الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

على الموصوف عملت في الضمير المتّصل ، والتمييز ، والحال ، والظّرف ، وعديله ، لا في الظاهر ولا في المفعول به على المشهور ؛ وهذا معنى قول من قال : لا تعمل. وأمّا قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، و (حيث) : نصبت بمقدر نصب المفعول به أي : يعلم حيث ، لا جرّ بالإضافة ؛ لأنّ (أفعل) بعض ما يضاف له ، ولا نصب ب (أعلم) نصب الظّرف ، لأنّ علمه غير مقيّد وفي الآخر بحث وكذلك قوله (١) : [الطويل]

[أكرّ وأحمى للحقيقة منهم]

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا

نصبه ب (نضرب) مقدّرا ، وقيل بإسقاط الخافض ، أي : أضرب للقوانس ، ورجّح الأوّل بكثرة ، وحذف الفعل دون الحرف. ولا يقال إنّها لا تعمل وهو ممّا تلحقه علامات تدلّ على شبه ما يحكم بشبهه وهذه ليست كذلك فكيف تدلّ لأنّه كقوله (٢) : [الرجز]

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

و «زيدا مررت به».

وبعض العرب لأجل الاشتقاق أعملها في الظّاهر مطلقا ؛ حكاه سيبويه في موضع ، ومنعه في آخر ، وحكم عليه بالعلّة والرّداءة (٣).

ورفع بها الظّاهر كلّ العرب في مسألة الكحل استحسانا. والقياس قدّمناه ووجهه ، إلّا أنّ بعض المتأخّرين اعترض عليه بأنّ عدم لحاق العلامات ل (أفعل) يقوّي شبهه بالفعل من حيث إنّ الفعل لا يثنّى ولا يجمع ، فينبغي أن يعمل بطريق الأولى.

وهو مسبوق بهذا الكلام في كلام الرّشيد سعيد والرّشيد سعيد مسبوق أيضا ؛ قال أبو عليّ فيما نقله التدمريّ عنه في مسألة «زيد شرّ ما يكون خير منك خير ما تكون» ، وتوجيه قول المازنيّ : إنّ «خير ما يكون» نصب ب «خير منك» : وقد تقدّم أنّه أشبه الفعل من جهات ؛ من أنّه لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، ويوصل بالحرف تارة : «زيد أعلم منك».

وجواب ذلك أنّا لا نسلّم أنّ ذلك لقوّة شبهه بالفعل بل لضعفه حيث لم يجر

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٩٢).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٤٧).

(٣) انظر الكتاب (٢ / ٢٤ ـ ٢٥).

٢٢١

مجراه في لحاق العلامات ، فلحاق العلامات ممّا يقوّي شبه الفعل ، وقد ذكره جماعة من النحويّين في علّة عمل اسم الفاعل وإن سلّم أنّ ذلك يقوّي شبهه بالفعل ، فهو الفعل الجامد الذي هو ضعيف غير متصرّف ؛ شبّه بالأسماء بدليل مسألة «إنّ زيدا لنعم الرّجل» و (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، فإنّها المخفّفة من الثقيلة بدليل : (وَأَنَّ سَعْيَهُ) [النجم : ٤٠] إلى غير هذا من المسائل.

وما حال ضعيف تعلّق بضعيف؟

ووجّه الشيخ أبو عمرو القياس بأنّ اسمي الفاعل والمفعول والصّفة المشبّهة باسم الفاعل إنّما عملت لشبهها بفعل وجد بمعناها وهو يفعل ويفعل وفعل ، و (أفعل) لم يوجد فعل بمعناه : أي يدلّ على الزّيادة. واعترض عليه : أوّلا : بأنّ الصّفة دالّة على الثبوت ، ولا فعل إلّا وهو دالّ على الحدوث وفي أفعال الغرائز ودلالتها على الحدوث أو الثبوت بحث. وأمّا أمثلة المبالغة فنائبة عن فاعل ، أو فعلها (فعّل) أو فعلها (فعل) المجرّد من أداة الكثرة فإنّه وإن لم يوضع لها لا ينافيها.

وثانيا : أن لا فعل بمعناه ، وهو فعل التعجّب ولو زاد قيد «التّصرّف» لخرج. على أنّ لقائل أن يقول : ليس أفعل في التعجّب موضوعا لذلك.

ومسألة الكحل لقّبت بذلك لأنّ سيبويه مثّلها ب «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في غيره» (١) وبسط الكلام في مثال الكحل وبغير ذلك من الأمثلة ما لم يبسطه في غيره ، ولكثرة الأمثلة في مثال الكحل.

وقد ضبطها الإمام جمال الدّين أبو عمرو بما إذا كان (أفعل) لشيء وهو في المعنى لمسبّب مفضّل باعتبار الأوّل على نفسه باعتبار غيره منفيّا ، أي صفة لشيء وهو في المعنى لمتعلّق به مفضّل وهو الكحل. وقيل : لمسبّب أي لمجعول سببا. وقيل : الأفضل بالحقيقة للعين وهي سبب الكحل في التّفضيل ولهذا ألزمت باعتبار وقوعه في الأوّل وهو ذلك الشيء الموصوف على نفس الكحل باعتبار وقوعه في غير ذلك الموصوف ، والتفضيل انعكس لأجل النّفي. والإمام جمال الدين بن مالك حيث قال في (تسهيله) : «لا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا إلّا قبل مفضول هو هو ، مذكور أو مقدّر ، وبعد ضمير مذكور أو مقدّر مفسّر بعد نفي أو شبهه بصاحب أفعل» والأعرف مخرج للغة من يرفع بها الظاهر مطلقا كما سبق ، لكن كان ينبغي أن يزيد : «أو ضميرا منفصلا» ليخرج مثل «مررت برجل أحسن منه أنت».

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

٢٢٢

«إلّا قبل مفضول» : المفضول أبدا هو المجرور ب (من) و (أفعل) قبله ، وإنّما أراد أن يقيّده بأنّه هو هو أي المجرور هو ذلك الظاهر الذي فرض رفع (أفعل) له ، وهو الكحل ، إذ الضمير يعود عليه. ومثال كونه مذكورا المثال السابق ، وكونه مقدّرا .. ومنه ما ذكره سيبويه من الحديث : «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصوم من عشر ذي الحجّة» (١) قيل : وحذف (إليه) أيضا. قال الخفاف : من قال : (أحبّ) حمله على لفظ الأيّام ، ومن رفع على موضعها ، والخبر محذوف أي : «في الوجود». والمرويّ في الصّحيح : «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر» ولا شاهد فيه.

أمّا تجويزه فمع إدخال (من) على المحلّ ك «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من عين زيد» أو على ذي المحلّ : ك «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد» ، أو بحذفه مع من كقوله : [البسيط]

٧٤٨ ـ ما إن رأيت كعبد الله من أحد

أولى به الحمد في وجد وإعدام

ومنه بيتا الكتاب المعزوّان لسحيم : [الطويل]

٧٤٩ ـ مررت على وادي السّباع ولا أرى

كوادي السّباع حين يظلم واديا

أقلّ به ركب أتوه تئيّة

وأخوف إلّا ما وفى الله ساريا

قال الأعلم في كتابه (تحصيل علي الذهب) : «التّقدير أقلّ به ركب أتوه منهم بوادي السّباع فجرى في الحذف مجرى الله أكبر» ـ يعني على أحد القولين ـ وقدّره في (النّكت) : أقلّ به ركب تئيّة منهم به على أنّ (به) يعود على وادي السباع لا على ما عادت عليه (به) في الأوّل ، وهو قريب من الأوّل.

