الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

في كتاب مبين. ونظيره : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) [النبأ : ٢٩]. وإنما لم أجعله مستثنى ممّا قبله رفعا أو فتحا لأنّ الكلام على أنّ الرفع للعطف على المحلّ ، والفتح للعطف على اللّفظ ، فعدلنا عن الاستثناء من المذكور إلى مقدّر مبتدأ دلّ على ما سبق ، ولا بدع في حذف ما قدّر لدلالة الكلام عليه ، ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كلّ معلوم ، وأنّ كلّ شيء مكتوب في الكتاب ، وقد يجمع بينهما في قوله تعالى : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢] ، وفي قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩].

وهذه الأوجه الأربعة التي فتح الله بها لا توجد مجموعة في كتاب بل الأوّل منها قد علمت أصله ، ومن قدّره في هذه الآية ، والثاني قد علمت من قاله ، والثالث قد علمت من جزم به واختاره ، والرابع يشهد له كثير من أساليب العرب. وذكر صاحب كتاب (تبصرة المتذكّر) أنّه «يجوز أن يكون الاستثناء متّصلا بما قبل قوله (وما يعزب) ويكون في الآية تقديم وتأخير وترتيبها : «وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلّا في كتاب مبين إلّا كنّا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ..» إلى «ولا أكبر». تلخيصه : «ما من شيء إلّا وهو في اللّوح المحفوظ. ونحن نشاهده في كلّ آن» ويجوز الاستثناء من (وما يعزب) ويكون (يعزب) بمعنى يبين ويذهب ، المعنى : لم يبن شيء عن الله تعالى بعد خلقه له إلّا وهو مكتوب في اللّوح المحفوظ تلخيصه : كلّ مخلوق مكتوب» ، انتهى.

وفيه نظر ، أمّا الوجه الأوّل فليس هذا نظير «امرر بهم إلّا الفتى إلّا العلا» (١) فلأنّك عند قصد التأكيد في نحو ذلك يجب العطف بالواو ولا تقول : قام القوم إلّا زيدا إلّا جعفرا» إذا قصدت التأكيد إلّا بالعطف فتقول : «وإلّا جعفرا».

فإن قيل : إنّما يكون ذلك في (إلّا) التي للتأكيد ، وهاهنا قد لا يكون مقصودا فيكون كقول القائل : «ما قام إلّا زيدا إلّا عمرا». قلت : لا يصحّ ، لأنّ المثال المستشهد به مفرّغ ، ولا تفريغ فيما نحن فيه ، ولكن هو قريب من قولك : «ما قام القوم إلّا زيدا إلّا عمرا. غير أنّ المستثنيين داخلان في القوم ، فلو سكت عن أحدهما لانتفى بخلاف ما نحن فيه. وأيضا فلأنّه يلزم مجازان أحدهما بالتّقديم والتأخير ، والثاني تكرير إلّا.

__________________

(١) انظر الأشموني (١ / ٣٩٧).

٢٤١

وأمّا الوجه الثاني : فتفسير (يعزب) : «يبين ويذهب» لا يعرف ، وإنّما المعروف في (عزب) ما تقدّم نعم ، قال الصّغاني (١) في (العباب) «قال أبو سعيد الضرير : يقال : ليس لفلان امرأة تعز به أي : تذهب عزبته بالنّكاح ، مثل قولك : تمرّضه أي : تقوم عليه في مرضه». ثمّ قال الصّغاني : «والتّركيب يدلّ على تباعد وتنحّ» فتفسيره بالظّهور بعيد ، ولئن سلّمناه فلأيّ شيء جمع بين الظّهور والذّهاب ، وكأنّه قصد بذلك أنّ علم الغيب مكتوم ، فما يظهر منه ويذهب إلّا في كتاب مبين ، وهذا المعنى قريب من كلام وقع للزّمخشري في سورة سبأ لمّا وجّه القراءة المشهورة بالرّفع على الابتداء أشار إلى قراءة شاذّة بالفتح على نفي الجنس كقولك : «لا حول ولا قوة إلّا بالله» ، بالرّفع والنّصب ، وهو كلام منقطع عمّا قبله. قال (٢) الزمخشري : «فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة كأنّه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة وأصغر وأكبر ، وزيادة (لا) لتأكيد النّفي ، وعطف المفتوح على ذرّة بأنّه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصّرف ، كأنّه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر. قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلّا إذا جعلت الضمير في (عنه) للغيب وجعلت الغيب اسما للخفيّات قبل أن تكتب في اللّوح لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنّه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلّا مسطورا في اللّوح» انتهى. ويمكن أن يجيء مثله هنا على تقدير حذف مضاف.

ولقائل أن يقول : ما المانع من الاتّصال وجعل الاستثناء من (ولا أصغر ولا أكبر) مع العطف على اللّفظ أو المحل فإن قيل : المانع ما سبق ، قلنا فقد وقع التصريح بالعطف مع الاستثناء في قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] ، فإنّ القراءة عند السّبعة بجرّ حبّة ورطب ويابس ، وقد قال (٣) الزمخشري : («ولا حبة ولا رطب ولا يابس :) عطف على ورقة ، وداخل في حكمها ، كأنّه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلّا يعلمه. وقوله : (إلّا في كتاب مبين) كالتكرير لقوله (إلّا يعلمها) ، لأنّ معنى (إلا يعلمها) ومعنى (إلّا في كتاب مبين) واحد ، والكتاب

__________________

(١) الصغاني : هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي العدوي العمريّ ، أبو الفضائل الصغاني ويقال الصاغاني ، من تضانيفه : مجمع البحرين في اللغة ، والتكملة على الصحاح ، والعباب ، والشوارد في اللغات وغيرها. (ت ٦٠٥ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ٥٢٠).

(٢) انظر الكشاف (٣ / ٢٧٩).

(٣) انظر الكشاف (٢ / ٢٤).

٢٤٢

المبين علم الله ، أو اللّوح». ويقال مثله هنا بأنّ قوله : (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) عطف على (مثقال) أو (ذرّة) ، وداخل في حكمها ، كأنّه قيل : وما يعزب عن ربّك من هذه الأشياء شيء ، وذلك مثبت للعلم ، فيكون معنى ذلك ومعنى (إلّا في كتاب مبين) التأكيد لما فهم من إثبات العلم ممّا سبق ، لأن معنى (ذلك) ومعنى (إلّا في كتاب مبين) واحد ، والكتاب هو علم الله تعالى ، والمعنى : وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء إلّا يعلمها ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا في علمه. وهذا وجه آخر في الآية إلّا أنّ فيه حذف المؤكّد بخلاف (إلّا يعلمها) فإنّه مذكور ، نعم يتمشّى ذلك على التّقديم والتأخير وفيه ما تقدّم وبه مع الوجهين اللّذين قبله مع الأربعة التي ذكرتها في المجلس ، وأوضحت القول فيها هنا يكمل في الآية سبعة أوجه ، على أنّه قد قرئ شاذّا : ولا حبه ولا رطب ولا يابس برفعها قال (١) الزمخشري : «وفيه وجهان : أن يكون عطفا على محلّ من ورقة ، أو رفعا على الابتداء وخبره (إلّا في كتاب مبين) كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلّا في الدّار».

