الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

الثاني : «اشترك زيد وعمرو».

الثالث : «زيد قام عمرو وأبوه». وهاتان جائزتان على التّقدير الأوّل دون الثّاني.

الرابع : النّفي ، فنقول على الأوّل : «ما قام زيد وعمرو» فيفيده كما تقول : «ما قام زيد ولا قام عمرو» انتهى. وهو كلام حسن بديع ، وقد أورده أبو حيّان في الارتشاف وهو كالمنكر له للطفه وغرابته.

وقال الزّمخشري في تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ..) [الأحزاب : ٣٦] : «فإن قلت : كان من حقّ الضمير أن يوحّد كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلّا كان من شأنه كذا وكذا ، قلت : نعم ، لكنّهما وقعا تحت النفي فعمّا كلّ مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير على المعنى لا على اللّفظ» انتهى.

وقد أشكل هذا الكلام على بعضهم فاعترضه ، وذلك لأنّ النّحويّين نصّوا على : أنّ الضمير بعد الواو ـ لكونها موضوعة للجمع ـ يكون على حسب المتعاطفين ، تقول : «زيد وعمرو أكرمتهما» ويمتنع (أكرمته) ، وأجابوا عن قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [البقرة : ٦٢] ، وأنّ الضمير بعد (أو) ـ لكونها موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء ـ يكون على حسب أحد المتعاطفين ، تقول : «زيدا أو عمرا أكرمه» ولا تقول : (أكرمهما) ، وأجابوا عن قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥].

فلمّا رأى هذا المعترض هذه القاعدة أشكل عليه قول الزّمخشري : كان من حقّ الضمير أن يوحّد ، لأنّ العطف فيهما بالواو ، وسؤال الزّمخشريّ على ما قدّمت تقريره ، أنّ الكلام مع النّافي جملتان لا جملة. والواو إنّما تكون للجمع إذا عطفت مفردا على مفرد ، لا إذا عطفت جملة على جملة ، ومن ثمّ منعوا أن يقال : «هذان يقوم ويقعد» وأجازوا : «هذان قائم وقاعد» لأنّ الواو جمعت بينهما وصيّرتهما كالكلمة الواحدة المثنّاة التي يصحّ الإخبار بها عن الاثنين.

وقال سيبويه ـ رحمه الله ـ : «إذا قيل : «رأيت زيدا وعمرا» ثمّ أدخل حرف النّفي فإن كانت الرؤية واحدة قلت : «ما رأيت زيدا وعمرا» وإن كنت قد مررت بكلّ منهما على حدة قلت : «ما مررت بزيد ولا مررت بعمرو». وهذا معنى ما نقل عنه

١٤١

ابن عصفور في (شرح الجمل). فأوجب تكرار النّافي عند تكرار الفعل ، ولكنّه صرّح بالفعل مع النّافي ، وقد بيّنا أنّ تكرار النّافي كاف لأنّه مستلزم تكرير الفعل.

إذا تقرّر هذا فنقول : إذا كرّر الحالف النّافي فهي أيمان لما بيّنا من أنّ تكرار (لا) يؤذن بتكرار الفعل وصار قوله : «والله لا كلّمت زيدا ، ولا عمرا ولا بكرا» بمنزلة قوله : «والله لا كلّمت زيدا ، ولا ماشيت عمرا ، ولا رأيت بكرا». وهذه أيمان قطعا ، يجب في كلّ منها كفّارة ، فكذلك في المثال المذكور ، لا يفترقان إلّا فيما يرجع إلى التّصريح والتّقدير ، وكون الأفعال متّحدة المعنى أو متعدّدة ، وكلا الأمرين لا أثر له.

وإذا لم يكرّر النّافي فالكلام محتمل لليمين والأيمان بناء على نيّة الفعل وعدمها وإنّما حكموا بأنّها يمين واحدة بناء على الظاهر ، كما أنّهم لم يحكموا باتحاد اليمين مع تكرار (لا) ، مع احتمالها للزّيادة كما في قوله تعالى : (وَلَا النُّورُ) بعد قوله سبحانه وتعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر : ٢٠] لأنّه خلاف الظّاهر. نعم ، إن قصد المتكلّم بقوله : «والله لا كلّمت زيدا وعمرا» معنى : ولا كلّمت عمرا ، فهو يمينان لأنّ ذلك أحد محتملي الكلام ، وقد نواه ؛ وإن قصد بقوله : «لا كلّمت زيدا ولا عمرا» معنى «لا كلّمت زيدا وعمرا» الذي لم يضمر فيه الفعل ، وقدّر (لا) زائدة فيمين واحدة ، لا يلزمه في نفس الأمر إلّا كفّارة واحدة وإن كان قد يلزم في الحكم بخلاف ذلك ، بناء على ظاهر لفظه.

وقد يقال بامتناع هذا الوجه بناء على أنّ (لا) إنّما تزاد إذا كان في اللفظ ما يشعر بذلك كقرينة قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي ..) فإنّ الاستواء لا يعقل منسوبا إلى واحد ، وكذلك قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] فإنّ من المعلوم أنّ التّوبيخ على امتناعه من السّجود ، لا على امتناعه من نفي السّجود ؛ لأنّه إذا امتنع من نفيه كان مثبتا له. فأمّا المثال المذكور فلا دليل فيه على ذلك ، فلا تكون (لا) فيه إلّا نافية ، الله أعلم.

الكلام في (إنّما)

ومن فوائده أيضا تغمّده الله تعالى برحمته : اعلم أنّ الكلام في (إنّما) في موطنين ؛ أحدهما لفظيّ ، والآخر معنويّ. أمّا اللّفظي : فمن جهة بساطتها أو تركيبها ، وأمّا المعنويّ : فمن جهة إفادتها الحصر أو عدم إفادتها له.

١٤٢

والمدّعى في الوجه الثّاني : أنّها مفيدة للحصر ، واستدلّ لهذا بأمور :

أحدها : فهم أهل اللّسان لذلك ، كما تقرّر من فهم الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ من : «إنّما الماء من الماء» (١) ومن فهم ابن عبّاس رضي الله عنهما من : «إنّما الرّبا في النّسيئة» (٢) مع عدم المخالفة منهم فكان ذلك إجماعا على أنّها مفيدة للحصر. على أنّ الاحتجاج بقضيّة ابن عبّاس مع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قد يحتمل الاعتراض بأنّ المعترض قد يقتصر على ذكر أحد أوجه المنع لأمر ككون ذلك الوجه أجلى وأبعد عن الاعتراض ، وربّما فعل ذلك على سبيل التّنزّل للخصم فيا ادّعاه وفهمه. فلا يلزم من اقتصارهم على الاعتراض بما فيه معارضة ـ وهو إيرادهم الدليل المقتضي لتحريم ربا التّفاضل ـ أن يكونوا مسلّمين له في دعواه الحصر. وقد يقال أيضا إنّ ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فهم الحصر وادّعاه ، وهم لم ينفوه ولم يثبتوه ، فتجيء مسألة ما إذا قال البعض وسكت الباقون ، وهل ذلك حجّة أو ليس بحجّة ؛ فيه كلام مشهور في أصول الفقه.

