ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

سوف تجتاح في غدٍ معقل الظلم

وتنهار أعرشٌ نكراتُ

وستبقى الدماءُ ما دام فيها

صحوةُ الدين والفدا والعظاتُ

وستبقى الدماء أغلى وجوداً

من حياةٍ يعيش فيها الجناةُ

ينحني السيفُ خاشعاً وذليلاً

وخضوعاً ستركع المرهفاتُ

حين أعطت قيادها للئامٍ

ثم أودت بعزّها عثراتُ

فاستحقّت مدى الزمان عتاباً

وتنامت بفعلها النائباتُ

عبّود الأحمد النجفي

١ / ١١ / ١٤١٧ ه‍

٣٠١

الأستاذ عبّود الأحمد النجفي

عبّود الأحمد النجفي شاعرٌ يصارع الألم ولايزال في تفاصيل حياته ، فلذا يتبدّى ولاؤه للمأساة الحسينية في أشكال ذاتية يتحسّسها بقربٍ روحي عميق ، وإذا أضفنا إلى ذلك تمرّسه في الكتابة باللهجة المحلية للمنبر الحسيني لسنين طويلة فسوف تختمر تجربته وتتصاعد ، فلا غرو أن تستجيب شاعريّته لموضوعةٍ محدّدة التفاصيل مثل ليلة عاشوراء ليصوّرها من أفق الانتظار :

في غدٍ يشرق الصباح مدمّى

وعلى الترب أنجمٌ مطفآتُ

ليُصوّر الغد الدامي بتجربةٍ مبتورة إذا نظرنا إلى بقية شعره ، فأنا قد لاحظت قبلاً على النجفي سمة الإرتقاء الشعري من قصيدة إلى أخرى لكنّه في هذه المحطة لم يقلْ ما تريده حصيلته الشعرية المتصاعدة ولا أعلم سبباً وجيهاً لهذا النكوص ، فالنجفي لا تضغط على شاعريته المناسبة فهو من فرسانها المجلّين مع ثُلّة من إخوانه من شعراء الولاء ، لكنّه بدأ مع تراكم تجربته في الكتابة بالتوجه إلى منحى آخر في التأمّل والرؤيا الشعرية ازدانت به مجموعته ـ اهتزاز الذاكرة ـ مما أثرى تجربته بارتياد مناطق كانت مجهولة لديه وانفتح عليها نبوغه وتطلّعه ولعلي أصيب حين أسميّه بالنابغة النجفي تيمّناً بنوابغ الشعر العربي الأصيل ، فعبّود الأحمد النجفي كتب الشعر الفصيح متأخراً فتصحّ عليه هذه التسمية ولعله يقبلها برحابة صدره المعهودة.

٣٠٢

٢٠ ـ للشيخ علي بن عبد الحميد رحمه‌الله

العزمات الصادقة

فلما رأى أن لا مناص من الردى

وإنّ مراد القوم منه كبيرُ

فقال لأهليه وباقي صحبه

ألا إنّ لبثي فيكمُ ليسيرُ

عليكم بهذا الليل فاستتروا به

وقوموا وجدّوا في الظلام وسيروا

ويأخذ كلُّ منكم يدَ واحدٍ

من الآن واخفوا في البلاد وغوروا

فما بُغيةُ الأرجاس غيري وخالقي

على كلّ شيءٍ يبتغيه قديرُ

فقالوا معاذَ الله نسلمُكَ للعدى

وتُضفى علينا للحياة ستورُ

فأيُّ حياة بعد فقدك نرتجي

وأيُّ فؤادٍ يعتريه سرورُ

ولكن نقي عنك الردى بسيوفنا

لتحظى بنا دارُ النعيم وحورُ

فقال جُزيتم كلّ خيرٍ فأنتمُ

لكلّ الورى يوم القيامة نورُ

فأصبح يدعو هل مغيثٌ يُغيثُنا

فقلّ مُجيبوه وعزّ نصيرُ

ولم تبقَ إلا عصبةٌ علويةٌ

لهم عزماتٌ ما بهنَّ قصورُ

ولمّا شبت نار الحروب وأضرمت

وقتْ نفسَه هامٌ لهم ونحورُ

ولم أنسه يوم الهياج كأنّهُ

هزبرٌ له وقعُ السيوف زئيرُ

يكرُّ عليهم والحسام بكفّهِ

فلم يرَ إلا صارخٌ وعفيرُ

وراح إلى نحو الخيام مودعاً

يُهمهمُ بالقرآن حيثُ يسيرُ

٣٠٣

فقمن إليه الفاطميات حُسَّراً

يفدّينه والمعولات كثيرُ

فقال استعينوا بالإله فإنَّه

عليمٌ بما يُخفي العباد بصيرُ

ألا لاتشقّنَّ الجيوب ولا يُرى

لكُنَّ عويلٌ إنَّ ذاك غرورُ

ألم تعلمي يا أختُ إنَّ جميعَ من

على الأرض كلٌ للمماتِ يصيرُ

عليك بزين العابدين فإنّه

إمامكِ بل للمؤمنين أميرُ

أطيعي له إنْ قال مولىً فإنَّه

المطاعُ بأحكام الكتاب خبيرُ (١)

