الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

٦٦٩ ـ أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل

أراد : مثل الطّعن ، لأنّ الكلام شعر ، و (ينهى) فعل لا بدّ له من فاعل ، فأجاب بأنّ ذلك في الكاف المفيدة للتّشبيه ، وهي في (كذا) إنّما جاءت كالمركّبة مع (ذا) ، بدليل أنّ الواو قد تسقط فتركّب مع مثلها. وإذا كان كذلك وفارقتها لم يمتنع أن تكون مرفوعة بالابتداء.

والرابع : أنّها محتملة للحرفيّة والاسميّة ، قاله أبو البقاء في (شرح الإيضاح) قال : إذا قيل : «له عندي كذا درهما» فكذا في موضع الصّفة لمبتدأ محذوف ، أي : شيء كالعدد. أو الكاف اسم مبتدأ ك (مثل).

قال : فإذا جعلت الكاف حرفا لم تحتج إلى أن تتعلّق بشيء ، لأن التركيب غيّر حكمها كما في (كأنّ) ، فإنّها قبل أن تتقدّم كانت متعلّقة بمحذوف ، وهي الآن غير متعلّقة بشيء.

الخامس : أنّ الكاف حرف جرّ زائد. وهو قول ابن عصفور. قال : «ولا معنى للتشبيه في هذا الكلام فالكاف زائدة كزيادتها في قولهم : «فلان كذي الهيئة» أي : ذو الهيئة ، إلّا أنّها زائدة لازمة كلزوم (ما) في إذ ما. و (ذا) مجرورة بالجارّ الزائد كانجرار (أي) بالكاف الزائدة في قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ...*) [الحج : ٤٨ ، الطلاق : ٨] ، ألا ترى أنّ معناها كمعنى (كم) وليس فيها معنى تشبيه. وإذا ثبت أنّها زائدة لم تكن متعلّقة بشيء». وليس ما قاله بلازم ، لأنّا لا نسلّم أنّ عدم معنى التشبيه هنا لزيادة الكاف ، بل لما ذكرنا من تركيبها مع (ذا) وأنّه صار للجموع بالتركيب معنى آخر ، وقد أقمنا الدليل عليه فيما مضى. ثمّ دعوى التركيب وإن كانت كدعوى الزّيادة في أنّها خلاف الأصل ، لكنّها أقرب فكان اعتبارها أولى.

الفصل الثاني

في كيفية اللفظ بها وبتمييزها

أما اللفظ بها ، فالمسموع في المكنيّ بها من غير عدد الإفراد والعطف نحو :

__________________

٦٦٩ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١١٣) ، والجنى الداني (ص ٨٢) ، والحيوان (٣ / ٤٦٦) ، وخزانة الأدب (٩ / ٤٥٣) ، والدرر (٤ / ١٥٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٢٨٣) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٣٤) ، وشرح المفصّل (٨ / ٤٣) ، ولسان العرب (دنا) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٩١) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٣٨٦) ، ورصف المباني (ص ١٩٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٦٦) ، والمقتضب (٤ / ١٤١) ، وهمع الهوامع (٢ / ٣١).

١٦١

«مررت بمكان كذا وبمكان كذا وكذا». وفي المكنيّ بها عن عدد العطف لا غير. وكذا مثّل بها سيبويه والأخفش والأئمّة. وقال الشاعر : [الطويل]

٦٧٠ ـ عد النّفس نعمى بعد بؤساك ذاكرا

كذا وكذا لطفا به ، نسي الجهد

وممّن صرّح بأنّهم لم يقولوا : «كذا درهما» ، ولا «كذا كذا درهما» ابن خروف وذكر ابن مالك أنّ ذلك مسموع ولكنّه قليل وسيأتي نقل كلامهما بعد.

وأمّا اللفظ بتمييزها ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه منصوب أبدا ، وهذا قول البصريّين وهو الصواب بدليلين :

أحدهما : أنّه المسموع كقوله : [الطويل]

 ...

كذا وكذا لطفا به نسي الجهد

والثاني : القياس ، وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ الخفص إمّا بالكاف ، على أنّها حرف جرّ ، أو على أنّها اسم مضاف ، أو بإضافة (ذا). ولا سبيل إلى شيء من ذلك ، لأنّ (ذا) معمولة للكاف ، وحرف الجرّ لا يخفض شيئين ، والاسم لا يضاف مرّتين ، ومن ثمّ وجب نصب التمييز في نحو : «ما في السماء موضع راحة سحابا» (٢). وأسماء الإشارة لا تضاف ، لأنّها ملازمة للتعريف ، والتمييز نكرة ، والقاعدة أن تضاف النّكرة للمعرفة لا العكس.

والثاني : أنّ الكاف لمّا دخلت على (ذا) وصارتا كناية عن العدد صارتا كذلك بمنزلة (بزيد) إذا سمّي به. و (بزيد) وأمثاله إذا سمّي به لا تجوز إضافته لأنّه محكيّ والمحكيّ لا يضاف.

والثالث : أن الكلمة أشبهت بالتّركيب (أحد عشر) وأخواته ، وذلك لا يضاف كراهة الطول فكذلك هذا.

القول الثاني : أنّه جائز الخفض بشرط ألّا يكون تكرار ولا عطف ، فتقول : «كذا درهم» ، و «كذا أثواب». ولا تقول : «كذا كذا درهم» ولا «كذا وكذا درهم» ، قاله الكوفيون ومن وافقهم ، وشبهتهم في ذلك حمل كناية العدد على صريحه ، وقد ذكرنا ما يردّ هذا القياس.

__________________

٦٧٠ ـ الشاهد بلا نسبة في الدرر (٤ / ٥٤) ، وشرح الأشموني (٣ / ٦٣٨) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥١٤) ، ومغني اللبيب (١ / ١٨٨) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٩٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٥٦).

(١) انظر الكتاب (٢ / ١٧٤).

١٦٢

وقال ابن إياز : يجوز الجرّ من وجهين :

أحدهما : إجراء (كذا) مجرى الخبريّة.

والثاني : أنّ الكلمتين ركّبتا وصارتا كلمة واحدة ، يعني : فالمضاف المجموع لا اسم الإشارة فقط. والمحذور إنّما يلزم على القول بأنّ المضاف اسم الإشارة.

والثالث : أنّه جائز الخفض والرّفع. وها خطأ أيضا لأنّه غير مسموع ، ولا يقتضيه القياس ، فإنّ «كذا وكذا درهما» من باب «خمسة عشر درهما» لا من باب «رطل زيتا» فافهمه.

الفصل الثالث

في إعرابها

والذي يظهر لي أنّه مبنيّ على الخلاف في حقيقتها ، فإذا قيل : «له عندي كذا وكذا درهما» فإن قيل بالتّركيب فمجموع (كذا) مبتدأ خبره الجارّ والمجرور ، والظّرف متعلّق به ، والظّرف يعمل في الظّرف إذا كان متعلّقا بمحذوف ، لوقوعه موقع ما يعمل نحو : «أكلّ يوم لك ثوب». وإن قيل لا تركيب ، فإن قيل : الكاف اسم فهي المبتدأ ، وإن قيل حرف فالجارّ والمجرور صفة موصوف محذوف أي : له عندي عدد كذا وكذا درهما.

