الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

بالحرف. وفي القرآن الكريم أمثلة تبيّن ذلك ، قال الله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] ، فأتى بالواو بين الوصفين الأخيرين لأنّ المقصود بالصفات الأولى ذكرها مجتمعة ، والواو قد توهم التنويع فحذفت. وأمّا الأبكار فلا يكنّ ثيّبات ، والثيّبات لا يكنّ أبكارا ، فأتى بالواو لتضادّ النوعين. وقال تعالى : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) [غافر : ١ ـ ٣]. فأتى بالواو في الوصفين الأوّلين ، وحذفها في الوصفين الأخيرين ، لأنّ غفران الذّنب وقبول التوبة قد يظنّ أنّهما يجريان مجرى الواحد لتلازمهما ، فمن غفر الذّنب قبل التوبة ، فبيّن الله سبحانه وتعالى بعطف أحدهما على الآخر أنّهما مفهومان متغايران ، ووصفان مختلفان يجب أن يعطى كلّ واحد منهما حكمه ، وذلك مع العطف أبين وأوضح. وأمّا (شَدِيدِ الْعِقابِ) ، و (ذِي الطَّوْلِ) فهما كالمتضادّين ؛ فإنّ شدّة العقاب تقتضي اتّصال الضّرر ، والاتصاف بالطول يقتضي اتصال النّفع ، فحذف ليعرف أنّهما مجتمعان في ذاته ، وأنّ ذاته المقدّسة موصوفة بهما على الاجتماع ، فهو في حالة اتّصافه ب (شَدِيدِ الْعِقابِ) ذو الطول ، وفي حالة اتّصافه ب (ذِي الطَّوْلِ) شديد العقاب ، فحسن ترك العطف بهذا المعنى. وفي الآية التي نحن فيها يتّضح معنى العطف وتركه ممّا ذكرناه ؛ لأنّ كلّ صفة ممّا لم تنسق بالواو مغايرة للأخرى. والغرض أنّهما في اجتماعهما كالوصف الواحد لموصوف واحد ، فلم يحتج إلى عطف ، فلمّا ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما متلازمان أو كالمتلازمين ، مستمدّان من مادة واحدة كغفران الذّنب وقبول التوبة حسن العطف ، ليبيّن أنّ كلّ واحد متعبد به على حدته ، قائم بذاته ، لا يكفي منه ما يحصل في ضمن الآخر ، بل لا بدّ أن يظهر أمره بالمعروف بصريح الأمر ، ونهيه عن المنكر بصريح النهي ، فاحتاج إلى العطف. وأيضا لمّا كان الأمر والنهي ، ضدين ؛ أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين في قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] فحسن العطف بالواو (١).

الكلام في قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها)

كتب الصلاح الصفدي إلى الشيخ تقي الدين السبكي يسأله عن قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) [الكهف : ٧٧](٢) [الطويل]

__________________

(١) انظر البحر المحيط (٥ / ١٠٣) ، وبدائع الفوائد (١ / ١٩٢).

(٢) انظر كتاب فتاوى السبكي (١ / ٧٥).

١٠١

أسيّدنا قاضي القضاة ومن إذا

بدا وجهه استحيى له القمران

ومن كفّه يوم النّدى ويراعه

على طرسه بحران يلتقيان

ومن إن دجت في المشكلات مسائل

جلاها بفكر دائم اللّمعان

رأيت كتاب الله أكبر معجز

لأفضل من يهدى به الثّقلان

ومن جملة الإعجاز كون اختصاره

بإيجاز ألفاظ وبسط معان

ولكنّني في الكهف أبصرت آية

بها الفكر في طول الزّمان عناني

وما هي إلّا استطعما أهلها فقد

نرى استطعماهم مثله ببيان

فما الحكمة الغرّاء في وضع ظاهر

مكان ضمير إنّ ذاك لشان

فأرشد على عادات فضلك حيرتي

فمالي بهذا يا إمام يدان

فأجابه بما نصّه : قوله : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) متعيّن واجب ، ولا يجوز مكانه «استطعماهم» لأنّ «استطعما» صفة للقرية في محل خفض جارية على غير من هي له كقولك : أهل قرية مستطعم أهلها ؛ لو حذفت «أهلها» هنا ، وجعلت مكانه ضميرا لم يجز ، فكذلك هذا. ولا يسوغ من جهة العربية شيء غير ذلك ، إذ «استطعما» صفة لقرية ، وجعله صفة لقرية سائغ عربي لا تردّه الصناعة ولا المعنى ، بل أقول : إن المعنى عليه. أمّا كون الصناعة لا تردّه فلانه ليس فيه إلا وصف نكرة بجملة ، كما توصف سائر النكرات بالجمل. والتركيب محتمل لثلاثة أعاريب ، أحدهما : هذا ، والثاني : أن تكون الجملة في محل نصب صفة ل «أهل» ، والثالث : أن تكون الجملة جواب «إذا» ، والأعاريب منحصرة في الثلاثة لا رابع لها. وعلى الثاني والثالث يصحّ أن يقال : «استطعماهم» ، وعلى الأول : لا يصح لما قدمناه. فمن لم يتأمل الآية كما تأملناها ظن أن الظاهر وقوع موقع المضمر أو نحو ذلك ، فغاب عنه المقصود. ونحن بحمد الله وفقنا الله للمقصود ، ولمحنا تعيّن الإعراب الأول من جهة معنى الآية ومقصودها ، وأنّ الثاني والثالث وإن احتملهما التركيب بعيدان عن مغزاها.

أمّا الثالث هو كونه جواب «إذا» ، فلأنه تصير الجملة الشرطية معناها الإخبار باستطعامهما عند إتيانهما ، وأن ذلك تمام معنى الكلام. ويجلّ مقام موسى والخضر عليهما السّلام عن تجريد قصدهما إلى أن يكون معظمه أو هو طلب طعمة أو شيئا من الأمور الدّنيوية ، بل كان القصد ما أراد ربّك أن يبلغ اليتيمان أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربّك ، وإظهار تلك العجائب لموسى عليه السّلام.

فجواب «إذا» قوله : (قالَ لَوْ شِئْتَ) [الكهف : ٧٧] إلى تمام الآية.

وأما الثاني : وهو كونه صفة ل «أهل» في محلّ نصب فلا تصير العناية إلى شرح

١٠٢

حال الأهل من حيث هم هم ، ولا يكون للقرية أثر في ذلك. ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إلى القرية نفسها ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها) [الكهف : ٧٧] ، ولم يقل : عندهم ، وأن الجدار الذي قصد إصلاحه وحفظ ما تحته جزء من قرية مذمومة مذموم أهلها ، وقد تقدّم منهم سوء صنيع من الآباء عن حقّ الضيف مع طلبه. وللبقاع تأثير في الطباع ، فكانت هذه القرية حقيقة بالإفساد والإضاعة ، فقوبلت بالإصلاح لمجرد الطاعة ، فلم يقصد إلّا العمل الصالح ، ولا مؤاخذة بفعل الأهل الذين منهم غاد ورائح ، فلذلك قلت : إن الجملة يتعيّن من جهة المعنى جعلها صفة لقرية ، ويجب معها الإظهار دون الإضمار.

