الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

مبيّنة حكما جديدا لغيره. فهذا هو الذي خطر لي في ذلك وبه يتبيّن أنّه لا فرق بين قولك «قام رجل لا زيد» وقولك «قام زيد لا رجل» ، كلاهما ممتنع إلّا أن يراد بالرجل غير زيد ، فحينئذ يصحّ فيهما إن كان يصحّ وضع «لا» في هذا الموضع موضع «غير» ، وفيه نظر وتفصيل سنذكره ، وإلّا فنعدل عنها إلى صيغة «غير» إذا أريد ذلك المعنى. وبين العطف ومعنى «غير» فرق ، وهو أنّ العطف يقتضي النفي عن الثاني بالمنطوق ولا تعرّض له للأوّل إلّا بتأكيد ما دلّ عليه بالمفهوم إن سلم ؛ ومعنى «غير» يقتضي تقييد الأول ، ولا تعرّض له للثاني إلّا بالمفهوم إن جعلتها صفة ، وإن جعلتها استثناء فحكمها حكم الاستثناء في أنّ الدّلالة هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم وفيه بحث.

والتفصيل الذي وعدنا به هو أنّه يجوز «قام رجل غير عاقل» و «امرر برجل غير عاقل» و «هذا رجل لا امرأة» و «رأيته طويلا غير قصير» ، فإن كانا علمين جاز فيه «لا» و «غير». وهذان الوجهان اللذان خطرا لي زائدان على ما قاله السّهيلي والأبّدي من مفهوم الخطاب ، لأنّه إنّما يأتي على القول بمفهوم اللّقب ، وهو ضعيف عند الأصوليين ، وما ذكرته يأتي عليه وعلى غيره. على أنّ الذي قالاه أيضا وجه حسن ، يصير معه العطف في حكم المبيّن لمعنى الأول من انفراده بذلك الحكم وحده ، وللتصريح بعدم مشاركة الثاني له فيه ، وإلّا لكان في حكم كلام آخر مستقل ، وليس هو المسألة. وهو مطّرد أيضا في قولك «قام رجل لا زيد» ، و «قام زيد لا رجل» لأنّ كليهما عند الأصوليّين له حكم اللّقب. وهذا الوجه مع الوجهين اللذين خطرا لي إنّما هي في لفظة «لا» خاصّة ، لاختصاصها بسعة النفي ، ونفي المستقبل ، على خلاف فيه ، ووضع الكلام في عطف المفردات لا عطف الجمل ، فلو جئت مكانها ب «ما» أو «لم» أو «ليس» وجعلته كلاما مستقلّا لم تأت المسألة ولم تمتنع.

وأما قول البيانيّين في قصر الموصوف إفرادا : «زيد كاتب لا شاعر» فصحيح ، ولا منافاة بينه وبين ما قلناه. وقولهم : عدم تنافي الوصفين ، معناه أنّه يمكن صدقهما على ذات واحدة بخلاف الوصفين المتنافيين ، وهما اللّذان لا يصدقان على ذات واحدة ، كالعالم والجاهل ، فإنّ الوصف بأحدهما ينفي الوصف بالآخر لاستحالة اجتماعهما ، وأما شاعر وكاتب فالوصف بأحدهما لا ينفي الوصف بالآخر لإمكان اجتماعهما في شاعر كاتب ، فإنّما يجيء نفي الآخر إذا أريد قصر الموصوف على أحدهما بما تفهمه القرائن وسياق الكلام. فلا يقال مع هذا كيف يجتمع كلام البيانيّين مع كلام السّهيلي والشيخ لظهور إمكان اجتماعهما.

وقولك في آخر كلامك : وبين كاتب وشاعر عموم وخصوص من وجه أحاشيك

١٢١

منه ، وحاشاك أن تتكلّم به. وقولك : كالحيوان والأبيض ، كأنّك تبعت فيه كلام الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين القرافي فإنّه قال ذلك ـ رحمه الله ـ وهو في غفلة منه ، أو كلام فيه تسمّح أطلقه لتعليم بعض الفقهاء ممّن لا إحاطة له بالعلوم العقلية ، ولذلك زاد على ذلك ، ومثّل بالزّنا والإحصان لأنّ الفقيه يتكلّم فيهما. وتلك كلّها ألفاظ متباينة ، ومعانيها متباينة ، والتباين أعمّ من التنافي ، فكلّ متنافيين متباينان وليس كلّ متباينين متنافيين. وعجب منك كونك غفلت عن هذا ، وهو عندك في منهاج البيضاوي في الفصيح والناطق ، والنظر في المعقول إنّما هو في المعاني والنسب الأربع من التباين والتساوي والعموم المطلق والعموم من وجه بينهما. والشعر والكتابة متباينان ، والزّنا والإحصان متباينان ، والحيوانيّة والبياض متباينان ، وإن صدقا على ذات ثالثة. فما شرطه البيانيون من عدم التنافي صحيح ، ولم يشرطوا عدم التباين ، وما قاله السّهيلي وأبو حيّان صحيح ولم يشرطا التنافي فلذلك يظهر أنّه يصحّ أن يقال : «قام كاتب والشاعر» وإن كنت لم أر هذا المثال ولا ما يدلّ عليه في كلام أحد ، لأنّ كاتبا لا يصدق على شاعر ، بمعنى أنّ معنى الكتابة ليس في شيء من معنى الشّعر ، بخلاف «رجل وزيد» ؛ فإنّ زيدا رجل والشعر والكتابة في رجل واحد كثوبين يلبسهما واحد أفترى أحد الثوبين يصدق على الآخر؟ فالفقيه والنحويّ الصّرف يريد أن يتأنّس بهذه الحقائق ومعرفتها.

وأمّا قولك : «قام رجل وزيد» فتركيب صحيح ، ومعناه : قام رجل غير زيد وزيد ، واستفدنا التقييد من العطف لما قدّمناه من أنّ العطف يقتضي المغايرة. فهذا المتكلّم أورد كلامه أولا على جهة الاحتمال لأن يكون زيدا وأن يكون غيره ، فلمّا قال : وزيد ، علمنا أنّه أراد بالرّجل غيره. وله مقصود قد يكون صحيحا في إبهام الأول وتعيين الثاني ، ويحصل للثاني به فائدة لا يتوصّل إليها إلّا بذلك التركيب ، أو مثله ، مع حقيقة العطف ، بخلاف قولك : «قام رجل لا زيد» ، لم يحصل به قطّ فائدة ولا مقصود زائد على المغايرة الحاصلة بدون العطف في قولك : «قام رجل غير زيد» وإذا أمكنت الفائدة المقصودة بدون العطف ، يظهر أن يمتنع العطف لأنّ مبنى كلام العرب على الإيجاز والاختصار ، وإنّما نعدل إلى الإطناب لمقصود لا يحصل بدونه ، فإذا لم يحصل مقصود به فيظهر امتناعه ، ولا يعدل إلى الجملتين ما قدر على جملة واحدة ، ولا إلى العطف ما قدر عليه بدونه ، فلذلك قلنا بالامتناع ؛ وبهذا يظهر الجواب عن قولك : إن أردت غيره كان عطفا.

وقولك : (ويصير على هذا التقدير مثل «قام رجل لا زيد» في صحّة التركيب) ،

١٢٢

ممنوع لما أشرنا إليه من الفائدة في الأوّل دون الثاني. والتأكيد يفهم بالقرينة ، والإلباس ينتفي بالقرينة ، والفائدة حاصلة مع القرائن في «قام رجل وزيد» وليست حاصلة في «قام رجل لا زيد» مع العطف كما بيّناه.

وقولك : وإن كان معناهما متعاكسين صحيح ، وهو لا ينفعك ولا يضرّك.

