ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

قال : فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فَهِمتُها ، فَعرَفتُ مَا أرادَ فَخنقَتني عَبرتي فرددّتُ دَمعي ولزمتُ السكون فَعلمتُ أنَ البلاءَ قد نزلَ ، فأمّا عمَّتي فإنها سَمِعت ما سمعتُ وهي امرأةٌ وَفي النساءِ الرقَّةُ والجزعُ فَلم تملك نفسَها أن وَثبت تَجرُّ ثوبَها وَإنها لحاسرةٌ حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه لَيتَ الموتَ أعدمني الحياة ، اليومَ ماتتْ فاطمةُ أمّي وعليٌّ أبي وحسنٌ أخي ، يا خليفةَ الماضي وثمال (١) الباقي (٢).

قال : فَنظَر إليها الحسين عليه‌السلام فقال : يا أُخيّةُ لا يُذهبنَّ حلمَكِ الشيطانُ ، قالت : بأبي أنتَ وأمي يا أبا عبد الله استقتلتَ نَفسي فداكَ.

قالت أتُقتل نصبَ عيني جهرة

ما الرأي فيَّ وما لديَّ خفيرُ

فأجابها قلّ الفدا كثُر العدى

قَصُرَ المدى وسبيلنا محصور

فَردَّ غُصّتَهُ وَترقرقتْ عَيناهُ ، وَقالَ : لو تُركَ القطا (٣) ليلاً لنام (٤) ، قالت : يَا ويلتي

__________________

(١) جاء في حديث أبي طالب عليه‌السلام يمدح ابن أخيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للارامل

الثمال : ككتاب ، الغياث والذي يقوم بامر قومه ، يقال : فلانٌ ثِمالُ قومه أي غِياثٌ لهم. مجمع البحرين للطريحي : ج ٥ ، ص ٣٣٢.

(٢) وفي الإرشاد : ياخليفةَ الماضين وثمالَ الباقين.

(٣) القَطَا : ضرب من الحمام ذوات أطواق يُشبه الفاخته والقُماري ، وفي المثل أهدى من القطا ، قيل أنه يطلب الماءَ مسيرة عشرة أيام وأكثر من فراخها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فترجع ، ولا تُخطيء صادرة ولا واردة. مجمع البحرين للطريحي : ج ١ ، ص ٣٤٧.

(٤) لو ترك القطا ليلاً لنام ، جاء في قصة هذا المثل : إنه نزل عمرو بن مامة على قوم مُراد ، فطوقوه ليلاً ، فأثاروا القطا من أماكنها ، فرأتها امرأته طائرة فنبّهت المرأةُ زوجها ، فقال : إنما هي القطا ، فقالت : لو تُرك القطا ليلاً لنام. يُضرب لمن حُمل على مكروه من غير إرادته وقيل : أول من قال : لو ترك القطا

٤١

أفتَغصِبُ نفسَكَ اغتصاباً ؟ فذلكَ أقرحُ لِقلبي وأشدُّ على نَفسي وَلطمَتْ وَجهَهَا وأهوتْ إلى جَيبِها وشقتهُ ، وَخرّت مَغشياً عليها.

فقام إليها الحسين عليه‌السلام فصبَّ على وَجهِهِا الماءَ ، وقال لها : يا أُخيَّة اتّقي اللهَ وَتعزّي بعزاءِ اللهِ واعلمي أنَّ أهل الأرضِ يَموتون ، وأنَّ أهل السماءِ لا يبقونَ وأنَّ كلَ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَ اللهِ الذي خَلقَ الأرض بقُدرتهِ ، وَيبعثَ الخلقَ فيعودونَ وَهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني ، وأمي خيرٌ مني ، وأخي خيرٌ مني ، وَلي وَلَهم ولكلِ مُسلمٍ برسولِ اللهِ أسوةٌ.

قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أُخيّة إني اُقسمُ عليكِ فأبرِّي قَسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ، وَلا تخمشي عليَّ وَجهاً ، وَلا تدعي عليَّ بالويلِ والثبورِ إذا أنا هلكت.

وفي رواية (١) ثم قال عليه‌السلام : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنتِ يا زينب ، وأنتِ يا فاطمة ، وأنتِ يا رباب ، إذا أنا قُتلت فلا تشققنَ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً.