وينضاف إلى ذلك من الفوائد أنّ الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأول أو غيرهم ، أو منهم ومن غيرهم ، والغالب أنّ من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة ، بل يقع بصره أولا على بعضهم ، ثم قد يستقرئهم ، فلعلّ هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدّر الله لهما ، لما يظهر من حسن صنيعه استقراء جميع أهلها على التدريج ، ليبيّن به كمال رحمته ، وعدم مؤاخذته بسوء صنيع بعض عباده. ولو أعاد الضمير فقال : «استطعماهم» ، تعيّن أن يكون المراد الأولين لا غير ، فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه ، وأنّهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ، ومع ذلك قابلاهم بأحسن الجزاء. فانظر إلى هذه المعاني والأسرار كيف غابت عن كثير من المفسرين ، واحتجبت تحت الأستار ، حتى ادّعى بعضهم أنّ ذلك تأكيد ، وادّعى بعضهم غير ذلك ، وترك كثير التعرّض لذلك رأسا.

وبلغني عن شخص أنّه قال : إنّ اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل ، فذلك لم يقل : «استطعماهم». وهذا شيء لم يقله أحد من النّحاة ولا له دليل ، والقرآن والكلام الفصيح ممتلئ بخلافه ، وقد قال تعالى في بقيّة الآية : «يضيّفوهما» ، وقال تعالى : (فَخانَتاهُما) [التحريم : ١٠] ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا) [الزخرف : ٣٨] في قراءة الحرميّين وابن عامر (١). وألف موضع هكذا ، فهذا القول ليس بشيء ، وليس هو قولا حتّى يحكى ، وإنّما لمّا قيل نبّهت على ردّه. ومن تمام الكلام في ذلك أنّ «استطعما» إذا جعل جوابا فهو متأخّر عن الإتيان ، وإذا جعل صفة احتمل أن يكون اتّفق قبل الإتيان هذه المرّة ، وذكر تعريفا وتنبيها على أنّه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير. وقوله : «فوجدا» معطوف على «أتيا».

فهذا ما فتح الله عليّ ، والشّعر يضيق عن الجواب ، وقد قلت : [الطويل]

__________________

(١) انظر تيسير الداني (ص ١٥٩).

١٠٣

لأسرار آيات الكتاب معاني

تدقّ فلا تبدو لكلّ معاني

وفيها لمرتاض لبيب عجائب

سنا برقها يعنو له القمران

إذا بارق منها لقلبي قد بدا

هممت قرير العين بالطّيران

سرورا وإبهاجا وصولا على العلا ،

كأنّي على هام السّماك مكاني

فما الملك والأكوان بالبيض والقنا

وعندي وجوه أسفرت بتهاني

وهاتيك منها قد أبحتك سرّها ،

فشكرا لمن أولاك حسن بيان

أرى «استطعما» وصفا على قرية جرى

وليس لها ، والنحوّ كالميزان

صناعته تقضي بأنّ استتار ما

يعود عليه ليس في الإمكان

وليس جوابا لا ولا وصف أهلها

فلا وجه للإضمار والكتمان

وهذي ثلاث ما سواها بممكن

تعيّن منها واحد فسباني

ورضت لها فكري إلى أن تمخّضت

به زبدة الأحقاب منذ زمان

وإنّ حياتي في تموّج أبحر

من العلم في قلبي تمدّ لساني

وكم من كناس في حماي مخدّر

إلى أن أرى أهلا ذكيّ جنان

فيصطاد منّي ما يطيق اقتناصه

وليس له بالشاردات يدان

مناي سليم الذّهن ريّض ارتوى

بكلّ علوم الخلق ذو إمعان

فذاك الذي يرجى لإيضاح مشكل

ويقصد للتحرير والتّبيان

وكم لي في الآيات حسن تدبّر

به الله ذو الفضل العظيم حباني

بجاه رسول الله قد نلت كلّما

أتى وسيأتي دائما بأمان

فصلّى عليه الله ما هبّت الصّبا

وسلّم ما دامت له الملوان (١)

وكتب الصّلاح الصفدي بهذا السؤال أيضا إلى الشيخ زين الدّين علي ابن شيخ العوينة الموصليّ (٢) ـ رحمه الله ـ فأجاب أيضا بما نصّه (٣) : [الطويل]

سألت لماذا «استطعما أهلها» أتى

عن استطعماهم ، إنّ ذاك لشان

وفيه اختصار ليس ثمّ ، ولم تقف

على سبب الرّجحان منذ زمان

فهاك جوابا رافعا لنقابه ،

يصير به المعنى كرأي عيان

__________________

(١) الملوان : الليل والنهار.

(٢) علي بن الحسين بن القاسم بن منصور بن علي الشيخ زيد الدين الموصليّ المعروف بابن شيخ العونية : الفقيه الأصوليّ النحويّ ، من مصنّفاته : شرح المفتاح ، وشرح التسهيل ، ومختصر شرح ابن الحاجب ، وشرح البديع لابن الساعاتي ، وغيرها. (ت ٧٥٥ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (٢ / ١٦١).

(٣) انظر روح المعاني (٥ / ١١٠).

١٠٤

إذا ما استوى الحالان في الحكم رجّح الض

ضمير ، وأمّا حين يختلفان

فإن كان في التّصريح إظهار حكمة ،

كرفعة شأن أو حقارة جاني

كمثل : «أمير المؤمنين يقول ذا» ،

وما نحن فيه ، صرّحوا بأمان

وهذا على الإيجاز ، واللّفظ جاء في

جوابي منثورا بحسن بيان

فلا تمتحن بالنّظم من بعد عالما

فليس لكلّ بالقريض يدان

وقد قيل إنّ الشّعر يزري بهم فلا

يكاد يرى من سابق برهان

ولا تنسني عند الدّعاء فإنّني

سأبدي مزاياكم بكلّ مكان

وأستغفر الله العظيم لما طغى

به قلمي ، أو طال فيه لساني

والجواب المبسوط بالنثر هو أنّه لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني لم يتحتّم الإضمار ، بل قد يكون التصريح أولى ، بل ربّما يكاد يصل إلى حدّ الوجوب ، كما سنبيّن إن شاء الله تعالى. ويدلّ على الأولوية قول أرباب علم البيان ما هذا ملخّصه :

لمّا كان للتصريح عمل ليس للكناية ، كان لإعادة اللفظ من الحسن والبهجة والفخامة ما ليس لرجوع الضّمير. انتهى كلامهم. فقد يعدل إلى التّصريح إمّا للتعظيم وإمّا للتحقير والنداء ، وإما للتّشنيع في النداء بقبح الفعل ، وإما لغير ذلك ، فمن التعظيم قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] دون (هو) ، وقوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥] ، ولم يقل وبه ، وقوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] ، فقد كرّر لفظ الحجّ مرّتين دون أن يقال : فمن فرضه فيهن ولا جدال فيه ، إعلاما بعظمة هذه العبادة من حيث إنّها فريضة العمر ، وفيها شبه عظيم بحال الموت والبعث فناسب حال تعظيمه في القلوب التّصريح بالاسم ثلاث مرّات. ومنه قوله الخليفة : «أمير المؤمنين يرسم بكذا» ، دون (أنا) ، إما لتعظيم ذلك الأمر أو لتقوية داعية المأمور أو نحوهما ، وقول الشاعر : [الرجز]

٦٢٩ ـ نفس عصام سوّدت عصاما

وقول البحتري : [الخفيف]

٦٣٠ ـ قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا

__________________

٦٢٩ ـ الرجز للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ١١٨) ، وبلا نسبة في لسان العرب (عصم) ، ومقاييس اللغة (٢ / ١٧٥) ، وتاج العروس (عصم).