الدليل الثاني : معاملة العرب للاسم بعدها معاملته بعد (إلّا) المسبوقة بالنّفي. وقولهم معاملة (ما) و (إلّا) تمثيل ، لا أنّ ذلك خاصّ ب (ما) وذلك في قوله (٣) : [الطويل]

[أنا الضّامن الرّاعي عليهم] وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

فهذا كقوله : [السريع]

٦٥٥ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (١ / ٢٦٩) رقم (٣٤٣). باب : إنما الماء من الماء.

(٢) الحديث في سنن ابن ماجه (٢ / ٧٥٨) ، باب من قال : لا ربا إلا في النسيئة ، ومسند أسامة (١ / ٧٦).

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٤٢).

٦٥٥ ـ الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه (ص ١٦٧) ، والأغاني (١٥ / ١٦٩) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٩٩) ، والكتاب (٢ / ٣٧٣) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٤١١) ، وله أو للفرزدق في شرح شواهد المغني (٢ / ٧١٩) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ١٨٤) ، وشرح المفصّل (٣ / ١٠١) ، ولسان العرب (قطر).

١٤٣

فأمّا قول بعض المتأخّرين في (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ) [الرعد : ٣٦] ، و (إِنَّما أَشْكُوا) [يوسف : ٨٦] ونحو ذلك من الآيات : إنّ الضمير محصور ولم يفصل ، فلا يتشاغل به ولو صحّ خرج نحو (١) : [الطويل]

[أنا الذائد الحامي الذّمار] وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

عن الاستشهاد به ، وكان ضرورة لمخالفته للاستعمال.

الدليل الثالث : أنّ إنّ للإثبات ، و (ما) للنّفي ، والنفي والإثبات ضدّان فلا يجتمعان في محلّ واحد ، فوجب أن يصرف أحدهما للمذكور ، والآخر إلى غيره ليصحّ اجتماعهما. لا جائز أن يكون المنفيّ هو المذكور ، والمثبت هو ما عداه ، للاتّفاق على أنّ قولك : «إنّما زيد قائم» يفيد إثبات القيام لزيد ، فإذا بطل ذلك تعيّن العكس وهو نفي القيام عن غير زيد وإثباته لزيد ، ولا معنى للحصر إلّا هذا. هذا حاصل كلام الإمام فخر الدّين ومن تبعه ، وهو فاسد المقدّمتين لأنّ (إنّ) للتأكيد لا للإثبات ، بدليل أنّك تقول : «إنّ زيدا قائم» و «إنّ زيدا ليس بقائم» ، فتجدها إنّما دخلت لتأكيد الكلام نفيا كان أو إثباتا. و (ما) زيد مثلها في قولك «ليتما زيدا قائم» لا نافية.

الدليل الرابع : أنّ (إنّ) للتّأكيد ، و (ما) حرف زائد للتّاكيد ، فلمّا أخذوا الحكم من بين مؤكّدين ناسب أن يكون مختصّا بالمسند إليه قاله السكّاكي ، وليس بشيء لأنّه لازم له في قولك : «إنّ زيدا لقائم» لأنّ (إنّ) واللام معا للتأكيد ، ثمّ إنّك تقول : «أحلف بالله إن زيدا لقائم» فتجمع بين ثلاث مؤكّدات ، القسم ، و (إنّ) ، واللام ، ولا يفيدها هذا الحصر باتّفاق.

واستدلّ من قال : إنّها ليست للحصر بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] ، فلو كان معناه : ما المؤمنون إلّا الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، لزم سلب الإيمان عمّن لا يوجل قلبه عند ذكر الله تعالى والإجماع منعقد على خلافه.

والجواب أنّ المراد بالمؤمنين : الكاملو الإيمان ، ولا شكّ أنّ من لا يوجل قلبه

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٤٢).

١٤٤

عند ذكر الله فليس بكامل الإيمان. وردّ بأنّ هذا مجاز ، وأجيب بأنّه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلّة ، فإنّه قد قام الدليل الذي قدّمناه على إفادتها الحصر وهو معاملة الضمير بعدها معاملته بعد (إلّا) المسبوقة بالنّفي ، ولهذا قال المحقّقون : والأكثر أنّها للحصر ، حتّى لقد نقل النّوويّ إجماع النحويّين والأصوليّين على إفادتها الحصر ، ذكره في (شرح مسلم) ، وهو غريب. فهذا ما يتعلّق بإثبات الأمر الثّاني المعنويّ.

وأمّا ما يتعلّق بالأوّل فنقول : إنّ أصل (إنّما) ، (إنّ) و (ما) ، وأنّ (إنّ) من (إنما) هي التي كانت الرافعة الناصبة قبل وجود (ما) ، وإنّ (ما) هي الحرف التالي لنحو (ليت) في قولهم : «ليتما أخوك منطلق».

فهذه ثلاثة أمور يدل عليها عندي أمران : أحدهما : أنّهم لم يختلفوا في (ليتما) و (لعلّما) و (لكنّما) و (كأنّما) في ذلك ، يعني في تركيبها ، والثاني : أنّ (ما) غير نافية ، فلتكن (إنّما) كذلك.

فإن قيل : هذه غير تلك التي تدخل عليها (ما) الكافّة ، وأنّ (إنّما) على قسمين ، فهذه دعى ما لا يثبت ، ولا يقوم عليه دليل. وأيضا فبأيّ شيء تفرّق أيّها العاقل بين (إنّما) هذه و (إنّما) تلك؟ وأيضا فلم يقل أحد إنّ (إنّما) على قسمين : مفيدة للحصر ، وغير مفيدة له. فهذا الحقّ الذي لا يحيد عنه من فيه أدنى إنصاف.

فإن قيل : معالة (ما) بعد (إنّما) معاملة (ما) بعد (إلّا) المسبوقة بالنّفي تدلّ على أنّ (ما) نافية ، فذلك غير لازم ، إذ لا يمتنع أن يكون الشيء حكمه حكم شيء آخر ، وإن لم يكن مركّبا منه ولا من شيء يشبهه. وإنّما الأمر في ذلك أنّ العرب استعملوا (إنّما) بعد تركيبها من الحرفين في موطن الحصر ، وخصّوها بذلك لمشاركتها ل (ما) و (إلّا) في الحكم ، لأنّهم استعملوها استعمالها وألزموها موضعها ، لا لأنّ (ما) من (إنّما) نافية ، كما أنّه ليس ذلك لأجل أنّ (إنّما) مأخوذة من (إلّا). ثم هذه المقالة بعد فسادها من جهة النّظر مخالفة لأقوال النّحاة ، فإنّهم إنّما ينصّون على أنّ (ما) كافّة ولا يعرف القول بأنّها نافية إلّا لبعض المتأخّرين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٤٥

ومن فوائده (١) :

مسألة

المبدوء به والموقوف عليه

لمّا كان الابتداء آخذا في التّحريك لم يكن المبدوء به إلّا متحرّكا ، ولمّا كان الانتهاء آخذا في السّكون لم يكن الموقوف عليه إلّا ساكنا. كلّ ذلك للمناسبة. وهذا تعليل حسن ـ والله أعلم ـ

من أبيات الحماسة

[البسيط]

٦٥٦ ـ أقول حين أرى كعبا ولحيته

لا بارك الله في بضع وستّين

من السّنين تملّاها بلا حسب

ولا حياء ولا عقل ولا دين

قوله : (وستّين) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون الكسرة كسرة إعراب ، والنّون مجعولة كأنّها لام الكلمة على حدّ قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : «اللهمّ اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف» (٣).