__________________

ليلاً لنام ، حذام بنت الريان وذلك لما سار عاطس بن خلاج لقتال أبيها ليلاً فلما كانوا قريباً منه أثاروا القطا ، فمرت بأصحاب الريان فخرجت حذام إلى قومها فقالت :

الا يا قومنا ارتحلوا وسيروا

فلو تُرك القطا ليلاً لناما

أي أن القطا لو تُرك ما طار هذه الساعة وقد أتاكم القوم ، فلم يلتفتوا إلى قولها ، وأخلدوا إلى المضاجع لمّا نالهم من التعب ، فقام دَيسم بن طارق وقال بصوت عال :

إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنَّ القولَ ما قالتْ حذامِ

انظر : مجمع الامثال للميداني : ج ٣ ، ص ٨٢.

(١) اللهوف : ص ٣٦ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص ٢٣٨.

٤٢

اُخت يا زينب اُوصيك وصايا فاسمعي

إنني في هذه الأرض ملاقٍ مَصرعي

فاصبري فالصبرُ من خيم كرامِ المترعِ

كلُ حيّ سينحيه عن الأحياء حين

في جليلِ الخطبِ يا أختُ اصبري الصبر الجميل

إن خيرَ الصبرِ ما كان على الخطبِ الجليل

واتركي اللطمَ على الخدِ وإعلان العويل

ثم لا أكره سَقيَ العينِ ورد الوجنتين

واجمعي شملَ اليتامى بعد فقدي وانظمي

واشبعي من جاعَ منهم ثم اروي مَنْ ظُمي

واذكُري انهم في حفظهم طُل دمي

ليتني من بينهم كالأنف بين الحاجبين

قال : ثم جاء بها حتى أجلسَها عندي ، وَخرجَ إلى أصحابه فأمرَهم أن يُقرِّبوا بعض بيوتهم مِن بعض ، وأن يُدخِلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا هُم بين البُيوت ، إلا الوجه الذي يأتيهم منهُ عدوّهُم (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٨ ، نهاية الأرب للنويري : ج ٢٠ ، ص ٤٣٦ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٥٨ ـ ٥٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٢ ، إعلام الورى للطبرسي : ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ١ ـ ٣ ، أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٢٢٤.

٤٣

من وصايا الإمام الحسين عليه‌السلام

قيل ومن جملة وصاياه عليه‌السلام والتي استأثرت باهتمام بالغ عنده ، وتدل على مدى حرصه الشديد في نشر أحكام الدين والشرع المبين مع ما هو فيه ، هو وصيته عليه‌السلام لاُخته زينب عليها‌السلام بأخذ الأحكام من الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه.

فقد جاء عن علي بن أحمد بن مهزيار ، عن محمد بن جعفر الأسدي ، عن احمد بن إبراهيم ، قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا ، اُخت أبي الحسن العسكري عليهم‌السلام في سنة اثنين وثمانين ( ومائتين ) بالمدينة ، فكلمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها ؟ فَسمّت لي من تأتم به ، ثمَّ قالت : فلان بن الحسن عليه‌السلام فَسمتهُ.

فقلت لها : جعلني الله فداكِ معاينةً أو خبراً ؟ فقالت : خبراً عن أبي محمد عليه‌السلام كتب به إلى أمه ، فقلت لها : فأين المولود ؟ فقالت : مستور ، فقلت : فإلى مَنْ تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدَّة أم أبي محمد عليه‌السلام.

فقلت لها أقتدي بمَنْ وصيتُهُ إلى المرأة ؟!

فقالت : إقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام، إنَّ الحسين بن علي عليه‌السلام أوصى إلى اُخته زينب بنت علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الظاهر ، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تَستّراً على علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

__________________

(١) كمال الدين وإتمام النعمة للصدوق : ص ٥٠١ ، بحار الأنوار : ج ٤٦ ، ص ١٩.

٤٤

وفي هذا المعنى يقول الفرطوسي ـ عليه الرحمه ـ :

وهو أوصى إلى العقيلة جهراً

ولزين العباد تحت الخفاء

فهي تعطي الأحكام للناس فتوىً

بعد أخذٍ من زينة الأولياء

كلُّ هذا ستراً عليه وحفظاً

لعليٍّ من أعيُنِ الرُقباء (١)

ولهذا قيل : أنه كان لزينب عليها‌السلام نيابة خاصة عن الحسين عليه‌السلام وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين عليه‌السلام من مرضه (٢).

الإمام الحسين عليه‌السلام يتفقّد التلاع والعقبات

وكلامه مع نافع بن هلال

كان نافع ابن هلال (٣) من أخص أصحاب الإمام الحسين عليه‌السلام به ، وأكثرهم

__________________

(١) ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام للفرطوسي : ج ٣ ، ص ٢٩٥.