وممّا وقع في الكلام من غيري أنّه يجوز أن يكون الاستثناء في ذلك روعي فيه ما راعى الجعدي بقوله : [الطويل]

٧٥٤ ـ فتى كملت خيراته غير أنّه

جواد فما يبقي من المال باقيا

فإنّه ذهب إلى معنى : ليس فيه عيب لأنّ الجود ليس بعيب ، فإذا لم يكن فيه عيب إلّا الجود فما فيه عيب فإنّه قال : كملت خيراته لكن ينقصه جوده. ونظيره في هذه الآية : إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين ، لكنّ الذي في الكتاب لا يعزب فلا يعزب عنه شيء. وهذا التقدير لا يصحّ من جهة أنّ فيه فرض محال ، وليس في اللّفظ ما يدلّ عليه ، بخلاف ما تقدّم من البيت ، وأيضا فيؤدّي إلى تكثير المجاز ، وأيضا فلأنّ الجود بوصفه لفظا ليس بنقص ، وأمّا الذي في الكتاب المبين فليس في اللّفظ ما يدلّ على هذا التقدير ، وإن كان الأمر كذلك لمّا تقرّر أنّ الباري جلّ جلاله عالم بالكلّيّات والجزئيّات ؛ على أنّ التقدير في البيت إنّما هو على

__________________

(١) انظر الكشاف (٢ / ٢٥).

٧٥٤ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ١٧٣) ، والأزهيّة (ص ١٨١) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٦٨) ، وخزانة الأدب (٣ / ٣٣٤) ، والكتاب (٢ / ٣٤٠) ، والدرر (٣ / ١٨٢) ، وديوان المعاني (١ / ٣٦) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٦٢) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٠٦٢) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦١٤) ، والشعر والشعراء (١ / ٢٩٩) ، ولسان العرب (وصح) ، وبلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٦٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٣٤).

٢٤٣

المنقطع وحينئذ فتقدير الانقطاع قد تقدّم في الأوجه السابقة بما يصحّ ، فلا حاجة إلى تقديره بما لا يصحّ.

وعلى الجملة فأحسن الوجوه السّبعة جعل الاستثناء متّصلا بتقدير أن يكون من عطف الجمل : الرفع على الاستئناف ، والفتح على أنّ (لا) التي لنفي الجنس ، أو يكون من عطف المفردات وتفسير (يعزب) بيظهر ، أو يكون من باب ... ، أو يجعل منقطعا كما تقدّم ، ويليها كون (إلّا) للعطف كما تقدّم ، أو الاستثناء من محذوف.

وقد وضح أنّ الذي تبادر الذهن إليه في المجلس فتح من الرّبّ الكريم ، فله الشّكر على العطاء العميم ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وآله وصحبه والتّابعين.

الكلام في قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ)

قال أبو محمد عبيد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الرحمن بن منصور بن زياد الكاتب في (أماليه) : حدّثنا محمّد بن القاسم الأنباريّ : حدّثني أبي حدثنا محمد بن الجهم قال : حجّ الفرّاء سنة ستّ ومائتين ، وحججنا معه ، فلقيني خلّاد بن عيسى المقرئ ، فسألني عن قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) [الرحمن : ٥٦] ، فقال : لم جمع بعد قوله : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) [الرحمن : ٥٠] فأجبته بما أملى الفرّاء علينا في كتابه ، أنّ (فيهنّ) للجنّتين والجنّتين ، لمّا قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] فقال لي خلّاد : أخطأت قد جمع قبل ذكره الجنّتين ، فصرت إلى الفرّاء فأخبرته بمسألة خلّاد وبجوابي وبإنكاره عليّ فردّد الفرّاء في نفسه شيئا ثمّ قال لي : إنّ العرب توقع الجمع على التثنية ، قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء : ١١] يريد : فإن كان له أخوان. وقال : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] يعني : فقد صغا قلباكما. انتهى.

في كتاب (لبّ الألباب في المسألة والجواب) لأبي الحسن بن جبارة :

من أبيات المعاني قول الشاعر : [الرمل]

٧٥٥ ـ إنّما زيدا إلينا سائرا

من مكان ضلّ فيه السّائر

فهو يأتينا عشا في سحر

ماله في يده أو عامر

بأيّ شيء نصب زيدا وحقّه الرّفع وكيف يجتمع العشاء والسّحر وكيف يلتئم

__________________

٧٥٥ ـ البيتان بلا نسبة في الأبيات المشكلة للفارقي (ص ١٢٠).

٢٤٤

ماله في يده أو عامر؟ وهذا العجز مباين للصّدر. وهي مسألة عظمى وإن أحاط اللبيب بها علما.

والجواب عن ذلك :

أمّا البيت الأوّل : فقوله (إن) شرط ، و (نمى) فعل ماض من قولهم : نمى ينمي أي : ارتفع وزاد. و (زيدا) مفعول به ، (وسائرا) نصب على الحال. وقوله (ضل) من الضلال وهو ضدّ الهدى. و (السائر) فاعل ، وهو الذي نصب (زيدا). وتقديره : إن نمى السائر زيدا ، يعني أنّه ارتفع به وهداه إلينا في حال كونه سائرا من مكان حار فيه وضلّ.

وأمّا البيت الثاني : فهو مستحيل إن أخذ على لفظه ، إذ العشاء والسّحر وقتان متباينان ولا يجتمعان ، وإنّما المعنى فيه : ف (هو) مبتدأ ، (يأتي) : فعل مضارع ، (ناعشا) : حال من المضمر في الإتيان ، من نعشته أنعشه أي رفعته ، ومنه قول الشاعر وهو أبو حيّة النّميري : [الطويل]

٧٥٦ ـ إذا ما نعشناه على الرّحل ينثني

مساليه عنه من وراء ومقدم

ومسالاه : عطفاه ، وقد نصبهما على الظّرف لأنّهما في معنى ناحيتيه ألا تراه يقول : من وراء ومقدم. وتفسير هذا البيت أنّا إذا رفعناه على الرّحل لا يستمسك فيتثنّى في ناحيتيه من جانبيه. وهذا الشاهد أيضا من أبيات المعاني وهو ممّا يسأل عنه.

وقوله في البيت المتقدّم (ما له) : منصوب بقوله (ناعشا) أي : رافعا ماله في يده ، وصرف (سحرا) لأنّه نكرة يريد : سحرا من الأسحار. وقوله (أو عامر) عطف على المضمر في يأتي ، وطول الكلام سدّ مسدّ التأكيد. وتقريب معنى هذين البيتين : إنّ زيدا ضلّ في موماة فهداه إلينا السائر فيها فهو يأتي ناعشا أي : رافعا مكثرا ماله هو أو عامر. انتهى.

سبعة أسئلة كتب عليها جلال الدين البلقيني

ورد في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة من بلاد المغرب من الفقيه أبي بكر بن محمد بن عقبة أسئلة في النحو إلى الشيخ جلال الدين البلقيني فكتب عليها.

__________________

٧٥٦ ـ الشاهد لأبي حيّة النميري في ديوانه (ص ٧٨) ، والكتاب (١ / ٤٧٩) ، والأزمنة والأمكنة (١ / ٣٠٧) ، ولسان العرب (مسل) ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب (١ / ٩٢).

٢٤٥

أمّا الأسئلة فسبعة :

الأوّل : زعم ابن مالك أنّ حذف عامل المؤكّد امتنع بقوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص : ٣٣] ، هل هو مقبول أم لا؟.