والثاني : أن يكون معربا بالياء ، وتكون النون زائدة لفظا وحكما عن مقدّر بها الثبوت ، وتكون الضّرورة قادته إلى أن أتى بالحركة على ما يقتضيه أصل التقاء الساكنين وهذا كثير كقوله : [الوافر]

٦٥٧ ـ [وما ذا تبتغي الشّعراء منّي]

وقد جاوزت حدّ الأربعين

[الوافر]

٦٥٨ ـ [عرفنا جعفرا وبني أبيه]

وأنكرنا زعانف آخرين

__________________

(١) يريد : من فوائد ابن هشام الأنصاري.

٦٥٦ ـ البيتان بلا نسبة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٥٢٨) ، والتبريزي (٤ / ٩٧) ، والخزانة (٣ / ٤١٦) ، والبيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (بضع) ، وتاج العروس (بضع).

(١) يريد : من فوائد ابن هشام الأنصاري.

٦٥٧ ـ الشاهد لسحيم بن وثيل في إصلاح المنطق (ص ١٥٦) ، وتخليص الشواهد (ص ٧٤) ، وتذكرة النحاة (ص ٤٨٠) ، وخزانة الأدب (٨ / ٦١) ، والدرر (١ / ١٤٠) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٦٢٧) ، وشرح التصريح (١ / ٧٧) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤١) ، وشرح المفصّل (٥ / ١١) ، ولسان العرب (نجذ) و (ربع) ، و (دري) ، والمقاصد النحوية (١ / ١٩١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (١ / ٦١) ، وجواهر الأدب (ص ١٥٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٣٨) ، والمقتضب (٣ / ٣٣٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٤٩).

٦٥٨ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٤٢٩) ، والاشتقاق (ص ٥٣٨) ، وتخليص الشواهد (ص ٧٢) ، وتذكرة النحاة (ص ٤٨٠) ، وخزانة الأدب (٨ / ٩٥٦) ، والدرر (١ / ١٤٠) ، والمقاصد النحوية (١ / ١٨٧) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (١ / ٦٧) ، وشرح التصريح (١ / ٧٩) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤٠).

١٤٦

ورجّح أبو الفتح بن جنّي هذا الوجه على الأوّل بقوله : «من السّنين» وبيان ذلك أنّه في الأصل تمييز منصوب فحقّه : لا بارك الله في بضع وستين سنة ، فلمّا أتى به على مقتضى القياس الأصلي ، وهو ذكر لفظة (من) وجمع (سنة) وتعريفها ، فلذا حكم على قوله : (وستّين) أنّه جاء به على مقتضى القياس في حركته وهي الكسرة. قلت : ويرجّحه أمر آخر وهو أنّ الإعراب بالحركات مع التزام الياء إنّما هو معروف في باب (سنة) و (عضة) و (قلة) ، أعني ما حذفت لامه (١). وأمّا غير ذلك فلعلّه لا يثبت فيه ـ والله أعلم ـ.

ومن فوائده :

الفرق بين العرض والتحضيض

الفرق بين العرض والتّحضيض أنّ العرض طلب بلين ورفق ، والتّحضيض طلب بإزعاج وعنف.

مسألة

(علمت) بمعنى عرفت وبمعنى العلم

ومن فوائده : قال أبو الفتح : قلت لأبي عليّ : إذا كانت (علمت) بمعنى (عرفت) عدّيت إلى مفعول واحد ، وإذا كانت بمعنى العلم عدّيت إلى مفعولين فما الفرق بين (علمت) و (عرفت) من جهة المعنى؟ فقال : لا أعلم لأصحابنا في ذلك فرقا محصّلا ، والذي عندي في ذلك : أنّ (عرفت) معناها العلم من جهة المشاعر والحواسّ ، بمنزلة أدركت ، و (علمت) معناها العلم من غير جهة المشاعر والحواسّ. يدلّ على ما ذكرنا في (عرفت) قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] ، والسّيما تدرك بالحواسّ وبالمشاعر ، وكذلك في ذكر الجنّة : (عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٦] ، أي : طيّب رائحتها لهم ، من العرف ، وهو الرّائحة ، والرّائحة إنّما تعلم من جهة الحاسّة ، وقوله : [الكامل]

٦٥٩ ـ أو كلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٥ / ٥) ، وأوضح المسالك (١ / ٣٧).

٦٥٩ ـ الشاهد لطريف بن تميم العنبري في الأصمعيات (ص ١٢٧) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٢٨٩) ، والكتاب (٤ / ١٢٣) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٣٧٠) ، ولسان العرب (ضرب) ، و (عرف) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٠٤) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب (ص ٥٦١) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٧٢) ، والمنصف (٣ / ٦٦).

١٤٧

قلت له : أفيجوز أن تقول : (عرفت) : ما كان ضدّه في اللّفظ (أنكرت) ، و (علمت) : ما كان ضدّه في اللّفظ (جهلت) ، فإذا أريد ب (علمت) العلم المعاقبة عبارته الإنكار تعدّى إلى مفعول واحد ، وإذا أريد بالعلم المعاقبة عبارته الجهل تعدّى إلى مفعولين. ويكون هذا فرقا بينهما صحيحا ، لأنّ (أنكرت) ليست بمعنى (جهلت) ، لأنّ الإنكار قد يصاحبه العلم ، والجهل لا يصاحبه العلم ، ولأنّه إنّما ينكر الإنسان ما يعلمه ، ولا يصحّ أن ينكر ما قد يجهله ، ولأنّ الجهل يكون في القلب فقط ، والإنكار يكون باللّسان ، وإن وصف القلب به كقولك : «أنكره قلبي» كان مجازا ، وكون الإنكار باللّسان دلالة على أنّ المعرفة متعلّقة بالمشاعر فقال : هذا صحيح والله أعلم.

الشروط التي يتحقّق بها تنازع العوامل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلاته على سيّدنا محمد خير خلقه وآله. قال الفقير إلى ربّه عبد الله بن هشام غفر الله له ولوالديه ولأحبابه ولجميع المؤمنين :

هذا فصل في الشّروط التي بها يتحقّق تنازع العاملين أو العوامل.

قد تتبّعنا ذلك فوجدناه منحصرا في خمسة شروط ، شرطين في العامل وشرطين في المعمول وشرط بينهما.

فأمّا الشرطان اللّذان في العامل :

فأحدهما : ألّا يكون من نوع الحروف ، فلا تنازع في نحو «إن لم تفعل» ولا في نحو قول الشاعر : [مشطور الرجز]

٦٦٠ ـ حتى تراها وكأنّ وكأن

أعناقها مشدّدات في قرن

خلافا لبعضهم.

