الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

لا يلاصق الجزاء الشرط كذلك الفاء ، ألا ترى أن الفاء في قولك : «إن يقم زيد فعمرو يكرمه» قد فصل بينها وبين الشرط زيد ، وكذلك إذا قلت : «إن تقم فعمرو يكرمك» فقد فصل بين الشرط وبين الفاء الضمير المستكن فيه ، فلما نزلت أما منزلة الفعل الذي هو الشرط لم يجز أن تلاصقه الفاء.

فإن قال قائل : هل يجوز أن تكون عاطفة هذه الفاء زائدة لحذفها في الشعر.

قيل : لا يخلو أن تكون عاطفة أو زائدة أو جزاء ، فلا يجوز أن تكون عاطفة لدخولها على خبر المبتدأ وخبر المبتدأ لا يعطف على المبتدأ ، ولا يجوز أن تكون زائدة لأن الكلام لا يستغني عنها في حال السعة فلم يبق إلّا أن تكون جزاء.

وإذا عرفت هذا فالفاء بعد (أمّا) لازمة لما ذكرت لك من نيابة (أمّا) عن الشّرط وحرفه ، فإن حذفها الشاعر فللضّرورة كما جاز له حذفها من جواب الشّرط كقول عبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت (١) : [البسيط]

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله سيّان

كان الوجه أن يقول : فالله. ومثل حذفها من قوله (٢) : [الطويل]

فأمّا القتال لا قتال لديكم

[ولكنّ سيرا في عراض المواكب]

حذفها من قول بشر بن أبي خازم : [المتقارب]

٦٨٢ ـ وأمّا بنو عامر بالنّسار

غداة لقوا القوم كانوا نعاما

ومع هذا التشديد في حذف الفاء من جواب (أمّا) قد جاء حذفها في التّنزيل : ولكنّه حذف كلا حذف ، وإنّما حسّن ذلك حتّى جعله كطريق مهيع حذفها مع ما اتّصلت به من القول ، والقول قد كثر حذفه في التّنزيل لأنّه جار في حذفه مجرى المنطوق به ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ، أي : يقولون سلام عليكم. ومثله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] ، أي : يقولان : ربّنا تقبّل منّا. ومثله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢]. والآية التي ورد فيها

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٢٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٦٧٧).

٦٨٢ ـ الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه (ص ١٩٠) ، ولسان العرب (نعم) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٧٢٢) ، ولسان العرب (طعم).

١٨١

حذف الفاء قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] التقدير : فيقال لهم أكفرتم فحذفها هاهنا من أحسن الحذوف وأجراها في ميدان البلاغة.

والغالب على (أمّا) التكرير كقوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] ، ثمّ قال : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) [الكهف : ٨٠] ، ثمّ قال : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ) [الكهف : ٨٢] ، وقد جاءت غير مكرّرة في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء : ١٧٤ ـ ١٧٥].

واعلم أنّ (أمّا) لمّا نزّلت منزلة الفعل نصبت ، ولكنّها لم تنصب المفعول به لضعفها ، وإنّما نصبت الظّرف الصحيح كقولك : «أمّا اليوم فإنّي منطلق» و «أمّا عندك فإنّي جالس» وتعلّق بها حرف الظّرف في نحو قولك : «أمّا في الدار فزيد نائم». وإنّما لم يجز أن يعمل ما بعد الظّرف في الظّرف ، لأنّ ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها ، وعلى هذا يحمل قول أبي عليّ : «أمّا على أثر ذلك فإنّي جمعت» ، ومثله قولك : «أمّا في زيد فإني رغبت». ف (في) متعلّقة ب (أمّا) نفسها في قول سيبويه وجميع النحويّين إلّا أبا العبّاس المبرّد فإنّه زعم أنّ الجارّ متعلّق برغبت ، وهو قول مباين للصحّة ، خارق للإجماع ، لما ذكرته لك من أنّ (إنّ) تقطع ما بعدها عن العمل فيما قبلها فلذلك أجازوا : «زيدا جعفر ضارب» ولم يجيزوا «زيدا إنّ جعفرا ضارب» فإن قلت : «أمّا زيدا فإنّي ضارب» فهذه المسألة فاسدة في قول جميع النحويّين لما ذكرته لك من أنّ (أمّا) لا تنصب المفعول الصّريح ، وأنّ (إنّ) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وهو في مذهب أبي العبّاس جائز وفساده واضح.

المسألة الثانية (١) : أمّا مجيء الفاعل المضمر مفردا في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠ ، ٤٧] ، وكذلك في التثنية إذا قلت : (أرأيتكما) وفي خطاب جماعة النّساء إذا قلت : (أرأيتكنّ) ، فإنّما أفرد الضمير في هذا النحو لأنّه لو ثنّي وجمع فقيل (أرأيتماكما) و (أرأيتموكم) و (أرأيتنّكنّ) كان ذلك جمعا بين خطابين ، ولا يجوز الجمع بين خطابين ، كما لا يجوز الجمع بين استفهامين ، ألا ترى أنّك إذا قلت : (يا زيد) فقد أخرجته بالنّداء من الغيبة إلى الخطاب لوقوعه موقع الكاف من قولك : (أدعوك) و (أناديك) ، فلذلك قال الشاعر : [الكامل]

__________________

(١) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٢).

١٨٢

٦٨٣ ـ يا أيّها الذّكر الّذي قد سؤتني

وفضحتني وطردت أمّ عياليا

وكان القياس أن يقول : ساءني ، وفضحني ، وطرد ، لأنّ (الذي) اسم غيبة ولكنّه لمّا أوقع (الذي) صفة للذّكر وقد وصف المنادى بالذّكر جاز له إعادة ضمائر الخطاب إليه. ويوضّح لك هذا أنّك تقول : (يا غلامي) ، و (يا غلامنا) ، و (يا غلامهم) ، ولا تقول : (يا غلامكم) ، لأنّه جمع بين خطابين خطاب النّداء ، والخطاب بالكاف ، فلذلك وحّدوا التّاء في التثنية والجمع ، وألزموها الفتح في الحالين وفي خطاب المرأة إذا قلت : (أرأيتك) لأنّهم جرّدوها من الخطاب.

المسألة الثالثة (٢) : أمّا حدّ الاسم فإنّ سيبويه حدّ الفعل ولم يحدّ الاسم لما يعتور حدّ الاسم من الطّعن ، وعوّل على أنّه إذا كان الفعل محدودا ، والحرف محصورا معدودا ، فما فارقهما فهو اسم. وحدّ بعض النحويّين المتأخّرين الاسم فقال : «الاسم كلمة تدلّ على معنى في نفسها ، غير مقترنة بزمان محصّل» ، وإنّما قال : تدلّ على معنى في نفسها ، تحرّزا من الحرف ، لأنّ الحرف يدلّ على معنى في غيره. وقال : «غير مقترنة بزمان» ، تحرّزا من الفعل ، لأنّ الفعل وضع ليدلّ على الزّمان. ووصف الزّمان بمحصّل ليدخل في الحدّ أسماء الفاعلين ، وأسماء المفعولين ، والمصادر ، من حيث كانت هذه الأشياء دالّة على الزّمان ، لاشتقاق بعضها من الفعل ، وهو اسم الفاعل ، واسم المفعول ، واشتقاق الفعل من بعضها وهو المصدر ، إلّا أنّها تدلّ على زمان مجهول ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «ضربي زيدا شديدا» احتمل أن يكون الضّرب قد وقع ، وأن يكون متوقّعا وأن يكون حاضرا.