وقال ركن الدّين الإستراباذي في شرح كافية ابن الحاجب : «الغالب في تمييز كذا أن يكون منصوبا ، لأنّها بمنزلة (ملؤه) في قولك : «لي ملؤه عسلا». ويجوز كونه مجرورا بإضافة (كذا) إليه على تنزيلها منزلة ثلاثة ، ومائة ، وأن يكون مرفوعا فإذا قيل : «له عندي كذا درهم» ف (له) خبر مقدّم ، و (درهم) مبتدأ مؤخّر ، وكذا حال (هكذا). قالوا : وفيه نظر والأولى عندي أن يكون كذا مبتدأ ، و (درهم) بدلا أو عطف بيان ، و (له) خبر ، و (عندي) ظرف له» انتهى. وقد مضى أنّ الصحيح امتناع الرفع والجرّ.

الفصل الرابع

في بيان معناها عند النحويين

وفي ذلك أقوال :

أحدها : لابن مالك ، وهو أنّها للتكثير بمنزلة (كم) الخبريّة وتابعه على ذلك ابنه في شرحه لخلاصته ومقتضى قولهما هذا أنّها لا يكنى بها عمّا نقص عن الأحد عشر لأنّه عدد قليل.

١٦٣

الثاني : أنّها للعدد مطلقا قليلا كان أو كثيرا ، وهو قول سيبويه والخليل ومن تابعهما واختاره ابن خروف.

وممّن نقل ذلك عن سيبويه الأستاذ أبو بكر بن طاهر ، وذلك ظاهر من كلامه ، فإنّه قال : هذا باب ما جرى مجرى (كم) في الاستفهام ، وذلك قولك : «له كذا وكذا درهما» ، وهو مبهم من الأشياء بمنزلة (كم) ، وهو كناية للعدد ، صار ذا بمنزلة التنوين. وقال الخليل : «كأنّهم قالوا : له كالعدد درهما» (١).

الثالث : أنّها بمنزلة ما استعملت استعماله من الأعداد الصريحة فيقال : «له كذا دراهم» فتكون للثّلاثة فما فوقها إلى العشرة ، و «.... كذا كذا درهما» فتكون للأحد عشر فما فوقها إلى التسعة عشر و «... كذا درهما» فتكون للعشرين وأخواتها من العقود إلى التّسعين ، و «كذا وكذا درهما» ، فتكون لأحد وعشرين وما فوقها من الأعداد المتعاطفة إلى التّسعة والتّسعين ، و «كذا درهم» فيكون للمائة وللألف وما فوقهما. فإذا أقرّ مقرّ بكلام فيه (كذا) ألزمناه بالمتيقّن ، وهو أوّل مرتبة من المراتب المشروحة ، وحلّفناه في الباقي. وهذا قول الكوفيّين وتبعهم جماعة منهم ابن معط في (فصوله) (٢).

الرابع : أنّ الأمر كما قالوا إلّا في مسألتي الإضافة فإنّهما ممتنعان لما قدّمنا من التّعليل ، فإن أردت العدد القليل أو المائة أو الألف وما فوقهما قلت : «كذا من الدّراهم» ، ويقدّر عند أهل هذا القول الفرق بين العدد القليل والمائة والألف لأنّ (من) إنّما تدخل على العدد المجموع المعرّف ، تقول : «عشرون من الدّراهم» ولا يجوز «عشرون من دراهم» وهذا قول المبرّد والأخفش وابن كيسان والسّيرافي. وبه قال الشّلوبين وابن عصفور والصّفّار. والذي جرّأهم على القول بذلك أبو محمّد بن السيّد ، فإنّه حكى اتفاق البصريّين والكوفيّين على ذلك ، وأنّ الخلاف إنّما هو في جواز الخفض ، نحو : كذا درهم ، وكذا دراهم. والبصريّون يمنعون والكوفيّون يجيزون. وفي كلام أبي البقاء في (شرح الإيضاح) ما هو أبلغ من هذا ، فإنّه قال : «وذهب معظم النحويّين وأصحاب الرّأي إلى أنّ من قال : «كذا درهما» ، لزمه عشرون درهما ، لأنّك لم تكرّر العدد ، ولم تعطف عليه ، ولم تضفه لتمييزه فحمل على أوّل عدد حاله ذلك فإن جررت الدّرهم ، فقد حمله النحويّون وأصحاب الرأي على (مائة)

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ١٧٣).

(٢) انظر الفصول (ص ٢٤٤).

١٦٤

انتهى. فنقل الجرّ عن النّحويّين ، ونقل إجراء (كذا) مجرى العدد الصريح في حالة نصب التمييز عن معظم النّحويّين.

الخامس : أنّ الأمر كما قال الكوفيّون في «كذا كذا درهما» وفي «كذا درهم» خاصّة. قاله الأستاذ أبو بكر بن طاهر. فهذا ما بلغنا من الأقوال.

فأمّا قول ابن مالك فكان الذي دعاه إليه أنّ سيبويه شبّهها ب (كم) الاستفهامية ، وهي بمنزلة الأحد عشر وأخواتها وليس هذا بشيء ، لأنّها إنما شبّهت بها في نصب التمييز لا في المعنى ، ألا ترى أنها ليست للاستفهام كما أن (كم) للاستفهام! ثمّ إنّ (كم) نفسها بمنزلة الأحد عشر ، ولا تختصّ بالعدد الكثير بدليل أنّك تقول : «كم عبدا ملكت» ، فيصحّ بالواحد فما فوقه.

وأمّا قول سيبويه والمحقّقين فوجهه أنّها كلمة مبهمة كما أنّ (كم) كلمة مبهمة فكما أنّك لو قلت : كم كم عبدا ملكت أو : «كم وكم عبدا ملكت» أو غير ذلك لم تقتض مساواة ما شابهته من العدد الصّريح ، فكذا (كذا).

وأمّا قول الكوفيّين ومن وافقهم فمردود من جهات :

أحدها : أنّه قول بلا دليل ، وإنّما هو مجرّد قياس في اللّغة. وذكر ابن إياز أنّ البستيّ ذكر في تعليقه أنّ أبا الفتح سأل أبا عليّ عن قولهم : إنّ «كذا كذا درهما» يحمل على : «أحد عشر درهما» ، و «كذا وكذا درهما» يحمل على أحد وعشرين ، و «كذا درهم» يحمل على مائة ، قال : «كذا وكذا وكذا درهما» يحمل على مائة وأحد وعشرين درهما فقال أبو عليّ : هذا من استخراج الفقهاء وليس هو في النّحو ، إنّما (كذا) بمنزلة عدد منوّن والجرّ خطأ.

الثاني : أنّ الناس اختلفوا فقال ابن خروف : إن العرب لم يقولوا : «كذا كذا درهما» ، ولا «كذا درهما» ولا «كذا دراهم» ، لا بالإضافة ولا بالنّصب. وعلى هذا فالحكم على هذه الألفاظ بما ذكروا باطل لأنه حكم على ما لا يتكلّم به فأين معناه؟. وقال ابن مالك في (التسهيل) : «وقلّ ورود (كذا) مفردا أو مكرّرا بلا واو» (١) ، فأثبت ورود هذين من خلافهم. والمثبت مقدّم على النافي ، ولكن لمّا قلّ استعمال هذين مع أنّ الحاجة التي دعت إلى الكناية عن العدد المعطوف والمعطوف عليه داعية إلى الكناية عن غيره من الأعداد دلّ على أن قولك «كذا وكذا» لا يختصّ بالعدد المعطوف والمعطوف عليه.

__________________

(١) انظر التسهيل (ص ١٢٥).

١٦٥

والثالث : أنّه سمع «أما بمكان كذا وكذا وجذ» وذلك دليل على أنّها لم ترد بها معطوف ومعطوف عليه.

والرابع : أنّ موافقة العدد المبهم للعدد الصّريح في طريقته في التّمييز وغيره لا يقتضي تساويهما في المعنى بدليل (كم) الاستفهاميّة ، فإنّك تقول : «كم درهما لك» وتقول : «كم وكم درهما لك» أو تسقط الواو فيجاب بجميع الأعداد في كلّ من هذه الصّور.