وقولك : «وأيّ فرق» ، قد ظهر الفرق كما بين القدم والفرق.

وأمّا قولك : هل يمتنع ذلك في العامّ والخاصّ مثل : «قام الناس لا زيد» فالذي أقوله في هذا : أنّه إن أريد الناس غير زيد جاز ، وتكون «لا» عاطفة كما قرّرنا ، من قبل ، وإن أريد العموم وإخراج زيد بقولك «لا زيد» على جهة الاستثناء ، فقد كان يخطر لي أنّه يجوز. ولكنّي لم أر سيبويه ولا غيره من النحاة عدّ «لا» من حروف الاستثناء فاستقرّ رأيي على الامتناع إلّا إذا أريد بالنّاس غير زيد. ولا يمتنع إطلاق ذلك حملا على المعنى المذكور بدلالة قرينة العطف. ويحتمل أن يقال : يمتنع كما امتنع الإطلاق في «قام رجل لا زيد» ، فإن احتمال إرادة الخصوص جائز في الموضعين فإن كان مسوّغا جاز فيهما ، وإلّا امتنع فيهما ، ولا فرق بينهما إلّا إرادة معنى الاستثناء من «لا» ولم يذكره النحاة ؛ فإن صحّ أن يراد بها ذلك افترقا لأنّ الاستثناء من العام جائز ومن المطلق غير جائز. وفي ذهني من كلام بعض النّحاة في «قام الناس ليس زيدا» أنّه جعلها بمعنى «لا» ، والمشهور أنّ التقدير : ليس هو زيدا ، فإن صحّ جعلها بمعنى «لا» وجعلت «لا استثناء صحّ ذلك وظهر الفرق ، وإلّا فهما سواء في الامتناع عند العطف وإرادة العموم بلا شكّ ، وكذا عند الإطلاق حملا على الظاهر ، حتى تأتي قرينة تدلّ على الخصوص.

وأمّا : «قام الناس وزيد» فجوازه ظاهر ممّا قدّمناه من أنّ العطف يفيد المغايرة ، فأفادت الواو إرادة الخصوص بالأوّل وإرادة تأكيد نسبة القيام إلى زيد ، والإخبار عنه مرّتين بالعموم والخصوص ، وهذا المعنى لا يأتي في العطف ب «لا».

وكأنّي بك تعترض عليّ في كلامي هذا مع كلامي المتقدّم في تفسير المغايرة.

فاعلم أن الأصل في المغايرة أنّها حاصلة بين الجزئيّ والكلّيّ ، وبين العامّ والخاصّ ، وبين المتباينين. وأهل الكلام فسّروا الغيرين باللّذين يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، ونسبوا هذا التفسير إلى اللّغة ، وبنوا عليه أنّ صفات الله ليست غيره لأنّها لا يمكن انفكاكها. ولا غرض لنا في تجويز ذلك هنا ، وإنّما الغرض أنّ العطف يستدعي مغايرة تحصل بها فائدة ، وعطف الخاصّ على العامّ ـ وإن أريد

١٢٣

عموم الأوّل ، إذا حصلت به فائدة ، وهو تقرير حكم الخاصّ وتصييره كالإخبار به مرّتين ـ من أعظم الفوائد ، فيجوز ، فلذلك سلكته هنا ، وفيما تقدّم لم تحصل فائدة فمنعته.

وقد استعملت في كلامي هذا : «وكأني بك» لأنّ الناس يستعملونه ولا أدري هل جاء في كلام العرب أم لا ، إلّا أنّ في الحديث : «كأنّي به» (١) ، فإن صحّ فهو دليل الجواز.

وفي كلام بعض النحاة ما يقتضي منعه ، وقال في قولهم «كأنّك بالدّنيا لم تكن ...» : إنّ الكاف للخطاب ، والباء زائدة والمعنى : كأنّ الدنيا لم تكن ، ولذلك منعه في : «كأنّي بكذا لم يكن» ، هكذا على خاطري في كتاب القصريّات عن أبي عليّ الفارسي. وكان صاحبنا أحمد بن الطاراتي رحمه الله شابّ نشأ وبرع في النحو ، ضرير ، مات في حداثته ، أوقفني في مجاميع له على كلام جمعه في : «كأنّك بالدّنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» لا يحضرني الآن ، وفيه طول.

وأمّا استدلال الشيخ جمال الدين بعطف (جبريل) فصحيح في عطف الخاصّ على العامّ إن كان العطف على (ملائكته) ، لأنّه من جملة الملائكة ، وكذا إن عطف على الرّسل ولم يقصد بهم البشر وحدهم.

وأمّا منازعة الولد له : إذا حمل الرسل على البشر أو عطف على الجلالة الكريمة ، فالتّمسّك بحمل الرّسل على البشر إن صحّ لك يوجب العطف على الملائكة ، وهو منهم قطعا فحصل عطف الخاص على العامّ ، والعطف على الجلالة مع كونه عطفا على الأوّل دون ما بعده هو غير منقول في كلام النحاة ، ومع ذلك هو مذكور بعد ذكر الملائكة الذين هو منهم قطعا ، وبعد الرسل الذين هو منهم ظاهرا ، وذلك يوجب صحّة عطف الخاصّ على العامّ وإن قدّرت العطف على الجلالة ، لأنّا لا نعني بعطف الخاصّ على العامّ إلّا أنّه مذكور بعده ، والنظر في كونه يقتضي تخصيصه أولا.

وأمّا قولك : ولأيّ شيء يمتنع العطف ب «لا» في نحو «ما قام إلّا زيد لا عمرو» ـ وهو عطف على موجب ـ فلما تقدّم أنّ «لا» عطف بها ما اقتضى مفهوم الخطاب نفيه ليدلّ عليه صريحا ، وتأكيدا للمفهوم ، والمنطوق في الأول الثّبوت ، والمستثنى عكس ذلك ، لأنّ الثبوت فيه بالمفهوم لا بالمنطوق.

__________________

(١) هذه قطعة من حديث ذكره البخاري في صحيحه (٢ / ٥٧٩) الحديث (١٥١٨) ، «عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : كأنّي به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا».

١٢٤

ولا يمكن عطفها على المنفي لما قيل : إنّه يلزم نفيه مرّتين.

وقولك : إنّ النفي الأوّل عامّ والثاني خاصّ صحيح ، لكنّه ليس في مثل «جاء زيد لا عمرو» لما ذكرنا أنّ النفي في غير زيد مفهوم ، وفي عمرو منطوق ، وفي الناس المستثنى منه منطوق ، فخالف ذلك الباب.

وقولك : فأسوأ درجاته أن يكون مثل «ما قام الناس ولا زيد» ممنوع ، وليس مثله ، لأنّ العطف في «ولا زيد» ليس ب «لا» بل بالواو ، وللعطف ب «لا» حكم يخصّه ليس للواو ، وليس في قولنا : «ما قام الناس ولا زيد» أكثر من خاصّ بعد عامّ.

هذا ما قدّره الله لي في كتابتي جوابا للولد ، فالولد بارك الله فيه ينظر فيه ، فإن رضيه ، وإلّا فيتحف بجوابه والله أعلم.

الحلم والأناة ، في إعراب (غير ناظرين إناه) (١)

تأليف قاضي القضاة تقيّ الدّين أبي الحسن السّبكي ـ رحمه الله تعالى ـ ، وفيه يقول الصّلاح الصّفديّ :

يا طالب النّحو في زمان

أطول ظلّا من القناه

وما تحلّى منه بعقد

عليك بالحلم والأناه

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم. قال شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين السّبكي رحمه الله تعالى :

قوله تعالى : (... لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ...) [الأحزاب : ٥٣] ، الذي نختار في إعرابها أنّ قوله : «أن يؤذن لكم إلى طعام» حال ، ويكون معناه : مصحوبين ، والباء مقدّرة مع (أن) ، تقديره (بأن) أي مصاحبا. وقوله : «غير ناظرين إناه» حال بعد حال ، والعامل فيهما لفعل المفرّغ في «لا تدخلوا» ، ويجوز تعدّد الحال.