وممّا أعترض به على هذا الحدّ قولهم : «آتيك مضرب الشّول ومقدم الحاجّ ، وخفوق النّجم» لدلالة هذه الأسماء على الزّمان مع دلالتها على الحدث الذي هو الضّراب ، والقدوم ، والخفقان ، فقد دلّت على معنيين.

وأسلم حدود الاسم من الطّعن قولنا : الاسم ما دلّ على مسمّى به دلالة الوضع. وإنّما قلنا : (ما دلّ) ولم نقل «كلمة تدلّ» ، لأنّنا وجدنا من الأسماء ما وضع من كلمتين ك «معدي كرب» ، وأكثر من كلمتين ك «أبي عبد الرّحمن» ، وقلنا : «دلالة الوضع تحرّزا ممّا دلّ دلالتين : دلالة الوضع ، ودلالة الاشتقاق ، ك «مضرب الشّول» وإخوته ، وذلك أنّهنّ وضعن ليدللن على الزّمان فقط ، ودللن على اسم الحدث لأنّهنّ

__________________

٦٨٣ ـ الشاهد لأبي النجم العجلي في المقتضب (٤ / ١٣٢) ، وأمالي ابن الشجري (٢ / ١٥٢).

(١) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٢).

١٨٣

اشتققن منه ، فلسن كالفعل في دلالته على الحدث والزمان ، لأنّ الفعل وضع ليدلّ على هذين المعنيين معا ، فقولنا : (دلالة الوضع) يزيح عن هذا الحدّ اعتراض من اعترض على الحدّ الأوّل بمضرب الشّول وإخوته. فإذا تأمّلت الأسماء كلّها حقّ التأمل وجدتها لا يخرج شيء منها عن هذا الحدّ على اختلاف ضروبها في الإظهار والإضمار ، وما كان واسطة بين المظهر والمضمر ، وذلك أسماء الإشارة ، وعلى تباين الأسماء في الدّلالة على المسميّات من الأعيان والأحداث ، وما سمّيت به الأفعال من نحو : (صه) و (إيه) و (رويد) و (بله) و (أفّ) و (هيهات) ، فالمسمّى ب (صه) قولك أسكت ، وب (إيه) حدّث ، وب (رويد) أمهل ، وب (بله) دع وب (أفّ) أتضجّر ، وب (هيهات) بعد ، وكذلك ما ضمّن معنى الحرف نحو : (متى) و (أين) و (كم) و (كيف) ، (فمتى) وضع ليدلّ على الأزمنة ، و (أين) على الأمكنة ، و (كم) على الأعداد ، و (كيف) على الأحوال.

وهذه الكلم ونظائرها من نحو : (من) و (ما) و (أيّان) و (أنّى) ممّا طعن به على الحدّ الأوّل لقول قائله : «كلمة تدلّ على معنى في نفسها» فقال الطّاعن : إنّ كلّ واحد من هذه الأسماء قد دلّ على الاستفهام أو الشّرط وعلى معنى آخر كدلالة (أين) على المكان وعلى الاستفهام أو الشّرط وكذلك (متى) و (من) و (ما) فقد دلّ الاسم منها على معنيين كدلالة الفعل على معنيين : الزمان المعيّن والحدث.

وليس لمعترض أن يعترض بهذا على الحدّ الذي قرّرناه لأنّنا قلنا : «ما دلّ على مسمّى به دلالة الوضع ولم نقل ما دلّ على معنى».

المسألة الرابعة (١) : السؤال عن قول الشاعر ـ وهو يزيد بن الحكم الثّقفيّ (٢) ـ : [الطويل]

فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

تعريب هذا البيت قد تقدّم فيما سلف من الأمالي ولكنّا أعدنا تعريبه هاهنا لزيادة فائدة وإيضاح مشكل ، ولكونه في جملة المسائل الواردة.

فنقول : إنّ اسم (ليت) محذوف وهو ضمير الشّأن والحديث. وحذفه ممّا لا يسوغ إلّا في الضّرورة ومثله : [الطويل]

__________________

(١) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٤).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٦٧٨).

١٨٤

٦٨٤ ـ فليت دفعت الهمّ عنّي ساعة

فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال

ألا ترى أنّ (ليت) لا تباشر الأفعال ، فلو لم يكن التقدير : (فليته) لم تجز ملاصقته للفعل. ومن ذلك قول الآخر : [الخفيف]

٦٨٥ ـ إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب

انجزام (ألمه) دلّ على أنّ (من) شرطيّة ، وإذا كانت شرطيّة لم يكن بدّ من الفصل بينها وبين (إنّ) ، لأنّ أسماء الشّرط حكمها حكم أسماء الاستفهام في أنّ العامل فيها يقع بعدها كقولك : «أيّهم تكرم أكرم» ، كما تقول إذا استفهمت «أيّهم أكرمت» ونظير ذلك قول الآخر : [الخفيف]

٦٨٦ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء

وأنشد سيبويه : [الطويل]

٦٨٧ ـ ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه

بعدّته ينزل به وهو أعزل

الأعزل الذي لا سلاح معه وعلى هذا قول أبي الطّيّب أحمد بن الحسين : [الطويل]

٦٨٨ ـ وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكنّ من يبصر جفونك يعشق

وإذا عرفت هذا فإنّ (كفافا) خبر (كان) ، و (خيرك) اسمها ، (كلّه) توكيد له

__________________

٦٨٤ ـ الشاهد لعديّ بن زيد في ديوانه (ص ١٦٢) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٩٧) ، ونوادر أبي زيد (ص ٢٥) ، وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ١٨٣) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٤٤٥) ، والدرر (٢ / ١٧٧) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٩٨) ، وهمع الهوامع (١ / ١٣٦).

٦٨٥ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ٣٨٥) ، والإنصاف (ص ١٨٠) ، وخزانة الأدب (٥ / ٤٢٠) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٨٦) ، والكتاب (٣ / ٨٣) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١١٤) ، وشرح شواهد المغني (ص ٩٢٤) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٧٥) ، وشرح المفصل (٣ / ١١٥).

٦٨٦ ـ الشاهد للأخطل في خزانة الأدب (١ / ٤٥٧) ، والدرر (٢ / ١٧٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩١٨) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ١٥٨) ، وخزانة الأدب (٥ / ٤٢٠) ، ورصف المباني (ص ١١٩) ، وشرح المفصّل (٣ / ١١٥) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٧) ، وهمع الهوامع (١ / ١٣٦).

٦٨٧ ـ الشاهد لأمية بن أبي الصلت في الكتاب (٣ / ٨٤) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٤٥٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٠٢) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب (١ / ٢٩٢).

٦٨٨ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ٢ / ٤٨) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٩١).