٦٣٠ ـ الشاهد للبحتري في ديوانه (ص ١٦٥٧) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٨٨١) ، ودلائل الإعجاز (ص ١٢٩).

١٠٥

فإنّ إيقاع الطّلب على المثل أوقع من إيقاعه على ضميره لو قال : طلبنا لك مثلا فلم نجده. وقال بعض أهل العصر : [الطويل]

إذا برقت يوما أسرّة وجهه

على النّاس قال النّاس جلّ المصوّر

وأمّا ما يكاد يصل إلى حدّ الوجوب ، فمثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) [الأحزاب : ٥٠] إلى قوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) [الأحزاب : ٥٠] ، إنّما عدل عن الإضمار إلى التصريح وكرر اسمه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ تنبيها على أنّ تخصيصه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بهذا الحكم ، أعني النّكاح بالهبة عن سائر الناس ، لمكان النبوّة ، ولكبير اسمه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ تنبيها على عظمة شأنه وجلالة قدره إشارة إلى علّة التّخصيص ، وهي النّبوة.

ومن التحقير : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ٥٩] دون (عليهم) ، (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٨٨] ، أضمر هنا ثمّ لما أراد المبالغة في ذمّهم صرّح في الآية الثانية والثالثة بكفرهم فقيل : (... فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] ، (... وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) [البقرة : ٩٠] ، وأمثاله كثير.

إذا تقرّر هذا الأصل فنقول : لما كان أهل هذه القرية موصوفين بالشيخ الغالب ، واللؤم اللّازب بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم : «كانوا أهل قرية لئاما» (١) وقد صدر منهم في حقّ هذين العبدين الكريمين على الله ما صدر من المنع بعد السؤال ، كانوا حقيقين بالنداء عليهم بسوء الصّنيع ، فناسب ذلك التصريح باسمهم ، لما في لفظ الأهل من الدّلالة على الكثرة ، مع حرمان هذين الفقيرين من خيرهم مع استطعامهما إياهم ، ولما دلّ عليه حالهم من كدر قلوبهم ، وعمى بصائرهم ، حيث لم يتفرّسوا فيهما ما تفرّسه صاحب السّفينة في قوله : «أرى وجوه الأنبياء» (٢). هذا ما يتعلق بالمعنى.

وأما ما يتعلق باللفظ : فلما في جمع الضميرين في كلمة واحدة من الاستثقال ؛ فلهذا كان قليلا في القرآن المجيد. وأما قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] وقوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها) [هود : ٢٨] فإنّه ليس من هذا القبيل ؛ لأنّه عدول عن الانفصال إلى الاتّصال الذي أخصر. وعند فكّ الضمير لا يؤدّى إلى التصريح باسم ظاهر ، بل يقال فسيكفيك إياهم الله ، وأنلزمكم إيّاها ، فكان الاتصال أولى لأنّه أخصر ، ومؤدّاهما واحد بخلاف مسألتنا. ثم هنا سؤالات.

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (٥ / ١١٩).

(٢) انظر تفسير ابن كثير (٥ / ٣٠٥).

١٠٦

فالأول : ما الفرق بين الاستطعام والضّيافة؟ فإن قلت : إنّهما بمعنى ، قلت : فلم خصّصهما بالاستطعام ، والأهل بالضّيافة.

والثاني : لم قال : (فأبوا) دون (فلم) مع أنّه أخصر؟

والثالث : لم قال : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) دون (أتيا قرية ،) والعرف بخلافه؟ تقول : أتيت إلى الكوفة دون (أهل الكوفة) ، كما قال تعالى : (ادْخُلُوا مِصْرَ) [يوسف : ٩٩].

والجواب عن الأوّل : أنّ الاستطعام وظيفة السائل ، والضّيافة وظيفة المسؤول ؛ لأنّ العرف يقضي بذلك ، فيدعو المقيم إلى منزله القادم : يسأله ويحمله إلى منزله.

وعن الثاني : بأنّ في الإباء من قوّة المنع ما ليس في (فلم) ، لأنّها تقلب المضارع إلى الماضي وتنفيه ، فلا يدلّ على أنّهم لم يضيّفوهم في الاستقبال ، بخلاف الإباء المقرون بأن ، فإنّه يدل على النفي مطلقا. وآية : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] أي حالا واستقبالا.

وعن الثالث : أنّه مبنيّ على أن مسمّى القرية ما ذا؟ أهو الجدران وأهلها معا حال كونهم فيها ، أم هي فقط؟ أم هم فقط؟ والظاهر عندي أنّه يطلق عليها مع قطع النظر إلى وجود أهلها وعدمهم ، بدليل قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩]. سمّاها قرية ولا أهل ولا جدار قائما ، ولعدم تناول لفظ القرية إياهم في البيع إذا كانت القرية وأهلها ملكا للبائع ، وهم فيها حالة البيع. ولو كان الأهل داخلين في مسمّاها لدخلوا في البيع ؛ ولثبوت المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وإنّما ذكر الأهل لأنّه هو المقصود من سياق الكلام دون الجدران ، لأنّه بمعرض حكاية ما وقع منهم من اللّؤم.

فإن قلت : فما تصنع بقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً ...) [النحل : ١١٢] إلى آخره ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فإنّ المراد في هذه الآيات وأمثالها الأهل.

قلت : هو من باب المجاز لأنّ الإهلاك إنّما ينسب إليهم دونها ، بدليل : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل : ١١٢] ، و (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ولاستحالة السؤال من غير الأهل. على أنّا نقول : لو تصوّر وقوع الهلاك على نفس القرية بالخسف والحريق والغرق ونحوه لم تتعيّن الحقيقة لما ذكرناه والله أعلم.

١٠٧

مسألة

التعجب من صفات الله

سئل الشيخ تقيّ الدّين السّبكي ـ رحمه الله ـ عن رجل قال : ما أعظم الله» فقال آخر : هذا لا يجوز.

فأجاب : يجوز ذلك قال تعالى : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الكهف : ٢٦] والضمير في (به) عائد إلى الله تعالى ، أي ما أبصره وما أسمعه ، فدلّ على جوز التعجب في ذلك.

وهذا كلام صحيح ، ومعناه أنّ الله في غاية العظمة ، ومعنى التعجّب في ذلك أنّه لا ينكر لأنّه ممّا تحار فيه العقول. والإتيان بصيغة التعجّب في ذلك جائز للآية الكريمة ، وإعظام الله تعالى وتعظيمه الثناء عليه بالعظمة أو اعتقادها ؛ وكلاهما حاصل ، والموجب لهما أمر عظيم. فبلغني بعد ذلك عن شيخنا أبي حيّان (١) أنّه كتب فنظرت فرأيت أبا بكر بن السّرّاج (٢) في (الأصول) قال في شرح التعجّب : «وقد حكيت ألفاظ في أبواب مختلفة مستعملة في حال التعجّب فمن ذلك : ما أنت من رجل تعجّب ، و «سبحان الله ولا إله إلّا الله» ، وما رأيت كاليوم رجلا» ، و «سبحان الله رجلا» و «من رجل» ، و «حسبك بزيد رجلا» ، و «من رجل» ، و «العظمة لله من ربّ» و «كفاك بزيد رجلا» تعجّب.