الثاني : زعم الزمخشري أنّ قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) [الأحقاف : ٢٤] منصوب على التمييز ، وتعقّب أبي حيّان له ، من المصيب منهما وذكرا قريبا من ذلك في قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩].

الثالث : أين المخصوص بالمدح فيما أنشده الزّمخشري في سورة الصافّات : [الطويل]

٧٥٧ ـ لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا

ومنه قول عائشة : «كان لنا جيران من الأنصار لنعم الجيران كانوا» (٢).

الرابع : علام انتصب (بصيرا) في قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : ٢]؟.

الخامس : من أيّ الضمائر قول أبي الطيّب : [الطويل]

٧٥٨ ـ هو الجدّ حتّى تفضل العين أختها

وحتّى يكون اليوم لليوم سيّدا

وقول المعرّي : [الطويل]

٧٥٩ ـ هو الهجر حتّى ما يلمّ خيال

[وبعض صدور الزائرين وصال]

السادس : ما معنى (من) في حديث : «ألا أخبركم بخيركم من شرّكم» (٥) ، وفي حديث : «ما بال الكلب الأسود من الأحمر» (٦) ، وفي قول المعرّي : [الطويل]

٧٦٠ ـ وإن يك وادينا من الشّعر واحدا

فغير خفيّ أثله من ثمامه

السابع : ما إعراب قوله : «فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل» ، وقول المعرّي : [الخفيف]

__________________

٧٥٧ ـ الشاهد للأبيرد في لسان العرب (نزف) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٢١) ، وخزانة الأدب (٩ / ٣٨٨) ، والدرر (٥ / ٢١٥) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٧٩٣) ، والمحتسب (٢ / ٣٠٨).

(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه (٢ / ٢٨٥) ، والترمذي في سننه (٤ / ٥٢٨) ، والهيثمي في موارد الظمآن (١ / ٥٠٥).

٧٥٨ ـ الشاهد للمتنبي (٢ / ٩).

٧٥٩ ـ انظر شروح سقط الزند (١٠٤٦).

(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه (٢ / ٢٨٥) ، والترمذي في سننه (٤ / ٥٢٨) ، والهيثمي في موارد الظمآن (١ / ٥٠٥).

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه (١ / ٣٦٥) ، وابن خزيمة في صحيحه (٢ / ٢٠).

٢٤٦

٧٦١ ـ وهم النّاس فالحياة بهم سو

ق فمن غابن ومن مغبون

وأما الأجوبة :

فقال : اللهمّ ألهم الصّواب.

أما السؤال الأوّل : فالظاهر أنّه سقط شيء ، وهو : (ردّ) من : (زعم ابن مالك) ، لأنّ هذه الآية تردّ على ابن مالك.

والجواب : أنّ الردّ بذلك مقبول ، فإنّ الأصل : فطفق يمسح مسحا ، فحذف (يمسح) ، وهو عامل المؤكّد. وهذا الزّعم ذكره الشيخ جمال الدين بن مالك في (الكافية الشّافية) (٢) و (الألفيّة) ، وردّه عليه ابنه الشيخ بدر الدّين في (شرح الألفيّة) بما يوقف عليه من كلامه وقد قال الشيخ أبو حيّان هنا في تفسيره : «طفق : من أفعال المقاربة للشّروع في الفعل ، وحذف خبرها لدلالة المصدر عليه ، أي فطفق يمسح مسحا» (٣) انتهى. وقد أعرب الزمخشري قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] مصدرا مؤكّدا فقال : ««كتاب الله» مصدر مؤكّد ، أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا» (٤). وقال (٥) الشيخ أبو حيّان : ««كتاب الله عليكم» : انتصب بإضمار فعل ، وهو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة السابقة من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٣] وكأنّه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك كتابا وما ذهب إليه الكسائي من أنّه يجوز تقديم المفعول في باب الإغراء بالظّرف والمجرور مستدلّا بهذه الآية ، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب الله ، أي : الزموا كتاب الله ، فلا يتمّ دليله لاحتمال أن يكون مصدرا كما ذكرناه».

وأمّا السؤال الثاني : فقال الشيخ أبو حيّان في سورة الأحقاف : «وانتصب (عارضا) على الحال من المفعول ، وقال ابن عطيّة : ويحتمل أن يعود على الشيء المرئيّ الطالع عليهم الذي فسّره قوله (عارضا).

وقال (٦) الزمخشري : «فلمّا رأوه في الضّمير وجهان : أحدهما : أن يرجع إلى ما

__________________

٧٦١ ـ انظر لزوم مالا يلزم للمعري (٢ / ٥٧٦).

(١) الكافية الشافية : هي منظومة طويلة لابن مالك في النحو والصرف عدد أبياتها (٢٧٥٧) بيتا.

(٢) انظر البحر المحيط (٧ / ٣٩٧).

(٣) انظر الكشاف (١ / ٥١٨).

(٤) انظر البحر المحيط (٣ / ٢١٤).

(٥) انظر الكشاف (٣ / ٥٢٤).

٢٤٧

تعدنا وأن يكون مبهما قد وضح أمره بقوله (عارضا) إمّا تمييزا ، وإمّا حالا. وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى» قال الشيخ أبو حيّان : «وهذا الذي ذكر أنّه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النّحاة ، لأنّ المبهم الذي يفسّره ويوضّحه التمييز لا يكون إلّا في باب «ربّ» ، نحو : «ربّه رجلا لقيته» ، وفي باب «نعم وبئس» ، على مذهب البصريّين نحو : «نعم رجلا زيد» ، و «بئس غلاما عمرو». وأما أنّ الحال يوضّح المبهم ويفسّره فلا نعلم أحدا ذهب إليه. وقد حصر النّحاة المضمر الذي يفسّره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول «رأى» إذا كان ضميرا ، ولا أنّ الحال يفسّر المضمر ويوضّحه» (١) انتهى.

وكلام ابن عطيّة من وادي كلام الزّمخشري ، فإنّه قال : «والضمير في رأوه يحتمل أن يعود على العذاب ويحتمل أن يعود على الشيء المرئيّ في الطالع عليهم ، وهو الذي فسّره قوله (عارضا)» انتهى. فقد جعل الضمير يفسّره ما بعده كما قال الزخشري لكنّ الزّمخشريّ أفصح بالإبهام والتّمييز والحال ، فلذلك خصّه الشيخ رحمه الله بالاعتراض ، والذي قاله الشيخ هو الجاري على القواعد المقرّرة في النّحو.

وأمّا آية البقرة ، فقال الشيخ أبو حيّان فيها : «قال الزّمخشري : والضمير في (فَسَوَّاهُنَّ) ضمير مبهم ، و (سَبْعَ سَماواتٍ) : تفسيره ، كقولهم (٢) : «ربّه رجلا» ، انتهى كلامه. ومفهومه أنّ هذا الضمير يعود على ما بعده وهو مفسّر به فهو عائد على غير متقدّم الذّكر. وهذا الذي يفسّره ما بعده منه ما يفسّر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصّة ، وشرطها عند البصريّين أن يصرّح بجزأيها ، ومنه ما يفسّر بمفرد ، أي : غير جملة ، وهو الضّمير المرفوع بنعم وبئس ، وما جرى مجراهما ، والضمير المجرور بربّ ، والضمير المرفوع بأوّل المتنازعين على مذهب البصريّين ، والضمير المجعول خبره مفسّرا له ، والضمير الذي أبدل منه مفسّره. وفي إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو «ضربتهم قومك».

وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الضمائر التي سردناها إلّا أنّه يحتمل فيه أن يكون (سبع سماوات) بدلا منه ومفسّرا له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزّمخشري له ب «ربّه رجلا» ، وأنّه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله ، لكنّ هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كلّيّا ، إذ يكون الكلام

__________________

(١) انظر البحر المحيط (٨ / ٦٤).

(٢) انظر الكشاف (١ / ٢٧٠).

٢٤٨

قد تضمّن أنّه تعالى استوى إلى السّماء وأنّه سوّى سبع سماوات عقب استوائه إلى السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين ، أحدهما : استواؤه إلى السماء ، والآخر تسويته سبع سماوات. وظاهر الكلام أنّ الذي استوى إليه هو بعينه المسوّى سبع سماوات وقد أعرب بعضهم (سبع سماوات) بدلا من الضمير على أنّ الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح نحو : «أخوك مررت به زيد» (١) انتهى. فقد منع الشيخ من البدل على عود الضمير إلى ما بعده لأجل عدم الارتباط ، وأجازه على عود الضمير على ما قبله لوجود الارتباط ثمّ قال بعد سياق أعاريب : «فتلخّص في نصب (سبع سماوات) أوجه : البدل باعتبارين (يعني باعتبار ما قبله وما بعده) والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال» ، قال : «والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله ، والحال ، ويترجّح البدل لعدم الاشتقاق» (٢) انتهى.

والتعقّب المذكور في سورة البقرة نظير التعقّب المذكور في سورة الأحقاف وكلام الشيخ ـ رحمه الله ـ في ذلك هو الجاري على القواعد كما تقدّم. وقد تعقّب القطب في حاشيته على الزّمخشري ذلك فقال : «قوله : والضمير في (فسوّاهنّ) ضمير مبهم فيه نظر ، لأن الباب ليس بقياس وإنّما حمل المضمر في قوله : «ربّه رجلا» على أنّه مبهم لأنّ «ربّ» لا تدخل إلّا على النّكرات وهذا لا يوجد في (فسوّاهنّ)».

وأمّا السؤال الثالث : فقد أشار إلى ذلك ابن مالك في (التسهيل) في الكلام على المخصوص بقوله : «أو يذكر قبلهما معمولا للابتداء أو لبعض نواسخه ، أو بعد فاعلهما : مبتدأ أو خبر مبتدأ لا يظهر ، أو أوّل معمولي فعل ناسخ» (٣) : مثال المخصوص الذي ذكر قبلهما معمولا للابتداء «زيد نعم الرّجل» و «عمرو بئس الغلام» ، ومثال المخصوص المعمول لبعض نواسخ الابتداء في باب «كان» قول الشاعر : [الطويل]

٧٦٢ ـ إذا أرسلوني عند تقدير حاجة

أمارس فيها كنت نعم الممارس

وفي باب «إنّ» قول الشاعر : [مجزوء الكامل]

__________________

(١) انظر البحر المحيط (١ / ١٣٥).

(٢) انظر البحر المحيط (١ / ١٣٥).

(٣) انظر التسهيل (ص ١٢٧).

٧٦٢ ـ الشاهد ليزيد بن الطثرية في ديوانه (ص ٨٤) ، والدرر (٥ / ٢١٨) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٣٤) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٣٨٨) ، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٧٩).

٢٤٩

٧٦٣ ـ إنّ ابن عبد الله نع

م أخو النّدى وابن العشيره

وفي باب «ظنّ» : «ظننت زيدا نعم الرّجل» ،. ومثال ذكر المخصوص بعد فاعلهما مبتدأ «نعم الرجل زيد» و «بئس الغلام عمرو» ، وقوله : «أو خبر مبتدأ لا يظهر» قال فيه الشيخ أبو حيّان : «هذا الإعراب نسب إلى سيبويه ، وممّن نسبه إلى سيبويه هذا المصنّف في الشّرح قال فيه : وأجاز سيبويه كون المخصوص خبر مبتدأ واجب الإضمار انتهى» وأطال الشيخ الكلام على ذلك بما يوقف عليه في شرح التسهيل. ومثال كون المخصوص مذكورا بعد فاعلهما أوّل معمولي فعل ناسخ هذا البيت المذكور في السؤال ، لأنّ «كان» من نواسخ الابتداء ، وقول زهير : [الطويل]

٧٦٤ ـ يمينا لنعم السّيّدان وجدتما

على كلّ حال من سحيل ومبرم

وقد أنشده الزمخشري في سورة الصافّات في تفسير قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٧] حيث قال : «(وينزفون) على البناء للمفعول : من نزف الشارب إذا ذهب عقله ، ويقال للسّكران : «نزيف» و «منزوف» وقرئ (ينزفون) (يعني بكسر الزاي) ، من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه قال (٣) : [الطويل]

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا

ومعناه : صار ذا نزف. ونظيره : أقشع السّحاب وقشعته الرّيح وأكبّ الرجل وكببته ، وحقيقتهما : دخلا في القشع والكبّ» انتهى.

وأمّا حديث عائشة فإن كان الذي فيه ذكر الهديّة فهو في الصحيحين بدون هذه اللّفظة. ورواه البخاري في الهبة والرّقاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة بلفظ «إلّا أنّه قد كان لنا جيران من الأنصار كانت لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه ألبانهم» (٤) وفي الرّقاق زيادة «فيسقيناه» ويقع في بعض النّسخ إسقاطه

__________________

٧٦٣ ـ الشاهد لأبي دهبل الجمحي في ديوانه (ص ٩٦) ، والدرر (٥ / ٢١٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٣٥) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٣٨٨) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٧٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٧٩٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ٨٧).

٧٦٤ ـ الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه (ص ١٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٣٤) ، وخزانة الأدب (٣ / ٦) ، والدرر (٤ / ٢٢٧) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٧٩٢) ، وهمع الهوامع (٢ / ٤٢) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٣٩).

(١) مرّ الشاهد رقم (٧٥٧).

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (٢ / ٩٠٧) رقم الحديث (٢٤٢٨).

٢٥٠

من الرّقاق ولذلك لم يذكره المزّي في الأطراف. ورواه مسلم في آخر الكتاب كما في الرّقاق بدون هذه اللّفظة المذكورة في السؤال ، فقد يكون في غير الصحيحين. وفي مسند أحمد : «إلّا أنّ حولنا أهل دور من الأنصار جزاهم الله خيرا» (١). وفي ابن ماجه عن أبي سلمة عن عائشة «.. غير أنّه كان لنا جيران من الأنصار جيران صدق» (٢).

