قبل الحال.

وذهب البصريّون والأخفش ـ وهو الصّحيح ـ إلى تقديره قبل قائم ثمّ اختلفوا في كيفيته فقال الأخفش : تقديره «ضربي زيدا ضربه قائما». وهذا لا يخلو إمّا أن يجعل المصدر الثاني وهو ضربه مضافا إلى المفعول وفاعله ضمير المتكلّم محذوف ، فيصير كأنّه قال : ضربي زيدا ضربته قائما ، فإمّا أن يفهم من معنى الخبر عين المفهوم

٢٨٠