فقوله : العظمة لله من ربّ دليل لجواز التعجب في صفة الله تعالى ، وإن لم يكن بصيغة ما أفعله وأفعل به. ومن جهة المعنى لا فرق من حيث كونه تعجبا.

مسألة

فعل في التعجّب

وقال كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري

__________________

(١) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان الإمام ، أثير الدين أبو حيان الأندلسيّ الغرناطي ، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره ومحدّثه ومؤرّخه وأديبه. من تصانيفه : البحر المحيط في التفسير ، وإتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب ، والتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والتجريد لأحكام كتاب سيبويه وغيرها. (ت ٧٤٥ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ٢٨٣).

(٢) أبو بكر بن السرّاج : هو محمد بن السريّ البغدادي النحوي : كان أحدث أصحاب المبرّد سنا مع ذكاء وفطنة ، أهم مصنّفاته : الأصول الكبير ، وجمل الأصول ، والموجز ، وشرح سيبويه ، والشعر والشعراء وغيرها. (ت ٣١٦ ه‍). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ١٠٩).

١٠٨

في كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف في النحو) (١) : «مسألة : ذهب الكوفيّون إلى أن أفعل في التعجّب نحو «ما أحسن زيدا» اسم ، والبصريّون إلى أنّه فعل ، وإليه ذهب الكسائي». ثم قال : «والذي يدلّ على أنّه ليس بفعل وأنّه ليس التقدير فيه شيء أحسن زيدا قولهم : «ما أعظم الله» ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير «شيء أعظم الله» ، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل ، وقال الشاعر : [البسيط]

٦٣١ ـ ما أقدر الله أن يدني على شحط

من داره الحزن ممّن داره صول

ولو كان الأمر على ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه : شيء أقدر الله ، والله تعالى قادر لا بجعل جاعل. واحتجّ البصريون بأمور» ثمّ قال : «والجواب عن كلمات الكوفيين» ثم قال : «وأما قولهم في «ما أعظم الله» قلنا : معنى : «شيء أعظم الله» ، أي وصفه بالعظمة ، كما تقول : عظّمت عظيما. ولذلك الشيء ثلاثة معان.

أحدها : أن يعنى بالشيء من يعظّمه من عباده ، والثاني : أن يعنى بالشيء ما يدلّ على عظمة الله تعالى ، وقدرته في مصنوعاته ، والثالث : أن يعنى به نفسه أي : أنّه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيما ، فرقا بينه. وبين غيره. وحكي أنّ بعض أصحاب المبرّد (٣) قدم إلى بغداد قبل قدوم المبرّد ، فحضر حلقة ثعلب فسئل عن هذه المسألة فأجاب بجواب أهل البصرة وقال : التقدير شيء أحسن زيدا ، فقيل له ما تقول في «ما أعظم الله» فقال : شيء أعظم الله ، فأنكروا عليه ، وقالوا : لا يجوز ، إنّه عظيم لا بجعل جاعل ، ثمّ سحبوه من الحلقة فأخرجوه ، فلمّا قدم المبرّد أوردوا عليه هذا الإنكار فأجاب بما قدمناه ، فبان بذلك قبح إنكارهم وفساد ما ذهبوا إليه. وقيل : يحتمل أن يكون قولنا : «شيء أعظم الله» بمنزلة الإخبار أنّه عظيم ، لا شيء جعله عظيما لاستحالته. وأمّا قول الشاعر (٤) : [البسيط]

ما أقدر الله [أن يدني على شحط

من داره الحزن ممّن داره صول]

__________________

(١) انظر الإنصاف (ص ١٢٦).

٦٣١ ـ الشاهد لحندج بن حندج المريّ في الدرر (٦ / ٢٦٦) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٨٣١) ، وتاج العروس (صول) ، ومعجم البلدان (صول) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٣٨) ، وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ١٢٨) ، وشرح الأشموني (١ / ٤٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٦٧).

(٢) انظر مجالس العلماء للزجاجي (ص ١٦٤).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٣١).

١٠٩

فإنه وإن كان لفظه لفظ التعجّب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة ، كقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] جاء بصيغة الأمر ، وإن لم يكن في الحقيقة أمرا» انتهى كلامه.

وهو نصّ صريح في المسألة وناطق بالاتّفاق على صحّة إطلاق هذا اللّفظ ، وأنّه غير مستنكر ، ولكنّه مختلف فيه : هل يبقى على حقيقته من التعجّب ، ويحمل (ما) على الأوجه الثلاثة ، أو يجعل مجازا عن الإخبار؟ وأمّا إنكار اللفظ فلم يقل به أحد ، والأصحّ أنّه باق على معناه من التعجّب. وقال الباجي أبو الوليد (١) في (كتاب السّنن) من تصنيفه ، في باب «أدعية من غير القرآن» فذكر منها : ما أحلمك عمّن عصاك ، وأقربك ممّن دعاك ، وأعطفك على من سألك ، وذكر شعر المغيرة : [مجزوء الرجز]

سبحانك اللهمّ ما

أجلّ عندي مثلك

انتهى.

ورأيت أنا في السّيرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رواية ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه (٢) ـ وناهيك بهما في جوار ابن الدّغنّة (٣) قال القاسم : «إنّ أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لقيه سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا عى رأسه ترابا. فمرّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل ، فقال : ألا ترى ما يصنع هذا السّفيه؟ قال : أنت فعلت ذلك بنفسك. وهو يقول : «أي ربّ ما أحلمك ، أيّ ربّ ما أحلمك ، أي ربّ ما أحلمك» (٤) انتهى. ولو لم يكن في هذا إلّا كلام القاسم بن محمد لكفى ، فضلا عن روايته عن أبي بكر ، وإن كانت مرسلة.

قال الزّمخشري في قوله تعالى : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] :

__________________

(١) سليمان بن خلف بن سعد ، أبو الوليد الباجي الفقيه المتكلّم المفسّر الشاعر. من مصنّفاته : الاستيفاء شرح الموطأ ، والمنتقى مختصر الاستيفاء ، والتعديل والتجريح ، وتفسير القرآن ، والمهذّب في اختصار المدوّنة ، وكتاب فرق الفقهاء ، وكتاب السنن في الرقائق والزهد ، وغيرها. (ت ٤٩٤ ه‍). ترجمته في معجم الأدباء (٣ / ٣٩٣) «دار الكتب العلمية».

(٢) أبوه هو القاسم بن محمد : حفيد أبي بكر الصديق ، ومن سادات التابعين ، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة (ت ١٠٧ ه‍). ترجمته في الوافي بالوفيات (١ / ٤١٨) ، وحلية الأولياء (٢ / ١٨٣).

(٣) ابن الدّغنّة : أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو سيّد الأحابيش (انظر السيرة النبوية ص ٣٧٢).

(٤) انظر السيرة النبوية (ص ٣٧٢).

١١٠

«معناه : الذي يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه ، أو الذي يقال له : ما أجلّك وأكرمك» (١).

وقال أيضا : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الكهف : ٢٦] أي : «جاء بما دلّ على التعجّب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدّلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها ، كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر» (٢).