وأمّا السؤال الرابع : فجوابه أنّ (جعل) إن كانت بمعنى (خلق) فهما حالان ، ويجوز تعدّد الحال وصاحبها مفرد نحو : «جاء زيد راكبا ضاحكا». وإن كانت بمعنى (صيّر) فقوله (سميعا) مفعول ثان. وكذلك «بصيرا» لأنّهما خبران في الأصل فجاز جعل كلّ منهما مفعولا ثانيا ، ويجوز تعدّد خبر المبتدأ ، فكذلك يجوز تعدّد خبر ما دخل عليه ناسخ الابتداء ، ثم يعرب كلّ واحد منهما مفعولا ثانيا. وقد قال ابن مالك في التّسهيل «باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر ، الداخل عليهما (كان) والممتنع دخولها عليهما لاشتمال المبتدأ على استفهام فتنصبهما مفعولين ، ولا يحذفان معا أو أحدهما إلّا بدليل ، ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجرّدين ، ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان» انتهى. وقد جاء في خبر كان (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ٣٤] ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [الفتح : ٤] فكذلك ما نحن فيه. ويمكن أن يجعل الأوّل المفعول الثاني ، والثاني صفته كما في قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]. ويجوز أن يجعلا في معنى واحد على معنى : «مميّز بين الأشياء» ، إذ لا يحصل التمييز بين الأشياء غالبا إلّا بالسمع والبصر ، فيصير مثل قولنا : «الرمّان حلو حامض» بمعنى «مزّ» ، فإذا جاء مثل : جعل الله الرّمّان حلوا حامضا كان حكمه كذلك.

وأمّا السؤال الخامس : فجوابه أنّه حيث لم يتقدّم ما يعود عليه هذا الضمير يجوز أن يقال هو من القسم الخامس الذي ذكرناه من كلام الشيخ أبي حيّان في جواب السؤال الثاني وهو الضمير المجعول خبره مفسّرا له. وقد ذكر ابن مالك ذلك في التسهيل فقال : «ويتقدّم أيضا غير منويّ التأخير : إن جرّ بربّ ، أو رفع بنعم أو شبهها أو بأوّل المتنازعين ، أو أبدل منه المفسّر ، أو جعل خبره ، أو كان المسمّى ضمير الشأن عند البصريّين ، وضمير المجهول عند الكوفيّين».

قال الشيخ أبو حيان : «ومثال جعله خبرا قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] قال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (٢ / ٤٠٥) بغير هذا اللفظ.

(٢) أخرجه ابن ماجه في سننه رقم (٤١٤٥).

٢٥١

من بيانه ، وأصله : «إن الحياة إلّا حياتنا الدّنيا» ثمّ وضع (هي) موضع (الحياة) ، لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها قال : ومنه : [المتقارب]

٧٦٥ ـ هي النّفس تحمل ما حمّلت

 ...

و «هي العرب تقول ما شاءت». قال المصنّف في الشّرح وقد حكى كلام الزّمخشري : وهذا من جيّد كلامه وفي تنظيره ب «هي النّفس» و «هي العرب» ضعف لإمكان جعل العرب والنّفس بدلين ، و (تحمل) و (تقول) خبرين. انتهى كلامه». قال الشيخ أبو حيّان : «ولم يذكر أصحابنا في الضمير الذي يفسّره ما بعده ولا ينوى بالضمير التأخير أن يكون يفسّره الخبر وإنّما هذا يفسّره سياق الكلام ... وأمّا ما ذهب إليه المصنّف من أنّ (هي) يفسّرها «حياتنا الدّنيا» الذي هو الخبر فاسد ، لأنّه إذا فسّره الخبر والخبر مضاف لشيء وموصوف لشيء كان ذلك الضمير عائدا على الخبر بقيد إضافته وقيد صفته وإذا كان كذلك صار تقدير الكلام : ما حياتنا الدّنيا إلّا حياتنا الدّنيا ، ولا يجوز ذلك كما لا يجوز : ما غلامنا العالم إلّا غلامنا العالم ، لأنّه يؤدّي إلى أنّه لا يستفاد من الخبر إلّا ما يستفاد من المبتدأ ، وذلك لا يجوز ، ولذلك منعوا : «ربّ الدّار مالكها» ، و «سيّد الجارية مالكها». وليس في كلام الزمخشري ما يدلّ على ما ذهب إليه المصنّف لأنّه قال : وضع (هي) موضع (الحياة) ، ولم يقل موضع «حياتنا الدّنيا» الذي هو الخبر.

وقوله : لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها يعني أنّ سياق هذا الكلام على أنّ المضمر هو الحياة» انتهى.

وتلخّص منه أنّه ارتضى كلام الزمخشري ولم يرتض تقرير ابن مالك. ويقال عليه : قد ذكرته في تفسير سورة البقرة على سبيل الجزم به بعبارة ابن مالك حيث قلت : «والضمير المجعول خبره مفسّرا له ، انتهى». وحينئذ فيصير تقدير قول (٢) المتنبّي : [الطويل]

هو الجدّ ...

إلى آخره

معناه : «الجدّ» أي الكامل الجدّ بهذه الصّفة. وقول (٣) المعرّي : [الطويل]

هو الهجر ...

 ...

__________________

٧٦٥ ـ الشاهد بلا نسبة في مغني اللبيب (٢ / ٤٨٩).

(١) مرّ الشاهد رقم (٧٥٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧٥٩).

٢٥٢

معناه : «الهجر» أي الكامل الهجر بهذه الصّفة وهو ألّا يلمّ خيال فمتى ألمّ خيال لم يكمل الهجر. فهذا ما ظهر لي وفوق كلّ ذي علم عليم.

وأمّا السؤال السادس : فالحديث باللّفظ الأوّل (....) (١) وأمّا الثاني فهو من كلام عبد الله بن الصّامت الراوي عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إذا قام أحدكم يصلّي فإنّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرّحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرّحل فإنّه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت : يا أبا ذرّ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال : يا ابن أخي سألت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما سألتني فقال : الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم. وهي في المثال الأوّل للفصل. قال (٢) ابن هشام في (المغني) في أقسام (من) : «الثاني عشر : الفصل ، وهي الدّاخلة على ثاني المتضادّين نحو : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠](حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] ، قاله ابن مالك ، وفيه نظر ، لأنّ الفصل يستفاد من العامل فإنّ ماز وميّز بمعنى فصل ، والعلم صفة توجب التمييز ، والظاهر أنّ (من) في الآيتين للابتداء أو بمعنى (عن). وقد أقرّ الشيخ أبو حيّان في (شرح التسهيل) ابن مالك على ذلك فقال : «قال المصنّف في الشرح : وأشرت بذلك الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادّين نحو : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) و (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ،) ومنه قول الشاعر : [المضارع]

٧٦٦ ـ فإنّ الهوى دواء

لذي الجهل من جهله

انتهى». قال الشيخ : «ومنه : «لا يعرف قبيلا من دبير» وليس من شرطها الدّخول على المتضادّين بل تدخل على المتباينين ، تقول : لا يعرف زيدا من عمرو» انتهى كلام الشيخ في (شرح التسهيل).

وعلى هذا فتكون في قول عبد الله بن الصّامت للفصل أيضا ، أي : ما بال الكلب الأسود منفردا من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر. ويحتمل أن تكون بمعنى (عن) ، وكذلك هي في بيت المعرّي في قوله (٣) : [الطويل]

[...]

فغير خفيّ أثله من ثمامه

__________________

(١) يوجد بياض في جميع النسخ ويبدو أن هناك نقص في النصّ.

(٢) انظر المغني (ص ٣٥٧).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٧٥٩).