وجوّز الشيخ أبو حيّان أن تكون الباء للسّببيّة ، ولم يقدّر الزمخشري حرفا ألصلا بل قال : «أن يؤذن : في معنى الظّرف ، أي : وقت أن يؤذن» (٢). وأورد عليه أبو حيّان بأنّ ، (أن) المصدريّة لا تكون في معنى الظّرف ، وإنّما ذلك في المصدر الصّريح نحو : أجيئك صياح الدّيك ، أي : وقت صياح الدّيك ، ولا تقول : أن يصيح (٣).

__________________

(١) انظر فتاوى ابن السبكي (١ / ١٠٥).

(٢) انظر الكشاف (٣ / ٢٧٠).

(٣) انظر البحر المحيط (٧ / ٢٣٧).

١٢٥

فحصل خلاف في أنّ «أن يؤذن» ظرف أو حال ، فإن جعلناها ظرفا كما قال الزّمخشريّ فقد قال : إنّ (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من (لا تَدْخُلُوا) فهو صحيح ، لأنّه استثناء مفرّغ من الأحوال ، كأنّه قال : «لا تدخلوا في حال من الأحوال إلّا مصحوبين غير ناظرين» على قولنا ، أو : «وقت أن يؤذن لكم غير ناظرين» على قول الزمخشري. وإنّما لم يجعل «غير ناظرين» حالا من (يؤذن) ـ وإن كان جائزا من جهة الصناعة ـ لأنّه يصير حالا مقدّرة ، ولأنّهم لا يصيرون منهيّين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن ، وليس المعنى على ذلك ، بل على أنّهم نهوا أن يدخلوا إلّا بإذن ، ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا ناظرين إناه. فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل في (يؤذن) ، وأن يكون حالا من مفعوله ، فلو سكت الزّمخشريّ على هذا لم يرد عليه شيء لكنّه زاد وقال : وقع الاستثناء على الوقت والحال معا ، كأنّه قيل : لا تدخلوا بيوت النبيّ إلّا وقت الإذن ولا تدخلوها إلّا غير ناظرين» (١) فورد عليه أن يكون استثناء شيئين ـ وهما الظّرف والحال ـ بأداة واحدة ، وقد منعه النّحاة أو جمهورهم (٢) والظاهر أنّ الزّمخشريّ ما قال ذلك إلّا تفسير معنى وقد قدّر أداتين ، وهو من جهة بيان المعنى. وقوله : «وقع الاستثناء على الوقت والحال معا من جهة الصناعة ؛ لأنّ الاستثناء المفرّغ يعمل ما قبله فيما بعده ، والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلّق بالظّرف والحال ، فكأنّه قال : لا تدخلوا إلّا دخولا موصوفا بكذا ، ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما ؛ فإنّ العمل للفعل المفرّغ ، وإنّما أردت شرح المعنى. ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في مثل قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩]. فالجارّ والمجرور والحال ليسا مستثنيين ، بل يقع عليهما المستثنى ، وهو الاختلاف ، كما تقول : «ما قمت إلّا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في داره» فكلّها يعمل فيها الفعل المفرّغ من جهة الصناعة ، وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد ، لأنّها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمّنه الفعل المنفيّ ؛ وهذا أحسن من أن يقدّر : «اختلفوا بغيا بينهم» ؛ لأنّه حينئذ لا يفيد الحصر ، وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [آل عمران : ١٩] ، فهو حصر في شيئين ، ولكن بالطريق الذي قلناه ، لا أنّه استثناء شيئين بل شيء واحد صادق على شيئين. ويمكن حمل كلام الزّمخشريّ على ذلك ؛ فقوله : «وقع الاستثناء على الوقت والحال معا» صحيح ، وإن كان

__________________

(١) انظر الكشّاف (٣ / ٢٧٠).

(٢) انظر همع الهوامع (١ / ٢٢٦).

١٢٦

المستثنى أعمّ ؛ لأنّ الأعمّ يقع على الأخصّ ، والواقع على الواقع واقع ، فتخلّص ممّا ورد عليه من قول النحاة : «لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان» (١). وقد أورد عليه أبو حيّان في قوله : «إنّها حال من لا تدخلوا» ، أنّ «هذا لا يجوز على مذهب الجمهور ؛ إذ لا يقع عندهم بعد «إلّا» في الاستثناء إلّا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال ، وعلى هذا يجيء ما قاله الزّمخشريّ» (٢). وهذا الإيراد عجيب لأنّه ليس مراد الزّمخشريّ : «لا تدخلوا غير ناظرين» حتى يكون الحال قد تأخّر بعد أداة الاستثناء على مذهب الأخفش والكسائي ، وإنّما مراده أنّه قال : «من لا تدخلوا» لأنّه مفرّغ فيعمل فيما بعد الاستثناء كما في قولك : «ما دخلت إلّا غير ناظر» فلا يرد على الزّمخشري إلّا استثناء شيئين ، وجوابه ما قلناه ؛ وحاصله تقييد إطلاقهم : ـ لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان ـ بما إذا كان الشيئان لا يعمل الفعل فيهما إلّا بعطف ؛ أمّا إذا كان عاملا فيهما بغير عطف فيتوجّه الاستثناء إليهما لأنّ حرف الاستثناء كالفعل ولأنّ الفعل عامل فيهما قبل الاستثناء ، فكذا بعده.

واختار أبو حيّان في إعراب الآية أن يكون التقدير : فادخلوا غير ناظرين ، كما في قوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) [النحل : ٤٤] أي : أرسلناهم. والتقدير في تلك الآية قويّ لأجل البعد والفصل ، وأما هنا فيحتمل هو وما قلناه.

فإن قلت : قولهم : «لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان» هل هو متّفق عليه أو مختلف فيه؟ وما المختار فيه؟ قلت : قال ابن مالك ـ رحمه الله ـ في (التسهيل) : «يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان ويوهم ذلك بدل وفعل مضمر لا بدلان خلافا لقوم».

قال أبو حيان ـ رحمه الله ـ : «إنّ من النحويّين من أجاز ذلك ذهبوا إلى إجازة : «ما أخذ أحد إلّا زيد درهما» و «ما ضرب القوم إلّا بعضهم بعضا» ، قال : ومنع الأخفش والفارسي ، واختلفا في إصلاحهما ، وتصحيحهما عند الأخفش بأن يقدّم على «إلّا» المرفوع الذي بعدها فتقول : «ما أخذ أحد زيد إلّا درهما» و «ما ضرب القوم بعضهم إلّا بعضا» قال : وهذا موافق لما ذهب إليه ابن السرّاج وابن مالك من أنّ حرف الاستثناء إنّما يستثنى به واحد. وتصحيحها عند الفارسيّ بأن تزيد فيها منصوبا قبل إلّا فتقول : «ما أخذ أحد شيئا إلّا زيد درهما» و «ما ضرب القوم أحدا إلّا

__________________

(١) انظر همع الهوامع (١ / ٢٢٦).

(٢) انظر البحر المحيط (٧ / ٢٣٧).