الثاني : أنّ يكون كلّ منهما طالبا من حيث المعنى لما فرض التّنازع فيه ، فلا تنازع في : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] لأنّ طالب الظّلم والعلوّ الجحد لا الاستيقان ، ولا في : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

__________________

٦٦٠ ـ الرجز لخطام المجاشعي ، أو للأغلب العجلي في الدرر (٦ / ٥٠) ، وشرح التصريح (٢ / ١٣٠) ، والمقاصد النحوية (٤ / ١٠٠) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٣٤٢) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤١٠) ، وشرح التصريح (١ / ٣١٧) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٢٥).

١٤٨

[الذاريات : ٥٥] ، لأنّ طالب (المؤمنين) هو فعل النّفع لا الأمر بالتّذكير لعموم البعثة ـ كذا قالوا ـ. ولك أن تقول : لا يمتنع التّنازع فيهما ، أمّا في الأولى : فعلى جعل (ظلما) و (علوّا) مصدرين في موضع الحال ك «جاء زيد ركضا» فيكون التقدير : وجحدوا بها ظالمين مستعلين واستيقنوها وحالتهم هذه ، وأمّا في الثانية : فلأنّ عموم البعثة لا ينفي تخصيص (عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ، وقد قال كثيرا من المفسّرين في (قُلْ لِعِبادِيَ ..) [إبراهيم : ٣١] : إنّ المراد (المخلصين) وأنّ الإضافة إضافة تشريف ، وبنوا على هذا صحّة الجزم في قوله سبحانه (يقيموا) و (ينفقوا) ، ونحو ذلك ممّا جزم في جواب الشرط المقدّر بعد الأمر ، فلولا أنّ المراد : (المخلصون) لم يصحّ أن يكون التقدير : إن تقل لهم يقيموا وينفقوا لما يلزم عليه من الخلف في خبر الصادق ، إذ قد يخلف من المقول لهم ـ على هذا التقدير ـ جمّ غفير لا يحصى. والمثال الجيّد فيما نحن فيه قول الشاعر ـ أنشده الفارسي : [الوافر]

٦٦١ ـ عدينا في غد ما شئت إنّا

نحبّ ولو مطلت الواعدينا

فلا تنازع بين (نحبّ) و (مطلت) في (الواعدين) لأنّ الممطول موعود لا واعد ف (الواعدين) مفعول ل (نحبّ) لا غير.

وأمّا الشرطان اللّذان في المعمول :

فأحدهما : ألا يكون سببيّا ، فلا تنازع بين (ممطول) و (معنّى) في قوله (١) : [الطويل]

[قضى كلّ ذي دين فوفى غريمه]

وعزّة ممطول معنّى غريمها

لأنّهما حينئذ خبران ل (عزّة) ، وإذا أعمل أحدهما في الغريم أعطي الآخر ضميره كما هو قاعدة التّنازع ، ويلزم من ذلك عدم ارتباط أحد الخبرين بالمخبر عنه ، ألا ترى أنّه يؤول به التقدير ـ على إعمال الأوّل ـ إلى قولك : وعزّة ممطول غريمها معنّى غريم!! وعلى إعمال الثّاني إلى قولك : وعزّة ممطول غريم معنّى غريمها. فإذا ثبت أنّ التنازع في هذا النحو متعذّر وجب أن يحمل على أنّ هذا السببيّ مبتدأ مؤخّر ، وما قبله خبران له يتحمّلان ضميره ، والجملة خبر الأوّل. هذا تقرير قول جماعة منهم أبو عبد الله بن مالك ـ رحمهم الله أجمعين ـ.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٧٧).

١٤٩

وأقول : جوّز التنازع في هذا النحو جماعة منهم : أبو بكر بن طاهر (١) في (طرر الإيضاح) ، وأبو الحسن بن الباذش (٢) في حواشيه ، ونقله بعضهم عن الفارسي. وهو لازم لجماعة منهم الأستاذ أبو عليّ الشّلوبين ـ رحمهم الله تعالى ـ لأنهم أجازوا في قول الله سبحانه : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] كون (من) موصولة مخبرا عنه ب (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ*) والرابط بينهما الإشارة إلى المصدر المفهوم من فعل الصّلة المقدّر إضافته إلى ضمير (من) أي : إنّ صبره وغفرانه ، فقد جعلوا الارتباط حاصلا بالإشارة إلى المصدر المقدّر ارتباطه بالمبتدأ بمنزلة الإشارة إلى نفس المبتدأ في نحو : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦] ، فيلزمهم في مسألتنا الارتباط بالضمير العائد على الغريم ، لأنّه مرتبط بضمير المبتدأ بل تجويز هذا في مسألتنا أقيس من تجويزه في الآية الكريمة لوجهين :

أحدهما : أنّ الضمير هو الأصل في باب الرّبط فلا بعد في أن يكون التوسّع فيه أكثر.

والثاني : أنّ باب التنازع تجوّزوا فيه في الإضمار ، فأعادوا الضمير على ما تأخّر لفظا ورتبة نحو : «ضربوني وضربت قومك» ، وأعادوا فيه الضمير مفردا على المثنّى والمجموع فقالوا : «ضربني وضربت قومك» على معنى : ضربني من ثمّ ، كذا قدّره سيبويه (٣). ولم يتجوّزا بذلك في باب المبتدأ ، ألا ترى أنّه لا يجوز «صاحبها في الدّار» ولا «الزيدان قام» بمعنى : قام من ثمّ. وإذا انتفى ذلك ظهر أنّ مسألتنا أولى بالإجازة ، ثمّ إنا إذا سلّمنا امتناع التنازع لما ذكروا نمنع تعميم المنع فنقول : تعليق المنع بكون المعمول سببيّا تعميم فاسد ، لأنّهم أسندوا المنع لعدم الارتباط ، وذلك ليس موجودا في كلّ سببيّ على تقدير التّنازع فيه ، لأنّه إذا كان العاملان متعاطفين بفاء السّببية ، أو بواو العطف وهما مفردان ، فإنّ الارتباط حاصل من جهة العاطف وإن فقد من جهة الضمير ، لأنّ فاء السببيّة تنزل الجملتين كالجملة الواحدة لأنّهما سبب ومسبّب ، والواو في المفردات للجمع ، لهذا أجازوا الاكتفاء بضمير واحد في نحو :

__________________

(١) أبو بكر بن طاهر : هو محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي ، المعروف بالخدبّ ، نحويّ حافظ اشتهر بتدريس الكتاب وله على الكتاب طرر مدونة مشهورة اعتمدها تلميذه ابن خروف في شرحه ، وله تعليق على الإيضاح ، وغير ذلك. ترجمته في بغية الوعاة (١ / ٢٨).

(٢) أبو الحسن بن الباذش : هو علي بن أحمد بن خلف بن محمد الأنصاري الغرناطي ، من مصنّفاته : شرح كتاب سيبويه ، والمقتضب ، وشرح أصول ابن السرّاج ، وشرح الإيضاح ، وشرح الجمل ، وشرح الكافي للنحاس. (ت ٥٢٨ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (٢ / ١٤٢).

(٣) انظر الكتاب (١ / ١٣٢).