وذكر أبو محمّد بن عليّ بن إسحاق الصّيمريّ في كتاب (التّبصرة والتذكرة في النّحو) : «وإذا قلت : «ما أعظم الله» فذلك الشيء عباده الذين يعظّمونه ويعبدونه ، ويجوز أن يكون ذلك الشيء هو ما يستدلّ به على عظمته من بدائع خلقه ، ويجوز أن يكون ذلك هو الله عزّ وجلّ فيكون لنفسه عظيما لا لشيء جعله عظيما ، ومثل هذا يستعمل في كلام العرب كما قال الشاعر (٣) : [الرجز]

نفس عصام سوّدت عصاما

انتهى. وهو كالأنباري. وقال المتنبيّ : [البسيط]

٦٣٢ ـ ما أقدر الله أن يخزي خليقته

ولا يصدّق قوما في الّذي زعموا

قال الواحديّ في شرحه : يقول : «الله تعالى قادر على إخزاء خليقته بأن يملّك عليهم لئيما ساقطا من غير أن يصدّق الملاحدة الذين يقولون بقدم الدّهر.

يشير إلى أنّ تأمير مثله إخزاء للنّاس ، والله تعالى قد فعل ذلك عقوبة لهم ، وليس كما تقول الملاحدة» (٤).

وقال ابن الدّهّان في (شرح الإيضاح) : فإن قيل : فإذا قدّرت (ما) تقدير شيء فما تصنع ب «ما أعظم الله» فالجواب من وجوه : أحدها : أن يكون الشيء نفسه ، ويجوز أن يكون ما دلّ عليه من مخلوقاته. الثالث : من يعظّمه من عباده. الرابع : أن تكون الأفعال الجارية عليه بحملها على ما يجوز من صفاته تعالى فيحمل على أنّه عظيم في نفسه. وقال الزّمخشريّ في : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] : «المعنى تنزيه الله تعالى من صفات العجز ، والتعجّب من قدرته على خلق جميل مثله. وأمّا

__________________

(١) انظر الكشّاف (٤ / ٤٦).

(٢) انظر الكشاف (٢ / ٤٨١).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٢٩).

٦٣٢ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٦٨٩ ، شرح الواحدي).

١١١

(حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١] فالتعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله» (١) انتهى.

الرّفدة في معنى وحده

تأليف الشيخ تقيّ الدّين السّبكي الشّافعي ـ رحمه الله ـ

وفيه يقول الصّلاح الصفدي : [مجزوء الرمل]

خلّ عنك الرّقده

وانتبه للرّفده

تجن منها علما

فاق طعم الشّهده

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الشيخ الإمام تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي رحمه الله : الحمد لله وحده ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد ، المشرّف على كلّ مخلوق قبله وبعده ، وسلّم تسليما كثيرا. وبعد ، فهذه عجالة مسمّاة بالرّفدة في معنى وحده ، كان الداعي إليها أنّ الزّمخشري قال في قوله تعالى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون : ٢٢] : معناه : وعلى الأنعام وحدها لا تحملون ، ولكن عليها وعلى الفلك. فتوقّقت في قبول هذه العبارة وأحببت أن أنبّه على ما فيها وأذكر موارد هذه اللفظة.

وأوّل ما أبتدئ بقول : «الحمد لله وحده» فأقول : معناه الحمد لله لا لغيره ولا يشاركه فيه أحد. و (وحده) منصوب على الحال عند جمهور النحويّين ، منهم الخليل ، وسيبويه قالا (٢) : إنّه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، كأنّه قال (إيحادا) ، و (إيحادا) موضع (موحدا).

واختلف هؤلاء إذا قلت : «رأيت زيدا وحده» ، فالأكثرون يقدّرون : في حال إيحادي له بالرّؤية ويعبّرون عن هذا بأنّه حال من الفاعل. والمبرّد يقدّره : في حال أنّه مفرد بالرّؤية ، ويعبّر عن هذا بأنّه حال من المفعول. ومنع أبو بكر بن طلحة من كونه حالا من الفاعل ، وقال : إنّه حال من المفعول ليس إلّا ، لأنّهم إذا أرادوا الفاعل قالوا : مررت به وحدي ، كما قال الشاعر : [المنسرح]

__________________

(١) انظر الكشاف (٢ / ٣١٧).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٤٤٢).

١١٢

٦٣٣ ـ والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

وهذا الذي قاله ابن طلحة في البيت صحيح ، ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدّمان في : رأيت زيدا وحده ؛ فإنّ المعنى يصحّ معهما. و (وحده) يضاف إلى ضمير المتكلّم والمخاطب والغائب ، فتقول : ضربته وحدي ، وضربته وحده ، وضربتك وحدك ، وضربتك وحدي ، ويختلف المعنى بحسب ذلك.

ومنهم من يقول : (وحده) مصدر موضوع موضع الحال. وهؤلاء يخالفون الأولين في كونه اسم مصدر ، فمن هؤلاء من يقول : إنّه مصدر على حذف حروف الزيادة أي إيحاده ، ومنهم من قال : إنّه مصدر لم يوضع له فعل.

وذهب يونس وهشام في قوليه إلى أنّه منتصب انتصاب الظروف فيجريه مجرى (عند) ، فجاء زيد وحده ، تقديره : جاء زيد على وحده ، ثمّ حذف الحرف ونصب على الظرف ، وحكي من كلام العرب : «جلسنا على وحدتنا». وإذا قلت : «زيد وحده» فكان التقدير : زيد موضع التفرّد ، ولعل هؤلاء يقولون : إنّه مصدر وضع موضع الظرف ، وحكي عن الأصمعي : «وحد يحد».

ويدلّ على انتصابه على الظرف قول العرب : «زيد وحده».

فهذا خبر لا حال وأجاز هشام في : «زيد وحده» ، وجها آخر وهو أن يكون منصوبا بفعل مضمر يخلفه (وحده) ، كما قالت العرب : «زيد إقبالا وإدبارا». قال هشام ومثل «زيد وحده» ، في هذا المعنى : زيد أمره الأول ، و «قصّته الأولى» و «حاله الأولى» ، خلف هذا المنصوب الناصب كما خلف (وحده) (وحد) ، وسمّى هذا منصوبا على الخلاف الأول. وقال : لا يجوز «وحده زيد» كما لا يجوز «إقبالا وإدبارا عبد الله» وكذلك «قصّته الأولى سعد» ، وعلى أنّه منصوب عى الظرف. يجوز : «وحده زيد» كما يجوز : «عندك زيد».

هذا كلام النحاة وهو توسّع فيما تقضيه الصناعة ، واللسان والمعنى متقارب ، كلّه دائر على ما يفيده من الحصر في المذكور. فقول : «الحمد لله وحده» ، يفيد حصر الحمد في الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) [الإسراء : ٤٦] ـ والضمير يعود على «ربّك» ـ فمعناه لم يذكر معه غيره ،

__________________

٦٣٣ ـ الشاهد للربيع بن ضبع الفزاري في الكتاب (١ / ١٤٤) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٥٥) ، وحماسة البحتري (ص ٢٠١) ، وخزانة الأدب (٧ / ٣٨٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٣٦) ، ولسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٩٨) ، وبلا نسبة في الردّ على النحاة (ص ١١٤) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٠٥) ، والمحتسب (٢ / ٩٩).

١١٣

وكذا قولنا : «لا إله إلّا الله وحده» ، أنّا أفردناه بالوحدانيّة. فانظر كيف تجد المعنى في ذلك كلّه سواء.

فإذا قلت : «حمدت الله وحده» أو «ذكرت ربّك وحده» فمعناه وتقديره عند سيبويه : موحدا إيّاه بالحمد والذّكر ، على أنّها حال من الفاعل ، والحاء في (موحدا) مكسورة ، وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة. وعلى رأي هشام معناه : حمدت الله وذكرته على انفراده.