الخامس : أنّ إجازة «كذا درهم» و «كذا دراهم» باطل بما قدّمناه. وأجيب بأنّه خفض بالإضافة وأن معنى الإشارة قد زال. وأجاب الصفّار بأنّ المتكلّم ب (كذا) لا بدّ أن يقدّر في نفسه عددا ما ، وحينئذ تقول : «له عدد مثل هذا» أي : مثل هذا المركّب والمعطوف. وفي مثل هذا الجواب نظر ، وهو مبنيّ على ادّعاء عدم التّركيب وأنّ معنى التّشبيه باق وهو بعيد جدّا.

وأمّا قول أبي بكر : فحجّته أنّه سمع من العرب : «مررت بمكان كذا وكذا» و «بدار كذا» ولم يسمع مثل : «مررت بمكان كذا كذا» فلمّا كان ذلك واقعا على العدد ناسب أن يكون جاريا مجرى ما يوافقه من الأعداد. وليس هذا بشيء ، وقد جوّز «كذا درهم» بالخفض على أن يراد مائة درهم مع اعترافه بأنّه لم يسمع في غير العدد ، فما الفرق بينه وبين بقيّة الألفاظ.

وأمّا قول المبرّد والأخفش ومن وافقهما فزعم الشّلوبين وأصحابه أنّه القياس ، وأنّه لا ينافي قول سيبويه ، وأنّ قوله إنّها مبهمة ، ومعناه أنّ قولنا «كذا كذا» مبهم في الأحد عشر والتّسعة عشر وما بينهما لا أنّه مبهم في القليل والكثير وكذلك يقولون في الباقي.

الفصل الخامس

فيما يلزم بها عند الفقهاء

وقد اختلفت المذاهب في ذلك : فأمّا مذهب الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ ففي (المحرّر) (١) ما معناه أنّه إذا أفرد (كذا) أو كرّرها بلا عطف ، وكان التمييز منصوبا فيهما أو مرفوعا لزمه درهم ، فإن عطف ونصب أو رفع فكذلك عند ابن

__________________

(١) المحرّر : كتاب في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل تأليف مجد الدين أبي البركات عبد السّلام بن عبد الله بن تيمية وهو جدّ شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية.

١٦٦

حامد (١). وقال التّميمي (٢) : درهمان. وقيل : درهم وبعض آخر ، وقيل : درهم مع الرفع ودرهمان مع النّصب ، وإن قال ذلك كلّه بالخفض قبل تفسيره بدون الدّرهم. قال المصنّف : «وهذا كلّه عندي إذا كان يعرف العربيّة ، فإن لم يعرفها لزمه درهم في الجميع» (٣).

وأمّا مذهب الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فالفتيا عندهم على أنّه يلزم مع العطف والنصب درهمان ، فإن رفع أو جرّ لزمه درهم ، وكذا إن ركّب أو أفرد سواء رفع التمييز أو نصبه أو جرّه. ونقل المزنيّ (٤) عنه في «كذا كذا درهما» أنّه يلزمه درهمان. وكذا يروى عنه في مسألة العطف والنّصب.

وأمّا مذهب الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ ففي الجواهر لابن شأس (٥) ما معناه : إذا قيل : «له عليّ كذا» فهو كالشيء فلو قيل : «كذا درهما» فقال ابن عبد الحكم : يلزمه عشرون ، وإن قال : «كذا كذا درهما» لزمه أحد عشر ، وإن عطف فأحد وعشرون. وقال سحنون (٦) : ما أعرف هذا ، فإن كان هذا أقلّ ما يكون في اللّغة بهذا اللّفظ فهو كما قالوه ، وإن كان يقول القول قول المقرّ مع يمينه. وكذا يقول في «كذا وكذا دينارا أو درهما». وعلى الأوّل يجعل نصف الأحد والعشرين دنانير ، ونصفها دراهم.

وأمّا مذهب الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ فإنّه مطابق لقول الكوفيّين ، وفي الرّوضة من كتبهم عن جامع الكيساني عن أبي حنيفة أنّه يلزمه في العطف أحد عشر ، كما في التّركيب. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ابن حامد : الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي ، إمام الحنابلة في زمانه ومفتيهم ، له مصنّفات في الفقه وغيره منها : الجامع في فقه ابن حنبل ، وشرح أصول الدين ، وغيرها. (ت ٤٠٣ ه‍). ترجمته في مختصر طبقات الحنابلة (ص ٣٥٩) ، والنجوم الزاهرة (٤ / ٢٣٢).

(٢) عبد العزيز بن الحارث التميميّ : فقيه حنبلي ، له اطلاع على مسائل الخلاف ، صنّف كتبا في (الأصول) ، و (الفرائض) وغيرها. (ت ٣٧١ ه‍). ترجمته في المنتظم (٧ / ١١٠) ، وتاريخ بغداد (١٠ / ٤٦١).

(٣) انظر المحرّر (٢ / ٤٨١).

(٤) إسماعيل بن يحيى المزنيّ : صاحب الإمام الشافعي من كتبه : الجامع" كبير" و" جامع الصغير" والمختصر ، والترغيب في العلم. (ت ٢٦٤ ه‍). ترجمته في وفيات الأعيان؟؟؟).

(٥) ابن شأس : عبد الله بن محمد بن نجم بن شأس بن نزار ، جلال الدين ،؟؟؟ في عصره بمصر ، من كتبه : (الجواهر الثمينة) في فقه المالكية. (ت؟؟؟ ه). ترجمته في شذرات الذهب (٥ / ٦٩).

(٦) سحنون : عبد السّلام بن سعيد بن حبيب التنوخي ، قاض وفقيه. (ت ٢٤٠ ه‍). ترجمته في الوافي بالوفيات (١ / ٢٩١) ، وقضاة الأندلس (ص ٢٨) ، ورياض النفوس (١ / ٢٤٩).

١٦٧

مسألة في التعجب

من إلقاء أبي بكر محمّد بن الأنباري : تقول : «ما أحسن عبد الله» (ما) رفع رفعتها بما في (أحسن) ، ونصبت (عبد الله) على التّعجّب.

وتقول في الذّمّ : «ما أحسن عبد الله» ، ف (ما) لا موضع لها لأنّها جحد ، ورفعت (عبد الله) بفعله ، وفعله (ما أحسن).

وتقول في الاستفهام : «ما أحسن عبد الله»؟ ف (ما) رفع ب (أحسن) ، و (أحسن) بها ، والتأويل : أيّ شيء فيه أحسن؟ أعيناه أو أنفه؟.

وتقول إذا رددته إلى نفسك في التّعجّب : «ما أحسنني» ، ف (ما) رفع بما في أحسنني ، والنون والياء موضعهما نصب على التّعجّب.

وتقول في الذّمّ إذا رددته إلى نفسك : «ما أحسنت» ، ف (ما) جحد لا موضع لها ، والتاء مرفوعة بفعلها ، وفعلها «ما أحسنت».

وتقول في الاستفهام : «ما أحسنني»؟ ف (ما) رفع ب (أحسن) ، و (أحسن) بها ، والياء في موضع خفض بإضافة (أحسن) إليها.