١٥٠

«الذي يطير فيغضب زيد الذّباب» وقال الله جلّت كلمته : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، وقال الشاعر : [الطويل]

٦٦٢ ـ وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجمّ فيغرق

وأجازوا «مررت برجل كريم بنوك وابنه». فعلى هذا الذي شرحناه لا يلزم من امتناع التنازع في نحو (٢) : [الطويل]

[قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه]

وعزّة ممطول معنّى غريمها

حيث لا فاء سببية ولا واو بين المفردين أن يمتنع في «عزّة ممطول ومعنّى غريمها» و «عزّة ممطول فمعنّى غريمها» ، ثمّ إذا لم يكن (معنّى) مبتدأ البتّة فلا منع وإن وجد السببيّ ، مثاله : قيل لك : ما معك من خبر زيد؟ فتقول : «قام وقعد أبوه» ، لا يمنع التّنازع فيه أحد. وإذا ثبت جوازه في ذلك ونحوه فالصّواب أن يقال : إنّ الشّرط ألّا يكون الحمل على التّنازع مؤدّيا إلى عدم الرّبط.

الثاني : ألّا يكون محصورا فلا تنازع في «ما قام وقعد إلّا زيد» لأمرين :

أحدهما : أنّ الواقع بعد (إلّا) إمّا أن يكون ظاهرا أو مضمرا ، وأيّا ما كان ، فهو غير متأتّ ، فإن كان ظاهرا فإنّه يقتضى أن يقول في نحو : «ما قام وقعد إلّا الزيدان» أو «إلّا الزيدون» : (ما قاما) أو (ما قاموا) أو (قعدا) أو (قعدوا) ، ولم يتكلّم بمثل هذا ، وإن كان مضمرا فإنّه إن كان حاضرا نحو : «ما قام وقعد إلّا أنا» أو «إلّا أنت» ، لم يتأتّ الإضمار في أحدهما إذا أعملت الآخر ، لأنّك إمّا أن تضمر ضميرا غائبا فيلزم إعادة ضمير غائب على حاضر ، أو ضميرا حاضرا فتقول «ما قام وقعدت إلّا أنا» أو «... وقعدت إلّا أنت» ، أو تقيس ذلك على إعمال الثّاني ، فيلزم مخالفة قاعدة التنازع ، لأنّك تعيد الضّمير على غير المتنازع فيه ، لأنّ ضميري المتكلّم والمخاطب إنّما يفسّرهما حضور من هما له لا لفظه والضمير في باب التّنازع إنّما يعود على لفظ المتنازع فيه ، وإن كان غائبا لزم إبرازه في التثنية والجمع ، وقد ذكرنا أنّه لم يتكلّم به.

الوجه الثاني : أنّ الإضمار في أحدهما يؤدّي إلى إخلاء عامله في الإيجاب ، لأنّ

__________________

٦٦٢ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٤٦٠) ، وخزانة الأدب (٢ / ١٩٢) ، والدرر (٢ / ١٧) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥٧٨) ، ولكثير في المحتسب (١ / ١٥٠) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ٣٦٢) ، وتذكرة النحاة (ص ٦٦٨) ، وشرح الأشموني (١ / ٩٢) ، ومجالس ثعلب (ص ٦١٢) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٠١) ، والمقرّب (١ / ٨٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٩٨).

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٧٧).

١٥١

الفعل إنّما يصير موجبا بمقارنة (إلّا) لمعموله لفظا أو معنى ، فإذا لم يقترن بها لفظا ولا معنى فهو باق على النّفي ، والمقصود بخلاف ذلك.

وإذا امتنع التنازع فيما ذكرنا فاعلم أنّه محمول على الحذف. وممّن نصّ على ذلك ابن الحاجب وابن مالك فأصله «ما قام أحد ولا قعد إلّا زيد» فحذف (أحد) من الأوّل لفظا واكتفي بقصده ودلالة النفي والاستثناء عليه كما جاء (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء : ١٥٩] ، (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] ، أي : ما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمننّ به ، وما منّا أحد إلّا له مقام ، وذهب بعضهم إلى أنّ نحو ذلك من باب التّنازع ، وليس بشيء لما شرحناه. ولم يذكر ابن مالك هذا الشّرط في صدر باب التّنازع فاقتضى ظاهر كلامه أنّه منه ، ثمّ قال في أثناء الباب : «ونحو «ما قام وقعد إلّا زيد» محمول على الحذف لا على التنازع خلافا لبعضهم» وكان حقّه أن يذكره حيث تعرّض لذكر شروط التّنازع. وذكر ابن الحاجب شرطا في المعمول غير ما ذكرناه ، وهو ألّا يكون ضميرا ، وقال في توجيه ذلك : لأنّ العاملين إذا وجّها إلى مضمر استويا في صحّة الإضمار فيه فلا تنازع في نحو : «ضربت وأكرمت» وردّ عليه ابن مالك بأنّ هذا منه تقرير بأنّه لا يتأتّى في المضمر صورة تنازع ، فلا وجه لهذا الاحتراز لأنّ قولنا : إذا تنازع العاملان ، لا يمكن تناوله لذلك ، وقد يقال إنّ هذا إنّما ذكر للإعلام من أوّل الأمر بصورة التّنازع لا للاحتراز عن صورة يتأتّى فيها صورة التّنازع في الضمير ، ولا يحكم النحويّون بأنّه من التنازع. ثم إنّ هذا المعترض قد ذكر من شروط التنازع تأخير المعمول ، وأقام الدليل على أنه لا يتأتّى ولا يتصوّر في غيره وهو نظير ما اعترض به على أبي عمرو.

فإن قلت : إنّ الحجّة التي احتجّ بها أبو عمرو على أنّ التّنازع لا يتأتّى في المضمر ، إنّما يستمرّ في المضمر المتّصل ، فأمّا المنفصل فيمكن التجاذب بين العاملين فيه ، نحو : «ما قام وقعد إلّا أنا».

قلت : قد مضى أنّ ذلك إنّما يتّجه على الحذف كما شرحناه.

وأمّا الشّرط الذي بينهما : فتقدّم العاملين وتأخّر المعمول. قال ابن مالك : «وإنّما لم يتأتّ التنازع بين عاملين متأخّرين نحو : «زيد قام وقعد» لأنّ كلّا من المتأخّرين مشغول بمثل ما يشغل به الآخر من ضمير الاسم السابق ، فلا تنازع بخلاف المتقدّمين نحو : «قام وقعد زيد» فإنّ كلّا من الفعلين متوجّه في المعنى إلى (زيد) وصالح للعمل في لفظه وأعمل أحدهما في ظاهره والآخر في ضميره» انتهى بنصّه.