فهذه التقادير الصناعية الثلاثة ، والمعنى لا يختلف إلّا اختلافا يسيرا ؛ فإذا جعلناه من (أوحد) الرّباعي ، فمعناه (موحد) بالمعنيين المتقدّمين ، وإذا جعلناه من (وحد) الثلاثي فمعناه : منفردا بذلك ، وعلى الأول الحامد والذاكر أفرده بذلك ، وعلى الثاني : هو انفرد بذلك ، والعامل في الحال حمدت وذكرت ، وصاحب الحال الاسم المنصوب على التعظيم ، أو الضمير الذي في حمدت وذكرت على القولين.

وإذا قلت : «الحمد لله وحده» فالعامل في الحال المستقرّ المحذوف الذي هو الخبر في الحقيقة ، وهو العامل في الجارّ والمجرور ، وصاحب الحال الله ، و (وحده) حاله. وإن جعلته ظرفا فالمعنى الحمد لله على انفراده ، فلم يختلف المعنى اختلافا مخلّا بالمقصود.

إذا قلنا : «لا إله إلا الله وحده» : فإمّا أن نقول : معناه على انفراده إن جعل ظرفا ، أو متفرّدا بالوحدانية ، أو مفردا بها على الاختلاف في تقدير الحال ، وصاحب الحال الضمير في (كائن) العائد على الله تعالى ، والعامل في الحال كائن.

وأما المنطقيّون فقالوا : إنّ (وحده) يصير الكلام بها في قوّة كلامين ، فقولنا : «رأيت زيدا» ، أفاد إثبات رؤيته ، ولم يفد شيئا آخر. وقولنا : «رأيت زيدا وحده» ، أفاد إثبات رؤيته ونفي رؤية غيره ، وهو معنى ما قاله النحاة أيضا. وتصير الجملة ـ بعد أن كانت موجبة ـ متضمّنة إيجابا وسلبا ، وبذلك حلّوا مغلطة ركبها بعض الخلافيّين وهي :

«الماء وحده رافع للحدث ، وكلّ ما هو رافع للحدث رافع للخبث ، فالماء وحده رافع للخبث ، فلا يكون المائع غير الماء رافعا للخبث». وحلّه أنّ هذا قياس من الشّكل الأوّل ، وشرطه إيجاب صغراه ، وهذه الصّغرى بدخول (وحده) فيها لم تصر موجبة ؛ بل موجبة وسالبة ، تقديرها : الماء رافع للحدث ولا شيء من غيره رافع للحدث. وهذا الحلّ صحيح إذا أريد ب (وحده) ذلك. وقد يراد ب (وحده) أنّه يفيد تجرّده عن المخالط ؛ بمعنى : الماء وحده ـ بلا خليط يجرّده عن اسم الماء ـ رافع للحدث. وهذا صحيح ، ولا تخرج الجملة بها عن كونها موجبة ، ولا ينتفع بها

١١٤

المغالط. وقد يراد ب (وحده) أنّه من حيث هو ، مع قطع النّظر عمّا سواه. وهو أيضا صحيح ولا ينتج ما أراده المغالط. ولا يخفى أنّ المراد : الماء مع استعماله في الوضوء الاستعمال المخصوص مع النيّة.

وبعض هذه الاحتمالات يأتي في قولك : «رأيت زيدا وحده» ، قد يراد به أنّك رأيته في حال هو منفرد بنفسه ليس معه غيره ، وإن كانت رؤيتك شاملة له ولغيره ، ولكنّ هذا احتمال مرجوح ، ولهذا لم يذكره النحاة ، وإنّما كان مرجوحا لأنّه يحوج إلى تقدير محذوف تقديره (كائنا) ، ويكون (وحده) حالا من الضمير فيه ، والعامل فيه ذلك المحذوف. والأصل عدم الحذف ، وعدم التقدير ، فلذلك قلنا : إنّه مرجوح. والأول لا تقدير فيه ولا حذف بل العامل (رأيت) المصرّح به.

هذا كلّه في جانب الإثبات إذا قلت : «رأيت زيدا وحده» أمّا في حالة النّفي ، إذا نفيت الرؤية عنه وحده ، فلك صنعتان أو أكثر :

أحدها : أن تأتي بأداة النفي متقدّمة فتقول : «ما رأيت زيدا وحده» فهذه في قوّة السالبة البسيطة ، وهي سلب لما اقتضته الموجبة ، فمعناها بعد السّلب يحصل بإحدى ثلاث طرق : أحدها : رؤيتهما معا ، والثانية : عدم رؤية واحد منهما ، فلا يرى هذا ولا هذا. والثالثة : برؤية غير زيد ، وعدم رؤية زيد. على كلّ واحد من هذه التقادير الثلاث يصحّ «ما رأيت زيدا وحده» ، لأنّ المنفي رؤيته مقيّدة بالوحدة. ونفي كلّ مركّب من اثنين يحصل بطرق ثلاث كما بيّناه. هذا إذا قدّمت حرف النفي. ويشبه هذا من بعض الوجوه تقديم حرف السلب على (كلّ) في قولنا : [البسيط]

٦٣٤ ـ ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

[تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن]

وأنّه سلب للعموم لا عموم السلب ، وأنّه يفيد جزئيّا لا كلّيّا ، فقد يدرك بعض ما يتمنّاه. وكذلك : [البسيط]

٦٣٥ ـ [فأصبحوا والنوى عالي معرّسهم]

وليس كلّ النّوى تلقي المساكين

__________________

٦٣٤ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه بشرح البرقوقي (٤ / ٣٦٦) ، وتاج العروس (شرح خطبة المصنف) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب (١ / ٢٠٠).

٦٣٥ ـ الشاهد لحميد الأرقط في الكتاب (١ / ١١٧) ، والأزمنة والأمكنة (٢ / ٣١٧) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٦٥٦) ، وتخليص الشواهد (ص ١٨٧) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٨٢) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٢٧٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٧٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١١٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٠٤) ، والمقتضب (٤ / ١٠٠).

١١٥

أمّا إذا أخّرت حرف النّفي ، فإن أخّرته عن المبتدأ الذي هو الموضوع ، وقدّمته على (وحده) مع الفعل كقولك : «زيد لم أره وحده» فهو كالحالة المتقدّمة محتمل للمعاني الثلاثة كما سبق ؛ لأنّ النفي يقدّم على الفعل المنفيّ المقيّد بالوحدة ، فقد نفى مركّبا ، فينتفي بانتفاء أحد أجزائه كالحالة السابقة حرفا بحرف ؛ والضابط في ذلك ما ذكرناه.