فإن قلت : «أباك ما أحسن» أو «ما أباك أحسن» كان محالا ، لأنّه ما نصب على التّعجّب لا يقدّم على التّعجّب لأنّه لم يعمل فيه فعل متصرّف فيتصرّف بتصرّفه. وكان الكسائي يجيز «أبوك ما أحسن» ، قال : لمّا لم أصل إلى نصب الأب أضمرت له هاء تعود عليه فرفعته بها ، والتّقدير : أبوك ما أحسنه. وقال الفرّاء : لا أجيز رفع الأب لأنّه ليس هاهنا دليل يدلّ على الهاء ، ولا أضمر الهاء إلّا مع ستّة أشياء : مع (كلّ) و (من) و (ما) و (أيّ) و (نعم) و (بئس).

وتقول : «عبد الله ما أحسنه» ترفع (عبد الله) بما عاد عليه من الهاء ، ترفع ما بما في (أحسن) والهاء موضعها نصب على التّعجّب.

وتقول : «عبد الله ما أحسن جاريته» من قول الكسائي ، قال : لمّا لم أصل إلى نصب الأوّل أضمرت له هاء فرفعته بها. والفرّاء يحيلها ، قال : ليس هاهنا دليل على الهاء.

وتقول في الاستفهام : «عبد الله ما أحسنه»؟ برفع (عبد الله) ب (أحسن) و (أحسن) ب (عبد الله) ، و (ما) استفهام ، والهاء موضعها خفض بإضافة (أحسن) إليها. فإن قلت : «عبد الله ما أحسن» كان محالا وأنت تضمر الهاء ، لأنّ المخفوض لا يضمر ، ولأنّ المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد فلا يفرّق بينهما ، فلا تضمر المخفوض وتظهر الخافض.

١٦٨

وتقول : «عبد الله ما أحسن» ترفع (عبد الله) بما في (أحسن) ، و (ما) جحد لا موضع لها وإذا قلت : «ما أحسن عبد الله» فأردت أن تسقط (ما) وتتعجّب قلت : «أحسن بعبد الله». وإذا أردت أن تأمر من هذا قلت : «يا زيد أحسن بعبد الله رجلا ، وإذا ثنّيت قلت : «يا زيدان أحسن بعبدي الله رجلين» و «يا زيدون أحسن بعبيد الله رجالا» ، وتنصب (رجالا) على التّفسير و (أحسن) لا يثنّى ولا يجمع ، ولا يؤنّث ، لأنّه اسم و (أحسن) ليس بأمر للمخاطب ، وإنّما معنى (أحسن به) : (ما أحسنه) قال الله عزّ وجلّ : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : ٣٨] ، معناه ـ والله أعلم ـ : ما أسمعهم وأبصرهم.

وتقول : «كان عبد الله قائما» فإذا تعجّبت منه قلت : «ما أكون عبد الله قائما» ، ف (ما) مرفوعة بما في (أكون) ، واسم كان مضمر فيها ، و (عبد الله) منصوب على التّعجّب ، و (قائما) خبر كان ، فإن طرحت (ما) وتعجّبت قلت : «أكون بعبد الله قائما» و «أكون بعبدي الله قائمين» و «أكون بعبيد الله قياما». و «أحسن بعبد الله رجلا».

قال الفرّاء : لمّا لم أصرّح برفع الاسم أدخلت الباء لتدلّ على المطلوب ما هو ، وتأويله : «عبد الله حسن» فلمّا لم تصل إلى رفع (عبد الله) جئت بالباء لتدلّ على المطلوب ما هو.

وإذا قلت : «ظننت عبد الله قائما» فأردت أن تتعجّب ب (ما) قلت : «ما أظنّني لعبد الله قائما» ، فإن قال : أسقط (ما) وتعجّب قلت : «أظنن بي لعبد الله قائما». ـ آخر ما كان بخطّ ابن الجرّاح.

مخاطبة (١) جرت بين أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج

وأبي العباس أحمد بن يحيى

في مواضع أنكرها وغلّطه فيها من كتاب (فصيح الكلام) مستخرج من كتاب (النّزه والابتهاج) للشّمشاطي (٢).

أخبرنا الشيخ أبو الحسن المبارك بن عبد الجبّار بن أحمد الصيّرفيّ قراءة عليه ،

__________________

(١) انظر إرشاد الأريب (١ / ١٣٧) ، والمزهر (١ / ٢٠٢).

(٢) الشّمشاطي : علي بن محمد الشمشاطي العدوي ، عالم بالأدب ، له اشتغال بالتاريخ ، والشعر ، له تصانيف منها : النزه والابتهاج والأنوار في محاسن الأشعار ، والديارات ، وأخبار أبي تمام وغيرها.

(ت ٣٧٧ ه‍). ترجمته في إرشاد الأريب (٥ / ٣٧٥).

١٦٩

وأنا أسمع وهو يسمع ، فأقرّ به في شوّال من سنة تسعين وأربعمائة. قال أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الدهّان قراءة عليه ، قال : أخبرنا أبو أحمد عبد السّلام بن الحسين بن محمّد بن عبد الله البصريّ قال : أخبرنا بها فيما كتب إلينا أبو الحسن عليّ بن محمّد الشّمشاطي من الموصل قال :

قال أبو إسحاق إبراهيم بن السّريّ الزّجّاج ـ رضي الله عنه ـ : دخلت على أبي العبّاس ثعلب في أيّام أبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد وقد أملى شيئا من (المقتضب) ، فسلّمت عليه وعنده أبو موسى الحامض وكان يحسدني شديدا ، ويجاهرني بالعداوة ، وكنت ألين له وأحتمله لموضع الشيخوخة والعلم ، فقال لي أبو العبّاس ثعلب : قد حمل إليّ بعض ما أملاه هذا الخلديّ ، فرأيته لا يطوع لسانه بعبارته. فقلت له : إنّه لا يشكّ في حسن عبارته اثنان ، ولكنّ سوء رأيك فيه يعيبه عندك فقال : ما رأيته إلّا ألكن متفلّقا فقال أبو موسى : والله إنّ صاحبهم ألكن ـ يعني سيبويه ـ ، فأحفظني ذلك. ثمّ قال : بلغني عن الفرّاء أنّه قال : دخلت البصرة فلقيت يونس وأصحابه فسمعتهم يذكرونه بالحفظ والدّراية وحسن الفطنة فأتيته فإذا هو أعجم لا يفصح ، سمعته يقول لجاريته : هات ذيك الماء من ذاك الجرّة ، فخرجت من عنده ولم أعد إليه ، فقلت له : هذا لا يصحّ عن الفرّاء وأنت غير مأمون في هذه الحكاية ، ولا يعرف أصحاب سيبويه من هذا شيئا. وكيف تقول هذا لمن يقول في أوّل كتابه : «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» وهذا يعجز عن إدراك فهمه كثير من الفصحاء فضلا عن النّطق به. قال ثعلب : قد وجدت في كتابه نحوا من هذا. قلت : ما هو؟ قال : يقول في كتابه في غير نسخة «(حاشا) حرف يخفض ما بعده كما تخفض (حتّى) وفيها معنى الاستثناء» (١) فقلت : هذا هكذا في كتابه ، وهو صحيح ، ذهب في التّذكير إلى الحرف ، وفي التّأنيث إلى الكلمة.

قال : والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد.

الحمل على اللفظ والمعنى : قلت : كلّ جيّد ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) [الأحزاب : ٣١] وقرئ : ويعمل صالحا. وقال عزّ وجلّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] ذهب إلى المعنى ، ثمّ قال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] ذهب إلى اللّفظ. وليس لقائل أن يقول لو حمل الكلام على وجه واحد في الآيتين كان أجود لأنّ كلّ هذا جيّد. فأمّا نحن

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٣٦٨).