١٨٥

والجملة التي هي : كان واسمها وخبرها ، خبر ليت ، فالتقدير : ليته أي ليت الشأن كان خيرك كلّه كفافا عنّي ، أي كافّا. ومن روى (وشرّك) رفعه بالعطف على قوله : (خيرك) فدخل في حيّز كان فكأنّه قال : وكان شرّك ، فغير أبي عليّ يقدّر خبر (كان) المضمر محذوفا دلّ عليه خبر (كان) المظهر ، ويقدّر المحذوف بلفظ المذكور ، وهو القياس. ونظير ذلك في حذف الخبر لدلالة الخبر الآخر عليه وهما من لفظ واحد قول الشّاعر (١) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

أراد : نحن بما عندنا راضون ، فحذفه لدلالة (راض) عليه. ومثله في دلالة أحد الخبرين على الآخر في التّنزيل : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] التقدير : والله أحقّ أن يرضوه ورسوله أحقّ أن يرضوه ، ولو كان خبرا عنهما : لكان (يرضوهما). فالتقدير على هذا : وكان شرّك كفافا. وهذا على أن يكون (ارتوى) مسندا إلى (مرتوي).

وذهب أبو عليّ إلى أنّ الخبر (مرتوي) وكان حقّه (مرتويا) ولكنّه أسكن الياء لإقامة الوزن والقافية ، وهو من الضّرورات المستحسنة لأنّه ردّ حالة إلى حالتين ، أعني أنّ الشاعر حمل حالة النّصب على حالة الرّفع والجرّ. ومثله قول الآخر : [الوافر]

٦٨٩ ـ كفى بالنّأي من أسماء كافي

[وليس لحبّها ما عشت شافي]

وقوله (٣) : [البسيط]

يا دار هند عفت إلّا أثافيها

[بين الطويّ قصارات فواديها]

وحسن الإخبار عن الشّرّ بمرتو لأنّ الارتواء يكفّ الشارب عن الشّرب فجاز لذلك تعليق (عنّي) ب (مرتوي) كما يتعلّق بكاف أو كفاف ، فكأنّه قال : وكان شرّك كافّا عنّي.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٠).

٦٨٩ ـ الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه (ص ١٤٢) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٣٩) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٢٩٤) ، ولأبي حيّة النميري في لسان العرب (قفا) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٢٩٩) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٤٣) ، والخصائص (٢ / ٢٦٨) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٩٧٠) ، وشرح المفصّل (٦ / ١٥) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٣٥) ، والمقتضب (٤ / ٢٢) ، والمنصف (٢ / ١١٥).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٦١).

١٨٦

ومن قال : (وشرّك) بالنّصب حمله على (ليت) ، ولا يجوز أن يكون محمولا على (ليت) المذكورة لأنّ ضمير الشأن لا يصحّ العطف عليه لو كان ملفوظا به ، فكيف وهو محذوف؟ وإذا امتنع حمله على (ليت) المذكورة حملته على أخرى مقدّرة ، وحسن ذلك لدلالة المذكورة عليها كما حسن حذف (كلّ) فيما أورده سيبويه من قول الشاعر : [المتقارب]

٦٩٠ ـ أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد باللّيل نارا

أراد : وكلّ نار ، فحذف (كلّ) وأعملها مقدّرة كما كان يعملها لو ظهرت ، فكأنّه على هذا قال : وليت شرّك مرتو عنّي. ف (مرتوي) في هذا التقدير على ما يستحقّه من إسكان يائه لكونه خبرا لليت.

وعلى مذهب أبي عليّ في كون (مرتوي) خبرا ل (كان) أو ل (ليت) يجوز في الماء الرفع ، ورفعه بتقدير حذف مضاف أي : ما ارتوى أهل الماء ، كما جاء (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : «أهل القرية» ، و (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [محمد : ٤] أي : يضع أهل الحرب أسلحتهم. ومن كلامهم : «صلّى المسجد» أي : أهل المسجد ، و «ما زلنا نطأ السّماء حتّى أتيناكم» ، يريدون : ماء السّماء. وقد كثر حذف المضاف جدّا ممّا يشهد فيه ما أبقي على ما ألقي كقول المرقّش : [السريع]

٦٩١ ـ ليس على طول الحياة ندم

[ومن وراء المرء ما يعلم]

أراد على فوت طول الحياة. وكقول الأعشى : [الطويل]

__________________

٦٩٠ ـ الشاهد لأبي دؤاد في ديوانه (ص ٣٥٣) ، والأصمعيات (ص ١٩١) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ١٣٤) ، وخزانة الأدب (٩ / ٥٩٢) ، والدرر (٥ / ٣٩) ، وشرح التصريح (٢ / ٥٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٩٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٠٠) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٠٠) ، وشرح المفصل (٣ / ٢٦) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٤٥٥) ، ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه (ص ١٩٩) ، وبلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٤٧٣) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤١٧) ، ورصف المباني (ص ٣٤٨) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٢٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٩٩) ، وشرح المفصّل (٣ / ٧٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٩٠) ، والمقرّب (١ / ٢٣٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ٥٢).

٦٩١ ـ الشاهد للمرقش في ديوانه (ص ٥٨٧) ، ولسان العرب (وري) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ١٩٩) ، وتاج العروس (وري) ، وبلا نسبة في لسان العرب (صلم) ، وكتاب العين (٧ / ١٣٠) ، وتاج العروس (صلم).

١٨٧

٦٩٢ ـ ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

[وعادك ما عاد السليم المسهّدا]

أراد : اغتماض ليلة أرمد وأضاف الاغتماض المقدّر إلى اللّيلة كما أضيف المكر إلى اللّيل والنّهار في قوله عزّ وجلّ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ، فانتصاب اللّيلة انتصاب المصدر لا انتصاب الظّرف ، وكيف يكون انتصابها انتصاب الظّرف مع قوله بعده : [الطويل]

[ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا]

وبتّ كما بات السّليم مسهّدا

وأجاز بعض المتأخّرين أن يكون (الماء) رفعا بأنّه فاعل (ارتوى) من غير تقدير مضاف قال : وجاز وصف الماء بالارتواء للمبالغة كما جاز وصفه بالعطش لذلك في قوله : [الطويل]

٦٩٣ ـ [لقيت المرورى والشناخيب دونه]

وجئت هجيرا يترك الماء صاديا

ومن نصب الماء متّبعا مذهب أبي عليّ أراد : ما ارتوى الناس الماء أي : من الماء ، أضمر الفاعل وحذف الخافض فوصل الفعل ، فنصب ، كما جاء في التّنزيل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] ، أي : من قومه ، وجاء فيه حذف الباء من قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] ، أي : يخوّفكم بأوليائه ودليل ذلك قوله : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) [آل عمران : ١٧٥]. وجاء حذف (على) من قوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٥]. ومثل إضمار الفاعل هاهنا ـ ولم يتقدّم ذكر ظاهر يرجع الضّمير إليه ـ ما حكاه سيبويه من قولهم : «إذا كان غدا فأتني» (٣) ، أي : إذا كان ما نحن فيه من الرّخاء أو البلاء غدا.

و (ما) في قوله : «ما ارتوى» مصدريّة. وأبو طالب العبديّ لم يعرف في هذا البيت إلّا نصب الماء ، ولم يتّجه له إلّا إسناد ارتوى إلى (مرتوي) ، وذلك أنّه قال : معنى «ما ارتوى الماء مرتوي» ما شرب الماء شارب. ثمّ قال : وأمّا ما ذكره الشيخ أبو عليّ في قوله : «إن حملت العطف على (كان) كان (مرتوي) في موضع نصب وإن حملته على (ليت) نصبت قوله : (وشرّك) ، و (مرتوي) مرفوع» فكلام لم يفسّره رحمه الله.

__________________

٦٩٢ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٧١) ، والخصائص (٣ / ٣٢٢) ، وشرح المفصل (١٠ / ١٠٢) ، والمغني (ص ٦٩٠) ، وبلا نسبة في همع الهوامع (١ / ١٨٨).