١٢٧

بعضهم بعضا» قال أبو حيّان : ولم يذكر تخريجه لهذا التركيب هل هو على أن يكون ذلك على البدل فيهما ، كما ذهب إليه ابن السّراج في «ما أعطيت أحدا درهما إلّا عمرا دانقا ليبدل المرفوع من المرفوع والمنصوب من المنصوب ، أو هو على أن يجعل أحدهما بدلا والثاني معموله عامل مضمر ، فيكون : «إلّا زيد» بدلا من «أحد» ، و «إلّا بعضهم» بدلا من «القوم» ، و «درهما» منصوب بضرب مضمرة كما اختاره ابن مالك. والظاهر من قول المصنّف ـ يعني ابن مالك ـ : (خلافا لقوم) ، أنّه يعود لقوله : (لا بدلان) فيكون ذلك خلافا في التخريج لا خلافا في صحّة التّركيب. والخلاف كا ذكرته موجود في صحّة التركيب فمنهم من قال : هذا التركيب صحيح لا يحتاج إلى تخريج لا بتصحيح الأخفش ولا بتصحيح الفارسي» هذا كلام أبي حيّان ـ رحمه الله تعالى ـ وحاصله أنّ في صحّة هذا التّركيب خلافا ؛ فالأخفش والفارسي يمنعانه ، وغيرهما يجوّزه ، والمجوّزون له ابن السراج ، يقول : هما بدلان ، وابن مالك يقول : أحدهما بدل والآخر معمول عامل مضمر وليس في هؤلاء من يقول إنهما مستثنيان بأداة واحدة ، ولا نقل أبو حيّان ذلك عن أحد. وقوله في صدر كلامه : «إنّ من النحويّين من أجازه» محمول على التّركيب لا على معنى الاستثناء ؛ فليس في كلام أبي حيّان ما يقتضي الخلاف في المعنى بالنسبة إلى جواز استثناء شيئين بأداة واحدة من غير عطف.

واحتجّ ابن مالك بأنّه كما لا يقدّر بعد حرف العطف معطوفان ، كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء مستثنيان. وتعجّب الشيخ أبو حيّان منه وذلك لجواز قولنا : «ضرب زيد عمرا وبشر خالدا» و «ضرب زيد عمرا بسوط ، وبشر عمرا بجريدة». وقال : إنّ المجوّزين لذلك علّلوا الجواز بشبه (إلا) بحرف العطف ، وابن مالك جعل ذلك علّة للمنع. في هذا التعجّب نظر لأنّ ابن مالك أخذ المسألة مطلقة في هذا المثال وفي غيره ، وقال : «لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان ...» (١) ، ولا شكّ أنّ ذلك صحيح في قولنا : «قام القوم إلّا زيد» أو «ما قام القوم إلّا زيدا» و «ما قام القوم إلّا خالد» وما أشبه ذلك ممّا يكون العامل فيه واحدا ، والعمل واحدا. ففي مثل هذا يمنع التعدّد ولا يكون مستثنيان بأداة واحدة ، ولا معطوفان بحرف واحد.

والشيخ في (شرح التسهيل) مثّل قول المصنّف بحرف عطف : «قام القوم إلّا زيدا وعمرا» ، وهو صحيح ، ومثّله دون عطف ب «أعطيت الناس إلّا عمرا الدنانير» وكأنّه أراد التمثيل بما هو محلّ نظر ، وإلّا فالمثال الذي قدّمناه هو من جملة

__________________

(١) انظر التسهيل (ص ١٠٣).

١٢٨

الأمثلة ، ولا ريبة في امتناع قولك : «قام القوم إلّا زيدا عمرا» ثمّ قال الشيخ : «قال ابن السرّاج : هذا لا يجوز بل تقول : أعطيت الناس الدنانير إلّا عمرا ، قال : فإن قلت : «ما أعطيت أحدا درهما إلّا عمرا دانقا» ، وأردت الاستثناء لم يجز ، وإن أردت البدل جاز فأبدلت عمرا من أحد ، ودانفا من درهم كأنّك قلت : ما أعطيت إلّا عمرا دانقا». قلت : وقد رأيت كلام ابن السراج في الأصول كذلك. قال الشيخ أبو حيّان رحمه الله : «وهذا التقدير الذي قرّره في البدل وهو : ما أعطيت إلّا عمرا دانقا ، لا يؤدّي إلى أنّ حرف الاستثناء يستثنى به واحد بل هو في هذه الحالة التقديريّة ليس ببدل ، إنّما نصبهما على أنّهما مفعولا «أعطيت» المقدّرة ، ولا يتوقّف على وساطة «إلّا» لأنّه استثناء مفرّغ ، فلو أسقطت «إلّا» فقلت : «ما أعطيت عمرا درهما» جاز عملها في الاسمين ، بخلاف عمل العامل في المستثنى الواقع بعد «إلّا» ، فهو متوقّف على وساطتها».

قلت : الحالة التقديريّة إنّما ذكرها ابن السّراج لمّا أعربهما بدلين فأسقط المبدلين وصار كأنّ التقدير ما ذكره. وابن السّراج قائل بأنّ حرف الاستثناء لا يستثنى به إلّا واحد ، حتى إنّه قال قبل ذلك في «ما قام أحد إلّا زيد إلّا عمرا» : إنّه لا يجوز رفعهما لأنّه لا يجوز أن يكون لفعل واحد فاعلان مختلفان يرتفعان به بغير حرف عطف ، فلا بدّ أن ينتصب أحدهما. والظاهر أنّ الشيخ أراد أن يشرح كلام ابن السرّاج لا أن يردّ عليه. ثم قال الشيخ : «ذهب الزجّاج إلى أنّ البدل ضعيف لأنّه لا يجوز بدل اسمين من اسمين ، لو قلت : «ضرب زيد المرأة أخوك هندا» لم يجز». قال : «والسماع على خلاف مذهب الزجّاج وهو أنه يجوز بدل اسمين من اسمين قال الشاعر : [الطويل]

٦٣٧ ـ فلمّا قرعنا النّبع بالنّبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا

وردّ ابن مالك على ابن السّراج بأنّ البدل في الاستثناء لا بدّ من اقترانه بإلّا يعني : وهو قدّر : «ما أخذ أحد زيد» بغير إلّا. وقد يجاب عن ابن السّراج بأنّ الذي لا بد من اقترانه بإلّا هو البدل الذي يراد به الاستثناء ، أمّا هذا فلم يرد به معنى الاستثناء ، بل هو بدل منفيّ قدّمت «إلّا» عليه لفظا ، وهي في الحكم متأخّرة. وحاصله أنّه يلزمه الفصل بين البدل والمبدل ب «إلّا» ويلزمه الفصل بين «إلا» وما

__________________

٦٣٧ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ٧١) ، وخزانة الأدب (٣ / ١٧١) ، والدرر (٣ / ١٦٧) ، وبلا نسبة في همع الهوامع (١ / ٢٢٦).

١٢٩

دخلت عليه بالبدل ممّا قبلها. والشيخ تعقّب ابن مالك بكلام طويل لم يرده. ولم يتلخّص لنا من كلام أحد من النّحاة ما يقتضي حصرين. وقد قال ابن الحاجب في (شرح المنظومة) في المواضع التي يجب فيها تقديم الفاعل في قوله : «إذا ثبت المفعول بعد نفي فلازم تقديمه نوعيّ» قال : «كقولك : «ما ضرب زيد إلّا عمرا» فهذا ممّا يجب فيها تقديم الفاعل ، لأنّ الغرض حصر مضروبيّة زيد في عمرو خاصة ، أي لا مضروب لزيد سوى عمرو ، فلو كان له مضروب آخر لم يستقم ، بخلاف العكس ، فلو قدّم المفعول على الفاعل انعكس المعنى». قال : «فإن قيل ما المانع أن يقال فيها : «ما ضرب إلّا عمرا زيد» ويكون فيه حينئذ تقدّم المفعول على الفاعل ، قلت : لا يستقيم لأنّه لو جوّز تعدّد المستثنى المفرّغ بعد إلّا في قبيلين كقولك : «ما ضرب إلّا زيد عمرا» أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا كان الحصر فيهما معا ، والغرض الحصر في أحدهما فيرجع الكلام بذلك إلى معنى آخر غير مقصود ، وإن لم يجوّز كانت المسألة الأولى ممتنعة لبقائها بلا فاعل ولا ما يقوم مقام الفاعل لأنّ التقدير حينئذ «ضرب زيد» فيبقى ضرب الأوّل بغير فاعل ، وفي الثانية يكون «عمرو» منصوبا بفعل مقدّر غير «ضرب» الأولى فتصير جملتين ، فلا يكون فيهما تقديم فاعل على مفعول. هذا كلام ابن الحاجب وليس في تصريح بنقل خلاف.