١٧٠

فلا نذكر (حدود) (١) الفرّاء لأنّ خطأه فيه أكثر من أن يعدّ ، ولكن هذا أنت عملت كتاب (الفصيح للمبتدئ المتعلّم) (٢) ، وهو عشرون ورقة أخطأت في عشرة مواضع منه. قال لي : اذكرها قلت نعم :

النسا أو عرق النسا : قلت : «وهو عرق النّسا» وهذا خطأ. إنّما يقال : النّسا ، ولا يقال : عرق النّسا ، كما لا يقال : عرق الأبهر ، ولا عرق الأكحل ، قال امرؤ القيس : [التقارب]

٦٧١ ـ فأنشب أظفاره في النّسا

فقلت : هبلت ألا تنتصر

هل الحلم اسم أو مصدر وقلت : «حلمت في النّوم أحلم حلما وحلما» و (الحلم) ليس بمصدر ، وإنما هو اسم ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور : ٥٨] ، وإذا كان للشيء مصدر واسم لم يوضع الاسم موضع المصدر ، ألا ترى أنّك تقول : حسبت الشيء أحسبه حسبا وحسبانا ، والحسب المصدر ، والحساب الاسم فلو قلت : أبلغ الحسب إليك ، ورفعت الحسب إليك ، لم يجز وأنت تريد أبلغ الحساب ورفعت الحساب إليك.

امرأة عزب أم عزبة : وقلت : رجل عزب وامرأة عزبة وهذا خطأ ، إنّما يقال : رجل عزب ، وامرأة عزب ، لأنّه مصدر وصف به فلا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، كما يقال : رجل خصم وامرأة خصم. وقد أتيت بباب من هذا النّوع في الكتاب وأفردت هذا منه قال الشّاعر : [الرجز]

٦٧٢ ـ يا من يدلّ عزبا على عزب

نطق كسرى : وقلت : «كسرى» ، بكسر الكاف. وهذا خطأ ، فإنّما هو كسرى ، والدليل على ذلك أنّا وإيّاكم لا نختلف في أنّ النّسب إلى (كسرى) (كسرويّ) بفتح الكاف ، وهذا ليس ممّا تغيّره ياء النّسب لبعده منها ، ألا ترى أنّك لو نسبت إلى (معزى) قلت : (معزويّ) ، وإلى (درهم) (درهميّ) ، ولا تقول : معزويّ ، ولا درهميّ.

وعدته وأوعدته : وقلت : «وعدت الرّجل خيرا وشرّا فإذا لم تذكر الشرّ قلت :

__________________

(١) كتاب (الحدود) للفراء : جمع فيه أصول النحو.

(٢) الكتاب من مصنفات ثعلب.

٦٧١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٦١) ، والمخصص (٤ / ٣٠) ، وتاج العروس (نسو).

٦٧٢ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عزب) ، وتهذيب اللغة (٢ / ١٤٧) ، والمخصص (٤ / ٢٣) ، وتاج العروس (عزب) ، و (حمرس).

١٧١

أوعدته بكذا». فقولك (بكذا) نقض لما أصّلت لأنّك قلت : بكذا ، وقولك بكذا كناية عن الشرّ. والصواب أن تقول : فإذا لم تذكر الشرّ قلت أوعدته.

المطوّعة : وقلت : «وهم المطوّعة» وإنّما هم المطّوّعة بتشديد الطاء ، كما قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٧٩]. فقال : ما قلت إلّا المطّوّعة. فقلت : هكذا قرأته عليك وقرأه غيري وأنا حاضر أسمع مرارا.

وزن اسم المرة والهيئة من الثلاثي : وقلت : «هو لرشدة وزنية» كما قلت : «هو لغيّة» والباب فيهما واحد لأنّه إنّما يريد المرّة الواحدة ، ومصادر الثّلاثي إذا أردت المرّة الواحدة لم تختلف ، تقول : ضربته ضربة وجلست جلسة وركبت ركبة ، لا اختلاف في ذلك بين أحد من النّحويّين ، فإنّما يكسر من ذلك ما كان هيئة حال فتصفها بالحسن والقبح وغيرهما ، فتقول : هو حسن الجلسة والسّيرة والرّكبة وليس هذا من ذلك.

ضبط أسنمة : وقلت : «أسنمة» للبلد ، ورواه الأصمعيّ بضمّ الهمزة : أسنمة. فقال : ما روى ابن الأعرابيّ وأصحابنا إلّا أسنمة ، فقلت : قد علمت أنت أنّ الأصمعيّ أضبط لما يحكي وأوثق فيما يروي.

وقلت : «إذا عزّ أخوك فهنّ» (١) والكلام فهن ، وهو من هان يهين إذا لان ، ومنه قيل : «هيّن ليّن» ، لأنّ (فهن) من هان يهون من الهوان ، والعرب لا تأمر بذلك ولا معنى لهذا الكلام يصحّ لو قالته العرب. ومعنى (عزّ) ليس من العزّة التي هي المنعة والقدرة وإنما هو من قولك : عزّ الشيء إذا اشتدّ. ومعنى الكلام : إذا صعب أخوك واشتدّ فذلّ له من الذّلّ ، ولا معنى للذلّ هاهنا كما تقول : إذا صعب أخوك فلن له.

قال : فما قرئ عليه (كتاب الفصيح) بعد ذلك على ما بلغني ، ثمّ بلغني أنّه سئم ذلك فأنكر (كتاب الفصيح) أن يكون له. تمّت والحمد لله ربّ العالمين.

انتصار ابن خالويه لثعلب

انتصار أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني لأبي العبّاس ثعلب فيما تتبّعه عليه أبو إسحاق الزّجّاج رحمهم الله تعالى أجمعين.

قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني ـ رحمه الله تعالى ـ :

__________________

(١) انظر مجمع الأمثال للميداني (١ / ٢٢).

١٧٢

أمّا قول ثعلب : «عرق النّسا» فقد أجمع كلّ من فسّر القرآن من الصّحابة والتابعين رضي الله عنهم وهلمّ جرّا أنّ معنى قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] : لحوم الإبل وألبانها فقال عليّ وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ وكلّ من فسّر القرآن : إنّ يعقوب عليه السّلام كان به عرق النّسا. فلم يجز لثعلب أن يترك لفظ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويأخذ بقول الشّاعر (١) : [المتقارب]

فأنشب أظفاره في النّسا

[فقلت هبلت ألا تنتصر]

وأمّا قوله في : «حلمت في النوم حلما وحلما» : فقد غلط أنّه أقام الاسم مقام المصدر ؛ فخطأ ، لأنّ الحلم مصدر واسم ؛ يقال : رعب الرّجل رعبا ورعبا وحلم الرّجل حلما وحلما. وهذا ممّا وافق الاسم فيه المصدر مثل النّقص والعلم ؛ تقول : علمت علما ، وفي فلان علم ، فالعلم مصدر واسم.

وأمّا احتجاجه بقوله تعالى : (يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور : ٥٨] ، فهذه حجّة عليه ؛ لأنّه أراد المصدر هاهنا أي : لم يبلغوا الاحتلام. وأمّا قوله : حسب الحساب ولم يقل الحسب فخطأ فاحش ، فإنّ العرب قد تذكر الاسم في موضع المصدر فيقولون : «أعطيته عطاء» في موضع (إعطاء) ، و «هذا يوم عطاء الجند ، وعطاء الأمير» وكما استغنوا بلفظ الاسم عن المصدر ، كذا استغنوا بالحساب عن الحسب ولا سيّما إذا كان الحسب لفظا يشبه الكفاية ، و (حسبك) أي (كفاك).