وقدّره بدر الدين بن مالك : لا أرى واديا أقلّ به ركب تئية كوادي السّباع. ولم يوفّ التقدير حقّه «لأنّه حذف المفضّل عليه» وهو (منهم) العائد على الرّكب ؛ وبقي المحلّ الآخر وهو «كوادي السباع» «الذي قدره الأعلم : (به) ؛ وأوقع كوادي السباع» فإنه أراد هو المذكور في البيت فيه (ال) ؛ و (ال) من جملة الموصوف باسم التفضيل وتلخيص البيت : ولا أرى كوادي السّباع واديا أقلّ به الرّكب الآتوه تئيّة وهو المكث منهم بوادي السباع. وقال أبو جعفر بن النحاس في شرح أبيات سيبويه : «تأيّيت بالمكان ، مثل تفعّلت : تمكّثت».

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

٧٤٩ ـ البيتان لسحيم بن وثيل في خزانة الأدب (٨ / ٣٢٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٨) ، وبلا نسبة في شرح عمدة الحافظ (ص ٧٧٤).

٢٢٣

وقال السخاوي في (شرح المفصّل) : ويحتمل أن يكون (أقلّ) هنا فعلا ماضيا ، ويرتفع (ركب) على أنّه فاعل و (تئيّة) مفعول به والكلّ في موضع الصّفة ل (واديا) ، و (أخوف) على : ولم أر أخوف. قال الخفاف : و (واديا) مفعول (أرى). و (كوادي) صفة تقدّمت فانتصب حالا ، ويجوز أن يكون (كوادي) مفعول (أرى) ، و (واديا) تمييز بمنزلة : «ما رأيت كاليوم رجلا» ، و (أخوف) معطوف ، أي : وأخوف به منهم.

وبعد ضمير : أي يكون (أفعل) بعده ضمير مذكور ، وهو في المثال «في عينه» ، أو مقدّر : نحو ما حكاه أبو جعفر عن محمد بن يزيد من قولهم : «ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من قومك». وقال : رفعت البعض لأنّ أشبه له وليس لقوم. قال بعض شرّاح (التّسهيل) : تقديره ما رأيت قوما أبين فيهم شبه بعض ببعض من شبه بعض قومك ببعض ، فجعل (أشبه) موضع (أبين) واستغني به عن ذكر المضاف ثمّ كمل الاختصار بوضوح المعنى بالتّقدير : ما رأيت قوما أبين فيهم شبه بعض ببعض من قومك ، ثم حذف الضمير الذي هو فيه العائد على (شبه) وأدخل (من) على (شبه) فصار التقدير : من شبه بعض قومك ببعض ، ثمّ حذف (شبه) و (بعض) وأدخلت (من) على قومك ، وحذف متعلّق (شبه) وهو (ببعض) لحذف ما تعلّق به وهو (شبه) ، فبقي «من قومك» وهو على حذف اسمين.

وبعد نفي : تقدّم في المثال ، وشبهه : يعني به النّهي والاستفهام.

وقد اعترض عليه بعدم السماع في ذلك وليس موضع قياس.

وجوابه أنّه قد استقرّ أنّ النهي والاستفهام للإنكار يجريان مجرى النفي في أخوات (كان) الأربعة والاستثناء ، وتسويغ مجيء الحال من النّكرة في الفصيح إلى غير ذلك.

وصاحب أفعل : هو (رجل) في المثال. وصرّح بدر الدّين ولد الشيخ جمال الدّين بن مالك باشتراط كون الفاعل أجنبيّا فقال في شرح الخلاصة : «لم يرفع الظاهر عند أكثر العرب إلّا إذا ولي نفيا وكان مرفوعه أجنبيّا مفضّلا على نفسه باعتبارين» (١) ، وقد رأيت الإمام جمال الدين بن الحاجب اشترط السببيّة والإمام جمال الدين ساكت عن ذلك فنقول : إن قصد بدر الدين بالأجنبي نفي السببيّ الذي اتّصل بضمير الموصوف كما مثّل به في أثناء كلامه من «ما رأيت رجلا أحسن منه

__________________

(١) انظر شرح الخلاصة لبدر الدين بن مالك (ص ١٨٩).

٢٢٤

أبوه» فلا شكّ أنّ (أفعل) فيه لا يرفع الظاهر في اللّغة المشهورة ، ولكنّ هذا القيد كان مستغنى عنه بقوله : مفضّلا على نفسه باعتبارين. وإن أراد به نفي السببيّ الذي للموصوف به تعلّق ما فليس كذلك ، بل لا بدّ من أن يكون سببا بهذا المعنى ، وهذا الذي يحمل كلام الشيخ أبي عمرو عليه. وأن يكون أجنبيّا بالمعنى الأوّل ليخرج «ما رأيت رجلا أحسن منه أبوه» لكن قد قدّمنا أنّ هذا خارج من قيد آخر.

وبقي النظر فيما إذا قيل : «ما رأيت رجلا أحسن في عينه كحله منه في عين زيد» ، هل هي داخلة تحت الضابط ويرفع فيها أفعل الظاهر ، ويكون الضمير في منه يعود على كحله لفظا على حدّ «عندي درهم ونصف» ، خلافا لابن الصائغ شرح كذا ، وقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] وقول الشاعر : [الطويل]

٧٥٠ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب

وعبارته والذي يظهر أنّها تدخل إلّا على رأي بدر الدين عليه.

فإن قيل : الشيخ جمال الدين أبو عمرو يشترط أن يكون لمسبّب مفضّل باعتبار الأوّل على نفسه ، وما أعيد عليه الضّمير ليس عين ذلك الكحل بل المفضول كحل عين الفاضل ، ولذا شرط الشيخ جمال الدّين بن مالك قبل مفضول هو هو.

قلت : المسوّغ لعود الضمير يصيّره كأنّه هو ، وهذا المعنى لا بدّ من اعتباره في نفس المثال المجمع عليه ، فإنّ الكحل المنفيّ فضله في عين (رجل) غير الكحل المفضول ، وهذا هو الذي سوّغ تعدّي (أفعل) الرافع للكحل هنا إلى ضميره المجرور ب (من) في قولك : (منه). ولا يجوز «مرّ زيد به» قال الصفّار في (شرح الكتاب) بعد تقرير هذه المسألة : وبقي فيها إشكال أثاره صاحبنا أبو الحسن بن عصفور وفّقه الله تعالى ، وهو أنّهم قد منعوا «مرّ زيد به» وانفصل عن هذا بأنّه عائد على الكحل لفظا لا معنى لأنّ الكحل الذي في عين زيد ليس منتقلا لمعنى آخر فهو من باب : [الطويل]

أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم

[ونحن خلعنا قيده فهو سارب]

__________________

٧٥٠ ـ الشاهد للأخنس بن شهاب التغلبي في شعراء النصرانية (ص ١٨٧) ، ولسان العرب (سرب) ، وتاج العروس (سرب) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ٤١٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٠٩) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٩٤) ، وبلا نسبة في لسان العرب (خلع) ، وكتاب العين (١ / ١١٨) ، وتاج العروس (خلع).

٢٢٥

ـ البيت ـ قال : وهذا حسن ، انتهى.

وقد يقال : إن (ال) في الكحل المذكور فيه للحقيقة فالذي يعود عليه الضمير مفسّر من حيث اللّفظ والمعنى وهذا مثل قولك : «الماء شرب منه زيد ، وشرب منه عمرو» فكلاهما يرجعان للماء وإن كان مشروب هذا الخاصّ غير مشروب الآخر ، انتهى.