ورأيت كلام شخص من العجم يقال له الحديثي (١) شرح كلامه ونقل كلامه هذا وقال : لا يخفى عليك أنّ هذا الجواب إنّما يتمّ ببيان أن «زيدا» في قولنا : «ما ضرب إلّا عمرو زيدا» و «عمرا» في قولنا : «ما ضرب إلّا زيد عمرا» يمتنع أن يكونا مفعولين لضرب الملفوظ. ولم يتعرّض المصنّف في هذا الجواب فيكون هذا الجواب غير تامّ.

وقال المصنّف في (أمالي الكافية) : لا بدّ في المستثنى المفرّغ من تقدير عام فلو استعملوا بعد إلّا شيئين لوجب أن يكون قبلهما عامّان. فإذا قلت : «ما ضرب إلّا زيد عمرا» فإمّا أن تقول لا عامّ لهما أو لهما عامّان أو لأحدهما دون الآخر. الأوّل يخالف الباب ، والثاني يؤدّي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ، ولو جاز ذلك في الاثنين جاز فيما فوقهما ، وذلك ظاهر البطلان. والثالث يؤدّي إلى اللّبس فيما قصد ، فلذلك حكموا بأنّ الاستثناء المفرهغ إنّما يكون لواحد. ويؤوّل ما جاء على ما يوهم غير ذلك بأنّه يتعلّق بما دلّ عليه الأوّل ، فإذا قلت : «ما ضرب إلّا زيد عمرا»

__________________

(١) هو ركن الدين علي بن الفضل الحديثي (انظر بروكلمان ٥ / ٣٢٢).

١٣٠

فنحن نجوّز ذلك لا على أنّه لضرب الأوّل ، ولكن لفعل محذوف دلّ عليه الأوّل ، كأن سائلا سأل : من ضرب؟ فقال : عمرا ، أي ضرب عمرا.

قال الحديثي : ولقائل أن يختار الثالث ويقول : العامّ لا يقدّر إلّا للذي يلي «إلّا» منهما ، فإنّ العامّ إنّما يقدّر للمستثنى المفرّغ لا لغيره والمستثنى المفرّغ هو الذي يلي «إلّا» فلا يحصل اللّبس أصلا. فثبت أنّ جواب شرح المنظومة لا يتمّ بما ذكره في الأمالي أيضا ، نعم يتمّ بما ذكره ابن مالك وهو أنّ الاستثناء في حكم جملة مستأنفة ، لأنّ معنى «جاء القوم إلّا زيدا» : ما منهم زيد ، وهذا يقتضي ألّا يعمل ما قبل «إلّا» فيما بعدها لما لاح أنّ «إلّا» بمثابة «ما» ، و «إلّا» في صورة مندوحة عنه ، وهي إعمال ما قبل إلّا في المستثنى المنفي على أصله ، وفيما بعد إلّا المفرّغة وهو المستثنى المفرّغ تحقيقا أو تقديرا نحو : «ما جاءني أحد إلّا زيد» ، على البدل ، وفيما بعد المقدّمة على المستثنى منه ، والمتوسطة بينه وبين صفته الإضمار إن قدّر العامل بعد إلّا في الصور لكثرة وقوعها ، نحو : «ما قاموا إلّا زيدا» و «ما قام إلّا زيد» و «ما جاء إلّا زيدا القوم» و «ما مررت بأحد إلّا زيدا خير من عمرو» ، وألّا يجوز «ما ضرب إلّا زيد عمرا» ، ولا «... إلّا عمرا زيد» لأنّه إن كانا شيئين فهو ممتنع ، وإن كان المستثنى ما يلي إلّا دون الأخير يكون ما قبله عاملا فيما بعده في غير الصور الأربع ، وهو ممتنع. وما ورد قدّر عامل الثاني ، فتقدير «ما ضرب إلّا عمرا زيد» ضرب زيد.

وذهب صاحب (المفتاح) (١) إلى جواز التقديم حيث قال في فصل القصر : «ولك أن تقول في الأوّل : «ما ضرب إلّا عمرا زيد» وفي الثاني : «ما ضرب إلّا زيد عمرا» فتقدّم وتؤخّر ، إلّا أنّ هذا التقديم والتأخير لمّا استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف قلّ دوره في الاستعمال ، لأنّ الصّفة المقصورة على عمرو في قولنا : «ما ضرب زيد إلّا عمرا» هي ضرب زيد لا الضرب مطلقا ، والصفة المقصورة على زيد في قولنا : «ما ضرب عمرا إلّا زيد هي الضرب لعمرو» (٢). قال الحديثي على صاحب المفتاح : إنّ حكمه بجواز التّقديم إن أثبت بوروده في الاستعمال ، فهو غير مستقيم بأنّ ما ورد في الاستعمال يحتمل أن يكون الثاني فيه معمولا لعامل مقدّر ،

__________________

(١) هو أبو يعقوب السكاكي : يوسف بن أبي بكر بن محمد ، علّامة ، إمام في العربية والمعاني والأدب والعروض والشعر ، صنّف : مفتاح العلوم في اثني عشر علما. (ترجمته في معجم الأدباء ٥ / ٦٤٧).

(٢) انظر مفتاح العلوم (ص ١٦١).

١٣١

كما ذكره ابن الحاجب وابن مالك. وأصول الباب لا تثبت بالمحتملات ، وإن أثبت بغيره فلا بدّ من بيانه لينظر فيه. قال : فإن قيل : فهل يجوز التقديم في «إنّما»؟ قلت : لا يجوز قطعا في «إنّما» ، وإنّما جوّز في «ما» و «إلّا» لأنّ «ما» و «إلّا» أصل في القصر ولأنّ التقديم في (ما) و (إلّا) غير ملبس. كذا قال صاحب (المفتاح) ، وقال الحديثي : امتناع التقديم في «إنّما» يقتضي امتناعه في «ما» و «إلّا» ليجري باب الحصر على سنن واحد. قال مولانا العلّامة قاضي القضاة شيخ الإسلام أوحد المجتهدين (١) : وقد تأمّلت ما وقع في كلام ابن الحاجب من قوله : «ما ضرب أحد أحدا إلّا زيد عمرا» قوله : إنّ الحصر فيهما معا. والسابق إلى الفهم منه أنّه لا ضارب إلّا زيد ولا مضروب إلّا عمرو ، فلم أجده كذلك ، وإنّما معناه : لا ضارب إلّا زيد لأحد إلّا عمرا ، فانتفت ضاربيّة غير زيد لغير عمرو ، وانتفت مضروبيّة غير عمرو من غير زيد ، وقد يكون زيد ضرب عمرا وغيره ، قد يكون عمرو ضربه زيد وغيره. وإنّما يكون المعنى نفي الضاربيّة مطلقا عن غير زيد ونفي المضروبيّة مطلقا عن غير عمرو إذا قلنا : ما وقع ضرب إلّا من زيد على عمرو فهذان حصران مطلقا بلا إشكال ، وسببه أنّ النفي ورد على المصدر واستثني منه شيء خاصّ ، وهو ضرب زيد لعمرو ، فيبقى ما عداه على النفي كما ذكرناه في الآية الكريمة وفي الآية الأخرى التي ينبغي فيها الاختلاف : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩]. والفرق بين نفي المصدر ونفي الفعل أنّ الفعل مسند إلى فاعل فلا ينتفي عن المفعول إلّا ذلك المقيّد ، والمصدر ليس كذلك ، بل هو مطلق فينتفي مطلقا إلّا الصورة المستثناة منه بقيودها.