٦٩٣ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (٤ / ٤٢٦) ، والمحتسب (٢ / ٢٠١) ، وشرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي (٥ / ١٩٣).

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٨٣).

١٨٨

ثمّ قال : ومرّ بي بعد هذا في تعليقي كلام للشيخ أبي عليّ ، أنا حاكيه على الوجه ، وهو أنّه أورد البيت ثمّ قال بعد إيراده : (ليت) محمول على إضمار الحديث و (كفافا) خبر (كان) ، فأمّا قوله : «وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي» ، فقياس من أعمل الثاني أن يكون (شرّك) مرتفعا بالعطف على (كان) ، و (مرتوي) في موضع نصب ، إلّا أنّه أسكن في الشّعر مثل (١) : [الوافر]

كفى بالنّأي من أسماء كافي

[وليس لحبّها ما عشت شافي]

ومن أعمل الأوّل نصب (شرّك) بالعطف على (ليت) و (مرتوي) في موضع رفع لأنّه الخبر و «ما ارتوى الماء» في موضع نصب ظرف يعمل فيه (مرتوي) هذا ما ذكره أبو عليّ. ثمّ قال العبديّ : وفد تقدّمت مطالبتي بفاعل (ارتوى). وإذا ثبت ما ذكرته علم أنّ الأمر على ما قلته ، والمعنى عليه لا محالة. انتهى كلام العبدّي.

وقد مرّ بي كلام لأبي عليّ في التذكرة يشير فيه إلى ما قاله العبديّ ، واختيار أبي عليّ على ما اختاره في هذا البيت ـ من كون (مرتوي) خبرا لكان ، أو (ليت) مع صحّة إسناد (ارتوى) إلى (مرتوي) معنى وإعرابا ـ من مراميه البعيدة.

المسألة الخامسة (٢) : وأمّا (مزيّن) فلفظة تحتمل معنيين لكلّ واحد منهما وزن غير وزن الآخر ، أحدهما : أن تكون عبارة عن مكبّر ووزنه مفعّل وهو اسم الفاعل من قولك : زيّن يزيّن فهو مزيّن ، كقولك : بيّن يبيّن فهو مبيّن والآخر : أن تكون عبارة عن مصغّر ووزنه مفيعل وهو مصغّر (مزدان) و (مزدان) أصله (مزتين) مفتعل من الزّينة ، فقلبت ياؤه ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها فصار إلى (مزتان) ، وكره اجتماع الزّاي والتاء لأنّ الزاي مجهور والتاء حرف مهموس ، فكرهوا التنافر فأبدلوا التاء دالا ، لأنّ الدّال توافق الزاي في الجهر وتقارب التّاء في المخرج ، ولمّا أريد تصغير (مزدان) وعدّة حروفه خمسة اثنان زائدان الميم والدّال ، ووجب أن يردّ إلى أربعة ، بحذف أحد الزائدين لم يخل من أن يحذف الميم أو الدّال فكان حذف الدال أولى لأمرين : أحدهما : أنّ الميم تدلّ على اسم الفاعل ، والحرف الدالّ على معنى أولى بالمحافظة عليه ، والثاني : أنّ الدّال أقرب من الطّرف ، والطّرف وما قاربه أحقّ بالحذف. ولمّا حذفت الدّال ، بقي (مزان) فقيل في تصغيره (مزيّن) ، كقولك في تصغير (غراب)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٨٩).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٨).

١٨٩

غريّب) ، فالضمّة التي في المصغّر غير الضمّة التي في المكبّر كما أنّ الضمّة التي في أوّل (بلبل) تزول إذا قلت (بليبل).

المسألة السادسة (١) : وأمّا فتح التّاء في (أرأيتكم) و (أرأيتكما) و (أرأيتك يا هذه) و (أرأيتكنّ) ، فقد علمت أنّك إذا قلت : «رأيت يا رجل» فتحت التاء ، وإذا قلت : «رأيت يا فلانة» كسرتها ، وإذا خاطبت اثنين ، أو اثنتين ، أو جماعة ذكورا أو إناثا ، ضممتها فقلت : (رأيتما) ، و (رأيتم) ، و (رأيتنّ). وقد ثبت واستقرّ أنّ التذكير أصل للتّأنيث ، وأنّ التوحيد أصل للتثنية والجمع ، فلمّا خصّوا الواحد المذكّر المخاطب بفتح التّاء ، ثمّ جرّدوا التّاء من الخطاب وانفردت به الكاف في (أرأيتك) و «أرأيتك يا زينب» والكاف وما زيد عليها في (أرأيتكما) و (أرأيتكم) و (أريتكنّ) ألزموا التّاء الحركة الأصليّة وذلك لما ذكرته لك من كون الواحد أصلا للاثنين وللجماعة ، وكون المذكّر أصلا للمؤنّث ، فاعرف هذا واحتفظ به.

المسألة السابعة (٢) : وأمّا قول الشاعر (٣) : [الطويل]

وبعد غد يا لهف نفسي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

فالعامل في الظّرف المصدر الذي هو اللهف ، وإن جعلت (من) زائدة على ما كان يراه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في الموجب ـ وعليه حمل قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤] ، وقوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] ـ فالتقدير في هذا القول : يا لهف نفسي غدا ، فإذا قدّرت هذا جعلت (إذا) بدلا من (غد) فهذان وجهان واضحان. ولك وجه ثالث وهو أن تعمل في (إذا) معنى الكلام ، وذلك أنّ قوله : «يا لهف نفسي» لفظه لفظ النّداء ، ومعناه التوجّع ، فإذا حملته على هذا فالتقدير أتأسّف وأتوجّع وقت رواح أصحابي وتخلّفي عنهم.

المسألة الثامنة (٤) : قول أبي عليّ : «أخطب ما يكون الأمير قائما» ، (أخطب) من باب أفعل الذي هو بعض ما يضاف إليه كقولك : «زيد أكرم الرّجال» ، «وحمارك أفره الحمير» ، و «الياقوت أفضل الحجارة» ، «فزيد بعض الرّجال ، والحمار بعض

__________________

(١) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٩).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٣٠٠).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٧٩).

(٤) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٣٠٠) ، والكتاب (١ / ٤٦٩).

١٩٠

الحمير ، والياقوت بعض الحجارة» ، ولا تقول : «الياقوت أفضل الزّجاج» ، لأنّه ليس منه كما لا تقول : «حمارك أحسن الرّجال». وإذا ثبت هذا فإنّ (ما) التي أضيف إليها (أخطب) مصدريّة زمانيّة كالتي في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ) [هود : ١٠٧ ـ ١٠٨] أي : مدّة دوام السّماوات ، فقوله : «أخطب ما يكون الأمير» تقديره : أخطب أوقات كون الأمير ، كما قدّرت في الآية : مدّة دوام السّماوات ، أو مدد دوام السّماوات ، فقد صار (أخطب) بإضافته إلى الأوقات في التقدير وقتا لما مثّلته لك من كون (أفعل) هذا بعضا لما يضاف إليه ، وإضافة الخطابة إلى الوقت توسّع وتجوّز ، كما وصفوا اللّيل بالنّوم في قولهم : «نام ليلك» وذلك لكون النّوم فيه. قال : [الطويل]