(٢) وفاة زينب الكبرى للنقدي : ص ٥٣.

(٣) هو : نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مدحج ، المذحجي الجملي ، وفي زيارة الناحية ( البجلي ) ، وقد جاء في بعض الكتب هلال ابن نافع ، كان سيداً شريفاً سرياً شجاعاً ، وكان قارئاً كاتباً من حملة الحديث ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وحضر معه حروبه الثلاث في العراق ، وخرج إلى الحسين عليه‌السلام فلقيه في الطريق ، وكان ذلك قبل مقتل مسلم ، وهو القائل للحسين بعد ما خطب خطبته التي يقول فيها : أما بعد فقد نزل من الأمر ما قد ترون وأنَّ الدنيا قد تنكرت ... الخ. ثم قام نافع

٤٥

ملازمة له سيما في مضان الإغتيال ـ وقيل أنه كان حازماً بصيراً بالسياسة ـ فلما رأى الحسين عليه‌السلام خَرجَ في جَوفِ الليلِ إلى خارج الخيامِ يَتفقدُ التلاعَ (١) والعقباتِ (٢) تبعَهُ نافعُ ، فسألَه الحسينُ عليه‌السلام عمّا أخرجَهُ ؟ فقال : يَابنَ رسولِ اللهِ أفزعني خُروجُكَ إلى جِهةِ مُعسكر هذا الطاغي.

فقال الحسينُ عليه‌السلام : إني خرجتُ أتفَقدُ التلاعَ وَالروابي (٣) مخافةَ أن تكونَ مَكمَناً لِهجُومِ الخيل يومَ تحملونَ ويَحملونَ ، ثُّم رجَع عليه‌السلام وَهو قَابضٌ على يدِ نافعَ ، وَيقولُ : هيَ هيَ واللهِ وَعدٌ لا خُلفَ فيه.

ثم قال لَه : ألا تَسلُك بَين هَذيَنِ الجبلَين في جَوفِ الليلِ وَتنجُو بنفسِك ؟ فَوقعَ نَافعُ على قَدميهِ يُقبّلهُما ويقولُ : ثَكلتني أمي ، إن سَيفي بألفٍ وَفرسي مثلُه ، فَواللهِ الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلاّ (٤) عن فَري وجري.

__________________

فقال : ... وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع نيته ، فلن يضر إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً معافي ، مُشرّقاً إن شئت ، وإن شئت مُغرّباً ، فوالله ما اشفقت من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، فإنّا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك ، ويُعدُ نافع ـ رضوان الله عليه ـ من المشاركين في جلب الماء مع العباس عليه‌السلام ، وقاتل قتالاً شديداً حتى اُسر ، وقتله شمر بن ذي الجوشن. وفيه يقول السماوي :

فأضحى خضيب الشيب من دم رأسه

كسير يدٍ ينقاد للأسر عن يدِ

وما وجدوه واهناً بعد أسره

ولكن بسيما ذي براثن ملبد

راجع : إبصار العين : ص ٨٦ ـ ٨٩ ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص ١٠٩.

(١) التلعة : جمعه تلعات وتِلاع وتِلَع ، وهي مجرى الماء من أعلى الوادي ، وهي أيضاً : ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها فهي من الأضداد. المصباح المنير للفيومي : ص ٧٦ ، المنجد : ص ٦٣.

(٢) العقبات : جمع عقبة ، وهي المرقى الصعب من الجبال. المنجد : ص ٥١٨.

(٣) مفردها : رَابية ، وهي المكان المرتفع من الأرض.

(٤) كَلَّ السيف : أصبح غير قاطع ، وكَلَّ الفرس ؛ إذا تَعِبَ وأعيا.

٤٦

زينب عليها‌السلام تحدّث الحسين عليه‌السلام في استعلامه

نيّات أصحابه

ثُم دَخلَ الحسين عليه‌السلام خَيمةَ زينب ، وَوقفَ نافعٌ بإزاءِ الخيمةِ ينَتظرُه فَسمعَ زينبَ تقولُ لَهُ : هَل استعلمتَ مِنْ أصحابِكَ نياتِهم فإني أخشى أن يُسلموك عند الوثَبة.

فقال لها : واللهِ لقد بلوتُهم ، فما وجدتُ فيهم إلا الأشوسَ (١) الاقعسَ (٢) يَستأنسونَ بالمنيةِ دوني استيناسَ الطفلِ إلى محالبِ أمه.