٢٥٣

وأمّا السؤال السابع : في إعراب قول أبي جحيفة «فمن ناضح ونائل» : فقد سألني عنه من مدّة بعض المغاربة قال له العفيصي من المقيمين عندنا بالقاهرة ، وقد توجّه الآن للمغرب. وظهر لي في إعرابه أنّه بدل تفصيل على تقدير : فانقسموا قسمين من ناضح ونائل ، لأنّ في رواية : «فرأيت النّاس يبتدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسّح به ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه» واللفظان في مسلم في كتاب الصّلاة في ذكر السّترة ويكون ذلك كقول الشاعر : [الكامل]

٧٦٧ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

من بين ملجم مهره أو سافع

قال النّحاة : يريد : وسافع ، لأنّ البدل التفصيليّ لا يعطف إلّا بالواو. انتهى.

الكلام في قول الشاعر : كاثنين ثان إذهما في الغار : كتب الشيخ جلال الدين البلقيني إلى البدر الكلستاني ما نصّه : [الطويل]

إلى كعبة الآداب تأتي الرّسائل

ومن علمه الوافي تحلّ المسائل

إمام حوى علما وفخرا وسؤددا

فأصبح مقصودا ، وكلّ وسائل

فكاتب سرّ الملك عالم عصره

بمذهب نعمان وما ثمّ ماثل

فإن أشكلت يوما أمور فلذ به

فمن علمه التهذيب والفضل شامل

نهاية كلّ الناس عند اجتماعهم

بحضرته الإصغا لما هو ناقل

فيبدي سؤالا ثمّ يذكر حلّه

ألا فاعجبوا هذا مجيب وسائل

هو البدر إن لاقيته بمحاسن

هو الليث في كرّ وفرّ يعامل

ما قول إمام أهل الأدب ، ومالك زمام معالي الرّتب ، وخليفة النّعمان في هذا العصر ، ومن بأقدامه وإقدامه يحصل الفتح والنصر ، في بيتين وقعا لأبي تمّام مدح بهما المعتصم الإمام لمّا صلب بعض الخوارج العائجين عن الشّرائع والمناهج ، وهما : [الكامل]

٧٦٨ ـ ولقد شفيت النّفس من برحائها

أن صار بابك جار مازيّار

__________________

٧٦٧ ـ الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ١٤٥) ، ولحميد بن ثور في ديوانه (ص ١١١) ، وشرح التصريح (٢ / ١٤٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢٠٠) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٤٦) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٣٧٩) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٢٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٢٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٦٢٨) ، ولسان العرب (سفع) ، ومغني اللبيب (١ / ٦٣).

٧٦٨ ـ انظر ديوانه بشرح التبريزي (٢ / ٢٠٧).

٢٥٤

ثانيه في كبد السّماء ولم يكن

كاثنين ثان إذ هما في الغار

قال الصّفدي : «قد غلط أبو تمّام في هذا التّركيب ، لأنّه إنّما يقال : ثاني اثنين ، وثالث ثلاثة ورابع أربعة ، ولا يقال : اثنين ثان ، ولا ثلاثة ثالث ، ولا أربعة رابع». ولمّا وقف المملوك على هذا التّغليط استبعد وقوع مثله من أبي تمّام ، وخاض فكره في الجواب وعام. وخطر للمملوك أنّ المراد غير ما فهمه الصفدي ، وقصد عرض ذلك على من من علومه نقتبس وبكلامه نقتدي ، وهو أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا وتقليبا للتّركيب وتغييرا ، وهو أنّ التقدير : ولم يكن كاثنين إذ هما في الغار ثان وبذلك يدفع عن كلامه الغلط ويصان ، والمراد أنّه لم يكن كهذه القضية قضية أخرى. وكلام أبي تمّام بهذا المعنى أحرى ، وحصل هذا القلب مراعاة للقافية. ولا تسكن النّفوس لهذا الجواب إلّا بطبّكم منه الشفاء والعافية ، ولم يعرّج أبو تمّام على مراعاة الآية (١) حتّى ينسب كلامه إلى الغلط الواضح الأولي البداية. وإيضاحه أنّه لم يوجد كحال اثنين إذ هما في الغار حال ثان. والمسؤول إيضاح ما في هذا التّغليط والتصويب من المعاني أدام الله لكم المعالي وأجزل عليكم الفضل المتوالي.

فكتب إليه البدر الكلستاني مجيبا ما نصه :

أتتني أبيات تموج بلاغة

وفيها على بحر العلوم دلائل

ونظّمها صدر الزّمان وعينه

جلال المعاني ، والمعالي جلائل

هو الحبر تجل الحبر حاو وجيزه

بسيط المعاني للفضائل شامل

إذا هزّ أقلام الفصاحة تنجلي

مسائل فيها من فنون مسائل

ومالك فقه الشّافعيّ بأسره

أصولا فروعا واحد لا يشاكل

ونادى له في كلّ ناد خصاله

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل

له المقول الوضّاح في كلّ معضل

وفضّاح نفس يوم تأتي تجادل

أتاني ما أتحف به ملك البلاغة ومالك المعاني ، فأطربني بنسيج وحده وأغناني عن المثالث والمثاني ، أوفى الله كاسه ، وطيّب أنفاسه. أمّا الصّفديّ المغلّط فغالط في واضح ، واعتراضه فاضح ، وقد صفّد ناقص ذهنه عند الكلام في حلّ تركيب أستاذ الأدباء أبي تمّام ، حيث لم يفرّق بين : «كاثنين ثان» وبين «كثاني اثنين». والفرق ظاهر عند سمع عار عن الآفة ، إذ الأوّل تركيب جملة ، والثاني تركيب إضافة ، وظهور

__________________

(١) يريد قوله تعالى في سورة التوبة الآية (٤١) (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ.)

٢٥٥

النّون جعلهما كالضّبّ والنّون ، فزال هذا الوهم اللّفظيّ العاري من المعنى بمجرّد المبنى والمبنى والذي يقضى منه العجب أنّ المخطئ في الظاهر كيف يعدّ من محقّقي الأدب.

وأمّا حلّ مبناه وبيان معناه فالظّاهر من المقصود ما يقول العبد وهو محمود ، أنّ «ثانيه» خبر ثان لصار ولكن جعل من قبيل «أعط القوس باريها» (١) في ترك النّصب ، إذ هو خبر لمبتدأ محذوف ، و «لم يكن» بمعنى «لم يصر» لقربه من سياق «أن صار» ، و «ثان» اسمه وتنوينه عوض عن الضمير المضاف إليه و «كاثنين» خبره وفيه مضاف محذوف ، والمآل : ولم يصر ثانيه كثاني اثنين إذ هما في الغار ، لأنّهما تجاورا في العلوّ لا في الغور ، والغرض أن يصف مصلوبه بالارتفاع لكن في الصّلب ، وهو من التّهكّم المليح.

الكلام في قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً)

ومن الفوائد عن الشيخ بدر الدين بن مالك نقلت من خطّ الشيخ كمال الدين الشمنّي والد شيخنا :

سئل الشّيخ بدر الدين ابن العلّامة جمال الدّين بن مالك رحمهم الله تعالى عن قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) [الأنفال : ٢٣] الآية ، والبحث عن تركيبها.