١٥٢

وأقول : هذا إنّما يتمشّى له في المتقدّم المرفوع فأمّا في المنصوب والمجرور فلا يتمشّى ، فنحو : «زيدا ضربت وأكرمت» ونحو «بزيد مررت واتّبعت» لم يقتض تعليله امتناع التّنازع فيه واقتضاه تعميمه المنع ، فالذي ينبغي ألّا يحكم بمنع التّنازع في المتقدّم مطلقا ، بل بشرط كونه مرفوعا. وينبغي أن يكون الفريقان في ذلك متّفقين على اختيار إعمال الأوّل لأنّه أسبق العاملين وأقربهما إلى المعمول. وكذا لا يمتنع تنازع العاملين معمولا متوسطا بينهما كقولك : «إن تجد زيدا تؤدّب» ، وهذه المسألة ينبغي أن يكون إعمال الأوّل فيها أرجح عند الجميع ، لتساويهما في القرب ، وفضّل الأوّل بالسّبق ، وأنّ إعماله ينفي الإضمار قبل الذّكر. فهذا ما اقتضاه ظاهر الأمر عندي ، ولست مبتدعا في ذلك بل متّبعا فقد نقل أبو حيّان إجازة التنازع في المتقدّم في تفسير سورة براءة ، وأنّ بعضهم جعل منه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، قال : والأكثرون على منعه. وذكر ابن هشام الخضراويّ في (شرح الإيضاح) عن أبي عليّ أنّه أجاز في قوله : [البسيط]

٦٦٣ ـ [قد أوبيت كلّ ماء فهي طاوية]

مهما تصب أفقا من بارق تشم

أن يكون (أفقا) ظرفا ل (تشم) ، و (بارقا) مفعول به منصوب ب (تشم) أيضا ، و (من) زائدة لأنّ الكلام غير إيجاب لتقدّم الشّرط ، ومفعول (تصب) محذوف ، أي : مهما تصبه ، والهاء عائدة على البارق أو الأفق. قال ابن هشام (٢) : «وهذا من تنازع العاملين مع التوسّط وقلّما يذكره النحويّون» انتهى. والحقّ أولى بالاتّباع من الوقوف مع قول الجمهور فإنّهم ذكروا علّة لم يظهر اطّرادها.

شاهدت بخطّ الإمام العلّامة ركن الدّين أبي عبد الله محمّد الشهير بابن القوبع ـ رحمه الله ـ : [الخفيف]

أبلغ العالمين عنّي بأنّ

كلّ علم تصوّر وقياس

قد كشفت الأشياء بالعقل حتّى

ظهرت لي فليس فيها التباس

وعرفت الرّجال بالعلم لمّا

عرف العلم بالرجال الناس

__________________

٦٦٣ ـ الشاهد لساعدة بن جؤية في خزانة الأدب (٨ / ١٦٣) ، والدرر (٥ / ٧٠) ، وشرح أشعار الهذليين (٣ / ١١٢٨) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١٥٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٥٧) ، ولسان العرب (أبي) ، و (صوي) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٢٦) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ٥٧).

(١) يريد ابن هشام الخضراوي.

١٥٣

هذه الأبيات الثلاثة كتبت بخطّه ، ورأيت بعد هذه الأبيات بخطّه ـ رحمة الله عليه ـ :

هذا كلام على طريقة البحث وأمّا التحقيق فأن يقال : يمنع التنازع في المتقدّم وذلك لأنّه إنّما يتحقّق تجاذب العاملين للمعمول مع تأخّره عنهما ، أمّا إذا تقدّم وجاءا بعده ك «زيدا ضربت وأكرمت» فإنّ الأوّل بمجرّد وقوعه بعده يأخذه قبل مجيء الثاني ، لأنّه طالب له من حيث المعنى ولم يجد معارضا ؛ فإذا جاء الثاني لم يكن له أن يطلبه لأنّه إنّما جاء بعد أخذ غيره له. وكذا البحث في المتوسّط. فهذا إن شاء الله تعالى هو الحقّ الذي لا يعدل عنه وينبغي أن يكون هو حجّة للنحويّين لا ما احتجّ به ابن مالك ، انتهت المسألة ـ انتهى بنصّه ـ.

قال ابن النّحاس (١) : لا أعلم في التنزيل العظيم ما هو صريح في إعمال الثاني إلّا قوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ...) [المنافقون : ٥] ، ولو أعمل الأوّل لقيل : تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ومثله في الحديث : «إنّ الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم ..» (٢) وهو عكس الآية لأنّ الثاني تعدّى بالجارّ ، ولو أعمل الأوّل لعدّاه بنفسه. انتهى. وأمّا باقي الآي فلا صراحة فيها.

وقولهم : لو أعمل الأوّل لأضمر في الثاني لا يلزم ، لأنّ الإضمار غير واجب ، وقد ذكرنا أمثلته ، وإذا لم يجب لم يكن معنا قاطع انتهى. وأقول : ما قاله مسلّم ، إلّا أنّ مشايخنا في هذا العلم ذكروا أنّ الإضمار وإن لم يجب لأنّه فضلة لكن يلزم إجماع القرّاء السّبعة على غير الأفصح. وهو غير جائز.

قوله : وأعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه يقتضي عدم التنازع في الحال.

قال ابن معط في (شرح الجزوليّة) : «وتقول في الحال : «إن تزرني ضاحكا آتك في هذه الحالة» ولا يجوز الكناية عنها لأنّ الحال لا تضمر. وتقول في الظّرف على إعمال الثاني : «سرت وذهبت اليوم». وعلى الأوّل : سرت وذهبت فيه اليوم. وفي المصدر على الثاني : «إن تضرب بكرا أضربك ضربا شديدا» ، وعلى الأوّل : «أضربكه ضربا شديدا».

__________________

(١) ابن النحاس : هو محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الإمام أبو عبد الله بهاء الدين بن النحاس الحلبي النحوي : لم يصنّف إلا ما أملاه شرحا لكتاب «المقرّب» ، (ت ٦٩٨ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ١٣).

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (١٥٤٦).

١٥٤

وفي كتاب (إصلاح الغلط) (١) لابن قتيبة قال : قرأت على ثعلب قول الشاعر : [الطويل]

٦٦٤ ـ فرطن فلا ردّ لما فات وانقضى

ولكن بغوض أن يقال عديم

قال : ما معنى بغوض ثمّ قال : بلغني أن الخلديّ ـ يعني المبرّد ـ أنّه صحّف هذا البيت وذكر أنّه سمعه من أصحابه هكذا ، فإن يكن تصحيفا من سيبويه فقد صحّفوا كلّهم. فقلت له : فكيف الرّواية فقال : هذا يصف رجلا مات له ميّت فقال له : فرطن ، يعني المدامع ، فلا ردّ لما فات : يعني من الموت ، ولكن تعوّض الصّبر عن مصيبتك ولا تكثر الجزع فيقال عديم.

قال ابن قتيبة : وهذا المعنى أجود وأولى بتفسير البيت ممّا جاء به أصحابنا ، وقد عرضت كلامه في ذلك على أبي إسحاق الزجّاج فاستحسنه الجماعة.

شروط التنازع

التنازع له شروط :

الأول : أن يتقدّم عاملان فأكثر ولا يقع بين المتأخرين ، هكذا أطلق المتأخرون ومنهم ابن مالك وعلّل بعلّة قاصرة. وشرط هذا العامل أمور :

أحدها : عند بعض النّحاة ، وهو ألّا يكون فعل تعجّب ، لأنّه جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه بفصل ولا غيره. وأجازه أبو العباس ومنعه ابن مالك. قال : لكن بشرط إعمال الثاني كقولك : «ما أحسن وأعقل زيدا» بنصب (زيدا) ب (أعقل) لا ب (أحسن) لئلّا يلزم فصل ما لا يجوز فصله. وكذلك أحسن به وأعقل بزيد بإعمال الثاني ولا تعمل الأوّل فتقول : وأعقل به بزيد للفصل ، ويجوز على أصل الفرّاء : «أحسن وأعقل بزيد» على أنّ أصله : أحسن به ثمّ حذفت الباء لدلالة الثانية عليها ، ثمّ اتّصل الضمير واستتر كما استتر في الثاني في (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : ٣٨] إلّا أنّ الاستدلال بالأوّل على الثاني أكثر.