ويمكن الانفصال عن إشكال ابن عصفور بأنّ ذلك اغتفر في (أفعل) لمّا كان بمعنى فعلين ، ولهذا جاز تعلّقه بظرفين مختلفين نحو : «زيد يوم الجمعة أحسن منه يوم الخميس» ، وبأنّ (أحسن) في المعنى إنّما هي لرجل لا للكحل على ما سيأتي من كلام سيبويه ، وشرحه.

واعلم أنّ قول ابن الحاجب : (منفيا) ، لا يخالف قول ابن مالك : «بعد نفي أو شبهه» ، لأنّ الواقع بعد شبه النفي منفيّ.

وبقي النظر في شيئين : في وجه رفع أفعل هنا الظّاهر ، وفي وجه اشتراط هذه الشروط لذلك.

أمّا رفعها الظاهر هنا فذكر له الجمهور تعليلين ، أنّ (أفعل) هنا يعاقبه الفعل فإذا أقمت الفعل مقامه أفاد ما أفاد (أفعل) من التفضيل ، وقد كان الموجب لقصوره عن الأوصاف العاملة كهؤلاء لا يوجد له فعل بمعناه كما سبق تقريره. قال الشيخ جمال الدين بن مالك وتابعوه : صحّ أن يرفع الظاهر هنا كما صحّ إعمال اسم الفاعل بمعنى المضيّ في صلة (ال). ـ يعني من أجل أن كان القياس ألّا يعمل في الماضي وحين دخلته (ال) عمل فيه ـ ، لأنّه واقع موقع الفعل ، وعليه مناقشة ، وهو أنّ (ال) تقتضي الوصل وأصله أن تكون بالجملة وتشابه المعرّفة ، وهي إنّما تدخل على المفرد فلذلك اختير وصلها بالوصف الذي له شبهان ، بالجملة والمفرد ، فهو بعدها له جانب للفعلية ، أمّا في مسألتنا فبعد تسليم أنّ الفعل يقع هنا ويؤدي معنى الوصف لا جاذب له إلّا أن يقال : الأصل في مكان المشتقّات إذا أدّى الفعل معناها وصحّ حلوله محلّها أن يكون للفعل. وقد اعترض على هذا التعليل بأنّ الفعل إذا وقع هنا لم يتساو التركيبان من حيث إنّ نفي الأحسنيّة يصدق بالمساواة.

وحاول بعض (شرّاح الحاجبيّة) الانفصال عن ذلك فقال : إذا نفي ذلك يكون المعنى نفي فضل حسن الكحل في عين رجل على عين زيد ، وهذا إنّما يحصل أيضا بنفي أن يكون حسنه كحسنه ، وهذه فيما أراه مكابرة. وحاول بعض أجناسه الانفصال بأنّ «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» محتمل لأن

٢٢٦

يكون كحل عين زيد أحسن ، ولأن لا يكون ، بأن يكونا متساويين ، و «ما رأيت رجلا يحسن» محتمل لأن يكون كحل عين زيد أحسن وأزيد كما تقدّم ، ولأن لا يكون ، بأن يكون أنقص ، فقد تساوى المدلولان في الجملة وهو على ما فيه أقرب من الأوّل للقبول.

وقد يقال : إن قولك : «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل» وإن كان منصبّا على نفي الزّيادة في عين الرّجل وهي تصدق بالمساواة وبنقصانها عن عين زيد ، فالمراد في الاستعمال الأخير ؛ يوضّح لك ذلك أنّك تقول : «ما رأيت أفضل من زيد» تقصد إثبات الأفضليّة له ، قال من نعلم من محقّقي المفسّرين في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] ، و (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ) [الزمر : ٣٢] المعنى : لا أحد أظلم من أولئك ، وتكلّموا على الجمع بينهما بكلام يذكر في موضعه. وقولك : «ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل حسنه في عين زيد» (١) وإن كان منصبّا على نفي المماثلة وهي تصدق بشيئين بالزّيادة والنّقص ، كما سبق وضوح الأمرين حسب ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم مائة مرّة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به ، إلّا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه» (٢) ولو قيل إنّ أو بمعنى الواو كان تكلّفا وما سبق أولى فتأمّله ، لكنّ المراد في الاستعمال إثبات الزّيادة للثاني قضاء لحقّ التّشبيه ، ويوضّح ذلك البحث البيانيّ في قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦]. ونظير ما ذكرناه هنا في التراكيب من قصرها في الاستعمال على أحد ما يقتضيه وضع اللّفظ قصر بعض المفردات على ذلك عرفا ، نحو : (الدابّة) في الأجناس و: إن عمرا ... البيت.

في الأعلام بالغلبة ، هذا شيء يوافق عليه من مارس اللّغة العربية ، ولم يجمد على القواعد الجدليّة.

الثاني : من تعليل الجمهور لرفع أفعل الظاهر أنّه لو لم يرفع الظاهر ، ورفع إمّا على أنّه مبتدأ مخبر عنه بالكحل أو خبره الحكل تقدّم عليه ، لزم منه أمر ممتنع وهو الفصل بين أفعل ومعموله بأجنبيّ منه ومعنى الأجنبي أنّه غير معمول له عمل الفعل فيه ، وإلّا فالفصل بالخبر أو بالمبتدأ والخبر ، ومعموله فصل بمعموله عند من يرفع أحدهما بالآخر ، والفصل بين العائد ومعموله بالأجنبيّ لا يجوز ، لأنّهما كالكلمة الواحدة.

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه (٤ / ٢٠٧١) رقم الحديث (٢٦٩٢).

٢٢٧

قيل : ولأنّ (أفعل) مع (من) كالمتضايفين ، ولا يفصل بينهما بأجنبيّ على قول الجمهور ، ولا بغيره إلّا لضرورة. وقد اعترض على هذا التعليل بأنّ الفصل إنّما يلزم على تقدير أن يتقدّم (أحسن) ويتأخّر (منه) ، أمّا على تقدير أن يتقدّم الكحل أو يتأخر عن منه بأن يقال : «ما رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه» ، أو «ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه الكحل» فلا يلزم ذلك المحذور. وأجاب بدر الدين ابن مالك ووافقه الحديثي بأنّ في تقديم الكحل تقديم غير الأهمّ لا لضرورة ، إذ الامتناع من رفع أفعل الظاهر ليس لعلّة موجبة إنّما هو لأمر استحسانيّ ، ولذلك اطّرد عن بعض العرب رفعه الظّاهر ، فيجوز التخلّف عن مقتضاه إذا زاحمه ما رعايته أولى ، وهو تقديم ما هو أهمّ ، وإيراده في الذّكر أتمّ ، وذلك صفة ما يستلزم صدق الكلام تخصيصه نفي صفة رجل في المسألة بأحسن قال : ألا ترى أنّك لو قلت : «ما رأيت رجلا» كان صدق الكلام موقوفا على تخصيص رجل بأمر يمكن أنّه لم يحصل لمن رأيته من الرجال ؛ لأنّه ما من راء إلّا وقد رأى رجلا ما ، فلمّا كان الصدق موقوفا على الخمصّص ، وهو الوصف ، كان تقديمه مطلوبا فوق كلّ مطلوب ، واغتفر ما يترتّب على التّقديم من الخروج عن الأصل ومطلوبيّة المخصّص في الإثبات دون مطلوبيّته في النّفي ، لأنّه في الإثبات يزيد الفائدة ، وفي النّفي يصون الكلام عن كونه كذبا ، فلا يقتضي ذلك جواز مثله في الإثبات. وهذا الكلام مع طوله واختصاري له قد يقال إنّ فيه (أحسن) وحده ليس صفة ، إنّما هو جزء الصّفة ، وكذا الكحل جزء الصّفة.