قال نافعُ : فلّما سمعتُ هذا منه بَكيتُ وأتيتُ حبيبَ بنَ مظاهر وَحكيتُ ما سمعتُ منه وَمن أُختهِ زينب.

قال حبيب : واللهِ لولا انتظارُ أمرهِ لعاجلتُهم بسيفي هذه الليلة.

قلت : إني خَلّفتُه عندَ أُختهِ وأظنُ النساءَ أفقنَ وَشاركنها في الحسرةِ فهل لكَ أن تجمعَ أصحابَك وَتواجهُوهُنَّ بِكلامٍ يُطيّبُ قلوبَهُنَّ.

حبيب عليه‌السلام يخطب في الأنصار

ويُطيّب خواطر النساء

فقام حبيبٌ ونادى : يا أصحابَ الحميةِ وليوث الكريهةِ ، فتطالَعوا من مضاربهم

____________

(١) الاشوس : الشديد.

(٢) الاقعس : المنيع.

٤٧

كَالأسود الضاريةِ ، فقالَ لبني هاشم : ارجعوا إلى مقركم لا سهرتْ عُيونُكُمْ.

ثُّم التفتَ إلى أصحابه وحَكى لهم ما شَاهدَهُ وسمعَهُ نافعٌ ، فقالوا بأجمعِهِم : والله الذي مَنَّ عَلينا بهذا الموقفِ لولا انتظارُ أمره لعاجلناهم بسيوفِنا الساعة ! فَطبْ نَفساً وَقرَّ عَيناً فجزاهُمْ خيراً.

وَقال : هَلمّوا معي لنواجه النسوةَ ونُطيبَ خَاطرَهُنَّ ، فجاءَ حبيبُ وَمعُه أصحابه وَصاحَ : يا معشرَ حرائرِ رسولِ اللهِ هذه صوارمُ فتيانِكُمْ آلوا ألا يغمدوها إلا في رقابِ مَنْ يُريدُ السوء فيكُمْ ، وَهذهِ أسنة غلمانِكُمْ أقسَموا ألا يَركزوها إلا في صُدورِ مَنْ يُفرّق نَاديكم.

فَخرجن النساء إليهم ببكاءٍ وعويلٍ وَقلن أيها الطيبون حاموا عن بناتِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرائرِ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فضجّ القومُ بالبكاءِ حتى كأنَّ الأرض تَميد بهم (١).

ولقد اجاد الصّحَيّح اذ يقول في ذلك :

ووراءَ أروقة الخيام حكايةٌ

اخرى ، تتيه طيوفها بجمالِ

فهنالك الأسديُّ يبدع صورةً

لفدائه حوريّةَ الأشكال

ويحاول استنفار شيمة نخبةٍ

زرعوا الفلاة رجولة ومعالي

نادى بهم والمجد يشهد أنه

نادى بأعظم فاتحين رجال

فاذا الفضاء مدجّج بصوارمٍ

واذا التراب ملغمٌ بعوالي

ومشى بهم أسداً يقود وراءه

نحو الخلود كتيبة الأشبال

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم : ص ٢١٨ ـ ٢١٩ ، معالي السبطين : ج ١ ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٦ ، الدمعة الساكبة : ج ٤ ، ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، بتفاوت.

٤٨

حتى إذا خدرُ العقيلة أجهشت

استارُه في مسمع الأبطال

القى السلام فما تبقّت نبضةٌ

في قلبه لم ترتعشْ بجلال

ومذ التقته مع الكآبة زينبٌ

مخنوقة من همّها بحبال

قطع استدارة دمعة في خدّها

وأراق خاطرها من البلبال

وتفجر الفرسان بالعهد الذي

ينساب حول رقابهم بدلال

قرِّي فؤاداً يا عقيلة واحفظي

هذي الدموع فانهنَّ غوالي

عهد زرعنا في السيوف بذوره

وسقته ديمةُ جرحنا الهطال

زينب عليها‌السلام تتفقّد

خيمة الحسين والعبّاس عليهما‌السلام

روي عن فخر المخدّرات زينب عليها‌السلام قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجتُ من خيمتي لأتفقّد أخي الحسين عليه‌السلام وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة فوجدته جالساً وحده يُناجي ربّه ويتلو القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده ، والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي واُعاتبهم بذلك ، فأتيت إلى خيمة العبّاس فسمعت منها همهمةٌ ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس بن أمير المؤمنين عليهما‌السلام وهو جاثٍ على رُكبتيه كالأسد على فريسته.