والثاني : ألّا يكون حرفا ، قال ابن عمرون : وجوّز بعضهم التّنازع في (لعلّ) و (عسى) فيقال : «لعلّ وعسى زيد أن يخرج» على إعمال الثاني ، و «لعلّ وعسى زيدا خارج» على إعمال الأوّل ، وليس واضحا ، إذ لا يقال : عسى زيد خارجا ، ويلزم منه حذف منصوب عسى.

__________________

(١) هو كتاب إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث.

٦٦٤ ـ الشاهد لمزاحم العقيلي في لسان العرب (بغض) ، والكتاب (٢ / ٣١٠).

١٥٥

الثالث : عند بعض النحويّين وهو ألّا يكون العامل يطلب أكثر من مفعول واحد.

الرابع : ألّا يكون أحد العاملين مؤكدا ، فلا تنازع في : [الطويل]

٦٦٥ ـ [فأين إلى أين النّجاة ببغلتي]

أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس

الخامس : أن يكونا قد تأخر عنهما اسم أو أكثر هو مطلوب لكلّ منهما ، فلو كان مطلوبا لأحدهما فلا تنازع.

السادس : أن تكون المعمولات أقلّ من مقتضيات العوامل ، فلا تنازع في «ضربت وأكرمت الجاهل العالم» إن جاز هذا الكلام ، لأنّ كلّا من العاملين قد أخذ مقتضاه.

السابع : أن يكون بين العاملين أو العوامل اتصال بوجه ما.

الثامن : ألّا يكون المعمول سببيا فلا تنازع في (٢) : [الطويل]

[قضى كل ذي دين فوفّى غريمه]

وعزّة ممطول معنّى غريمها

إذا لم يجعل (غريمها) مبتدأ ، وكذا «زيد قام وقعد أبوه» لأنّك إن أضمرت في أحدهما ضمير الأب وحده خلا الخبر من الرّابط أو الأب في الضمير فيحتاج لضميرين أحدهما مضاف والآخر مضاف إليه وذلك باطل لامتناع إضافة الضمير. فبطل كون (غريمها) مرفوعا على غير الابتداء.

والتاسع : ألّا يكون المعمول مضمرا ، شرط ذلك ابن الحاجب ، وشرحه معروف.

والعاشر : هو الشّرط الأوّل.

مسألة

الأفعال المتعديّة لا تتميّز عن غيرها

طوبى لمن صدّق رسول الله وآمن به ، وأحبّ طاعته ورغب فيها ، وأراد الخير وهمّ به ، واستطاعه وقدر عليه ، ونسي عمله وذهل عنه ، وخاف عذاب الله وأشفق

__________________

٦٦٥ ـ الشاهد بلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٩٤) ، وخزانة الأدب (٥ / ١٥٨) ، والخصائص (٣ / ١٠٣) ، والدرر (٥ / ٣٢٣) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠١) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤٨٧) ، وشرح قطر الندى (ص ٢٩٠) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٩) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١١).

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٧٧).

١٥٦

منه ، ورجا ثوابه وطمع فيه ، فهذه أفعال سبعة متّحدة المعاني ، وهي مختلفة بالتّعدّي واللّزوم ، فدلّ على أنّ الفعل المتعدّي لا يتميّز من غيره بالمعنى. بشر الحافي (١) يذكر حاله في المسلمين : [البسيط]

قطع اللّيالي مع الأيّام في خلق

والنّوم تحت رواق الهمّ والقلق

أحرى وأجدر لي من أن يقال غدا :

أنّي التمست الغنى من كفّ مرتزق

قالوا رضيت بذا قلت القنوع غنى

ليس الغنى كثرة الأموال والورق

رضيت بالله في عسري وفي يسري

فلست أسلك إلّا واضح الطّرق

وقال بعضهم في التّنازع أيضا : [الطويل]

٦٦٦ ـ طلبت فلم أدرك بوجهي فليتني

قعدت ولم أبغ النّدى بعد سائب

وقد تنازع أربعة عوامل معمولا واحدا وهو النّدى فتأمّل.

قال الشيخ جمال الدين بن هشام : اجتمع في هذا البيت تنازع بين اثنين ، وتنازع بين ثلاثة ، وتنازع بين أربعة ، فقد تنازع (طلبت) و (لم أدرك) في (بوجهي) ، وقد تنازعا و (لم أبغ) في النّدى ، وقد تنازع الثلاثة و (قعدت) في الظّرف ، فهذه اتّفاقية غريبة. انتهى. ففي قوله : «معمولا واحدا» وهو (النّدى) نظر ، بل المعمول الواحد قوله (بعد) كما قرّره الشيخ جمال الدين رحمة الله عليه والمسلمين أجمعين.

تهذيب ابن هشام لكتاب الشذا في أحكام

(كذا) لأبي حيّان

قال الشيخ جمال الدّين بن هشام : بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على محمد وآله وصحبه وبعد :

فإنّي لمّا وقفت على (كتاب الشّذا في أحكام كذا) لأبي حيّان رحمه الله تعالى رأيته لم يزد على أن نسخ أقوالا وجدها وجمع عبارات وعدّدها ، ولم يفصح كلّ الإفصاح عن حقيقتها وأقسامها ، ولا بيّن ما يعتمد عليه ممّا أورده من أحكامها ، ولا نبّه على ما أجمع عليه أرباب تلك الأقوال واتّفقوا ، ولا أعرب عمّا اختلفوا فيه

__________________

(١) أبو نصر بشر بن الحارث الحافي : أحد المتصوفة الكبار ، سكن بغداد ومات فيها سنة سبع وعشرين ومأتين

٦٦٦ ـ الشاهد للحماسي في حاشية ياسين على التصريح (١ / ٣١٦) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (١ / ٢٠٣).

١٥٧

وافترقوا. فرأيت أنّ الناظر في ذلك لا يحصل منه بعد الكدّ والتّعب إلّا على الاضطراب والشّغب. فاستخرت الله في وضع تأليف مهذّب أبيّن فيه ما أجمل ، واستئناف تصنيف مرتّب ، أورد فيه ما أهل وسمّيته : (فوح الشّذا بمسألة كذا) ، وبالله تعالى أستعين وهو حسبي ونعم المعين ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

وينحصر في خمسة فصول :

الفصل الأول

في ضبط موارد استعمالها

اعلم أنّ ل (كذا) استعمالين :

أحدهما : أن يستعمل كلّ من جزأيها على أصله ، فيراد بالكاف التشبيه ، وب (ذا) الإشارة ، ولا يراد بمجموعهما الكناية عن شيء. فهذه بمعزل عمّا نحن فيه ، ذلك كقولك : رأيت زيدا فقيرا وعمرا كذا ، وقول الشاعر : [مجزوء الوافر]