وأجاب عن تأخير الكحل عن (منه) بأنّه تجنب عن قبح اجتماع تقديم الضّمير على مفسّره وإعمال الخبر في ضميرين لمسمّى واحد ، وليس هو من أفعال القلوب. ويقال له : إنّك قد أوجبت على تقدير أن يرفع أن يكون الكحل مبتدأ ، وهو إذا تأخّر لم يضرّ عود الضمير عليه ولم يقبح ، نحو : «في داره زيد» ، وهل ذلك إلّا مثل : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] في الإعراب المشهور ، لكنّ جعله مبتدأ مخبرا عنه بالكحل هو قياس قول سيبويه في نحو : «من أبوك» لأنّه إذا وضع موضعه يبقى الكلام على وضعه ، وحينئذ يمتنع لعود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وتصير مثل : «صاحبها في الدّار» وينبغي أن يحمل قول الشيخ أبو عمرو في تقدير تقديم (منه) على (الكحل) أنّه يلزم منه عود الضّمير على غير مذكور ، على أنّه بناه على قاعدة سيبويه التي ذكرناها ، فإن قيل : هذا التعليل لا يتأتّى في العبارة الثالثة وهي : «ما رأيت كعين زيد أحسن فيها الكحل» فإنّ الرفع لا يحصل به ذلك المحذور ، قلت : هذه فرع الأولى فكما لا يجوز الرفع في الأصل كذا في الفرع ، ولأنّ المحذور واقع في التّقدير. وقال الرّشيد سعيد : قد جوّزوا في التقدير ما لا يجوز في

٢٢٨

غيره ، قلت : وإن كان كذلك فجوابه فقها كأنت طالق غدا و «لا تخرجي إلّا أن آذن لك» ، لكنّ الأصل أن يكون المقدّر كالملفوظ ، وإعمال الخبر في ضميرين لمسمّى واحد كاف في المنع. على أنّ ذلك مشكل أعني تعلّق (منه) ب (أحسن) في أصل المسألة ، إذا رفعت الكحل بأحسن ، لما يلزم من تعدّي فعل الظاهر إلى مضمره ، وقد تقدّم الكلام فيه ، ولعلّ الصفّار أخذ الإشكال عن ابن عصفور ، والانفصال عنه بأنّ الضمير الذي دخل عليه (من) هو كحل آخر غير الذي رفع ب (أحسن) فكذا هنا ، على أنّ هذا أيضا يتأتّى فيما إذا قدّم الكحل ولم يذكره ، وجنح إلى أمر طويل خطابيّ ، ولا يتكلّف له أن يقال : عود الضمير على متأخّر إنّما هو فيما جاء عن العرب ، وهذا لم يجئ ولا غيره من التكلّفات. واعلم أنّ هذين التعليلين مفهومان من كلام سيبويه ـ رحمه الله ـ وأورد بعضهم على التعليل الثاني ما قلناه ، وانفصل بأنّ سيبويه إنّما ذكر ذلك ليفرّق بين مسألة الكحل بترتيبها وبين مسألة «مررت برجل خير منه أبوه» (١). ولم يقل ليس لجواز الرفع محل آخر وقد صرّح الصفّار بجواز المسألة بالرفع على تقدير تقديم الكحل وعلى تقدير تأخيره عنه مثل أن يكون معطوفا على «من الناس» مقدّرا ، بأن يكون الكحل مبتدأ أمّا إذا كان خبرا فيمتنع تأخير الكحل لما ذكرناه. ونظير هذه المسألة على هذا التعليل من الحمل على أحسن القبيحين مسألة «ما قام إلّا زيدا أصحابك» ، وأصلها : ما قام أصحابك إلّا زيدا ، فدار الأمر حين التقديم بين الرفع الراجح والنصب المرجوح ، لمّا أنّ البدل لا يتقدّم ، ومسألة «مررت بزيد ورجل آخر قائمين» آثروا مجيء الحال من النكرة على وصف المعرفة بالنّكرة ، ومسألة «هذا مقبلا رجل» آثروا مجيء الحال من النكرة على تقديم الصّفة فتحمّلوا القبيح لدفع أقبح منه. ولعلّ هذا مراد الشيخ أبي عمرو في قوله لو لم يرفع الظاهر لكان مرفوعا بالابتداء وهو متعذّر لقصوره عن غيره ، أي : لأنّ الرفع بالابتداء قاصر عن الرفع على الفاعليّة لاستلزام ذلك الفصل ، وهذا وإن كان فعله رفع (أفعل) الظاهر فأمره أخفّ.

ولرفع (أفعل) الظاهر في هذه المسألة تعليل آخر مفهوم من كلام سيبويه أيضا اعتمد عليه شرّاحه وهي أنّ (أفعل) إذا كان لتفضيل الشيء على نفسه في موضعين فهي جارية على الأوّل في المعنى ، مع رفعها الظاهر ، فرفعه إذ ذاك كما يرفع الضمير ، لأنّك إنّما تفضّل بها المكان على غيره ، إذ لا تقدر أن تفضّل بها نفس الشيء نفسه. قال سيبويه : «ولكنّك زعمت أنّ للكحل هنا عملا وهيئة» (٢) يعني عملا من

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٤).

(٢) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

٢٢٩

الحسن ، وهيئة فيه ليست له في غيره ، فالمعنى : «ما رأيت أحدا عاملا في عينه الكحل من الحسن كعمله في عين زيد» وهذا في التقدير كقولك (١) : «ما رأيت أحدا تحسن عينه بالكحل كعين زيد» فهو ك : «ما رأيت أحدا يحسن بالكحل كحسن زيد» فهو ك «ما رأيت أحدا حسنا بالكحل كزيد» ، ولا يتأتّى ذلك في «مررت برجل خير منك أبوه» ، لأنّ فيه (أفعل) صفة للأب لأنّ تفضيل الأب على رجل ممكن فخلصت لما بعد.

وذكر ابن فلاح في (الكافي) تعليلين آخرين : أوّلهما : أنّها عملت في الظاهر في تفضيل الشيء على نفسه لأنّ ذاك بالنّسبة إلى المعاني غالبا يجري مجرى الضّمائر فرفعته كما ترفع الضمير. ثانيهما : أنّه لما اتّحد الفاضل والمفضول كأنّه عمل في شيء واحد فهذه خمس تعاليل لم أرها مجتمعة.

النظر الثاني في وجه اشتراط تلك الشّروط : أمّا اشتراط الموصوف وهو في عبارة ابن الحاجب في قوله : «لشيء» ، وفي عبارة التسهيل في قوله : «فصاحب أفعل» ، فقيل : ليتأتّى التفضيل وهو دعوى ، وقيل : لأنّ الأسماء العاملة لا بدّ لها من الاعتماد ، واعترض بأنّ ذلك يكفي فيه النّفي فنقول : «ما أحسن في عين رجل الكحل منه في عين زيد» كما تقول : «ما قام الزيدان» فرفع الوصف مكتفى به وأجيب بأنّ (أفعل) لم يقو قوّة اسم الفاعل ، ألا ترى أنّه لا ينصب المفعول به مطلقا على الصحيح ، ولو وجدت شروط رفعه للظّاهر ، بخلاف اسم الفاعل.

وأمّا السبب عند من اشترطه لأنّها صفة جرت في اللفظ على غير من هي له ، ولا بدّ منه لأنّه الذي رفعته (أفعل) ، وأمّا التفضيل ف (أفعل) وضعت له ، وكونه بين ضميرين ـ وهو المشار إليه بالاعتبارين ـ فلأنّ تفضيل الشيء على نفسه إنّما طريقه ذلك والنّفي لإمكان وقوع الفعل موقعه ، واغتنائه عنه ـ كما قرّرناه في التّعليل ـ بمعاقبة الفعل وهو ينتظم بالشروط السابقة لك وقد تقدّم أنّ بدر الدين بن مالك اشترط الأجنبيّة في مرفوعها وتقدّم الكلام معه ، والتوفيق بينه وبين من اشترط السببيّة.