وإن أخّرته عن (وحده) كقولك : «زيد وحده لم أره» أو : (ما رأيته) ، أو (لا أراه) ، فهذا موضع نظر وتأمّل. والراجح عندي فيه : أنّك لم تره وقد رأيت غيره ، لأنّها قضيّة ظاهرها أنها تشبه الموجبة المعدولة ، فقد حكمت بنفي الرّؤية المطلقة ـ التي لم تقيّد ب (وحده) ـ على زيد المقيّد بالوحدة. هذان الأمران لا شكّ فيهما ، وبهما فارقتا (لم أره وحده) لأنّه نفي لرؤية مقيّدة لا لرؤية مطلقة. هذا لا شكّ فيه ؛ ولكنّ النظر في أنّ تقييد زيد ب (وحده) ، هل معنى التقييد يرجع إلى معنى زيد في ذاته أو إلى ما حكم به عليه وهو النفي؟ هذا موضع النظر والظاهر أنّه الثاني ، وهو أنّه يفيد تقييد الحكم وهو النفي ، فيكون نفي الرؤية مقصورا على (زيد) فمعنى (وحده) في هذه الصيغة أنّ زيدا انفرد بعدم الرؤية المطلقة وأنّ غيره مرئيّ ؛ فقد سرى التقييد من المحكوم عليه إلى المحكوم به. وعليك يا طالب العلم أن تضبط هذه الأمور الثلاثة وتميّز بينها وتعرف تغايرها :

أحدها : إطلاق الضّرب المنفيّ كما دلّ عليه الكلام.

والثاني : تقييد المحكوم عليه الذي دلّت الصناعة عليه مع المحافظة على إطلاق الضّرب أو الرّؤية أو نحوهما من الأفعال.

والثالث : سريان التّقييد من المحكوم عليه إلى الحكم ، وهو النفي الوارد على الضّرب المطلق ؛ فإذا عقلت هذه الثلاثة ، وميّزت بينها ظهر لك ما قلناه.

ويحتمل أيضا ـ وهو عندي غير راجح ـ أنّك إنّما نفيت الفعل عن المقيّد بالوحدة فيكون حاصلا للمحكوم عليه بدونها ؛ وهو عندي ضعيف.

وبذلك تبين ضعف قول الزمخشري ، وأنّه لو قال : معناه ولا يحملون على الأنعام وحدها ، ولكن عليها وعلى الفلك ، سلم من هذا الاعتراض.

فإن قلت : ما حمل الزمخشري على تقدير الحصر؟ قلت : تقدّم المعمول وما يقتضيه واو العطف من الجمع ، فقد حصر الحمل فيهما. ومن ضرورته نفي الحمل على غيرهما ، وغيرهما إما أحدهما بقيد الوحدة لمغايرته لمجموعهما ، وإما خارج

١١٦

عنهما. لا سبيل إلى الثاني لقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨]. فتعين الأول. وأمّا كون (ما) لها صدر الكلام ، والخلاف في كون الفعل بعدها يعمل فيما قبلها أو لا ، فلا حاجة بنا إلى ذكره لعدم تأثيره فيما نحن فيه.

فإن قلت : هل يشبه هذا التأخير في قوله «كلّ ذلك لم يكن» (١)؟ قلت : نعم من بعض الوجوه حيث فرّقنا بين تقديم النفي وتأخيره ولذلك جعل قوله : [مشطور الرجز]

٦٣٦ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

ضرورة ، لأنّ مقصود الشاعر أنّه لم يصنع شيئا منه ، فلذلك رفع ، ولو لا ذلك نصب (كلّه) والله أعلم ـ آخر الكتاب ولله الحمد.

نيل العلا في العطف ب (لا)

تأليف الشيخ تقي الدين السبكي : جوابا عن سؤال سأله له ولده بهاء الدين أحمد رحمهما الله وقال الشيخ صلاح الدين الصّفدي يمدح هذا الكتاب : [السريع]

يا من غدا في العلم ذا همّة

عظيمة بالفضل تملا الملا

لم ترق في النّحو إلى رتبة

سامية إلّا بنيل العلا

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

سألت أكرمك الله عن «قام رجل لا زيد» هل يصحّ هذا التركيب ، وأنّ الشيخ أبا حيّان جزم بامتناعه ، وشرط أن يكون ما قبل «لا» العاطفة غير صادق على ما بعدها ، وأنّك رأيت قد سبقه إلى ذلك السهيلي في (نتائج الفكر) وأنه قال :

«لأنّ شرطها أن يكون الكلام الذي قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفي ما بعدها ، وأنّ عندك في ذلك نظرا لأمور :

__________________

(١) هذا قسم من حديث ذكره مسلم في صحيحه (٥ / ٦٩) ، عن أبي هريرة وبدايته «صلّى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم في ركعتين فقام ذو اليدين ...».

٦٣٦ ـ الرجز لأبي النجم العجلي في الكتاب (١ / ١٣٨) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٥٩) ، والدرر (٢ / ١٣) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥٤٤) ، وشرح المفصّل (٦ / ٩٠) ، والمحتسب (١ / ٢١١) ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٤٧) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٢٤) ، وبلا نسبة في الأغاني (١٠ / ١٧٦) ، وخزانة الأدب (٣ / ٢٠) ، والخصائص (٢ / ٦١) ، وشرح المفصّل (٢ / ٣٠) ، والمقتضب (٤ / ٢٥٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٩٧).

١١٧

منها : أنّ البيانيّين تكلموا على القصر وجعلوا منه قصر الإفراد ، وشرطوا في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الوصفين كقولنا : «زيد كاتب لا شاعر». وقلت : كيف يجتمع هذا مع كلام السّهيلي والشيخ (١).

ومنها : أنّ «قام رجل لا زيد» مثل : «قام رجل وزيد» في صحّة التّركيب ، فإن امتنع «قام رجل وزيد» ففي غاية البعد ، لأنّك إن أردت بالرجل الأول «زيدا» كان كعطف الشيء على نفسه تأكيدا ، ولا مانع منه إذا قصد الإطناب. وإن أردت بالرجل غير زيد كان من عطف الشيء على غيره ولا مانع منه ، ويصير على هذا التقدير مثل : «قام رجل لا زيد» في صحّة التركيب وإن كان معنياهما متعاكسين ، بل قد يقال : «قام رجل لا زيد» أولى بالجواز من «قام رجل وزيد» لأنّ «قام رجل وزيد» إن أردت بالرجل فيه زيدا ، كان تأكيدا ، وإن أردت غيره كان فيه إلباس على السامع وإيهام أنّه غيره ، والتأكيد والإلباس منفيان في «قام رجل لا زيد». وأيّ فرق بين «زيد كاتب لا شاعر» و «قام رجل لا زيد» ، وبين رجل وزيد عموم وخصوص مطلق ، وبين كاتب وشاعر عموم خصوص من وجه ، كالحيوان ، وكالأبيض.

وإذا امتنع «جاء رجل لا زيد» كما قالوه ، فهل يمتنع ذلك في العامّ الخاصّ مثل «قام الناس لا زيد».

وكيف يمنع أحد مع تصريح ابن مالك وغيره بصحّة «قام الناس وزيد» ، وإن كان في استدلاله على ذلك بقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) [البقرة : ٩٨] الآية ، لأنّ جبريل إمّا معطوف على الجلالة الكريمة ، أو على رسله ، والمراد بالرّسل الأنبياء ، لأنّ الملائكة وإن جعلوا رسلا فقرينة عطفهم على الملائكة تصرف هذا.

ولأيّ شيء يمتنع العطف ب «لا» في نحو «ما قام إلّا زيد لا عمرو» ، وهو عطف على موجب ، لأنّ زيدا موجب ، وتعليلهم بأنّه يلزم نفيه مرّتين ضعيف ، لأنّ الإطناب قد يقتضي مثل ذلك ، لا سيّما والنفي الأول عام ، والنفي الثاني خاصّ ، فأسوأ درجاته أن يكون مثل «ما قام الناس ولا زيد». هذا جملة ما تضمّنه كتابك في ذلك بارك الله فيك.