٦٩٤ ـ لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

ومثله إضافة (المكر) إلى «اللّيل والنّهار في قوله عزّ وجلّ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ، وإنّما حسن إضافة المكر إلى اللّيل والنّهار لوقوعه فيهما والتقدير : بل مكركم في اللّيل والنّهار. وإذا عرفت هذا ف (أخطب) مبتدأ محذوف الخبر ، والحال التي هي (قائما) سادّة مسدّ خبره ، فالتقدير : أخطب أوقات كون الأمير إذا كان قائما. ولمّا كان (أخطب) مضافا إلى الكون لفظا وإلى الأوقات تقديرا ، وقد بيّنت لك أنّ أفعل هذا بعض لما يضاف إليه ، وقد صار في هذه المسألة وقتا وكونا ، فجاز لذلك الإخبار عنه بظرف الزمان الذي هو (إذا) الزّمانيّة. وإذا كان (قائما) نصبا على الحال ، ف (كان) المقدّرة في هذا النحو هي التامّة المكتفية بمرفوعها التي بمعنى حدث ووقع ووجد ، ولا يجوز أن تكون الناقصة ، لأنّ الناقصة لا يلزم منصوبها التنكير ، والمنصوب هاهنا لا يكون إلّا نكرة ، فثبت بلزوم التنكير له أنّه حال. وإذا ثبت أنّه حال فهو حال من ضمير فاعل مستكنّ في فعل موضعه مع مرفوعه جرّ بإضافة ظرف إليه عمل فيه اسم فاعل محذوف. وتفسير هذا أنّ (قائما) حال من الضّمير المستتر في (كان) ، و (كان) مع الضّمير جملة في موضع جرّ بإضافة (إذا) إليها لأن (إذا) و (إذ) تلزمهما الإضافة إلى جملة توضّح معنييهما كما توضّح الصّلة معنى الموصول ، ولذلك بنيا ، و (إذا) تضاف إلى جملة فعليّة لأنّها شرطيّة ، والشرط إنّما يكون بالفعل ، و (إذ) تضاف إلى جملة الاسم كما تضاف إلى جملة الفعل ، ف (إذا) في المسألة ظرف أوقع خبرا عن المبتدأ الذي هو (أخطب) ، والظّرف متى وقع

__________________

٦٩٤ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٩٩٣) ، وخزانة الأدب (١ / ٤٦٥) ، ولسان العرب (ربح) وبلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٢٢) ، والمحتسب (٢ / ١٨٤) ، والمقتضب (٣ / ١٠٥).

١٩١

خبرا ، عمل فيه اسم فاعل محذوف مرفوض إظهاره ، نحو قولك : زيد خلفك ، والخروج يوم السّبت ، فالتقدير مستقرّ خلفك ، وواقع يوم السّبت.

فتأمّل جملة الكلام في هذه المسألة فقد أبرزت لك غامضها وكشفت لك مخبوءها.

وأمّا قوله : «شربي السّويق ملتوتا» فداخل في هذا الشرح. وأقول : إنّ (شربي) مضاف ومضاف إليه ، و (شرب) مصدر أضيف إلى فاعله ، و (السّويق) انتصب بأنّه مفعوله ، وخبره على ما قرّرته محذوف سدّت الحال مسدّه. فقولك (ملتوتا) كقولك في المسألة الأولى (قائما) ، غير أنّ الظّرف المقدّر في الأولى هو (إذا) ، والمقدّر في هذه محمول على المعنى ، فإن كان الإخبار قبل الشّرب أردت : شربي السّويق إذا كان ملتوتا ، وإن كان الشّرب سابقا للإخبار أردت : شربي السّويق إذ كان ملتوتا وبالله التوفيق.

رسالة الملائكة للمعري

إجابة على بعض المسائل الصرفية

قال أبو الفضل مؤيّد بن موفّق الصّاحبي في كتاب (الحكم البوالغ في شرح الكلم النوابغ) :

رسالة الملائكة : ألّفها أبو العلاء المعرّي على جواب مسائل تصريفيّة ألقاها إليه بعض الطلبة فأجاب عنها بهذا الطّريق الظّريف الطّريف المشتمل على الفوائد الأنيقة مع صورتها المستغربة الرّشيقة.

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس مولاي الشيخ أدام الله عزّه بأوّل رائد ظعن في الأرض العارية فوجدها من النّبات قفراء ولا آخر شائم ظنّ الخير بالسّحابة فكانت من قطر صفرا. جاءتني منه فوائد كأنّها في الحسن بنات مخر فأنشأت متمثّلا ببيت صخر : [الطويل]

٦٩٥ ـ لعمري لقد نبّهت من كان نائما

وأسمعت من كانت له أذنان

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر : ٢٢] ، (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، وكنت في غيسان الشّبيبة أودّ

__________________

٦٩٥ ـ الشاهد منسوب إلى صخر بن عمرو بن الشريد في الأصمعيات (ص ١٤٦) ، والشعر والشعراء (ص ٣٤٥)،وبلا نسبة في كتاب العين (٤ / ٦٠)

١٩٢

أنّني من أهل العلم فشجنتني عنه شواجن غادرتني مثل الكرة رهن المحاجن. فالآن مشيت رويدا وتركت عمرا للضارب وزيدا وما أوثر أن يزاد في صحيفتي خطأ في النحو فيخلد آمنا من المحو ، وإذا صدق فجر اللّمّة فلا عذر لصاحبها في الكذب ، ومن لمعذّب العطش بالعذب ، وصدق الشّعر في المفرق يوجب صدق الإنسان الفرق وكون الحالية بلا خرص أجمل بها من التخرّص ، وقيام النادبة بالمنادب أحسن بالرجل من أقوال الكاذب.

وهو أدام الله الجمال به يلزمه البحث عن غوامض الأشياء لأنّه يعتمد بسؤال رائح وغاد ، وحاضر يرجو الفائدة وباد ، فلا غرو إن كشف عن حقائق التّصريف واحتجّ للنّكرة والتّعريف وتكلّم في همز وإدغام وأزال الشّبه عن صدور الطّغام.

فأمّا أنا فجليس البيت إن لم أكن الميت فشبيه بالميت ، لو أعرضت الأغربة عن النّعيب إعراضي عن الأدب والأديب لأصبحت لا تحسن نعيبا ولا يطيق هرمها زعيبا.

ولمّا وافى شيخنا أبو القاسم عليّ بن محمد بن همّام بتلك المسائل ألفيتها في اللذّة كأنّها الرّاح يستفزّ من سمعها المراح ، فكانت الصّهباء الجرجانيّة طرق بها عميد كفر بعد ميل الجوزاء وسقوط الغفر. وكان عليّ بجباها جلب إلينا الشّمس وإيّاها فلمّا جليت الهديّ ذكرت ما قال الأسديّ : [الطويل]

٦٩٦ ـ فقلت اصطحبها أو لغيري فاهدها

فما أنا بعد الشّيب ويبك والخمر

تجاللت عنها في السّنين التي مضت

فكيف التّصابي بعد ما كلأ العمر

وما رغبتي في كوني كبعض الكروان تكلّم في خطب جرى ، والظّليم يسمع ويرى. فقال الأخنس أو الفرا (٢) : [مجزوء الرجز]

٦٩٧ ـ أطرق كرا أطرق كرا

إنّ النّعام في القرى (٤)

وحقّ مثلي ألّا يسأل ، فإن سئل تعيّن عليه ألّا يجيب ، فإن أجاب ففرض على السامع ألّا يسمع منه ، فإن خالف باستماعه ففريضة ألّا يكتب ما يقول فإن كتبه فواجب ألّا ينظر فيه ، فإن نظر فقد خبط خبط عشواء. وقد بلغت سنّ الأشياخ وما حار بيدي نفع من هذا الهذيان والظعن إلى الآخرة قريب ، أفتراني أدافع ملك الموت؟

__________________

٦٩٦ ـ البيتان للأقيشر في الشعر والشعراء (ص ٥٦٢) ، والبيت الثاني بلا نسبة في اللسان والتاج (كلأ).