__________________

(١) المنتخب للطريحي : ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٣٠٤

٢١ ـ للشيخ علي الفرج (١)

حديث النجوم

أغسلي يا نجومُ عن سأم اللي‍

ل جفونَ الحسينِ والأصحابِ

وَدّعي ذلك الزعيمَ ودمعاً

ذابَ فيه طبعُ انكسارِ السحابِ

دمعةٌ منه أنبتتْ للملايي‍

‍ن حِراباً من سُنّةٍ وكتابِ

ودّعيه دماً تأهّب في الأق‍

‍داح كيما يُراق في الأكوابِ

دمُه صبغة السماءِ وأين الس‍

‍يفُ منه وهو انتماء التُرابِ

* * *

حدّثي يا نجومُ عن خيم الوح‍

‍ي ودمعٍ من زينبٍ سَكّابِ

ليلُها ... أين ليلُها ؟! نسيتْهُ

نسيتْ صمتَه انتظارَ العذابِ

حولهَا من خواطر الظمأ المرِّ

ضبابٌ في عُتمةٍ من ضبابِ

__________________

(١) هو : الشاعر فضيلة الشيخ علي بن عبد الله الفَرَج ، ولد في القديح إحدى مناطق القطيف سنة ١٣٩١ ه‍ ، انهى المرحلة الثانوية ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة ١٤١٠ ه‍ ثم درس شطراً في سوريا سنة ١٤١٢ ه‍ وأخيراً التحق بالحوزة العلمية في قم المقدسة سنة ١٤١٦ ه‍ ، ولا يزال يواصل دراسته العلمية فيها ، وله ديوان شعر : أصداء النغم المسافر ، وكتابات اُخرى ، وله مشاركات في النوادي الأدبية والثقافية في القطيف وسوريا وقم المقدسة.

٣٠٥

قسماً لو جرى الفرات وريداً

في دماها كسلسلٍ مُنسابِ

هَدَرتهُ ماءً فتجتمع الأط‍

‍فال ، فيه تعود ملأى القرابِ

* * *

حدّثيني عن الاُسود كم امتدَّ

بهم للسما خيوطُ انتسابِ

زرعوا الليل أعيناً تحرس الغا

ب كَسربٍ من الردى جوّابِ

أنت يا ليلة انخساف المرايا

في وجوه السنين والأحقاب

غُرست فيك آهتي واحتضاري

ونمت فيك صرختي واغترابي

عجبٌ أن أراك سوداءَ والشم‍

‍س بجنبَيكِ معبدُ الأهداب

عجبٌ أن أرى لديك ( دويَّ الن‍

‍حل ) يهتزُّ من أُسود الغاب

سهروا بين جانحيك جبالاً

وغدوا فوق راحتيك روابي

* * *

حدّثيني عن الظلام وما احمرَّ

بأعماقه من الأرهاب

ضاع في رُعبه أنينُ يتامى ال‍

‍غد ضاعت مباسمُ الأحباب

وفؤاد الحسين ذاب حناناً

وعجيبٌ يذوب فوق الحرابِ

على الفَرَج

١٠ / ١١ / ١٤١٦ ه‍

قم المقدسة

٣٠٦

الشيخ علي الفرج

شاعريّة علي الفرج من الشاعريات القليلة التي تُجبر متلقّيها على الإقرار بضرورة الشعر في حياة الإنسان وتجعله متقرّباً بأكثر من وسيلة إلى التفاعل والإنصهار مع الظواهر الشعرية في كل تجلّياتها وكشوفها ... فهو حدّاءٌ أصيل يراقب قافلة التلقّي والقراءة بأكثر من حاسّة ويحنو على قارئه حنوّ المشفق ، فيُصاحبه صحبة إدهاشٍ وإبهار بسحر الألفاظ المنتقاة وجمال صياغته للتراكيب الموحية وهو يفعل هذا برقّة وشفافية تنمّ عن طبع شعري متجذّر وخُلق فنّي راسخ ، بعيداً عن دنس تنفير الآخرين وازدرائهم ومقتهم.

فشاعريته بها نزوعٌ نحو التلاحم مع الناس بطيبةٍ صادقة ونيّة حسنة ليقرّر رسالة الشعر ووظيفته كنداءٍ من ضميرٍ ووجدان جماعيٍّ يعبّر عن كل الآمال وجميع الآلام ، ولذا فهو يمتلك من إمكانات الإختيار في خطابه الشعري الشيء الكثير ، وله قدرةٌ متشعّبة في توليد التراكيب غير النمطيّة يعاضده إنتقاء واعٍ لألفاظه ، فلا تستطيع أيّة لفظة كانت أن تعبر سياج حقوله الشعرية بلا إذنٍ من رقابته الصارمه وتفحّصه الدؤوب ، ولا شكّ أنّ البساطة التي تظهر بسيولة في شعره هي بساطة مصنوعة بتعب وإخلاص وتفانِ وهناك جهدٌ آخر يقوم به الفرج في إخفائه لآثار الصنعة في بساطة شعره وعذوبته وسيولته ، ولعل السيولة أقرب إليه من غيرها فهو شاعر الماء بحقٍّ وهو ( نهّام ) يؤدّي مواويله البحرية لكي يدفع عجلة الحياة ، وإذا تسنّى للفحص والإختبار النقدي أن يولي قصيدة ( حديث النجوم ) إهتمامه فسوف