٦٦٧ ـ وأسلمني الزّمان كذا

فلا طرب ولا أنس

ويكون اسم الإشارة في هذا النوع باقيا على معناه ، يصحّ أن يسبقه حرف التنبيه وأن يليه كاف الخطاب ولام البعد ، ألا ترى أنّك لو قلت في المثال : «.... ورأيت عمرا هكذا» ، و: «.... كذاك» و: «.... كذلك» ، وقلت في البيت : «وأسلمني الزمان هكذا» ، كان مستقيما!!. إلّا أنّ حرف التنبيه هنا متقدّم على الكاف كما أريتك ، وإنّما القاعدة فيه مع سائر حروف الجرّ أن يتأخّر عنها كقولك : (بهذا) أو (لهذا) ، إلّا في هذا الموضع خاصّة قال أبو الطيّب : [الخفيف]

٦٦٨ ـ ذي المعالي فليعلون من تعالى

هكذا هكذا وإلّا فلالا

والثاني : أن يخرج كلّ من الجزأين عن أصله ويستعمل المجموع كناية. وهذه على ضربين :

أحدهما : أن تكون كناية عن غير عدد ، كقولك : «مررت بدار كذا». واعتقادي في هذه أنّها إنّما يتكلّم بها من يخبر عن غيره ، وأنّها تكون من كلامه لا

__________________

٦٦٧ ـ الشاهد بلا نسبة في شرح الأشموني (٣ / ٦٤٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥١٤) ، ومغني اللبيب (١ / ١٨٧).

٦٦٨ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (٣ / ٢٥٤) بشرح البرقوقي.

١٥٨

من كلام المخبر عنه ، هذا الذي شهد به الاستقراء وقضى به الذوق الصحيح ، فلا يقول أحد ابتداء «مررت بدار كذا» ولا «.... بدار كذا وكذا» بل يقول : «... بالدار الفلانيّة» ، ويقول من يخبر عنه قال فلان مررت بدار كذا ، أو : ... بدار كذا وكذا ، وذلك لنسيان اعترى المخبر أو لغير ذلك. ومنه ما جاء في حديث الحساب ـ أعاذنا الله من سوء فيه ـ : «أتذكر يوم كذا وكذا فعلت فيه كذا وكذا» (١). وقول من قال : «أما بمكان كذا وكذا وجذ إنّما الكناية فيه من كلام من حكى عن غيره ، ألا ترى أنّهم حكوا أنّه قيل له في الجواب : بلى وجاذا (٢) ولو كان السائل كانيا لم يعلم مراده ، ولم تقبح إجابته بالتّعيين ،ودعوى أنّ المسؤول علم ما كني عنه على خلاف الأصل والظاهر. وغلط جماعة فجعلوا من هذا القسم قوله (٣) :[مجزوء الوافر]

وأسلمني الزمان كذا

[فلا طرب ولا أنس]

والحقّ أنّ ذلك ليس من الكناية في شيء وقد مضى.

الضرب الثاني : ـ وهو الغالب ـ أن يكنى بها عن عدد مجهول الجنس والمقدار.

وهذه والتي قبلها مركّبتان من شيئين : أحدهما الكاف ، والظاهر أنّها الكاف الحرفيّة المفيدة للتشبيه ، لأنّها القسم الغالب من أقسام الكاف كما ركّبوها مع (أنّ) في (كأنّ) نحو قولك «كأنّ زيدا أسد». والثاني : (ذا) التي للإشارة كما ركّبوها مع (حبّ) في (حبّذا) ومع (ما) في نحو : ماذا صنعت ، في أحد التّقادير. ولا يحكم على (ذا) بأنّها في موضع جرّ ، ولا على الكاف بأنّها متعلّقة بشيء ، ولا بأنّ فيها معنى التّشبيه ، وإن كان باقيا بعد التركيب في (كأنّ) ، إلا أنّه لا معنى له هنا ، فلا وجه لتكلّف ادّعائه لأنّ التركيب كثيرا ما يزيل معنى المفردين ، ويحدث بمجموعهما معنى لم يكن ، ويحكم على مجموع الكلمتين بأنّه في موضع رفع أو نصب أو جرّ بحسب العوامل الدّاخلة عليها. ويدلّ على أنّ الأمر كذلك أمور :

أحدها : أنّ (ذا) لا تؤنّث لتأنيث تمييزها ، تقول له : «عندي كذا وكذا أمة» ولا تقول : «... كذه وكذه ...».

والثاني : أنّها لا تتبع بتابع ، لا يقولون : «كذا نفسه رجلا».

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٣ / ٤٧).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٣١٢).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٦٧).

١٥٩

الثالث : أنّهم قالوا : «إنّ كذا وكذا مالك» برفع المال ، ذكره أبو الحسن في المسائل.

الرابع : أنّهم قالوا : حسبي بكذا» فأدخلوا عليها الجارّ. ذكره أبو الحسن أيضا.

الخامس : أنّهم يقولون : «كذا وكذا درهما» مع أنهم لا يركّبون ثلاثة أشياء ، فما ظنّك بأربعة؟ فلولا أنّ (كذا) قد صارت بمنزلة الشيء الواحد لم يسغ ذلك.

وذهب جماعة من النحويّين إلى أنّ الكاف و (ذا) كلمتان باقيتان على أصلهما من غير تركيب. ثم اختلفوا على أقوال :

أحدها : أنّ الكاف حرف تشبيه ، وأنّ معنى التشبيه باق. وهذا ظاهر قول سيبويه والخليل وصريح قول الصفّار.

بيان الأول : أنّ سيبويه قال : «صار (ذا) بمنزلة التنوين لأنّ المجرور بمنزلة التنوين» (١) ، «وقال الخليل : كأنّهم قالوا له كالعدد درهما. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به. وإنّما تجيء الكاف للتشبيه فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد» (٢). انتهى.

وبيان الثاني : أن الصفّار لمّا ردّ على من جوّز «كذا درهم» ، بالخفض ، بأنّ أسماء الإشارة لا تضاف ، اعترض على نفسه بأنّ معنى الكاف والإشارة قد زال ، وأجاب بأنّ المتكلّم لا بدّ أن يقدّر في نفسه عددا ما وحينئذ يقول : «له عدد مثل هذا العدد».

الثاني : أن الكاف اسم بمنزلة (مثل). قال ابن أبي الرّبيع : «يظهر لي أنّ الكاف اسم بمنزلة (مثل) في قولك : «لي مثله رجلا». قال : والأصل أن يقال : حيث يكون هناك مشار إليه يساويه ما عندك في العدد.

فالأصل : له عندي مثل ذا من العدد ، ثمّ جيء برجل تفسيرا لمثل كما قالوا : «مثلك عالما».

الثالث : أنّها اسم ، ولا معنى للتشبيه فيها ، قاله أبو طالب العبدي ، قال : الكاف في نحو : «له عندي كذا درهما» ، اسم في موضع رفع بالابتداء ، ثمّ اعترض على نفسه بأنّ أبا عليّ ذكر أنّ الكاف إنّما تكون اسما بشرطين :

أحدهما : أن يكون ذلك في الشّعر.

الثاني : أن يتعيّن الموضع لذلك ، كما في قول الأعشى : [البسيط]

__________________

(١ ـ ٢) انظر الكتاب (٢ / ١٧٣).

١٦٠