(١) الأخنس : الثور من بقر الوحش. والفرا : حمار الوحش.

٦٩٧ ـ الرجز بلا نسبة في الكامل (٢ / ٥٦) ، واللسان (طرق) ، والخزانة (١ / ٣٩٤).

(٢) الكرا : ذكر الكروان.

١٩٣

أصل ملك

فأقول : أصل ملك مألك وإنّما أخذ من الألوكة وهي الرّسالة ثمّ قلب ، ويدلّنا على ذلك قولهم في الجمع : الملائكة ، لأنّ الجموع تردّ الأشياء إلى أصولها ، وأنشد قول الشاعر : [الطويل]

٦٩٨ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السّماء يصوب

فيعجبه ما سمع فينظرني ساعة لاشتغاله بما قلت ، فإذا همّ بالقبض قلت : وزن ملك على هذا : (معل) لأنّ الميم زائدة ، وإذا كان الملك من الألوكة فهو مقلوب من ألك إلى لأك ، والقلب في الهمز وحروف العلّة معروف عند أهل المقاييس. فأمّا جذب وجبذ ، ولقم الطّريق ولمقه فهو عند أهل اللّغة قلب ، والنحويّون لا يرونه مقلوبا بل يرون اللّفظين كلّ واحد منهما أصل في بابه.

فوزن الملائكة على هذا : معافلة ، لأنّها مقلوبة عن : مآلكة ، يقال : ألكني إلى فلان ، قال الشاعر : [الطويل]

٦٩٩ ـ ألكني إلى قومي السّلام رسالة

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا

وقال الأعشى في المألكة : [البسيط]

٧٠٠ ـ أبلغ يزيد بني شيبان مألكة

أبا ثبيت أما تنفكّ تأتكل

فكأنّهم فرّوا في (المآلكة) من ابتدائهم بالهمزة ثمّ يجيئون بعدها بالألف فرأوا أنّ مجيء الألف أوّلا أخفّ. كما فرّوا من شأى إلى شاء ، ومن نأى إلى ناء. قال عمر ابن أبي ربيعة : [الكامل]

__________________

٦٩٨ ـ الشاهد لعلقمة الفحل في ملحق ديوانه (ص ١١٨) ، ولمتمم بن نويرة في ديوانه (ص ٨٧) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٢٢٢) ، ولرجل من عبد القيس أو لأبي وجزة أو لعلقمة في المقاصد النحوية (٤ / ٥٣٢) ، ولأبي وجزة في لسان العرب (ملك) ، وبلا نسبة في الكتاب (٤ / ٥٢٢) ، والأزهيّة (ص ٢٥٢) ، والاشتقاق (ص ٢٦) ، وإصلاح المنطق (ص ٧١) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٨٤٣) ، وجمهرة اللغة (ص ٩٨٢) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٢٨٧) ، ولسان العرب (صوب) و (ألك) و (لأك).

٦٩٩ ـ الشاهد لعمرو بن شأس في ديوانه (ص ٩٠) ، والكتاب (١ / ٢٥٩) ، والدرر (٥ / ٣٦) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٧٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٣٥) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٩٦) ، وبلا نسبة في المنصف (٢ / ١٠٣).

٧٠٠ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١١١) ، والخصائص (٢ / ٢٨٨) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٦٠٠) ، ولسان العرب (أكل) ، وتاج العروس (أكل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (ألك) ، وتاج العروس (ألك).

١٩٤

٧٠١ ـ بان الحمول فما شأونك نقرة

ولقد أراك تشاء بالأظعان

وأنشد أبو عبيدة : [الطويل]

٧٠٢ ـ أقول وقد ناءت بهم غربة النّوى

نوى خيتعور لا تشطّ ديارك

همزة عزرائيل زائدة : فيقول الملك : من ابن أبي ربيعة وما أبو عبيدة؟ وما هذه الأباطيل؟ إن كان لك عمل صالح فأنت السّعيد وإلّا فاخسأ وراءك.

فأقول : فأمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل وأقيم الدّليل على أنّ الهمزة فيه زائدة فيقول الملك : هيهات ليس الأمر إليّ : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤].

أم تراني أدارئ منكرا ونكيرا ، فأقول : كيف جاء اسماكما عربيّين منصرفين وأسماء الملائكة أكثرها من الأعجميّة ، مثل إسرافيل وجبريل وميكائيل فيقولان : هات حجّتك وخلّ الزّخرف عنك ، فأقول متقرّبا إليهما : قد كان ينبغي لكما أن تعرفا ما وزن ميكائيل وجبريل على اختلاف اللّغات ، إذ كانا أخويكما في عبادة الله عزّ وجلّ ، فلا يزيدهما ذلك إلّا غيظا ، ولو علمت أنّهما يرغبان في مثل هذه العلل لأعددت لهما شيئا كثيرا من ذلك ولقلت : ما تريان في وزن موسى اسم كليم الله الذي سألتماه عن دينه وحجّته فأبان وأوضح ، فإن قالا : موسى اسم أعجمي إلّا أنّه يوافق من العربيّة على وزن مفعل وفعلى.

أمّا مفعل فإذا كان من بنات الواو مثل أوسيت وأوريت فإنّك تقول : موسى ومورى ، وإن كان من ذوات الهمز فإنّك تخفّف حتّى تكون الواو خالصة من مفعل ، تقول : آنيت العشاء فهو مؤنى فإن خفّفت قلت مونى. قال الحطيئة : [الوافر]

٧٠٣ ـ وآنيت العشاء إلى سهيل

أو الشّعرى فطال بي الأناء

وحكى بعضهم همز (موسى) إذا كان اسما ، وزعم النحويّون أن ذلك لمجاورة

__________________

٧٠١ ـ الشاهد للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه (ص ١٠٧) ، ولسان العرب (أشأ) ، و (شأي) ، وتهذيب اللغة (١١ / ٤٤٧) ، وتاج العروس (شأو) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٢٤٠) ، والمخصص (١٤ / ٢٧).

٧٠٢ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (ختعر) و (نأي).

٧٠٣ ـ الشاهد للحيطئة في ديوانه (ص ٥٤) ، ولسان العرب (أنى) و (كرا) ، ومقاييس اللغة (١ / ١٤١) ، وكتاب العين (٨ / ٤٠٢) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٥٠) ، وديوان الأدب (٤ / ١٠١) ، وتهذيب اللغة (١٠ / ٣٤٣) ، ومجمل اللغة (٤ / ٢٢٤) ، وأساس البلاغة (أني) و (كري) ، وتاج العروس (أنى) و (كرى). وبلا نسبة في المخصص (١٣ / ٢٦٤).