فإن قلت : فأنت إذا قلت : «ما رأيت رجلا أحسن منه أبوه» أو «رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» يصحّ وقوع الفعل موقعه فقد أجاب عنه بدر الدين بأنّ المعتبر في اطّراد رفع أفعل التفضيل الظاهر جواز أن يقع موقع الفعل الذي يبنى منه مفيدا فائدته. ولو قلت في الأوّل : «يحسن أبوه كحسنه» لفاتت

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

٢٣٠

الدّلالة على التفضيل أو : «يحسنه أبوه» أي : يفوقه لكنت قد جئت بغير الفعل الذي بني منه «أحسن» وفاتت الدّلالة على الغريزة المستفادة من (أفعل) ... عينه الكحل كحسنه أو يحسن الكحل كحلا ، فاتت الدّلالة على التفضيل في الأوّل ، وعلى الغريزة في الثاني انتهى.

وهذا تقدّم أنّ مثله يقال في المثال المستجمع للشّرائط ، وتقدّم الجواب عنه فليطابق بينه وبين هذا.

واعلم أنّ رفع أفعل الظاهر على ما هو المختار مشروط بالشّروط السابقة ، لكن هل هذا لأفعل من أو لأفعل في جميع استعمالها؟ لم أجد من شفى العليل في هذه المسألة والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذا ينبني على الاختلاف في تعليل وجه قياس عدم عملها هل هو كونها لم تشبه الفعل كاسم الفاعل ، ولا الوصف المشبه للفعل ، وهي الصّفة المشبّهة في لحاق العلامات ، وهو ظاهر عبارة سيبويه ـ رحمه الله ـ أو كونها لم يوجد فعل بمعناها كما قاله الشيخ أبو عمرو وغيره. إن قلنا بالأوّل فينبغي إذا استعملت بالألف واللّام أن يجوز رفعها للظاهر فنقول : «هذا الرجل الأفضل أبوه» لا تثنّى وتجمع إذ ذاك ، وكذا إذا أضيفت لمعرفة نحو : «زيد أفضل الناس أبوه» لأنّه يجوز تثنيتها وجمعها حينئذ ، وإن قلنا بالثاني فلا ينبغي أن تعمل إلّا بالشروط والله تعالى أعلم.

فائدة

الكلام في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢]

قال الشيخ جلال الدين البلقيني في رسالة لوالده :

هذه الآية تنقض القاعدة وتكثر الفائدة ، لأنّ حورا جمع حورا ، وهو جمع لعاقل ، وقد جاءت صفته على الجمع مراعاة للتّكثير على ما قالواه ؛ لأنّ (مقصورات) معناه : مجعولات في القصور ، فلو جاء على الإفراد لكان : «حور مقصورة في الخيام» ، كما قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ) [الغاشية : ٨ ـ ٩] وكما قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية : ٢ ـ ٣].

وأما قوله تعالى : (... أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ) [التحريم : ٥] فيتعيّن أن يكون من هذا القسم وأنّ (مسلمات) صفة مجموعة ، ولا يجوز أن يكون بدلا لأنّ البدل إنّما يجيء عند التعذّر ، وقد نصّ النحاة على أنّ قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٢ ـ ٣] يجوز أن يكون الموصول تابعا ،

٢٣١

وأن يكون مقطوعا ، وعلى التّبعيّة فهو نعت لا بدل إلّا إذا تعذّر كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) [الهمزة : ١ ـ ٢] لامتناع وصف النّكرة بالمعرفة. ولا يجوز أن يكون نعتا للصّفة السّابقة وهو أفعل التّفضيل في قوله : (خَيْراً مِنْكُنَّ ،) لأنّ نصوص النحاة ـ على أنّ الصفة التي تنعت وينعت بها المشتقّات من أسماء الفاعلين وأسماء المفعولين ـ تمنع ذلك ، لأنّ خيرا ليس من أسماء الفاعلين ولا المفعولين ، فيقع نعتا ولا ينعت ـ ولا يحسن أن يكون حالا من أزواج ، وإن كان نكرة تخصّص بالوصف ، لأنّ الحمل على الوصف أولى من الحمل على الحال. ولا يجوز أن يكون حالا من الضّمير وامتناعه أوضح من أن يذكر لأنّ صاحب الحال المضمر ، وهو المتبدّل بهنّ ، والحال إنّما هو للمتبدّلات فبطل هذا. وقوله : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] إن شئنا جعلناه من هذا.

والذي أقوله : أنّ الوصف بكليهما وارد في القرآن والسّنّة فمن الجمع في السّنّة قوله عليه الصّلاة والسّلام : «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات» (١) لأنّ النساء والنّسوان والنّسوة جمع المرأة من غير لفظها ، كالقوم في جمع المرء. وإن جعلته اسم جمع خرج عن هذا الباب. ولكن الأكثر الإفراد. والله تعالى يمنحنا وإيّاكم مزيد الإمداد.

فكتب له والده رحمه الله ما نصّه :

قد ذكرنا في الدّرس يوم الخميس (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] وذكرنا أيضا : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] وقلنا : (مقصورات) لا يتعيّن أن يكون صفة بل يجوز أن يكون خبرا والمعنى عليه ، فإنّ القصد الإخبار عنهنّ بأنّهنّ ملازمات لبيوتهنّ ، لسن بطوّافات. ويكون قوله : (في الخيام) نظير قولك : «زيد محبوس في المكان الفلاني» فالخبر هو قولك محبوس.

وأمّا قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] فلأنّه لمّا قال : (فيهنّ) قابله بالجمع فقال : (خيرات) ، وقال (حسان) مراعاة للفواصل التي في السّورة من أوّلها إلى آخرها. والذي قبله من غير فاصل قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٦٨ ـ ٦٩] وأعقب ذلك بقوله : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ.)

وأمّا ما في : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] فهو كالذي في سورة القيامة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٢ / ١٦٨٠) رقم (٢١٢٨) ، وابن حبان في صحيحه (١٦ / ٥٠١).

٢٣٢

وأمّا (مسلمات) ففي بدليّته كلام «آخر ذكرناه وهو البدل المشتقّ وهو ضعيف» ولكن جوّزنا أن يكون حالا من الضمير في (خيرا منكنّ).

وّا حديث «نساء كاسيات عاريات ..» فهذا جاء على إحدى اللّغتين. والكلام على ما في القرآن الكريم والذّكر الحكيم. زادنا الله وإيّاكم من اليقين والتّوفيق والحكمة ، وأفاض علينا جميعا النّعمة ودفع عنا النّقمة آمين.

الكلام في قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ)

كتب الشيخ جلال الدين البلقيني إلى والده شيخ الإسلام سراج الدين ـ رحمهما الله ـ.

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، أسعد الله مساءكم وأزال عنكم ما ساءكم.

يقول الفقير أصلح الله شأنه وأزال عنه ما شانه : إنّ الزّمخشري في الكشّاف وقع عليه تعقّب من فيض الألطاف في قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) [النساء : ١٢٧] وذلك أنّ قال : «(ما) في محلّ الرّفع أي يفتيكم الله والمتلوّ في الكتاب «في معنى اليتامى يعني قوله» : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] وهو مثل قولك : «أعجبني زيد وكرمه» ، ويجوز أن يكون (ما يتلى عليكم) مبتدأ و (في الكتاب) خبره على أنّها جملة معترضة. ويجوز أن يكون مجرورا على القسم كأنّه قيل : قل الله يفتيكم فيهنّ وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ثمّ قال : (فإن قلت بم تعلّق قوله «في يتامى النّساء» قلت : في الوجه الأوّل هو صلة (يتلى) أي : يتلى عليكم في معناهنّ ، ويجوز أن يكون «في يتامى النّساء» بدلا من فيهنّ. وأمّا في الوجهين الآخرين فبدل لا غير) (١) ، انتهى كلامه.