٤٩

العباس يخطب في بني هاشم ويحرِّضهم على

القتال قبل الأنصار

فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلاّ من الحسين عليه‌السلام مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم قال في آخر خطبته : يا إخوتي وبني إخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون ؟

فقالوا : الأمر إليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.

فقال العبّاس عليه‌السلام : إن هؤلاء ، أعني الأصحاب قوم غرباء ، والحمل الثقيل لا يقوم إلاّ بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للموت ، لئلا يقول الناس قدّموا أصحابهم فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة ، فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !

قالت زينب عليها‌السلام : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ولكن خنقتني العبرة.

حبيب يحاور الأنصار ويحرّضهم على القتال

قبل بني هاشم

فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين عليه‌السلام وأخبره بذلك فسمعت من خيمة

٥٠

حبيب بن مظاهر همهمةٌ ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ونظرت فيها فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة وبينهم حبيب بن مظاهر وهو يقول : يا أصحابي لِمَ جئتم إلى هذا المكان ، أوضحوا كلامكم رحمكم الله فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة عليها‌السلام !

فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟ فقالوا : لذلك !

قال حبيب : فإذا كان في الصباح فما أنتم قائلون ؟

فقالوا : الرأي رأيك ولا نتعدّى قولاً لك.

قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه وفينا عرقٌ يضرب ، لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم.

فهزَّوا سيوفهم ( في ) وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه.

زينب عليها‌السلام تتعجب من موقف بني هاشم والأنصار

قالت زينب : ففرحتُ من ثباتهم ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين عليه‌السلام قد عارضني فسكنت نفسي وتبسمت في وجهه ، فقال : أُخيّة. فقلت : لبيك يا أخي. فقال عليه‌السلام : يا أختاه منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة أخبريني ما سبب تبسمك ؟

فقلت له : يا أخي رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا !!

٥١

فقال لي : يا أُختاه إعلمي أن هؤلاء أصحابي (١) من عالم الذرّ وبهم وعدني جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل تحبين أن تنظري إلى ثبات إقدامِهم ؟

فقلت : نعم. فقال عليه‌السلام : عليك بظهر الخيمة.

الإمام الحسين عليه‌السلام يخطب في أصحابه

ويكشف لهم عن أبصارهم

قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين عليه‌السلام : أين إخواني وبنو أعمامي ! فقامت بنو هاشم وتسابق منهم العباس وقال : لبيك لبيك ما تقول ؟

فقال الحسين عليه‌السلام : أُريد أن أُجدّد لكم عهداً ، فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا.

__________________

(١) قد جاء في الأحاديث الشريفة إن أصحاب الحسين عليه‌السلام معروفون بأسمائهم من قبل واقعة الطف ، روى ابن شهراشوب قال : عُنّف ابن عباس على تركه الحسين عليه‌السلام فقال إن أصحاب الحسين عليه‌السلام لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً ، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ، وقال محمد بن الحنفية وإن أصحابه عليه‌السلام عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم. راجع : مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب : ج ٤ ، ص ٥٣ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ١٨٥.

وروى بن قولويه ـ عليه الرحمة ـ قال : حدثني الحسن عن أبيه عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن يعقوب بن شعيب عن حسين بن أبي العلاء قال : والذي رفع اليه العرش لقد حدثني أبوك بأصحاب الحسين عليه‌السلام لا ينقصون رجلاً ولا يزيدون رجلاً ، تعتدي بهم هذه الأمة كما اعتدت بنو إسرائيل يوم السبت ... الخ ، كامل الزيارات لابن قولويه : ص ٧٣ ، وعنه بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٨٧.

٥٢

ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين هلال ، أين الأصحاب ، فأقبلوا وتسابق منهم حبيب بن مظاهر. وقال : لبيك يا أبا عبد الله ، فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا فخطب فيهم خطبة بليغة.

ثم قال : يا أصحابي ، اعلموا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصدٌ سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حلٍّ من بيعتي ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل.

فعند ذلك قامت بنو هاشم وتكلّموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلّمون بمثل كلامهم فلما رأى الحسين عليه‌السلام حُسن إقدامهم وثبات أقدامِهم ، قال عليه‌السلام : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة ، فكشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين العجل العجل فإنا مشتاقات إليكم !