فأجاب : هذه الآية على صورة الضّرب الأول من الشّكل الأول من القياس المؤلّف من متّصلتين ، لأنّها مشتملة على قضيّتين متّصلتين موجبتين كلّيتين ، وبينهما حدّ أوسط هو تال في الصّغرى ، مقدّم في الكبرى ، وذلك يستلزم قضية أخرى متّصلة ، مركبة من مقدّم الصّغرى وتالي الكبرى ، وهو : (ولو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون ،) وكيف يكون علم الله فيهم خيرا وقبولا للحقّ ملزوما لتولّيهم وعدم قبولهم له ، هذا الإشكال ، قال : وعندي عنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : لا نسلّم أنّ نظم الآية الكريمة يستلزم المتّصلة المذكورة ، لأنّ من شرط الإنتاج اتحاد الأوسط ، ولا نسلّم أنّ الأوسط متّحد بناء على أحد التفسيرين لقوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فإنّ قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) معناه : لو علم الله فيهم خيرا وقبولا للحقّ لأسمعهموه ولو أسمعهم ذلك الإسماع لتولّوا ، ولم يؤمنوا مبالغة في بعدهم عن الإقبال على الإيمان والدخول فيه. وقيل معناه : لو أسمعهم فآمنوا لتولّوا بعد ذلك وارتدّوا. فعلى هذا

__________________

(١) انظر شرح المفصل (١٠ / ١٠٣) ، وفصل المقال (ص ٢٩٨).

٢٥٦

التفسير يكون الحدّ الأوسط وهو (أسمعهم) مختلفا : هو في الجملة الأولى بمعنى : لأسمعهم إسماع لطف بهم ورحمة لهم ، فسمعوا وآمنوا واستقاموا ، وفي الجملة الثانية بمعنى : ولو أسمعهم إسماع فتنة لهم وابتلاء فسمعوا ودخلوا في الإيمان لتولّوا وارتدّوا ، ولا شكّ أنّ إسماع اللّطف والرّحمة غير إسماع الابتلاء والفتنة. وإذا لم يكن الأوسط متّحدا لم يكن الإنتاج لازما.

الجواب الثاني : سلّمنا اتّحاد الأوسط ، لكن لا نسلّم إنتاج القياس المؤلّف من متّصلتين كما هو رأي جماعة من المتأخرين ، فإنّهم قالوا : لا يلزم من صدق : كلّما كان ا ب : ج د ، وكلّما كان ج د : ه ز ، ا ب : ه ز لأنّ الكبرى تدلّ على ملازمة الأكبر للأوسط في نفس الأمر ، والصّغرى تدلّ على صدق الأوسط فلا نسلّم أنّه يلزم من صدق المقدّمتين ملازمة الأكبر للأصغر وإنّما يلزم ذلك لو بقيت الملازمة بين الأوسط والأكبر على ذلك التقدير لازمة. ولك أن تعتبر مثل هذا في الآية الكريمة فتنزّل قوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) على أنّ التولّي لازم للإسماع في نفس الأمر و (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) على أنّ الإسماع ثابت على تقدير ثبوت (عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) فلا يلزم من ذلك : (لو علم الله فيهم خيرا لتولوا) لأنّ (عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) محال فجاز أن يستلزم صدقه رفع التلازم في قوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) ومعاندة اللازم فيه لأنّ المحال فيه يستلزم المحال.

الجواب الثالث : سلّمنا إنتاج القياس المؤلّف من متّصلتين كما هو رأي الإمام ومن قبله لكن لا نسلّم أنّ في اللازم عنه في الآية الكريمة إشكالا فإنّه يصدق لو علم الله فيهم خيرا لتولّوا على دعوى أنّ تولّيهم ثابت على كلّ تقدير ، فثبت على تقدير علم الله فيهم خيرا لتولّوا. فإن قلت : فعلم الله فيهم خيرا لازم لعدم التولّي فيكون ملزوما له. قلت : لأنّ علم الله فيهم خيرا محال فيجوز أن يستلزم شيئا ونقيضه لأنّ المحال لا يستبعد أن يستلزم المحال والله سبحانه وتعالى أعلم.

الادّكار بالمسائل الفقهيّة

لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجّاجي النحويّ رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي رحمه الله تعالى :

أما بعد : حفظك الله وأبقاك ، وهدانا وإيّاك ، ووفّقنا فيما نحاول دينا ودنيا للرّشاد ، ورزقنا علما نقرن به عملا يقرّب منه ويزلف لديه ، إنّه سميع بصير ، وعلى ما

٢٥٧

يشاء قدير. فإنّك أذكرتني بالمسألة التي سألت عنها في البيت الذي سئل الكسائيّ عنه ، وهو قوله : [الطويل]

٧٦٩ ـ فأنت طلاق والطّلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم

وتفسيري وجه الطلاق النصب في ثلاث مسائل فقهيّة من العربية يتلاقى بها النحويّون ويسأل عنها متأدّبو الفقهاء. وكنت جمعتها قديما ؛ منها مسائل ذكر لي أبو بكر محمّد بن أحمد بن منصور المعروف بالخيّاط النحويّ أنّه اجتمع هو وأبو الحسن بن كيسان مع أبي العبّاس ثعلب على تلخيصها وتقريرها ، ومنها مسائل ذكر لي أنّ أبا العبّاس ثعلبا أفاده إيّاها ، ومنها مسائل منثورة جمعت بعضها عن شيوخي شفاها ، وبعضها مستنبط من كتبهم ، فأحببت أن أجمعها في هذا الكتاب وأسمّيه :

كتاب الادّكار بالمسائل الفقهيّة ، فاعتمدت ذلك حين نشّطتني له ، فجمعتها فيه كلّها ، وما اتّصل بها وجانسها ، ومسألة الكسائي التي جرى ذكرها ، وجعلته نهاية في الاختصار ، موجزا غاية الإيجاز لئلّا يطول فيملّ ، ويكثر فيضجر ، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مسائل الجزاء

المسألة الأولى : قال : إذا قال الرجل لامرأته : إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فأنت طالق ثلاثا فهذه لا تطلق حتى تبدأ بالسؤال ثم يعدها ثمّ يعطيها بعد العدة ؛ لأنّه ابتدأ بالعطيّة واشترط لها العدة ، واشترط للعدة السؤال ، فقد جعل شرط كلّ شيء قبله ، فالعدة بعد السؤال ، والعطيّة بعد العدة ، وكذلك يقع الترتيب في الحقيقة. وليس هاهنا إضمار الفاء لأنّ جواب كلّ جزاء قد تقدّم قبله فصار مثل قولك : «أقوم إن قمت» ، ألا ترى أنّه لا يلزمك القيام حتّى يقوم مخاطبك ، وأنّ الجواب مبدوء به. وكذلك إن قال لرجل : «إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فعبدي حرّ ، فليس يعتق حتّى يبدأ بالسّؤال ثمّ يكون منه العدة ، ثمّ العطيّة ، فإن ابتدأ بالعطيّة من غير سؤال ولا عدة لم يعتق ، وكذلك المرأة لا تطلق ، وكذلك إن وعده من غير سؤال ثمّ أعطاه.

المسألة الثانية : فإن قال لها : إن سألتني إن أعطتك إن وعدتك فأنت طالق ؛ فهو مضمر للفاء في الجزاء الثاني لأنّ العطيّة لا تكون إلّا بعد السّؤال ، كأنّه قال : إن

__________________

٧٦٩ ـ الشاهد بلا نسبة في خزانة الأدب (٣ / ٤٥٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٦٨) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢) ، ومغني اللبيب (١ / ٥٣).