وأمّا قوله في «رجل عزب» : إنّه مصدر لا تدخله الهاء فخطأ عظيم ، لأنّ العزب اسم وصفة بمنزلة العازب قال ابن أحمر : [البسيط]

٦٧٣ ـ حتّى إذا ذرّ قرن الشّمس صبّحها

أضري ابن قرّان بات الوحش والعزبا

وسمّي العزب عزبا لأنّه قد بعد عن النّكاح ، قال الأصمعيّ وابن الأعرابيّ والطّوسي : «أراد : بات عازبا ، والأضري : كلاب الصّيد ، جمع ضرو. والدليل على أنّ العزب اسم الفاعل أنّك تجمعه على فعّال ، قوم عزّاب وامرأة عزبة». وقد ذكره أبو عبيد في المصنّف كما ذكره ثعلب ، ولكنّهم فرّقوا بين العازب البعيد في المسافة ، وبين العزب البعيد من النّكاح. ويقال : امرأة عزب وعزبة غير أن ثعلبا اختار اللّغة الفصحى. وأمّا تشبيهه (عزبا) ب (خصم) فخطأ ثان ، لأنّ الخصم كالعدل والرّضى

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٧١).

٦٧٣ ـ الشاهد لابن أحمر في ديوانه (ص ٤٣) ، ولسان العرب (ضرا).

١٧٣

والدّنف والقمن والصّوم والفطر وما شاكل ذلك ، فإنّه جرى عند العرب كالمصدر لا يثنّى ولا يجمع في اللّغة الفصيحة ، قال الله تعالى : (هؤُلاءِ ضَيْفِي) [الحجر : ٦٨] وقد يقال : أضياف ، وضيوف ، وامرأة ضيفة وضيف. وقال ذو الرّمّة : [البسيط]

٦٧٤ ـ تجلو البوارق عن مجر مّز لهق

كأنّه متقبّي يلمق عزب

والعزب هاهنا المفرد. وقد قالت العرب : امرأة محمق ومحمقة ، وعاشق وعاشقة ، وغلام وغلامة ورجل ورجلة ، وشيخ وشيخة ، وكهلّ وكهلة وشبه هذا لا يحصى كثرة ، فلا أدري لم عاب عزبا وعزبة. وقد حكاه أبو عبيد في (المصنّف) ، كما حكاه ثعلب.

وأمّا قوله : إن الاختيار (كسرى) بالفتح ، لأنّ النّسب إليه (كسرويّ) فخطأ عظيم ، لأنّ (كسرى) ليس عربيّا ، ولم يكن في الأصل (كسرى) ولا (كسرى) ، إنّما هو بالفارسيّة : (خسرو) بضمّ الخاء ، وليس في كلام العرب اسم في آخره واو قبلها ضمّة ، فعرّبته العرب إلى لفظ آخر ، فإن فتحت أو كسرت فقد أصبت ، والكسر أجود ، لأنّ (فعلى) يشبه الاسم المفرد ، مثل الشّعرى ، وذكرى ، فلمّا كان (كسرى) رجلا واحدا و (الشّعرى) نجما واحدا ردّه إلى ألفاظهم ، ولو قالوا : (كسرى) أشبه الجمع مثل (قتلى) و (جرحى) ، فلمّا نسب إليه انفتح فقالوا : (كسرويّ) لأنّ الكسر مع ياء النّسب مستثقل ، ألا ترى أنّهم يقولون في : (تغلب) (تغلبيّ). وليس يشبه (كسرويّ) النّسب إلى (درهم) و (معزى) ، لأنّ (درهما) ليس فيه لغتان الكسر والفتح ، وكذلك (معزى) لا يقال : (درهم) ولا (معزى) فيختار في النّسب الفتح لخفّته ، وهو واضح بحمد الله. وحدّثنا ابن دريد عن أبي حاتم ـ وكان من أشدّ الناس تعصّبا على الكوفيّين ـ في كتاب (ما يلحن فيه العامّة) أنّ (كسرى) بالكسر أفصح من الفتح ، وكذلك ذكر أبو عبيد أنّ الكسر أفصح.

وأمّا قوله : وعدته الشّرّ فإذا لم تذكر الشّرّ قلت أوعدته بكذا ، وزعم أنّه نقض لما أصّل فقد غلط لأنّ ثعلبا إنّما قال : وعدت الرّجل خيرا وشرّا ، لأنّ الله تعالى قال : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج : ٧٢] ، فهذا في الشّرّ. وقال الله عزّ وجلّ : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) [الأنفال : ٧] ، فهذا في الخير ، فإذا لم تذكر الشّرّ قلت : (أوعدته) على الإطلاق ، و (وعدته) على الإطلاق في الخير ، فإذا قرنتهما

__________________

٦٧٤ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٨٧) ، ولسان العرب (يلمق) ، و (قبا) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٩٥٦) ، وتاج العروس (يلمق) و (قبا) ، وبلا نسبة في المخصص (١٤ / ٤١).

١٧٤

ووصلتهما جاز استعمالهما جميعا في الخير والشّرّ كما تقول : وعدته خيرا وشرّا. وأجمع الجميع على أنك إذا قلت : أوعدته بكذا ، لا يكون إلّا في الشّرّ ، لا خلاف في ذلك ، وأنشدوا : [الرجز]

٦٧٥ ـ أوعدني بالسّجن والأداهم

رجلي ، ورجلي شثنة المناسم

وقال ابن دريد : ممّا أجمع عليه أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعيّ : أوعدته بالشّرّ لا غير مع الباء.

وأمّا قوله لثعلب : إنّ في الفصيح «هم المطوّعة» بالتّخفيف ، وإنّما هم (المطوّعة) بالتّشديد ، وأنّ ثعلبا قال : ما قلت إلّا بالتّشديد ، فقال ما قلت إلّا بالتّخفيف ، فهذا مكابرة العيان ، والحجّة على هذا ساقطة.

وأمّا قوله : «لرشدة وزنية» وإنّما يجب أن يكون بالفتح مثل : ضربته ضربة ، فهذا خطأ ، لأنّه قد يجاء بالكسر والفتح والضمّ ، حدّثنا ابن مجاهد عن السّمّريّ عن الفرّاء أنّ العرب تقول : «حججت حجّة واحدة» بالكسر ، و «رأيته رؤية واحدة» بالضمّ وسائر كلام العرب بالفتح. وممّا يجاء بالكسر : «وعدته عدة» و «وزنته زنة» ، وأمّا الاسم فيجاء على فعله ، و «لكلّ وجهة» اسم ، ولو كان مصدرا لقيل : (جهة). فأمّا الهيئة والحال فبالكسر : ما أحسن ركبته ، وجلسته ، وعمّته ، واختيار الكوفيّين : «ولد فلان لزنية ورشدة وخبثة» واختيار البصريّين الفتح. وأمّا (غيّة) فإجماع أنّها مفتوحة استثقالا للكسر مع الياء والتشديد.

وأمّا قوله : هي (أسنمة) بالضمّ ، فالجواب ساقط عن هذا ، ومعارضة الزّجّاج فيه جهل لأنّ الكوفيّين عندهم أنّ ابن الأعرابيّ أعلم من الأصمعي بطبقات وأورع.