وقد جاءني كتابك ـ أكرمك الله ـ تذكر فيه أنّك «وقفت على ما قرّرته في إعراب» قوله تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] وأنّ النّجاة اختلفوا في أمرين : أحدهما : وقوع الحال بعد المستثنى نحو قولك : «أكرم الناس إلّا زيدا قائمين». وهذه هي التي اعترض بها الشيخ أبو حيّان على الزّمخشريّ ، وهو اعتراض ساقط لأنّ الزّمخشريّ جعل الاستثناء واردا عليها ، وجعلها حالا مستثناة ، فهي في الحقيقة مستثناة ، فلم يقع بعد إلّا حينئذ إلّا المستثنى ، فإنّه مفرّغ للحال ، والشيخ فهم أنّ الاستثناء غير منسحب عليه فلذلك أورد عليه أنّ (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) ليس مستثنى ولا صفة للمستثنى منه ، ولا مستثنى منه وقد أصبت فيهما. قلت : لكن للشيخ بعض غدر على ظاهر كلام الزّمخشريّ لمّا قال : إنّه حال من (لا تدخلوا) ، ولم يتأمّل الشيخ بقية كلامه ، فلو اقتصر على ذلك لأمكن أن يقال : إنّ مراده : لا

__________________

(١) يريد تقي الدين السبكي وقد وردت ترجمته مسبقا ، وفي بغية الوعاة (٢ / ١٧٦).

١٣٢

تدخلوا غير ناظرين إلّا أن يؤذن لكن ، ويكون المعنى : إنّ دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن ، وأمّا «ناظرين» فممنوع مطلقا بطريق الأولى. ثمّ قدّم المستثنى ، وأخّر الحال ، فلو أراد هذا كان إيراد الشيخ متّجها من جهة النحو.

ثمّ قلت ـ أكرمك الله ـ : «الثاني» وكأنّك أردت الثاني من الأمرين اللّذين اختلف النّحاة فيهما ، وذكرت استثناء شيئين. وقد قدّمت أنّني لم أظفر بصريح نقل في المسألة ، والذي يظهر أنّه لا يجوز بلا خلاف ، كما لا يكون فاعلان لفعل واحد ، ولا مفعولان بهما لفعل واحد لا يتعدّى إلى أكثر من واحد ، كذلك لا يكون مستثنيان من مستثنى واحد بأداة واحدة ، ولا من مستثنى منهما بأداة واحدة ، لأنّها كقولك استثني المتعدّي إلى واحد. فكما لا يجوز في الفعل لا يجوز في الحرف بطريق الأولى ، ولذلك اتّفقوا على ذلك ولم يتكلّموا فيه في غير باب «أعطى» وشبهه.

وقولك إنّه لا يكاد يظهر لها مانع صناعيّ ، وهي جديرة بالمنع ، وما المانع من قول الشخص : «ما أعطيت أحدا شيئا إلّا عمرا دانقا» وإنّما ينبغي منع ذلك في مثل «إلّا عمرا زيدا» إذا كان العامل يطلبهما بعمل واحد ؛ أمّا إذا طلبهما بجهتين فليس يمتنع ، ولم يذكر ابن مالك حجّة إلّا الشّبه بالعطف ، ونحن نقول في العطف بالجواز في مثل : «ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا» قطعا ، فنظيره «ما أعطيت أحدا شيئا إلّا زيدا دانقا». وصرّح ابن مالك بمنعه. وقد فهمت ما قلته ، وقد تقدّم الكلام بما فيه كفاية وجواب إن شاء الله. وقولك إنّ الآية نظيره ممنوع ، بل هي جائزة وهو ممنوع والله أعلم.

رأي النحاة في بيت من الشعر

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم ، رأيت في بعض المجاميع من كلام أبي محمّد بن عبد الله بن بريّ على قول الشّاعر في وصف دينار : [المتقارب]

٦٣٨ ـ وأصفر من ضرب دار الملوك

تلوح على وجهه جعفرا

ملخّصه : أنّ في (تلوح) روايتين ، إحداهما رواية الفرّاء ـ وهي الرّواية الصحيحة ـ أنّها بالتاء. ولا إشكال على نصب (جعفر) على هذه ، لأنّه مفعول بتلوح ، وتلوح بمعنى ترى وتبصر ، تقول : لحت الشّيء إذا أبصرته. وهذا بيّن لا إشكال فيه ولا تعسّف في إعرابه.

__________________

٦٣٨ ـ الشاهد بلا نسبة في تاج العروس (لوح).

١٣٣

وأمّا الرّواية الأخرى ـ وهي المشهورة ـ (يلوح) بالياء. ففيها إشكال ، فمن النّحاة من قال : إنّه منصوب بإضمار فعل تقديره : اقصدوا جعفرا ، ومنهم من جعله من باب المفعول المحمول على المعنى من جهة أنّ جعفرا داخل في الرّؤية من جهة المعنى ، لأنّ الشيء إذا لاح لك فقد رأيته.

تفسير نحلة في قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)

وفي هذا المجموع : سأل الإمام أبو محمد بن برّي الإمام تاج الدّين محمد بن هبة الله بن مكّي الحموي عن قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤]. كيف يكون نحلة والنّحلة في اللّغة الهبة بلا عوض والصداق تستحقّه المرأة اتّفاقا لا على وجه التبرّع.

فأجابه بأنّه لمّا كانت المرأة يحصل لها في النّكاح ما يحصل للزّوج اللّذّة وتزيد عليه بوجوب النّفقة والكسوة والمسكن كان المهر لها مجّانا ، فسمّي نحلة. كذا ذكره أئمّتنا.

وقال بعضهم : لمّا كان الصّداق في شرع من قبلنا لأولياء المنكوحات بدليل قوله تعالى : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ..) [القصص : ٢٧] ثم نسخه شرعنا ، صار ذلك عطيّة اقتطعت لهنّ فسمّي نحلة.

مسألة

في جمع (حاجة) من كلام ابن برّي

قال : سألت ـ وفّقك الله تعالى لما يرضيه وجعلك ممّن يتّبع الحقّ ويأتيه ـ عن قول الشيخ الرئيس أبي محمّد القاسم بن عليّ الحريري في كتابه (درّة الغوّاص) أنّ لفظة (حوائج) ممّا يوهم في استعماله الخواصّ. وسألت أن أميّز لك الصحيح والعليل من غير إسهاب ولا تطويل ، وأنا أجيبك عن ذلك بما في كفاية مع سلوك طريق الحقّ والهداية. ومن أعجب ما يحكى ويذكر ، وأغرب ما يكتب ويسطر أنّه ذكر أنّه لم يحفظ لتصحيح هذه اللفظة شاهدا ولا أنشد فيها بيتا واحدا ، بل أنشد لبديع الزّمان بيتا نسبه إلى الغلط فيه ، والعجز عن إصلاحه وتلافيه ، وهو قوله : [الطويل]

١٣٤

٦٣٩ ـ فسيّان بيت العنكبوت وجوسق

رفيع إذا لم تقض فيه الحوائج

حتّى كأنّه لم يمرّ بسمعه الخبر المنقول عن سيّد البشر أبي البتول حين قال بلسان الإعلان : «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان» (٢). وهذا الخبر ذكره القضاعي في شهابه في الباب الرابع من أبوابه ، وذكر أيضا قوله : «إنّ لله عبادا خلقهم لحوائج النّاس». وذكر الهرويّ (٣) في كتابه (الغريبين) قوله ـ عليه السّلام ـ «اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه» (٤) وقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ «إيّاكم والأقواد ، قالوا : يا رسول الله وما الأقواد؟ فقال : هو الرّجل يكون منكم أميرا فيأتيه المسكين والأرملة فيقول لهم مكانكم حتّى أنظر في حوائجكم ويأتيه الغني فيقول : عجّلوا في قضاء حاجته» (٥).