وأقول : لا يصحّ على الوجه الأوّل ـ وهو أن يكون (ما) فاعلة ـ البدليّة من قوله (فيهنّ) ، والذي ذكره المعربون في ذلك ومنهم العكبري إنّما هو البدليّة من قوله : (في الكتاب). وإنّما لا يصح لوجهين :

أحدهما : أنّ قوله (فيهنّ) فيه ضمير عائد على النساء ، فهو مقصود في الجواب لأنّ الجواب عن حكم النّساء فجاء الجواب : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ،) أي : في

__________________

(١) انظر الكشاف (١ / ٥٦٧).

٢٣٣

النساء ، وأما قوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) ففيه التصريح بيتامى النساء فصار التقدير قل الله يفتيكم في النساء ، ويفتيكم المتلو في الكتاب في يتامى النساء ، فلا تصحّ البدليّة حينئذ من (فيهنّ) لاستلزام أن يكون الجواب أخصّ من السؤال لأنّ المسؤول عنه حكم النّساء ، ويجيء الجواب على تقدير البدل : قل الله يفتيكم في يتامى النّساء. وهذا وإن كان مقصودا بالحكم إلا أنّ الأول أيضا مقصود وهي أنّ الله يفتي عباده في أمر النّساء عموما ، ويفتيكم المتلوّ في الكتاب في يتامى النّساء خصوصا ، والجواب لا يكون أخصّ من السّؤال.

الوجه الثاني : أنّ قوله (فيهنّ) متعلّق بجملة : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ.) وقوله في يتامى النّساء متعلّق بجملة يفتيكم المتلوّ ، بناء على أنّ (ما) فاعلة ، ولا يبدل المتعلّق بجملة من المتعلّق بجملة أخرى.

وأمّا على الوجهين الأخيرين فلا تستقيم البدليّة لا من (الكتاب) ولا من (فيهنّ). أمّا من (فيهنّ) فلما قدّمناه من استلزام أن يكون الجواب أخصّ من السؤال ، وأمّا من (في الكتاب) فإنّ على هذين الوجهين المراد : والذي يتلى عليكم محفوظ في الكتاب. لأنّه قال : «المراد بالكتاب على هذا الوجه اللّوح المحفوظ ، مثل : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤] ، فلا يصحّ أن يبدل (في يتامى النّساء) من قوله : (في الكتاب) ؛ لأنّ ذلك ذكر للتّعظيم والمبدل منه في نيّة الطّرح ، فيؤدّي إلى فوات الأمر الذي سيق له (والذي يتلى عليكم في الكتاب) على معنى : أنّه تقرّر في الكتاب اللّوح المحفوظ.

وكذلك على القسم لأنّه يقسم بالأمر العام وهو ما يتلى في الكتاب على سبيل التّعظيم ، وأمّا الأمر الخاصّ ، وهو الذي يتلى في يتامى النّساء فلم يقسم به ، فلا تصحّ البدليّة على هذين الوجهين بوجه. وإذا بطلت البدليّة فلا يصحّ له حينئذ أن تكون الجملة اعتراضيّة ولا قسميّة إلا إذا علّق (في يتامى النساء) بقوله : (يتلى عليكم في الكتاب) ، مع أنّهما إعرابان مخترعان لم يسبقه إليهما أحد.

فالمسؤول تأمّل هذه الاعتراضات وهل هي صحيحة أم لا ، والله يديم انتفاع النّاس بوجود من يزيل عنهم الباس.

فكتب إليه والده :

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، اللهمّ صلّ وسلّم على سيّدنا محمّد سيّد السادات من أهل الأرض والسّماوات وعلى آل سيّدنا محمّد وأصحابه وأتباعه وأحبابه.

٢٣٤

أسعد الله صباحكم وأدام سعدكم ونجاحكم. لقد أبديتم أفنانا وقلّدتم امتنانا وأقول في الجواب والله الموفّق للصواب : إنّ قول الزّمخشري : «والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى يعني قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] الآية التي فيها ذكر اليتامى في الخوف ألّا يقسط لهنّ وهي المذكور فيها : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] فجوّز أن يكون «في يتامى النساء» بدلا من (فيهنّ) فيصير التقدير : والمتلوّ في الكتاب في الآية التي فيها ذكر اليتامى ممّا يتعلّق بالنّساء هو قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ،) وإذا اختصرت قلت : التقدير : قل الله يفتيكم فيهنّ والمتلوّ في الكتاب فيهنّ ، وذلك المتلوّ هو في الآية التي فيها ذكر اليتامى ، كما تقول إذا سألك سائل عن المحجور عليهم : العالم يفتيك فيهم والمقرّر في الجامع في حجر الصّبيّ ـ وكان قد ذكر في حجر الصّبيّ ما يتعلّق بعموم المحجور عليهم ـ وبذلك يظهر أنّ الجواب ليس أخصّ من السّؤال بل هو مساو له. وأمّا التعلّق فإنّ قوله (فيهنّ) يتعلّق بقوله (يفتيكم) ، وقوله : (في يتامى) يتعلّق بقوله (يفتيكم) أيضا على إعراب البدل. وإنّما يتعلّق بقوله (يتلى) على غير البدل.

وما ذكرتموه على الوجهين الآخرين ، فالبدليّة من «في الكتاب» لم يتعرّض لها الزّمخشري ، والبدليّة من (فيهنّ) قد تقدّم أنّها مساوية بما قرّرنا ، وهي متعيّنة على الاعتراض والقسم ، وصار التقدير : قل الله يفتيكم فيهنّ. ثمّ الكلام اعترض بقوله : والذي يتلى عليكم ثابت في اللّوح المحفوظ ، ثمّ عاد إلى تمام الأوّل وقال : («فِي يَتامَى النِّساءِ)» والتقدير : قل الله يفتيكم «فيهنّ في المذكور في قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ، وذكر «في يتامى» للإعلام بموضعه. وعلى القسم يصير التّقدير : قل الله يفتيكم فيهنّ وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. ثمّ عاد إلى تمام الأوّل بالبدليّة المذكورة وجوّز الزّجاج أن يكون (ما) في محلّ خفض ، قال : وهو بعيد جدا لأنّ الظاهر لا يعطف على المضمر. وهذا الذي قدّمته هو الذي ظهر بعد التأمّل ، وهكذا يكون التّرسّل ، والفقير يرغب إلى الله في أن تكون خليفتي ، وأكثر بذلك التّوسّل. اللهمّ أجب سؤالي وأصلح حال خليفتي وحالي آمين.

الاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في (وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ :) للشيخ سراج الدين البلقيني رحمه الله تعالى :

أمّا بعد حمد الله الذي جعل علماء الشّريعة هم أهل العلم المبين وأقامهم لحفظ الشّرع المحمّديّ وفهم الكتاب المبين ، ومنحهم الثبات في الدّين ، فسلّوا سيوفهم على الزّنادقة المارقين ، وجعل على منطقهم من الفصاحة ما يظهر لكنة منطق المتفلسفين ، وحفظ عقولهم السّليمة من رديء العقول ، فاستقاموا على

٢٣٥

الطّريق المستبين. والصلاة والسّلام على عبده محمّد المخصوص بالشّرع العامّ المفضّل على الخلق أجمعين ، وعلى آل محمّد وأصحابه وأزواجه وذرّيّته والتّابعين.