فقاموا بأجمعهم وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله أتأذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء.

فقال عليه‌السلام : اجلسوا رحمكم الله وجزاكم الله خيراً.

الإمام الحسين عليه‌السلام يأذن لنساء الأنصار بالانصراف لئلا

تُسبى ومحاورة علي بن مظاهر مع زوجته

ثم قال : ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد ، فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟!

٥٣

فقال عليه‌السلام : إن نسائي تُسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي ، فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته إجلالاً له فاستقبلته وتبسمت في وجهه. فقال لها : دعيني والتبسّم !!

فقالت : يا ابن مظاهر إني سمعت غريب فاطمة عليها‌السلام خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمةً فما علمت ما يقول ؟

قال : يا هذه إن الحسين عليه‌السلام قال لنا : ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمها لأني غداً اُقتل ونسائي تُسبى.

فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى أُلحقكِ ببني عمك بني أسد ، فقامت ونطحت رأسها في عمود الخيمة وقالت : والله ما أنصفتني يا بن مظاهر أيسرّك أن تُسبى بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا آمنة من السبي ؟ أيسرّك أن تُسلب زينب إزارها من رأسها وأنا أتسترّ بإزاري ؟ أيسرك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها وأنا أتزين بقرطي ؟ أيسرك أن يبيضّ وجهك عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء عليها‌السلام أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء.

فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين عليه‌السلام وهو يبكي ، فقال له الحسين عليه‌السلام : ما يبكيك ؟ فقال : سيدي أبتْ الأسدية إلاّ مواساتكم ، فبكى الحسين عليه‌السلام وقال : جُزيتم منّا خيراً (١).

قال الشاعر :

رجالٌ تواصوا حيث طابت أصولهم

وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

__________________

(١) معالي السبطين للحائري : ج ١ ، ص ٣٤٠ ـ ٣٤٢.

٥٤

حماةٌ حموا خدراً أبي الله هتكه

فعظّمه شأناً وشرّفهُ قدرا

فأصبح نهباً للمغاوير بعدهم

ومنه بنات المصطفى أُبرزت حسرى

وقال آخر :

السابقون إلى المكارم والعلى

والحائزون غداً حياض الكوثر

لو لا صوارمهم ووقع نبالهم

لم تسمع الآذان صوتَ مكبر (١)

الأعداء يطوفون حول خيام الحسين عليه‌السلام

هذا وقد أمر عمر بن سعد حرساً بقيادة عزَرَةَ بن قيس الأحمسي بحراسة الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، فاخذوا يطوفون حول البيوت والفسطاط خوفاً من أن يفوت الحسين عليه‌السلام من قبضتهم ، أو يلتحق بمعسكره أحدٌ من الناس (٢).

الإمام الحسين عليه‌السلام يأمر أصحابه

بحفر الخندق وتنظيم الخيم

قال الراوي : وكان الحسين عليه‌السلام أتى بقصبٍ وحطبٍ إلى مكان مِنْ ورائهم مُنخفضٍ ، كأنَه ساقية فَحفروه ، في ساعة مِنْ الليلِ فَجعلُوه كَالخَندَقِ ، ثمْ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب ، وَقالوا : إذا عَدوا علينا فقاتلُونا ألقينا فيه النار كيلا نُؤتى مِنْ

__________________

(١) نفثة المصدور للقمي : ص ٦٢٩.

(٢) الحسين وأصحابه للقزويني : ج ١ ، ص ٢٥٥ ،حياة الإمام الحسين للقرشي : ج ٣ ، ص ١٧٨.

٥٥

وَرائنا وَقاتلونا القومُ مِنْ وَجهٍ واحدٍ ، ففعلوا وكانَ لهم نافعاً (١).

وقال الدينوري : وأمر الحسين عليه‌السلام أصحابه أن يضمّوا مضاربهم بعضهم من بعض ، ويكونوا أمام البيوت ، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدُوداً ، وأن يضرموا فيه حطباً وقصباً كثيراً ، لئلا يُؤتوا من أدبار البيوت فيدخلوها (٢).

وجاء في البداية والنهاية : وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم ، وقد أمر الحسين عليه‌السلام من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقاً ، وقذفوا فيه حطباً وخشباً وقصباً ، ثم أُضرمت فيه النار لئلا يَخلص أحدٌ إلى بيوتهم من ورائها (٣).