وذكر ابن خالويه في شرحه (مقصورة ابن دريد) ، عند ذكر فضل الخيل أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال : «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجّل الثلاث المطلق اليد اليمنى».

فهذا ما جاء من الشّواهد النّبويّة وروته الثّقات من الرّواة المرضيّة على صحّة هذه اللّفظة.

وأمّا ما جاء من ذلك في أشعار العرب فكثير ، من ذلك ما أنشده أبو زيد وهو قول أبي سلمة المحاربيّ : [الوافر]

٦٤٠ ـ ثممت حوائجي ووذأت بشرا

فبين معرّس الرّكب السّغاب

وأنشد أيضا للراجز :

٦٤١ ـ يا ربّ ربّ القلص النّواعج

مستعجلات بذوي الحوائج

وقال الشّمّاخ : [الوافر]

٦٤٢ ـ تقطّع بيننا الحاجات إلّا

حوائج يعتسفن مع الجريء

__________________

٦٣٩ ـ الشاهد لبديع الزمان الهمذاني في لسان العرب (حوج) ، وتاج العروس (حوج).

(١) الحديث في مسند الشهاب للقضاعي (١ / ٤١٢) رقم (٧٠٧) بالكتمان لها.

(٢) لم أعثر على الحديث في الكتب المختصّة.

(٣) الهروي : أحمد بن محمد الباشاني صاحب كتاب (الغريبين).

(٤) الحديث في شهاب القضاعي (ص ٢٢).

٦٤٠ ـ الشاهد لأبي سلمة المحاربي في لسان العرب (حوج) و (ثمم) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٣٤).

٦٤١ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج).

٤٦٢ ـ الشاهد للشّماخ في ديوانه (ص ٤٦٣) ، والرواية فيه «الجريّ» ، ولسان العرب (حوج).

١٣٥

وقال الأعشى : [مجزوء الكامل]

٦٤٣ ـ النّاس حول قبابه

أهل الحوائج والمسائل

وقال الفرزدق : [الطويل]

٦٤٤ ـ ولي ببلاد السّند عند أميرها

حوائج جمّات وعندي ثوابها

وأنشد أبو عمرو بن العلاء : [الطويل]

٦٤٥ ـ صريعي مدام ما يفرّق بيننا

حوائج من إلقاح مال ولا نخل

وأنشد ابن الأعرابي : [الكامل]

٦٤٦ ـ من عفّ خفّ على الوجوه لقاؤه

وأخو الحوائج وجهه مبذول

وأنشد أيضا : [الوافر]

٦٤٧ ـ فإن أصبح تحاسبني هموم

ونفس في حوائجها انتشار

وأنشد الفرّاء : [الوافر]

٦٤٨ ـ نهار المرء أمثل حين يقضي

حوائجه من اللّيل الطّويل

وأنشد ابن خالويه : [الطويل]

٦٤٩ ـ خليليّ إن قام الهوى فاقعدا به

لعنّا نقضّي من حوائجنا رمّا

وقال هميان بن قحافة : [الرجز]

٦٥٠ ـ حتّى إذا ما قضت الحوائجا

وملأت حلّابها الخلانجا

وقال آخر : [الطويل]

٦٥١ ـ بدأن بنا لا راجيات لحاجة

ولا يائسات من قضاء الحوائج

__________________

٦٤٣ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ٣٨٩) ، ولسان العرب (حوج) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٢٠٠) ، وتاج العروس (حوج).

٦٤٤ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (١ / ٨٥).

٦٤٥ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج).

٦٤٦ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج).

٦٤٧ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج).

٦٤٨ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج) ، وتاج العروس (حوج).

٦٤٩ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (حوج) ، وتاج العروس (حوج).

٦٥٠ ـ الرجز لهميان بن قحافة في لسان العرب (حوج) و (خلج) و (نشج) و (ثمم) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٢٠٠) ، وتهذيب اللغة (١٠ / ٥٤١) ، وتاج العروس (حوج) ، و (خلج) ، وبلا نسبة في كتاب العين (٨ / ٢١٨).

٦٥١ ـ الشاهد لبعض بني عقيل في شرح شواهد الإيضاح (ص ٥٢٨) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حوج).

١٣٦

وقال ابن هرمز : [الكامل]

٦٥٢ ـ إنّي رأيت ذوي الحوائج إذ عروا

فأتوك قصرا أو أتوك طروقا

فقد وجب ببعض هذا سقوط قول المخالف حين وجبت الحجّة عليه ، ولم يبق له دليل يستند إليه.

وأنا أتبع ذلك بأقوال العلماء ليزداد القول في ذلك إيضاحا وتبيينا. قال الخليل في كتاب العين في فصل (راح) : «يقال : يوم راح وكبش ضاف على التّخفيف من رائح وضائف بطرح الهمزة كما قال الهذليّ :

٦٥٣ ـ [وغيّره ماء الورد فاها فلونه

كلون النّؤور] وهي أدماء سارها

أي : سائرها ، وكما خفّفوا الحاجة من الحائجة ، ألا تراهم جمعوها على حوائج». انقضى كلام الخليل. وقد أثبت صحّة (حوائج) ، وأنّها من كلام العرب وأنّ (حاجة) مجذوذة من (حائجة). وإن كان لم ينطق بها عنده. وكذلك ذكرها عثمان بن جني في كتابه (اللّمع). وحكى المهلّبي عن ابن دريد أنّه قال : حاجة وحائجة وكذلك حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنّه يقال : في نفسي حاجة وحائجة وحوجاء والجمع حاجات وحوائج وحاج وحوج وأنشد البيت المتقدّم (٢) : [الطويل]

صريعي مدام [ما يفرّق بيننا

حوائج من إلقاح مال ولا نخل]

 ـ البيت ـ. وذكر ابن السّكّيت في كتابه المعروف بالألفاظ قريبا من آخره ـ باب الحوائج : «يقال : في جمع حاجة حاجات وحاج وحوج وحوائج».

وقال (٣) سيبويه : فيما جاء في تفعّل واستفعل بمعنى ـ يقال : تنجّز فلان حوائجه واستنجز حوائجه.

وذهب قوم من أهل اللّغة إلى أنّ (حوائج) يجوز أن يكون جمع (حوجاء) وقياسها (حواج) مثل (صحار) ثمّ قدّمت الياء على الجيم فصارت (حوائج). والمقلوب من كلام العرب كثير وشاهد (حوجاء) قول أبي قيس بن رفاعة : [البسيط]

__________________

٦٥٣ ـ الشاهد لأبي ذؤيب الهذليّ في الحيوان (٧ / ٢٥٥) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٧٣) ، ولسان العرب (حوج) و (سير) ، والمقتضب (١ / ١٣٠) ، ونوادر أبي زيد (ص ٢٦) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٠٧) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٨٤).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤٥).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ١٨٥).