فإنّه لمّا حضر كاتب هذه الأوراق ، الفقير إلى عفو الله الخلّاق مجلس مولانا المعزّ الأشرف ، محبّ العلم والعلماء ، حبيب الأخيار الحلماء السّيفي ملكتمر المارداني ، بلّغه الله في الدّنيا والآخرة حسن الأماني ، تغيّر بعض من حضر بما تفضّل به من الإحسان وغمر ، في حقّ محبّه الفقير إلى عفو الله عمر ، فلمّا وقع الكلام في المتعة قال بعض الحاضرين قولا فمنعه ، ثمّ انتشر الكلام في الاستدلال ، وظهر من المتحمّلين في الكلام كثير من الاختلال ثم حصل بعد ذلك السّكون ، وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون ، ثم قرأ قارئ من القرآن العظيم آيات يعلم السبيل إلى فهمها العلماء الأثبات منها : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] ، ولم يكن في عزم كاتبه العود إلى الكلام مع أحد من الحاضرين ، لما يقع في ذلك من اللّغط ، وذلك مظنّة الغلط ، فقال بعضهم في الاستثناء إشكال ، ولم يكمل في المقال ، ولم يقتصر على السؤال ، وكان كاتبه ضيّق عليه في ذلك المجال ، إلى أن أرحته بالانتقال إلى الجواب ، فقلت والله الموفّق للصواب :

الجواب عن ذلك من أوجه أربعة : من لغط فقد قرّر أمره على المنازعة بغير علم وأزمعه وهنّ : أنّه يجوز أن تكون (إلّا) بمعنى الواو أو الاستثناء من محذوف ، أو من قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) أو منقطع. وفي أثناء ذلك كلام المتعصّبين لإقامة الشّرّ لا ينقطع ، فقصدت بهذا التّصنيف تقرير الأوجه في ذلك ، وإيضاح القول فيه والمسالك.

فأقول : وجه الإشكال أن يقال : لا يصحّ أن يكون الاستثناء من قوله (وما يعزب) إذ يصير المعنى : وما يبعد وما يغيب إلّا في كتاب مبين ، وهذا فاسد ولا يصحّ أن يكون الاستثناء من قوله (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) رفعت أو فتحت لأنّ الرّفع للعطف على محلّ مثقال ، والفتح للعطف على لفظه ، وهو في موضع الجرّ لامتناع الصّرف في أصغر وأكبر للصّفة والوزن. وحينئذ فيشكل الاستثناء. وهذا الأخير لم يقرّره من كان يستشكل بل اقتصر على الأوّل ، ولم يكمل الكلام لذهوله عن الثاني وتمام الكلام أنّ الاستثناء ممّا ذكر على ما تقرّر لا يصحّ. ولا مذكور فيما ذكر يستثنى منه الأوّل ، والأصل عدم الحذف وبتقديره فما هو. وبلغني من بعض العلماء الأعلام أن بعض من حضر المجلس له مدّة يسأله عن هذا السؤال بعينه وتردّد له في ذلك مرات في أوقات قريبة من هذا المجلس ، ولم يكن عندي علم من ذلك إلّا

٢٣٦

بعد وقوعه وظهور ما كانوا يكتمون ، والله يكتب ما يبيّتون. ولما حصل الكلام في ذلك فتح الله عليّ على الفور بأجوبة أربعة فأردت أن أرتّبها بأن أخرج (إلّا) عن الاستثناء إلى العطف أو أجعلها على بابها ، والاستثناء من محذوف ملتزما العطف في (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) على اللفظ أو المحلّ ، أو لا ألتزم ذلك فيكون من (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) بتقدير الابتداء رفعا ، أو نصبا و (لا) لنفي الجنس. وآخر ما ذكرت أن يكون الاستثناء منقطعا. فلمّا أخذت في الكلام على الأوّل وقعت المنازعة فيه لغرابته عندهم واعتقادهم أنّه لم يقل أو لم يقل مثله في القرآن العظيم ، وكلّ من الاعتقادين غير صحيح :

أمّا الأوّل : فقد صرّح جمع من النحاة بنقل ذلك عن جماعة من النحاة المتقدّمين ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني : فقد ذكره جمع من المفسّرين والمعربين في قول الله تعالى في سورة هود : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٨].

وكان من جملة كلام بعض من حضر : يفسد المعنى على هذا التّقدير ، لأنّه يكون التقدير : «ولا في كتاب مبين» فقلت له في الجواب : الكلام في تقدير (إلّا) بالواو ولا ب (ولا).

ثمّ قلت : وكيف يفسد والمعنى صحيح على تقدير (ولا) ، لأنّ التقدير حينئذ : وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ولا في كتاب مبين ، والمعنى كلّ كائن في الأرض وفي السماء ، وفي أصغر من ذلك ، وفي أكبر منه ، وفي كتاب مبين ، لا يعزب منه شيء عن ربّك. وعلى تقدير الواو يصير التقدير : وذلك ، أو وهو في كتاب مبين. وكان وقع من استشهادي في المجلس ما قال الشّاعر : [الوافر]

٧٥١ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

__________________

٧٥١ ـ الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه (ص ١٧٨) ، ولسان العرب (ألا) والممتع في التصريف (١ / ٥١) ، والكتاب (٢ / ٣٥٠) ، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة (ص ٩٠) ، وحماسة البحتري (ص ١٥١) ، والحماسة البصرية (٢ / ٤١٨) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٤٦) ، والمؤتلف والمختلف (ص ٨٥) ، ولعمرو أو لحضرمي في خزانة الأدب (٣ / ٤٢١) ، والدرر (٣ / ١٧٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢١٦) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى (٢ / ٨٨) ، والجنى الداني (ص ٥١٩) ، وخزانة الأدب (٩ / ٣٢١) ، ورصف المباني في (ص ٩٢) ، ومغني اللبيب (١ / ٧٢) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٣٤) ، وشرح المفصّل (٢ / ٨٩) ، وفصل المقال (ص ٢٥٧) ، والمقتضب (٤ / ٤٠٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٢٩).

٢٣٧

فعدلوا عن البحث فيه وعن المعنى إلى أنّ ذلك لا يقال في القرآن. وقال بعضهم : (إلّا) بمعنى الواو لا تعطف الجمل ، ولا يقدّر في القرآن. وهذا من العجيب فقد حمل الأخفش على ذلك قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] واستشهد على ذلك بقول الشاعر : [الكامل]

٧٥٢ ـ وأرى لها دارا بأغدرة السّ

يدان لم يدرس لها رسم

إلّا رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم

أي : وأرى لها دارا ورمادا. وقال الفرّاء في قوله تعالى ـ وحكى عنه ذلك مكّيّ واستحسنه ـ فقال : «قوله تعالى :  (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] ، حمل هذا اللّفظ على ظاهره وجعل قوله : (إلّا في كتاب) متّصلا بما قبله أوجب أنّ أشياء تعزب عن الله ، وهي في كتاب مبين ، تعالى الله عن ذلك. ومثله في الأنعام : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) [الأنعام : ٥٩] ، ولكن (إلّا) وما بعدها منقطعة ممّا قبلها على إضمار بعد (لا) تقديره : وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر تمّ الكلام ، فلا شيء يعزب عنه لا إله إلّا هو ، ثمّ ابتدأ فقال : (وهو في كتاب مبين) و (إلا) في موضع الواو و (هو) مضمرة». قال أبو محمّد مكّيّ عقب حكايته ذلك : «هذا قول حسن لو لا أنّ جميع البصريّين لا يعرفون (إلا) بمعنى الواو». وكذلك قال مكّيّ : «وكذلك قال قوم في قوله تعالى : (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] : إنّ معناه واللّمم». قال مكي : «وكون إلّا بمعنى الواو بعيد شاذّ ، ولو جعلت (إلّا) بمعنى (لكن) لكان أقرب وأجود ، فكأنّه قال : لكن هو في كتاب مبين ، وهذا أحسن في التأويل والاستعمال من قول صاحب الكتاب : إنّ (إلّا) بمعنى الواو. وكون (إلّا) بمعنى (لكن) مستعمل كثير ، وكونها بمعنى الواو لا يعرف فحمل الكلام على المعروف المستعمل أولى. والإضمار لا بدّ منه في القولين جميعا ، وبه يتمّ الكلام» انتهى ما ذكر مكّيّ ، وقد علمت منه أمورا :

أحدها : أنّ الجرجانيّ جوّز ما جوّزناه.