١٩٥

الواو الضّمة لأنّ الواو إذا كانت مضمومة ضمّا لغير إعراب أو غير ما يشاكل الإعراب جاز أن تحوّل همزة ، كما قالوا أقّتت ووقّتت وحمائم ورق وأرق ووشّحت وأشّحت ، قال الهذليّ : [الطويل]

٧٠٤ ـ أبا معقل إن كنت أشّحت حلّة

أبا معقل فانظر بسهمك من ترمي

وقال حميد بن ثور الهلاليّ : [الطويل]

٧٠٥ ـ وما هاج هذا الشّوق إلّا حمامة

دعت ساق حرّ نوحة وترنّما

من الأرق حمّاء العلاطين باكرت

عسيب أشاء مطلع الشّمس أسحما

وقد ذكر الفارسيّ هذا البيت مهموزا : [الوافر]

٧٠٦ ـ أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى

وحزرة لو أضاء لي الوقود

وعلى مجاورة الضمّة جاز الهمز في (سوق) جمع (ساق) في قراءة من قرأ كذلك. ويجوز أن يكون جمع على فعل مثل أسد ، فيمن ضمّ السّين ثمّ همزت الواو ودخلها السكون بعد أن ذهب فيها حكم الهمز.

وإذا قيل : إنّ موسى : فعلى ، فإن جعل أصله الهمز وافق فعلى من مأس بين القوم : إذا أفسد بينهم. قال الأفوه : [السريع]

٧٠٧ ـ إمّا تري رأسي أزرى به

مأس زمان ذي انتكاس مؤوس

ويجوز أن يكون فعلى من ماس يميس فقلبت الياء واوا للضّمة كما قالوا : (الكوسى) من الكيس ولو بنوا : الفعلى من قولهم : هذا أعيش من هذا وأغيظ منه لقالوا : العوشى والغوظى.

فإذا سمعت ذلك منهما قلت : لله درّكما لم أكن أحسب أنّ الملائكة تنطق بمثل هذا الكلام وتعرف أحكام العربيّة ، فإن غشي عليّ من الخيفة ثمّ أفقت وقد أشارا إليّ بالإرزبّة (٥) قلت : تثبّتا رحمكما الله!

__________________

٧٠٤ ـ الشاهد لمعقل بن خويلد الهذليّ في شرح أشعار الهذليين (ص ٣٨٣) ، واللسان (وشح).

٧٠٥ ـ البيتان لحميد بن ثور في ديوانه (ص ٢٤) ، والبيت الأول في اللسان (حرر) و (سوق) و (حمم) ، ومقاييس اللغة (٢ / ٦) ، ومجمل اللغة (٢ / ٨) ، وتاج العروس (حرر) و (علط) ، والثاني في لسان العرب (علط) و (سفع).

٧٠٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٢٨٨) ، والخصائص (٢ / ١٧٥) ، وبلا نسبة في المنصف (٢ / ٢٠٣) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٩٠) ، وشرح الشافية (٣ / ٢٠٦).

٧٠٧ ـ انظر الطرائف الأدبية (ص ١٦).

(١) الإرزبّة : عصيّة من حديد.

١٩٦

تصغير الإرزبة : كيف تصغّران الإرزبّة وتجمعانها جمع التكسير؟ فإن قالا : (أريزبّة) و (أرازبّ) بالتشديد ، قلت : هذا وهم إنّما ينبغي أن يقال : (أريزبة) و (أرازب) بالتخفيف ، فإن قالا : كيف قالوا (علابيّ) فشدّدوا كما قال القريعيّ : [الطويل]

٧٠٨ ـ وذي فخوات طامح الطّرف جاذبت

حبالي فلوّى من علابيّه مدّي

قلت : ليست الياء كغيرها من الحروف فإنّما وإن لحقها التشديد ففيها عنصر من اللّين فإن قالا : أليس قد زعم (١) صاحبكم عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه أنّ الياء إذا شدّدت ذهب منها اللّين وأجاز في القوافي طيّا (٢) مع ظبي. قلت : وقد زعم ذلك إلّا أنّ السّماع عن العرب لم يأت فيه نحو ما قال إلّا أن يكون نادرا قليلا فإذا عجبت ممّا قالاه أظهرا لي تهاونا بما يعلمه بنو آدم ، وقالا : لو جمع ما علمه أهل الأرض على اختلاف اللّغات والأزمنة ما بلغ علم واحد من الملائكة يعدّونه فيهم ليس بعالم فأسبّح الله وأمجّده.

الجدث أو الجدف : وأقول : قد صارت لي بكما وسيلة فوسّعا لي في الجدث إن شئتما بالثّاء وإن شئتما بالفاء ، فإنّ إحداهما تبدل من الأخرى كما قالوا : مغاثير ومغافير ، وأثافي وأفافي وفوم وثوم ، وكيف تقرآن رحمكما الله هذه الآية : (وَفُومِها وَعَدَسِها) [البقرة : ٦١] ، أبالثّاء كما في مصحف عبد الله بن مسعود أم بالفاء كما في قراءة النّاس؟ وما الذي تختاران في تفسير الفوم أهو الحنطة كما قال أبو محجن : [الكامل]

٧٠٩ ـ قد كنت أحسبني كأغنى واجد

قدم المدينة من زراعة فوم

أم الثوم الذي له رائحة كريهة؟ وإلى ذلك ذهب الفرّاء وجاء في الشّعر الفصيح قال الفرزدق : [البسيط]

٧١٠ ـ من كلّ أغبر كالرّاقود حجزته

إذا تعشّى عتيق التّمر والثّوم

الريم بمعنى القبر : فيقولان أو أحدهما : إنّك لمنهدم الجول ، وإنّما يوسّع لك

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٨١).

(٢) في الكتاب (٤ / ٥٨١) ليّا.

٧٠٩ ـ البيت ليس في ديوانه ، ونسب إليه في المحتسب (١ / ٨٨) ، واللسان (فوم) ، والدرر (١ / ١٣٨).

٧١٠ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ١٨٦).

١٩٧

في ريمك عملك فأقول لهما : ما أفصحكما لقد كنت سمعت في الحياة الدّنيا أنّ الرّيم القبر ، وسمعت قول الشاعر : [الطويل]

٧١١ ـ إذا متّ فاعتادي القبور فسلّمي

على الرّيم أسقيت السّحاب الغواديا

وكيف تبنيان رحمكما الله من الرّيم مثل إبراهيم؟ أتريان فيه رأي الخليل وسيبويه فلا تبنيان مثله من الأسماء العربيّة أم تذهبان إلى ما قاله سعيد بن مسعدة فتجيزان أن تبنيا من العربيّ مثل الأعجميّ ، فيقولان : تربا لك ولمن سمّيت ، أيّ علم في ولد آدم ، إنّهم للقوم الجاهلون.

واحد الزبانية : وهل أتردّد إلى مالك خازن النّار فأقول : رحمك الله ما واحد الزّبانية فإنّ بني آدم فيه ختلفون يقول بعضهم : الزّبانية لا واحد لهم من لفظهم وإنّما يجرون مجرى السّواسية أي القوم المستوين في الشّرّ ، قال : [الطويل]

٧١٢ ـ سواسية سود الوجوه كأنّما

بطونهم من كثرة الزّاد أوطب

ومنهم من يقول : واحد الزّبانية : زبنية. وقال آخرون : واحدهم زبنيّ أو زبنيّ فيعبس لما سمع ويكفهرّ.