٢٥٨

سألتني فإن أعطيتك إن وعدتك فأنت طالق. ولا تضمر الفاء في الجزاء الثالث لأنّ العدة قبل العطيّة ، فهذه أيضا لا تطلق حتى تسأله ثم يعدها ثم يعطيها كأنه قال : إن سألتني فإن أعطيتك بعد أن أعدك فأنت طالق. فهي من جهة الطّلاق ووقوعه في التّرتيب مثل الأولى ، إلّا أنّها في تقدير الفاء وإضمارها تخالفها ، فإن أعطاها من غير سؤال لم تطلق ، وإن وعدها ولم يعطها لم تطلق وإن وعدها وأعطاها من غير أن يتقدّم سؤال لم تطلق.

وكذلك إذا قال لعبده : إن سألتني إن أعطيتك إن وعدتك فأنت حرّ وكذلك تضمر الفاء في الجزاء الثاني ، كأنّه قال : إن سألتني فإن أعطيتك إن وعدتك فأنت حرّ.

المسألة الثالثة : فإن قال : «إن سألتني إن وعدتك إن أعطيتك فأنت طالق». فهو مضمر للفاء في ذلك كلّه ، لأنّ قد أوقع كلّ شيء في موضعه لأنّ السؤال يكون ثمّ العدة ثمّ العطيّة فكأنّه قال : إن سألتني فإن وعدتك فإن أعطيتك فأنت طالق.

وهذه المسائل الثلاث في ترتيب وقوع الطّلاق سواء ، وفي تقدير العربيّة مختلفة.

المسألة الرابعة : فإن قال لها : إن أجنبت منك إجنابة فإن اغتسلت في الحمّام فأنت طالق ، فأجنب ثلاث مرّات واغتسل مرّة في الحمّام فإنّها تطلق واحدة ، لأنّ الاغتسال في الحمّام مشترط مع الإجناب فلا يقع الطلاق حتّى يقعا معا.

المسألة الخامسة : فإن قال : «كلّما أجنبت منك إجنابة فإن مات فلان فأنت طالق» فأجنب ثلاث مرّات ومات فلان فإنّها تطلق ثلاثا ، لأنّ موت فلان لا يتردّد مع كلّ إجنابة ، والمعنى : أنت طالق إن مات فلان بعدد كلّ إجنابة أجنبت منك. وكذلك «إن سقط الحائط» و «إن قدم زيد» يجري هذا المجرى ، لأنّه ليس ممّا يتكرّر. وقد قال بعض الفقهاء في قوله : «كلّما أجنبت منك إجنابة فإن اغتسلت في الحمّام فأنت طالق» فأجنب ثلاثا واغتسل في الحمّام مرّة واحدة فإنّها تطلق ثلاثا. وجعله بمنزلة الفعل الذي لا يتردّد ، وهذا غلط لأنّ الفعل إذا كان يجوز أن يقع مع شرطه فلا يقع الطلاق حتّى يقعا معا.

المسألة السادسة : إذا قال لها : «إن كلّمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق» فإنّها تطلق بأحد الفعلين لأنّ المعنى به : إن كلّمتك فأنت طالق ، وإن دخلت دارك فأنت طالق ، لأنّه قد كرّر (إن) مرّتين ، ولا بدّ لكلّ واحدة من جواب لأنّهما شرطان. وكذلك إن قال لها : «إن كلّمتك وإن دخلت دارك فعبدي حر ، فإنّه يعتق بأحد الفعليين لما ذكرت لك. وإذا كان ذلك يجب بأحد الفعلين فوجوبه بهما جميعا إذا وقعا معا ألزم.

المسألة السابعة : إذا قال لها : «إن دخلت الدار وكلّمتك فأنت طالق» فهذه

٢٥٩

تطلق بوقوع الفعلين جميعا ولا تطلق بأحدهما دون الآخر ، إن دخل ولم يكلّمها لم تطلق ، وإن كلّمها ولم يدخل لم تطلق ، وإذا جمع بينهما طلقت ، ولم يبال بأيّهما بدأ بالكلام أم بالدّخول ، أيّ ذلك بدأ به وقع الطّلاق بعد أن يجمع بينهما ؛ لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يقع آخره قبل أوّله ، ألا ترى أنّك تقول : رأيت زيدا وعمرا ، فيجوز أن يكون عمرو في الرؤية قبل زيد ، قال الله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣]. وكذلك إن قال لعبده : «إن دخلت الدار وكلّمت زيدا فأنت حرّ» ، فإنّه لا يعتق إلّا بوقوع الفعلين جميعا كيف وقعا لا فرق بينهما في وقوع الأوّل قبل الثاني أو الثاني قبل الأوّل.

المسألة الثامنة : إن قال لها : «إن دخلت الدار فكلّمتك فأنت طالق» فهذه لا تطلق إلّا بوقوع الفعلين جميعا ، وتقدّم المتقدّم فيهما في الشّرط ؛ فلا تطلق حتى يدخل الدار أوّلا ثمّ يكلّمها فإن كلّمها قبل الدّخول لم تطلق ، وكذلك العبد لا يعتق لأنّ المعطوف بالفاء لا يكون إلّا بعد الأوّل وكذلك (ثمّ).

المسألة التاسعة : فإن قال لها : «إن كلّمتك أو دخلت دارك فأنت طالق» طلقت بواحد من الفعلين وإن لم يكرّر (إن) ، فأيّهما وقع طلقت ، لأنّ (أو) لأحد الشّيئين ، وهو بمنزلة قولك : «إن كلّمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق» ، لا فرق بينهما في وقوع الطّلاق. وكذلك في العتاق إذا قال : «إن كلّمت زيدا أو دخلت الدّار فعببدي حرّ» عتق بواحد منهما. وإن وقع الفعلان وقع الطلاق والعتاق لأنّه إذا وقع بواحد فالاثنان أجدر أن يقع بهما.

المسألة العاشرة : إذا قال لها : «أنت طالق وإن دخلت الدّار» طلقت في وقتها على كلّ حال ، لأنّ المعنى : أنت طالق إن لم أدخل الدّار وإن دخلتها ، لأنّ الواو عاطفة على كلام محذوف ، وكذلك إذا قال : «عبدي حرّ وإن دخلت دارك» عتق على كلّ حال لأنّ المعنى : عبدي حرّ إن لم أدخل دارك وإن دخلتها وكذلك إذا قال : «عبدي حرّ وإن لم أدخل دارك» عتق لوقته على ما ذكرت لك.

المسألة الحادية عشرة : فإن قال لها : «أنت طالق إذا دخلت الدار» لم تطلق حتى تدخل الدّار. أمّا (إن) فشرط لا يقع الطلاق إلّا بعد وجود ما بعدها ، وأمّا (إذا) فوقت مستقبل ، فيه معنى الشرط فكأنّه قال : أنت طالق إذا جاء وقت كذا ، فهي تطلق وقت دخول الدار ، فقد استوت (إن) و (إذا) في هذا الموضع في وقوع الطّلاق ، ولهما مواضع كثيرة يفترقان فيها في هذا المعنى عتق لوقته على ما ذكرت لك.

٢٦٠