الثاني : أنّ مكّيّا استحسنه إذ قال : لو لا أنّ جميع البصريّين لا يعرفون (إلّا) بمعنى الواو. وعلى مكّيّ في ذلك اعتراض فقد سبق لك النقل عن الأخفش سعيد بن

__________________

٧٥٢ ـ البيتان للمخبل السعدي في ديوانه (ص ٣١٢) ، والبيت الأول في اللسان (إلا) ، وبلا نسبة في تاج العروس (إلا) ، والبيت الثاني بلا نسبة في لسان العرب (خلد) ، وتاج العروس (خلد).

٢٣٨

مسعدة المجاشعي وهو من رؤوس البصريّين أنّ (إلّا) تأتي بمعنى الواو ، ولذلك قال في (التسهيل) في باب العطف في حروفه فقال : «ولا (إلّا) خلافا للأخفش والفرّاء» (١).

الثالث : أن قوما خرّجوا على ذلك (إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] ، وظهر لك بذلك (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ـ ١١] ، عن بعض النّحويّين أنّ (إلّا) بمعنى الواو. وأجاز الفرّاء أن تكون إلّا بمعنى الواو في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٨].

فإذا كان الأخفش وهو من رؤوس نحاة البصرة ، والفرّاء وهو من رؤوس نحاة الكوفة يقدّران ذلك في كتاب الله تعالى ، بل وفيه الحذف أيضا ، وكذلك من حكى عنه الفرّاء. وقد جوّز ذلك في هذه الآية بعينها أبو عليّ الحسن بن يحيى الجرجانيّ. وإنكار هذا الأمر يدلّ على قلّة الممارسة بالعلوم ، والقول إذا حكي لا يلزم من حكايته اختياره ، مع أنّه لا محذور في اختياره في العقيدة ولله الحمد ، إنّما المحذور في العقائد الأفعال المنكرة التي يأباها الكرام البررة. مشيرا إلى هذا الحال بحمد الله معتقدي صحيح وما أنا عن مقال الحقّ زائغ وهذه الآيات التي سيقت ، فكيف ينكر هذا ذلك الكلام على الاستثناء فيها وإنما الكلام على ما نحن بصدده.

ولنقدّم الكلام على الاستثناء من المذكور ثمّ نذكر بعد ذلك الاستثناء من المقدّر فنقول : كان سبق في الأجوبة التي ذكرناها أن يكون الاستثناء من قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) على الرّفع على الابتداء ، أو الفتح على أنّ (لا) لنفي الجنس. وهذا هو الذي جزم به الزّمخشري فقال : «(وما يعزب) ، قرئ بالضمّ والكسر : وما يبعد وما يغيب ، ومنه الرّوض العازب (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) القراءة بالرّفع والنصب ، والوجه النصب على نفي الجنس ، والرّفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه. وفي العطف على محل (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أو على لفظ (مثقال ذرّة) فتحا : في موضع الجرّ لامتناع الصرف إشكال ، لأنّ قولك : لا يعزب عنه شيء إلّا في كتاب مشكل» (٢) انتهى ما قرّره الزمخشري وكأنّه قصد بذلك ما نقل عن أبي عليّ الفارسيّ من أنّ الرفع في ذلك للعطف على المحلّ والفتح فيه للعطف على اللّفظ. وقد قال السّخاوي شارح (الشاطبيّة) ـ رحمه الله تعالى ـ متكلّما على قول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ : [الرجز]

٧٥٣ ـ ويعزب كسر الضمّ مع سبأ رسا

وأصغر فارفعه وأكبر (ف) يصلا

__________________

(١) انظر تسهيل ابن مالك (ص ١٧٤).

(٢) انظر الكشّاف (٢ / ٢٤٣).

٧٥٣ ـ انظر شرح الشاطبية (ص ٢١٩).

٢٣٩

«عزب يعزب ويعزب : إذا غاب ونأى ، وهما لغتان ، ومنه الأرض العازبة ، والرّوض العازب : البعيد. والوجه في رفع (أصغر) الابتداء ، فهو كلام مستقلّ بنفسه والنصب على نفي الجنس.

وقال أبو عليّ في الرّفع : هو حمل على موضع الجارّ والمجرور في (من مثقال) وهو رفع كما في (كفى بالله).

وقال في النّصب : إنّه معطوف على لفظ (مثقال) أو (ذرّة) إلّا أنّه لا ينصرف ، للصّفة والوزن ، تابعه على ذلك الجميع فيصير التقدير على ذلك : لا يعزب عنه شيء إلّا في كتاب وهذا فاسد» انتهى.

وليس ما ذكره أبو عليّ بفاسد إذا جعلنا الاستثناء من محذوف ، أو منقطعا كما هو الجوابان الباقيان وكأنّ الحامل لأبيّ عليّ الفارسي على ذلك بالنّصب أيضا لنفي الجنس فلمّا كان العطف هو المقصود واتّفقت السّبعة هناك على الرّفع عطفا على مثقال ، واختلفوا في آية يونس نظرا إلى اختلاف حالتي العطف وهذا الحال ضعيف.

وكان أراد بعض من حضر أن يقرّره بعكسه. وجوابه : أنّ القراءة سنّة متّبعة فلا يلزم من الاتّفاق في موضع حمل المختلف فيه عليه لوجود المانع هنا مع الاتّصال. على أنّ في آية سبأ تخريجا قاله الزّمخشري يأتي إن شاء الله تعالى.

ولنعد إلى الكلام على الجوابين الأخيرين فنقول : وعلى الانقطاع جرى جمع من المعربين ، وجزم به العكبري في إعرابه فقال : («وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) بفتح الرّاء في موضع جرّ لذرّة أو لمثقال على اللّفظ ويقرآن بالرّفع حملا على موضع (من مثقال) إلّا في كتاب (أي : إلّا هو في كتاب) والاستثناء منقطع» (١) وقدّمه صاحب تبصرة المتذكّر فقال : («إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) منقطع.» وقال على الذي جزم به الزّمخشري : «وزعم بعضهم : (ولا أصغر) إلا (مبين) جملة مستقلّة بنفسها وجعل الاستثناء متّصلا وفتح (ولا أصغر) و (لا أكبر) على نفي الجنس ورفعهما على الابتداء. فعلى هذا ينبغي أن يقف على (في السماء)».

والقول بأنّ الاستثناء منقطع هل يرد ، وهل وقع في القرآن العظيم أم لا ، وهي مسألة معروفة لا نطيل بذكرها :

وأمّا الجواب الآخر وهو أن يكون الاستثناء من محذوف فتقديره : ولا شيء إلّا

__________________

(١) انظر إملاء ما منّ به الرحمن (٢ / ١٧).

٢٤٠