غسلين ونونه : فأقول يا مال ـ رحمك الله ـ ما ترى في نون غسلين وما حقيقة هذا اللّفظ أهو مصدر كما قال بعض الناس أم واحد أم جمع أعربت نونه تشبيها بنون مسكين كما أثبتوا نون (قلين) و (سنين) في الإضافة وكما قال سحيم بن وثيل (٣) : [الوافر]

وما ذا يدّري الشّعراء منّي

وقد جاوزت حدّ الأربعين

فأعرب النّون.

النون في جهنم : وهل النون في جهنّم زائدة؟. أمّا سيبويه فلم يذكر في الأبنية فعنّلا إلا قليلا ، وجهنّم اسم أعجمي ، ولو حملناه على الاشتقاق لجاز أن يكون من الجهامة في الوجه ومن قولهم تجهّمت الأمر إذا جعلنا النون زائدة ، واعتقد زيادتها في هجنّف وأنّه مثل هجفّ وكلاهما صفة للظّليم ، قال الهذليّ : [الوافر]

__________________

٧١١ ـ الشاهد لمالك بن الريب في ديوانه (ص ٤٧) ، ولسان العرب (ريم) ، وتهذيب اللغة (١٥ / ٢٨١) ، وتاج العروس (ريم) ، وبلا نسبة في ديوانه الأدب (٣ / ٣٠٦).

٧١٢ ـ الشاهد بلا نسبة في اللسان (سوى).

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٥٨).

١٩٨

٧١٣ ـ كأنّ ملاءتيّ على هجفّ

يعنّ مع العشيّة للرّئال

وقال جران العود : [الطويل]

٧١٤ ـ يشبّهها الرّائي المشبّه بيضة

غدا في النّدى عنها الظّليم الهجنّف

وقال قوم : ركيّة جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، فإن كانت جهنّم عربيّة فيجوز أن يكون من هذا ، وزعم قوم أنّه يقال : أحمر جهنام إذا كان شديد الحمرة ولا يمتنع أن يكون اشتقاق جهنّم منه.

فأما سقر فإن كان عربيّا فهو مناسب لقولهم صقرته الشّمس : إذا آلمت دماغه يقال بالسّين والصّاد قال ذو الرّمّة : [الطويل]

٧١٥ ـ إذا ذابت الشّمس اتّقى صقراتها

بأفنان مربوع الصّريمة معبل

والسّين والصاد يتعاقبان في الحرف إذا كان بعدهما قاف أو خاء أو غين أو طاء ، تقول : سقب وصقب وسويق وصويق ، وبسط وبصط ، وسلغ الكبش وصلغ. فيقول مالك : ما أجهلك وأقلّ تمييزك ما جلست هنا للتّصريف وإنّما جلست لعقاب الكفرة والقاسطين.

مخاطبة الاثنين بلفظ واحد : وهل أقول للسائق والشّهيد اللّذين ذكرا في كتاب الله عزّ وجلّ قوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] ، يا صاح أنظراني فيقولان : تخاطبنا مخاطبة الواحد ونحن اثنان! فأقول ألم تعلما أنّ ذلك جائز من الكلام ، وفي الكتاب العزيز : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق : ٢٣ ـ ٢٤] فوحّد القرين وثنّي في الأمر كما قال الشاعر : [الطويل]

٧١٦ ـ فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا

وكما قال امرؤ القيس : [الطويل]

__________________

٧١٣ ـ الشاهد للأعلم حبيب بن عبد الله الهذليّ في شرح أشعار الهذليين (ص ٣١٩).

٧١٤ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٦).

٧١٥ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٤٥٨) ، ولسان العرب (ذوب) و (صقر) و (ربع) و (عبل) ، وتهذيب اللغة (٢ / ٣٧٥) ، وتاج العروس (ذوب) و (صقر) و (عبل) ، وأساس البلاغة (ذوب) ، وكتاب العين (٥ / ٦٠) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٦٦) ، ومقاييس اللغة (٢ / ٣١٤).

٧١٦ ـ الشاهد لسويد بن كراع العكلي في لسان العرب (جزز) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ٢٣٩) ، وتاج العروس (جزز) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٣٩) ، والمخصص (٢ / ٥).

١٩٩

٧١٧ ـ خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

لأقضي حاجات الفؤاد المعذّب

ألم تر أنّي كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب

هكذا أنشده الفرّاء وبعضهم ينشد : ألم ترياني. وأنشد أيضا : [الوافر]

٧١٨ ـ فقلت لصاحبي لا تحبسانا

بنزع أصوله واجتزّ شيحا

فهذا كلّه يدلّ على أن الخروج من مخاطبة الواحد إلى الاثنين أو من مخاطبة الاثنين إلى الواحد سائغ عند الفصحاء.

ترخيم رضوان : وهل أجيء في جماعة من خمّان الأدباء قصّرت أعمالهم عن دخول الجنّة ولحقهم عفو الله فزحزحوا عن النّار فنقف على باب الجنّة فنقول : يا رضو لنا إليك حاجة ، ويقول بعضنا : يا رضو فيضمّ الواو فيقول رضوان ما هذه الخاطبة التي ما خاطبني بها قبلكم أحد فنقول : إنّا كنّا في الدار الأولى نتكلّم بكلام العرب ، وإنّهم يرخّمون الذي في آخره ألف ونون ، فيحذفونهما للتّرخيم. وللعرب في ذلك لغتان يختلف حكماهما قال أبو زبيد : [الكامل]

٧١٩ ـ يا عثم أدركني فإنّ ركيّتي

صلدت فأعيت أن تفيض بمائها

وزن كمّثرى : فيقول رضوان : ما حاجتكم؟ فيقول بعضنا : إنّا لم نصل إلى دخول الجنّة لتقصير الأعمال وأدركنا عفو الله فنجونا من النار ، فبقينا بين الدّارين. ونحن نسألك أن تكون واسطتنا إلى أهل الجنّة ، فإنّهم لا يستغنون عن مثلنا ، وإنّه قبيح بالعبد المؤمن أن ينال هذه النّعم وهو إذا سبّح الله لحن ، ولا يحسن بساكن الجنان أن يصيب من ثمارها في الخلود وهو لا يعرف حقائق تسميتها. ولعلّ في الفردوس قوما لا يدركون أحروف الكمّثرى كلّها أصليّة أم بعضها زوائد ولو قيل لهم ما وزن كمثرى على مذهب أهل التّصريف لم يعرفوا فعّلّى ، وهذا بناء مستنكر لم يذكر سيبويه له نظيرا. وإذا صحّ قولهم للواحدة كمّثراة فألف كمّثرى ليست

__________________

٧١٧ ـ البيتان لامرئ القيس في ديوانه (ص ٤١).

٧١٨ ـ الشاهد لمضرّس بن ربعي في شرح شواهد الشافية (ص ٤٨١) ، وله أو ليزيد بن الطثرية في لسان العرب (جزز) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٩١) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (١١ / ١٧) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ١٨٧) ، وشرح الأشموني (٣ / ٨٧٤) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٣ / ٢٢٨) ، وشرح المفصل (١٠ / ٤٩) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ١٠٩) ، ولسان العرب (جرر) ، والمقرب (٢ / ١٦٦) ، والممتع في التصريف (١ / ٣٥٧).

٧١٩ ـ الشاهد لأبي زبيد الطائي في ديوانه (ص ٣٣) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٢) ، ومقاييس اللغة (١ / ١٨٤) ، ولسان العرب (بضض) ، وتاج العروس (بضض).

٢٠٠