وفي الإرشاد ، إن الحسين عليه‌السلام خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يُقرّب بعضُهم بيوتَهم من بعض ، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم (٤).

الحكمة من ضم الخيم والمضارب

وقيل إنّه عمل ذلك لعلمه ـ صلوات الله عليه ـ بما كان يضمرُه عمر بن سعد مع رؤساءِ عسكره ليلةَ العاشر ، فقد اتفقت آراؤُهم على أن يهجموا دفعةً واحدةً

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٢٠.

(٢) الأخبار الطوال للدينوري : ص ٢٥٦.

(٣) البداية والنهاية لابن كثير : ج ٤ ، ص ١٧٨.

(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٢ ، إعلام الورى للطبرسي : ص ٢٤٠.

٥٦

على الحسين عليه‌السلام وأصحابه على المخيم ، فيقتلون الرجال ويسبون النساء في ساعةٍ واحدة ، ولذا قال الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ : وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين عليه‌السلام فيرون الخندق في ظهورهم ، والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان اُلقيَ فيه (١) ، ولم يكن لهم طريق إلا من وجه واحد ، فغضبوا بأجمعهم (٢).

ويؤيد هذا ما جاء في الأنساب : واقتتلوا نصف النهار أشد قتالٍ وأبرحه ، وجعلوا لا يقدرون على إتيانهم إلاّ من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقاربها ، ولمكان النار التي أوقدوها خلفهم ، وأمر عمر بتخريق أبنيتهم وبيوتهم فأخذوا يُخرّقونها برماحهم وسيوفهم (٣).

وما جاء في الكامل أيضاً : فلمّا رأى ذلك عمر أرسل رجالاً يُقوّضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، فكان النفر من أصحاب الحسين عليه‌السلام الثلاثة والأربعة يتخلّلون البيوت ، فيقتلون الرجل وهو يُقوّض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه ، فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت.

فقال لهم الحسين عليه‌السلام دعوهم فليحرقوها فإنّهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها فكان كذلك (٤).

وقد جاء في بعض الكتب أن بيوتَهم وخيمهم وفساطيطهم كانت مائة

__________________

(١) الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٣.

(٢) معالي السبطين للحائري : ص ٣٤٧.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري : ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٤) الكامل في التاريخ لابن الأثير : ج ٤ ، ص ٦٩.

٥٧

وسبعين ، السبعون للحسين عليه‌السلام وسائر بني هاشم ، والمائة للأنصار والأصحاب (١) والله أعلم بحقائق الأمور.

الإمام الحسين عليه‌السلام يرى جدّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في السَّحَر

روي إن الحسين عليه‌السلام لمّا كانَ وَقتُ السَّحَر خَفقَ برأسهِ خفقةً ثُمَّ استيقظَ فقال : أتعلمونَ ما رأيتُ في منامي السّاعةَ ؟ فقالوا : وَما الذي رأيتَ يا بنَ رسولِ الله ؟

فقال : رأيتُ كأنّ كلاباً قد شدَّت عَليَّ لتنهَشني (٢) وَفيها كَلبٌ أبقع رأيتُهُ أشدَّها عَليَّ وَأظنُّ أنّ الذي يَتولّى قَتلي رجلٌ أبرص (٣) مِن بين هؤلاءِ القومِ ، ثم إنّي رأيتُ بعدَ ذلك جَدي رسول اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَمعَهُ جماعةٌ مِنْ أصحابه وهو يقولُ لي : يَا بُنَّي أنت شهيدُ آلِ محمّدٍ ، وَقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهل الصفيحِ (٤) الأعلى فليكن إفطارُكَ عندي الليلة عَجِّل وَلا تُؤخر ! فَهذا مَلكٌ قد نزلَ مِنَ السماءِ ليأخذَ دَمَكَ في قارورةٍ خضراء ، فهذا ما رأيتُ وَقد أزف الأمر ، واقترَبَ الرحيّلُ مَنْ هَذه الدنيا لا شَكّ في ذلك (٥).

__________________

(١) الإمام الحسين وأصحابه للقزويني : ج ١ ، ص ٢٥٨.

(٢) وفي الفتوح : تُناشبني.

(٣) وفي الفتوح : رجل أبقع وأبرص.

(٤) الصفيح أو الصَّفْح : من أسماء السماء ، ومنه ملائكة الصَفْح الأعلى ، أي ملائكة السماء العليا. مجمع البحرين للطريحي : ج ٢ ، ص ٣٨٦.