وأمّا قوله : «إذا عزّ أخوك فهن» فهو بضمّ الهاء ، وهذا مثل أسير في كلام العرب وأشهر من الفرس الأبلق. وكذلك رواه كلّ من ألّف كتابا : أبو عبيدة في (المجلّة

__________________

٦٧٥ ـ الرجز للعديل بن الفرخ في خزانة الأدب (٥ / ١٨٨) ، والدرر (٦ / ٦٢) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٩٠) ، وتاج العروس (دهم) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب (٣ / ٢٦٦) ، وإصلاخ المنطق (ص ٢٢٦) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٢٤) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٣٩) ، وشرح التصريح (٢ / ١٦٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٢١) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٧٢) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥١٠) ، وشرح المفصّل (٣ / ٧٠) ، وتاج العروس (وعد) ، ومقاييس اللغة (٦ / ١٢٥) ، ولسان العرب (وعد) ، و (رهم) ، ومجالس ثعلب (ص ٢٧٤) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٢٧) ، وتهذيب اللغة (٣ / ١٣٤) ، ومجمل اللغة (٤ / ٥٣٩) ، والمخصص (١٢ / ٢٢١).

١٧٥

الثانية) ، وأبو عبيد في (الأمالي) ، والمفضّل الضّبّي ، وليس مأخوذا ممّا ذهب إليه الزجّاج ، لأنّه كان قليل العلم باللّغة فقولهم : «إذا عزّ أخوك فهن» ليس من الهوان ، ولا من وهن ، ولا من هان يهين ، وإنّما هو من الهون ، وهو من الرفق والسّكون. قال الله تعالى في صفة المؤمنين : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] معناه : يمشون على الأرض بالسّكينة والوقار فإذا عزّ أخوك واشتطّ فترفّق أنت ولن. وقال الشاعر : [الوافر]

٦٧٦ ـ دببت لها الضّراء وقلت أبقى

إذا عزّ ابن عمّك أن تهونا

ولا يكون الأمر من (يهون) إلّا (هن). وهذا الشّعر لابن أحمر الباهلي ، ورواه الأصمعيّ وابن الأعرابيّ والطّوسيّ ، ولا نعلم خلافه. والله تعالى أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

مسائل وردت على ابن الشجري وردّه عليها

قال (٢) ابن الشجري في أماليه : ورد عليّ من الموصل ثماني مسائل :

الأولى : السؤال عن الراجع إلى القتال من خبره في قول الشاعر : [الطويل]

٦٧٧ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم

ولكنّ سيرا في عراض المواكب

وعن معنى البيت.

الثانية : السؤال عن قول الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠ ـ ٤٧] لم لم يجمع الضمير الذي هو التّاء في (أرأيتكم) ولم يثنّ في (أرأيتكما).

الثالثة : السؤال عن جدّ الاسم الذي يسلم عن الطّعن.

__________________

٦٧٦ ـ الشاهد لابن أحمر في ديوانه (ص ١٦٥) ، ولسان العرب (عزز) ، وتاج العروس (عزز).

(١) انظر الأمالي (١ / ٢٨٥).

٦٧٧ ـ الشاهد للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه (ص ٤٥) ، وخزانة الأدب (١ / ٤٥٢) ، والدرر (٥ / ١١٠) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٠٦) ، وأوضح المسالك (٤ / ٢٣٤) ، والجنى الداني (ص ٥٢٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٢٦٥) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١٠٧) ، وشرح شواهد المغني (ص ١٧٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٣٤) ، والمنصف (٣ / ١١٨) ، ومغني اللبيب (ص ٥٦) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥٧٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ٦٧).

١٧٦

الرابعة : السؤال عن وجه رفع (الشرّ) ونصبه ، ونصب (الماء) ، ورفعه في قول الشاعر : [الطويل]

٦٧٨ ـ فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

الخامسة : السؤال عن (مزيّن) تصغير أي شيء هو.

السادسة : السؤال عن العلّة الموجبة لفتح التّاء في (أرأيتكم) ، وهو لجماعة.

السابعة : السؤال عن العامل في (إذا) من قول الشاعر : [الطويل]

٦٧٩ ـ وبعد غد يا لهف نفسي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

ما هو؟.

الثامنة : السؤال عن تبيين إعراب قول أبي عليّ : «أخطب ما يكون الأمير قائما» و «شربي السّويق ملتوتا».

الإجابة عن المسائل

المسألة الأولى : الجواب بتوفيق الله وحسن تسديده عن المسألة الأولى :

إنّ الجملة المركّبة من (لا) واسمها وخبرها وقعت خبرا عن القتال في قوله (٣) : [الطويل]

فأمّا القتال لا قتال لديكم

[ولكنّ سيرا في عراض المواكب]

وهي عارية عن ضمير عائد منها إلى المبتدأ ، وإنّما جاز ذلك لأنّ اسم (لا) نكرة شائعة مستغرقة للجنس المعرف بالألف واللام ، ف (قتال) المنكور مشتمل على القتال الأول ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «لا إله إلّا الله» ، عمّت لفظة (إله) جميع ما يزعم المبطلون أنّه مستحقّ لإطلاق هذه اللّفظة عليه ، وليس يجري قولك : «لا رجل في الدّار» إذا رفعت مجرى قولك : «لا رجل في الدّار» إذا ركّبت ، لأنّك إذا قلت : «لا رجل في الدّار» جاز أن تعقبه بقولك : بل رجلان ، وبل ثلاثة ، ولا يجوز ذلك مع

__________________

٦٧٨ ـ الشاهد ليزيد بن الحكم في خزانة الأدب (١٠ / ٤٧٢) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١١٥) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٦٩٦) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٨٩) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (ص ٦٣٤) ، والإنصاف (١ / ١٨٤).

٦٧٩ ـ الشاهد لأبي الطممان القيني في الأغاني (١٣ / ١١) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٢٦٦) ، ولأبي الطممان أو لهدبة بن خشرم في شرح شواهد المغني (١ / ٢٧٤) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٦٥٤) ، ومغني اللبيب (ص ٩٤).

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٧٧).

١٧٧

تركيب (لا) ، لأنّك إذا رفعت كأنّما نفيت واحدا وإذا ركّبت فإنّما نفيت الجنس أجمع. وإذا عرفت هذا فدخول (القتال) الأوّل تحت القتال الثاني يقوم مقام عود الضّمير إليه. ومثل هذا البيت ما أنشده سيبويه : [الطويل]

٦٨٠ ـ ألا ليت شعري هل إلى أمّ معمر

سبيل فأمّا الصبر عنها فلا صبرا

فالصبر من حيث كان معرفة داخل تحت (صبر) المنفيّ لشياعه بالتّنكير. ونظير هذا أنّ قولهم : «نعم الرّجل زيد» في قول من رفع زيدا بالابتداء فأراد : زيد نعم الرجل ، يدخل فيه زيد تحت (الرّجل) لأنّ المراد بالرّجل هاهنا الجنس فيستغني المبتدأ بدخوله تحت الخبر عن عائد إليه من الجملة ، ويوضّح لك هذا أنّ قولك : «زيد نعم الرّجل» كلام مستقلّ ، وقولك : «زيد قام الرّجل» كلام غير مستقلّ ، وإن كان قولك : (قام الرّجل) جملة من فعل وفاعل كما أنّ قولك : (نعم الرّجل) كذلك. ولم يستقم قولك : «زيد قام الرّجل» حتّى تقول : (إليه) ، أو (معه) ، أو نحو ذلك ، لكون الألف واللام فيه لتعريف العهد فالمراد به واحد بعينه. والرّجل في قولك : «زيد نعم الرّجل» بمنزلة الإنسان في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ـ ٢] ، ألا ترى أنّه استثني منه (الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٣] ، والاستثناء من واحد مستحيل ، لا يصحّ إذا استثنيت واحدا من واحد ، فكيف إذا استثنيت جمعا من واحد! ومثله : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) [الشورى : ٤٨] ، فالمراد بالإنسان هاهنا الناس كافّة فلذلك قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) [الشورى : ٤٨]

وإذا كان الاسم المعرّف بالألف واللّام نحو : (الرّجل) و (الإنسان) قد استوعب الجنس فما ظنّك باسم الجنس المنكور المنفيّ في قوله : «لا قتال لديكم» وقول الآخر (٢) : [الطويل]

[ألا ليت شعري هل إلى أم معمر]

سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا

والتنكير والنّفي يتناولان من العموم ما لا يتناوله التعريف والإيجاب ، ألا ترى

__________________

٦٨٠ ـ الشاهد لابن ميادة في ديوانه (ص ١٣٤) ، والأغاني (٢ / ٢٣٧) ، والحماسة البصرية (٢ / ١١١) ، وخزانة الأدب (١ / ٤٥٢) ، والدرر (٢ / ١٦) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٦٩) ، وشرح التصريح (١ / ١٦٥) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٧٦) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥٢٣) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب (٢ / ٥٠١) ، وهمع الهوامع (١ / ٩٨) ، والكتاب (١ / ٤٥٤).