١٣٧

٦٥٤ ـ من كان في نفسه حوجاء يطلبها

عندي ، فإنّي له رهن بإصحار

والعرب تقول : «بداءات حوائجك» في كثير من كلامهم. وكثيرا ما يقول ابن السّكّيت : إنّهم كانوا يقضون جوائجهم في البساتين والرّاحات. وإنّما غلّط الأصمعيّ في هذه اللفظة حتى جعلها مولّدة كونها خارجة عن القياس ؛ لأنّ ما كان على مثال (حاجة) مثل غارة ، وحارة ، لا يجمع على غوائر وحوائر ، فقطع بذلك على أنّها مولّدة غير فصيحة. على أنّه حكى الرّقاشي والسّجستاني عن عبد الرحمن عن الأصمعي أنّه رجع عن هذا القول ، وإنّما هو شيء كان عرض له من غير بحث ولا نظر ، وهذا هو الأشبه به ، لأنّ مثله لا يجهل ذلك ، إذ كان موجودا في كلام النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وكلام غيره من العرب الفصحاء. وذكر سيبويه في كتابه أنّه يقال : «تنجّز حوائجه واستنجزها».

وكأنّ القاسم بن علي الحريريّ لم يمرّ به إلّا القول الأول المحكيّ عن الأصمعي دون القول الثاني ، ولو أنّه سلك مسلك النّظر والتسديد ، وأضرب عن مذهب التّسليم والتّقليد ، لكان الحق أقرب إليه من حبل الوريد ـ آخر المسألة ـ.

مسألة

ومن فوائد الشيخ جمال الدّين بن هشام

سئلت عن الفرق بين قولنا : «والله لا كلّمت زيدا ولا عمرا ولا بكرا» بتكرار (لا) وبدون تكرارها ، حتى قيل : إنّ الكلام مع التكرار أيمان في كلّ منها كفّارة ، وأنّه بدون التكرار يمين ، في مجموعها كفّارة.

والجواب : أنّ بينهما فرقا ينبني على قاعدة ، وهي أنّ الاسمين المتفقي الإعراب المتوسّط بينهما واو العطف تارة يتعيّن كونهما متعاطفين ، وتارة يمتنع ذلك ، ويجب تقدير مع الباقي ، ويكون العطف من باب عطف الجمل ؛ وتارة يجوز الأمران.

فالأول نحو : «اختصم زيد وعمرو» ، واصطلح زيد وعمرو» و «جلست بين زيد وعمرو» و «هذان زيد وعمرو» ؛ وذلك لأنّ الاختصام والإصلاح والبينيّة والمبتدأ الدّال على متعدّد ، لا يكتفي بالاسم المفرد.

والثاني نحو : «قامت هند وزيد» ، وقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)

__________________

٦٥٤ ـ الشاهد لقيس بن رفاعة في التنبيه والإيضاح (١ / ٢٠١) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حوج).

١٣٨

[البقرة : ٢٥٥] ، وقوله تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) [المائدة : ٢٤] ، (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) [طه : ٤٢](اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ...) [البقرة : ٣٥] و [الأعراف : ١٩] ، (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) [طه : ٥٨]. فهذه ونحوها يتعيّن فيها إضمار العامل ، أي : ولا يأخذه نوم ، وليذهب ربّك ، وليذهب أخوك ، وليسكن زوجك ، وكذلك التقدير : ولا تخلفه ، ثمّ حذف الفعل وحده فبرز الضمير وانفصل. ولو لا ذلك لزم إعمال فعل الأمر والفعل المضارع ذي النون في الاسم الظاهر أو الضمير المنفصل ، وإسناد الفعل المؤنّث إلى الاسم المذكّر. وكذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ...) [الحشر : ٩] ، وقول الشاعر (١) : [الوافر]

[إذا ما الغانيات برزن يوما]

وزجّجن الحواجب والعيونا

وقول الآخر (٢) : [الرجز]

علفتها تبنا وماء باردا

[حتى شتت همّالة عيناها]

وقوله (٣) : [مجزوء الكامل]

[يا ليت زوجك قد غدا]

متقلّدا سيفا ورمحا

أي : وألفوا الإيمان ، أو وأحبّوا الإيمان ، وكحّلن العيون ، وسقيتها ماء ، وحاملا رمحا. ومن ذلك قولهم : «ما جاءني زيد ولا عمرو» أي : ولا جاءني عمرو ، لأنّ حرف النّفي لا يدخل على المفردات ، لأنّ الذي ينفى إنما هو النّسبة. وكذلك القول في حرف الاستفهام إذا قيل : «أجاءك زيد أو عمرو؟» ـ بتحريك الواو ـ تقديره : أو جاءك عمرو.

فإن قلت : ما ذكرته في النّافي منتقض بقولهم : «جئت بلا زاد» ، وما ذكرته في الاستفهام منتقض بقوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الصافات : ١٦ ـ ١٧] ، قاله الزّمخشريّ. قلت : أمّا هذا الإعراب فمردود والصواب أنّ (آباؤنا) مبتدأ ، وخبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى : (لَمَبْعُوثُونَ) كما أنّها في قراءة من سكّن الواو كذلك (٤).

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣١١).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٦٢٢).

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٣٨).

(٤) انظر تيسير الداني (ص ١٥١).

١٣٩

وأمّا المثال المذكور فأصله : ما جئت بزاد ، ولكنّهم عدلوا عن ذلك لاحتماله خلاف المراد ، وهو نفي المجيء البتّة ، فإنّ من لم يجئ يصدق عليه أنّه لم يجئ بزاد ، فلذلك أدخلوا (لا) على مصبّ النفي ، ومن ثمّ سمّاها النحويّون : مقحمة ، أي : داخلة في موضع ليس لها بالأصالة.

فإن قلت : فلم يقولون : «ما جاءني زيد ولا عمرو» حتّى احتيج إلى إضمار العامل؟ قلت : إنّما يقولونه إذا أرادوا الدّلالة على نفي الفعل عن كلّ منهما بصفتي الاجتماع والافتراق ، إذ لو لم يكرّروا الثّاني احتمل إرادة نفي اجتماعهما ، ونفي كلّ منهما.

فإن قلت : فهلّا أجازوا في الاستفهام «هل جاءك زيد وهل عمرو» إذا أرادوا التّنصيص على الاستفهام عن مجيء كلّ منهما ، ورفع احتمال الاستفهام عن اجتماعهما في المجيء في وقت؟.

قلت : لئلّا تقع أداة الصّدر حشوا.

فإن قلت : قدّر العامل ، وقد صار ذو الصّدر صدرا.

قلت : نعم ، لكن تبقى صورة اللّفظ حينئذ قبيحة ، إذ الأداة داخلة في اللّفظ في حشو الكلام ، وهم معتنون بإصلاح الألفاظ كما يعتنون بإصلاح المعاني.

والثالث نحو : «قام زيد وعمرو».

فإن قلت : فهل نصّ أحد على جواز الوجهين في ذلك على وجوب تقدير العامل مع تكرار النّافي؟.

قلت : أمّا مسألة تكرار النّافي ، فقد أوضحت بالدليل السابق وجوب تقدير العامل فيها. وأمّا ما أجزت فيه الوجهين فلا سبيل إلى دفع الإمكان فيه ، على أنّني وقفت في كلام جماعة على ذلك ، قال بعض المحقّقين : «اعلم أنّ الواو ضربان : جامعة للاسمين في عامل واحد ، ونائبة مناب التثنية ، حتّى يكون قولك : «قام زيد وعمرو» بمنزلة «قام هذان» ، ومضمر بعدها العامل ، وينبني عليها مسائل :

إحداها : «قام زيد وهند» بترك تأنيث الفعل ، فهذا جائز على الوجه الأوّل دون الثّاني ، لأنّا نقول على الأوّل : غلّبنا الذّكر ، ولا يقال ذلك على الثاني ، لأنّ الاسمين لم يجتمعا.

١٤٠