(٥) بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٣ ، العوالم : ج ١٧ ، ص ٢٤٧ ، الفتوح لابن الأعثم : ج ٥ ، ص ١١١ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ص ٢٥١.

٥٨

الأعداء يسمعون تلاوة الحسين عليه‌السلام

وكلام برير (١) معهم

روى الضحاك (١) بن عبد الله المشرقي قال : فلّما أمسى حسينٌ عليه‌السلام وأصحابُه

__________________

(١) هو : بُرير بن خُضير الهمداني المشرقي ، وبنو مشرق بطن من همدان ، كان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن من شيوخ القراء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين ، وهو القائل للحسين عليه‌السلام لما خطب في أصحابه الخطبة التي يقول فيها : أما بعد فإن الدنيا تغيّرت ... الخ. ثم قام برير فقال : والله يا بن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، تقطع فيك أعضاؤنا حتى يكون جدك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا ، فلا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم ، وويلٌ لهم ماذا يلقون به الله ، وأُفٍ لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنم ، قُتل بين يدي الحسين عليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً.

راجع : إبصار العين للسماوي : ص ٧٠ ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص ٧٦ ـ ٧٧.

(٢) هو : الضحّاك بن عبد الله المشرقي ، كان قد أعطى الحسين عليه‌السلام عهداً أن يقاتل معه ما كان قتاله معه نافعاً ، فإذا لم يجد مقاتلاً معه كان في حلٍ من الانصراف ، قال الضحاك : لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا وقد خَلُص إليه وإلى أهل بيته ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير بن عمرو الحضرمي قلت له : يا ابن رسول الله قد علمت ما كان بيني وبينك ، قلت لك : أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلٍّ من الانصراف ، فقلت لي نعم ، فقال : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حلٍّ ، قال : فأقبلت إلى فرسي وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت ، وأقبلت اُقاتل معهم راجلاً فقتلت يومئذٍ بين يدي الحسين رجلين وقطعت يد آخر ، وقال لي الحسين يومئذٍ مراراً : لا تشلل ، لا يقطع الله يدك جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط … الخ.

راجع : تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٣٩ ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص ٦٤.

٥٩

قاموا الليلَ كلَّه يُصلونَ ويستغفرون ويَدعونَ ويتضرعون ، قال : فتمرُ بنا خيلٌ لَهم تَحرِسُنا ، وإنّ حسيناً عليه‌السلام لَيقرأ : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (١).

فسمِعَها رَجلٌ مِنْ تلكَ الخيلِ التي كانت تحرسُنا ، فقال : نَحنُ وَربِّ الكعبةِ الطيبونَ مُيّزنا منِكُمْ ، قال : فَعرفتُه ، فقلتُ لبِرُير بنِ خُضَير : تدري من هذا ؟ قال : لا ، قلتُ : هذا أبو حَرْب السبيعي عبد الله بن شهر وكان مضحاكاً بطلاً ، وكانَ شريفاً شجاعاً فاتكاً ، وكان سعيد بن قيس ربَّما حَبسُه في جنايةٍ ، فقال له بُريرُ بنُ خضير : يا فاسق أنت يَجعلكَ اللهُ في الطيبينَ ، فقال له : من أنت ؟

قال : أنا بريرُ بنِ خضير ، قال : إنّا لله ، عزّ عليَّ هلكتَ والله هَلكت والله يا بريرُ ، قال : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى اللهِ من ذنوبك العظام ، فوالله إنا لنحنُ الطيبونَ ولكنَّكُمْ لأنتُم الخبيثونَ ، قال : وأنا على ذلك من الشاهدين ، قلتُ : ويحك أفلا ينفعُكَ معرِفتُكَ ، قال : جُعلتُ فِداكَ فمَن يُنادمُ يزيدُ بنِ عذرة الغفري من عنز بنِ وائل ، قال : ها هو ذا معي ، قال : قَبّحَ اللهُ رأيَك على كلِ حال أنت سفيه ، قال : ثم انصرفَ عنا ، وكانَ الذي يحرسُنا بالليلِ في الخيلِ عَزْرةُ بنِ قيس الأحمسي وكانَ على الخيل (٢).

وقد رويت هذه الحادثة بصورة اُخرى كما عن ابن الأعثم الكوفي

__________________

(١) سورة آل عمران الآية : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٤١٩ ـ ٤٢٠ ، البداية والنهاية لابن كثير : ج ٤ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٨ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٣ ـ ٤.

٦٠