(١) مرّ الشاهد رقم (٦٨٠).

١٧٨

أنّ قولهم : ما أتاني من أحد ، وقوله تعالى : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ*) [الأعراف : ٨] و [العنكبوت : ٢٨] ، متناول غاية العموم. ولو حاولت أن تقول : «أتاني من أحد» كان ذلك داخلا في باب استحالة الكلام.

ويشبه ما ذكرته من الاستغناء بدخول الاسم المبتدأ في اسم العموم الذي بعده عن عود ضمير إليه من الجملة تكرير الاسم الظاهر مستغنى به عن ذكر المضمر ، وذلك إذا أريد تفخيم الأمر وتعظيمه كقول عديّ بن زيد : [الخفيف]

٦٨١ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

واستغنى بإعادة ذكر الموت عن الهاء لو قال مع صحّة الوزن (يسبقه). ومثله في التنزيل : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢] ، (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ـ ٢] ، (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] ، فالحاقّة : مبتدأ ، وقوله (ما الحاقّة) جملة من مبتدأ وخبر ، خالية من ضمير يعود على المبتدأ ، لأنّ تكرير الظاهر أغنى عن الضّمير العائد ، فالتقدير : أيّ شيء الحاقّة ، وكذلك (ما القارعة) و (ما أصحاب اليمين) التقدير فيهما : أيّ شيء القارعة ، وأيّ شيء أصحاب اليمين ، كما تقول : «زيد رجل أيّ رجل» فاستغني بتكرير الظاهر عن أن يقال : الحاقّة ما هي ، والقارعة ما هي ، وأصحاب اليمين ما هم.

وإنما حسن تكرير الاسم الظّاهر في هذا النحو لأنّ تكريره هو الأصل ، ولكنّهم استعملوا المضمرات فاستغنوا بها عن تكرير المظهرات إيجازا واختصارا ، فلمّا أرادوا الدّلالة على التّفخيم جعلوا تكرير الظّاهر أمارة لما أرادوه من ذلك. وأمّا معنى البيت فإنّه أراد ذمّ الذين خاطبهم فيه فأراد : ليس عندكم قتال وقت احتياجكم إليه ، ولا تحسنونه ، وإنّما عندكم أن تركبوا الخيل وتسيروا في المواكب العراض.

وفي البيت حذف اقتضاه إقامة الوزن لم يسأل عنه صاحب هذه المسائل ، وهو حذف الفاء من جواب أمّا ، وذلك أنّ (أمّا) حرف استئناف وضع لتفصيل الجمل. وحكم الفاء بعده حكم الفعل في امتناعها من ملاصقة (أمّا) ، لأنّ الفاء إذا اتّصلت بالجزاء صارت كحرف من حروفه ، فكما لا يلاصق فعل الجزاء فعل الشّرط كذلك

__________________

٦٨١ ـ الشاهد لعدي بن بن زيد في ديوانه (ص ٦٥) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٧٨) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٦) ، ولسوادة بن عدي في الكتاب (١ / ١٠٦) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٧٦) ، ولسوادة أو لعديّ في لسان العرب (نغص) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٢٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ١٥٣) ، وخزانة الأدب (١١ / ٣٦٦) ، والخصائص (٣ / ٥٣).

١٧٩

الفاء ، ألا ترى أنّ الفاء في قولك : «إن يقم زيد فعمرو يكرمه» قد فصل بينها وبين الشّرط (زيد) وكذلك إذا قال : «إن تقم فعمرو يكرمك» فقد فصل بين الشّرط والفاء الضمير المستكنّ فيه ، فلمّا تنزّلت (أمّا) منزلة الفعل الذي هو الشّرط لم يجز أن تلاصقه الفاء.

فإن قال قائل : هل يجوز أن تكون هذه الفاء زائدة فلذلك جاز حذفها في الشّعر؟ قيل : لا يخلو أن تكون عاطفة ، أو زائدة ، أو جزاء ، فلا يجوز أن تكون عاطفة لدخولها على خبر المبتدأ ، وخبر المبتدأ لا يعطف على المبتدأ. ولا يجوز أن تكون زائدة لأنّ الكلام لا يستغني عنها في حال السّعة ، فلم يبق إلّا أن تكون جزاء. وهي حرف وضع لتفصيل الجمل ، وقطع ما قبله عمّا بعده عن العمل. وأنيب عن جملة الشّرط وحرفه ، فإذا قلت : «أمّا زيد فعاقل» فالمعنى والتقدير عند النحويّين : مهما يكن من شيء فزيد عاقل ، فاستحقّ بذلك جوابا ، وجوابه جملة تلزمها الفاء إمّا أن تكون مبتدئيّة أو فعليّة ، والفعليّة إمّا أن تكون خبريّة أو أمريّة أو نهييّة. ولا بدّ أن يفصل بين (أمّا) وبين الفاء فاصل مبتدأ أو مفعول أو جارّ ومجرور ، فالمبتدأ كقولك : «أمّا زيد فكريم وأمّا بكر فلئيم» ، والمفعول كقولك : «أمّا زيدا فأكرمت» و «أمّا عمرا فأهنت» والجارّ والمجرور كقولك : «أمّا في زيد فرغبت» ، و «أمّا على بكر فنزلت» ومثال وقوع الجملة الأمريّة قولك : «أمّا محمدا فأكرم وأمّا عمرا فأهن» كأنّك قلت : مهما يكن من شيء فأكرم محمّدا ، ومهما يكن من شيء فأهن عمرا. ومثال النّهي قولك : «أمّا زيدا فلا تكرم» و «أمّا عمرا فلا تهن» ، ومثله في التنزيل : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ٩ ـ ١٠]. ومثال فصلك بالجارّ والمجرور في قولك : «أمّا بزيد فامرر» قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١]. وإنّما لم يجز أن تلاصق (أمّا) الفعل لأنّ (أمّا) لمّا تنزّلت منزلة الفعل الشّرطيّ ـ والفعل لا يلاصق الفعل ـ امتنعت من ملاصقة الأفعال.

فإن قيل : فقد تقول : «زيد كان يزورك» و «عمرو ليس يلمّ بك» فتلاصق (كان) و (ليس) الفعل.

فالجواب : أنّ الضّمير في (كان) و (ليس) فاصل في التقدير بينهما وبين ما يليهما وهذا الفاصل يبرز إذا قلت : «الزيدان كانا يزورانك» و «العمران ليسا يلمّان بك» وكذلك حكم الجمع إذا قلت : كانوا ، وليسوا ، وحكم الفاء حكم الفعل في امتناعها من ملاصقة أمّا لأنّ الفاء إذا اتصلت بالجزاء صارت كحرف من حروفه فكما

١٨٠