والجواب : أمّا الشرط الذي ذكر السّهيلي وأبو حيّان في العطف ب «لا» ، فقد ذكره أيضا أبو الحسن الأبدي في (شرح الجزوليّة) فقال : «لا يعطف ب «لا» إلّا بشرط وهو أن يكون الكلام الذي قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفي الفعل عمّا

__________________

(١) يريد أبا حيان لأن السبكي قد قرأ عليه النحو.

١١٨

بعدها فيكون الأول لا يتناول الثاني نحو قوله : «جاءني رجل لا امرأة» و «جاءني عالم لا جاهل» ، ولو قلت : «مررت برجل لا عاقل» لم يجز ، لأنّه ليس في مفهوم الكلام الأول ما ينفي الفعل عن الثاني ، وهي لا تدخل إلّا لتأكيد النفي فإن أردت ذلك المعنى جئت ب «غير» فتقول : «مررت برجل غير عاقل» و «غير زيد» ، وغير ذلك و «مررت بزيد لا عمرو» ، لأنّ الأول لا يتناول الثاني». وقد تضمّن كلام الأبّدي هذا زيادة على ما قاله السّهيلي وأبو حيّان ، وهي قوله : إنّها لا تدخل إلّا لتأكيد النّفي ، وإذا ثبت أنّ «لا» لا تدخل إلّا لتأكيد النفي اتّضح اشتراط الشرط المذكور ، لأنّ مفهوم الخطاب يقتضي في قولك : «قام رجل» نفي المرأة ، فدخلت «لا» للتصريح بما اقتضاه المفهوم. وكذلك «قام زيد لا عمرو» أمّا : «قام رجل لا زيد» فلم يقتض المفهوم نفي زيد ، فلذلك لم يجز العطف ب «لا» لأنّها لا تكون لتأكيد نفي بل لتأسيسه وهي وإن كان يؤتى بها لتأسيس النفي فكذلك في نفي يقصد تأكيده بها بخلاف غيرها من أدوات النفي ك «لم» و «ما» وهو كلام حسن. والأبّدي هذا كان أمّة في النحو حتى سمعت الشيخ أبا حيّان يقول : إنّه سأل أحد شيوخه عن حدّ النحو فقال له : الأبّدي ، يعني أنّه تجسّد نحوا (١) ، وإنّما قلت هذا لئلّا يقع في نفسك أنّه لتأخّره قد يكون أخذه عن السّهيلي.

وأيضا تمثيل ابن السرّاج فإنّه قال في (كتاب الأصول) : «وهي تقع لإخراج الثاني ممّا دخل فيه الأول وذلك قوله : «ضربت زيدا لا عمرا» ، و «مررت برجل لا امرأة» و «جاءني زيد لا عمرو» (٢) فانظر أمثلته لم يذكر فيها إلا ما اقتضاه الشرط المذكور.

وقد يعترض على الأبّدي في قوله : إنها لا تذكر إلا لتأكيد النفي. ويجاب بأنّه لعلّ مراده أنّها للنفي المذكور بخلاف «ما» و «لم» و «ليس» ، فلذلك اختيرت هنا ، أو لعلّ مراده أنّها لا تدخل في أثناء الكلام إلّا للنفي المؤكّد ، بخلاف ما إذا جاءت أول الكلام قد يراد بها أصل النفي كقوله : (لا أقسم) وما أشبهه ، والأول أحسن.

وأيضا تمثيل جماعة من النحاة منهم ابن الشجري في (الأمالي) ، قال : «إنّها تكون عاطفة فتشرك ما بعدها في إعراب ما قبلها ، وتنفي عن الثّاني ما ثبت للأول كقولك : «خرج زيد لا بكر «، و «لقيت أخاك لا أباك» و «مررت بحميك لا أبيك» (٣)

__________________

(١) انظر بغية الوعاة (٢ / ١٩٩).

(٢) انظر أصول ابن السرّاج (٢ / ٥٧).

(٣) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ٢٢٧).

١١٩

ولم يذكر أحد من النّحاة في أمثلته ما يكون الأول فيه يحتمل أن يندرج فيه الثاني وخطر لي في سبب ذلك أمران :

أحدهما : أنّ العطف يقتضي المغايرة ، فهذه القاعدة تقتضي أنّه لا بدّ في المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، والمغايرة عند الإطلاق تقتضي المباينة ؛ لأنّها المفهوم منها عند أكثر الناس ، وإن كان التحقيق أنّ بين الأعمّ والأخصّ ، والعامّ والخاصّ ، والجزء والكلّ ، مغايرة ولكنّ المغايرة عند الإطلاق إنّما تنصرف إلى ما لا يصدق أحدهما على الآخر. وإذا صحّ ذلك امتنع العطف في قولك «جاء رجل وزيد» لعدم المغايرة ، فإن أردت غير زيد جاز وانتقلت المسألة عن صورتها ، وصار كأنّك قلت : جاء رجل غير زيد ، لا زيد ، وغير زيد لا يصدق على زيد. ومسألتنا إنّما هي فيما إذا كان «رجل» صادقا على زيد ، محتملا لأنّ يكون إيّاه ؛ فإنّ ذلك ممتنع للقاعدة التي قرّرت وجوب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

ولو قلت : «جاء زيد ورجل» كان معناه : ورجل آخر ، لما تقرّر من وجوب المغايرة ، وكذلك لو قلت : «جاء زيد لا رجل» ، وجب أن تقدّر : لا رجل آخر. والأصل في هذا أنّا نريد أن نحافظ على مدلولات الألفاظ فيبقى المعطوف عليه على مدلوله من عموم أو خصوص ، أو إطلاق أو تقييد ، والمعطوف على مدلوله كذلك ، وحرف العطف على مدلوله ، وهو قد يقتضي تغيير نسبة الفعل إلى الأول ك «أو» فإنّها تغيّر نسبته من الجزم إلى الشكّ ، كما قال الخليل في الفرق بينهما وبين «إمّا» ؛ وك «بل» فإنّها تغيّره بالإضراب عن الأوّل ، وقد لا يقتضي تغيير نسبة الفعل إلى الأول بل زيادة عليه حكم آخر. و «لا» من هذا القبيل ، فيجب علينا المحافظة على معناها مع بقاء الأول على معناه من غير تغيير ولا تخصيص ولا تقييد ، وكأنّك قلت : قام إمّا زيد وإما غيره ، لا زيد ، وهذا لا يصحّ.

الشيء الثاني : أنّ مبنى كلام العرب على الفائدة ، فحيث حصلت كان التركيب صحيحا ، وحيث لم تحصل امتنع في كلامهم.

وقولك : «قام رجل لا زيد» ، مع إرادة مدلول رجل في احتماله لزيد وغيره لا فائدة فيه البتّة ، مع إرادة حقيقة العطف ، أو يزيد على كونه لا فائدة فيه ، ونقول : إنّه متناقض ؛ لأنّه إن أردت الإخبار بنفي قيام «زيد» والإخبار بقيام «رجل» المحتمل له ولغيره كان متناقضا ، وإن أردت الإخبار بقيام رجل غير زيد ، كان طريقك أن تقول : غير زيد ، فإن قلت : إنّ «لا» بمعنى «غير» لم تكن عاطفة ، ونحن إنّما نتكلّم على العاطفة والفرق بينهما أنّ التي بمعنى «غير» مقيّدة للأول مبيّنة لوصفه ، والعاطفة

١٢٠