٣٠٧

يتأكّد رسوخ الصور والألفاظ والتراكيب المائية في نسيج القصيدة ، وربّما تجاوز الماء إلى كلّ الظواهر والأشياء السائلة بحيث نرى أنه لا يكاد أن يخلو بيتٌ شعريٌّ للشيخ علي الفرج من ذلك ، وسنحصي ذلك بالترتيب في قصيدته ( اغسلي ، دمعاً ، ذاب ، السحاب ، دمعة ، دماً ، الأقداح ، يُراق ، الأكواب ، دمه ، سكّاب ، الظمأ ، ضباب ، جرى ، الفرات ، وريداً ، دماها ، سلسل ، منساب ، ماء ، ملأى ، القراب ) في الأبيات العشرة الاولى فيحقّق انسيابية سيّالة لرؤاه وصوره لكي يشكّل مدخلاً إلى مشهد الفجيعة الذي يتعمّد فيه الشاعر عدم استخدام مفرداته المائية ليصوّر ليلة عاشوراء ويخاطبها واصفاً إياها بليلة انخساف المرايا فلا انعكاس أمام وجه الزمن لكن الشاعر يخرج من هذا المشهد وينهي القصيدة بهذا البيت :

وفؤاد الحسين ذاب حناناً

وعجيب يذوب فوق الحراب

فحتى الشهادة العظيمة لسيد الشهداء عليه‌السلام يصوّرها الفرج بصورة الذوبان فوق الحراب مبدياً عجبه لذلك ، لكنّنا لا نعجب فالشاعر يريد للشهادة المحبّبة إلى نفسه أن تتزيىّ بحلّة الماء الذي يحقق حيويّةَ شاعريّةِ علي الفرج المنفتحة على مصاديق الآية الكريمة ( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) على مستويين : شعوريّ يصاحبه الإختيار الواعي ، ولا شعوري دفين في رغبات وأماني الشيخ علي الفرج الذي يختار لقصائده أوزاناً منسابة برشاقة الإيقاع الشعري كبحريّ الخفيف والبسيط اللذين طالما كتب بهما أجمل قصائده.

٣٠٨

٢٢ ـ للشاعر الأستاذ فرات الأسدي (١)

(١)

مشيئة الدم

عليه اُغمضُ روحي ـ حلمَه العجبا ـ !

فكيف فرَّ إلى عينيَّ مُنسربا

ومن أضاءَ له حُزني فغادَرَهُ

إلى فضاءٍ قصيّ اللمح فاقتربا !

حتى تسلّل من حُبٍّ ومن وجعٍ

دمعاً يُطهّر نبعَ القلب لا الهدبا

رأيتُ فيما رأيتُ الدهشة انكسرت

وخضّبت جسداً للمستحيل كبا

وكأن يَلقى سيوفَ الليل منصلتاً

ويستفزُّ مُدىً مجنونة وظبى

وكان يعبر في أشفارها فزعاً

مُرّاً ، وترتدُّ عن أوداجه رعُبا !

تمتدُّ لهفتها حيرى فيُسلمُها

إلى ضلوع تشظّت تحتها نهبا

مَنْ ينحرِ الماء مَنْ يخنقْ شواطئه ؟

والنهر مدَّ يديه نحوه ... وأبى !

فناولني دمَهُ يا ليلة عبرت

إلى النزيف جريح الخطو منسكبا

* * *

__________________

(١) هو : الشاعر الأستاذ فرات الأسدي ، ولد سنة ١٣٨٠ ه‍ ، من عائلة علمية معروفة ، أنهى شطراً من الدراسة الاكاديمية ودرس عدة مراحل في الحوزة العلمية ، ومن نتاجه الأدبي ١ ـ ذاكرة الصمت والعطش ( مطبوع ) ٢ ـ صدقت الغربة يا ابراهيم ٣ ـ النهر وجهك ٤ ـ الخناجر الميتة ( رواية ) ، وله مساهمات فعالة في النوادي الأدبية والثقافية والدينية ، كما شارك في الصحافة والكتابة الأدبية ، ويدير الآن دار الأدب الاسلامي : مشروع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته في الشعر العربي.

٣٠٩

يا نافراً مثل وجه الحلم رُدَّ دمي

إلى هواكَ ... دمي الممهور ما اغتربا

يطلُّ ظلُّك فيه ... بوحَ اُغنيةٍ

ظمآنةٍ عبَّ منها لحنُها اللهبا

رأيتُ فيما رأيتُ الليلَ متّشحاً

عباءةَ الشمس مختالاً بها طربا

وفوق أكتافِه فجرُ النعوش هوتْ

نجومُه ... والمدى يرتجُّ منتحبا

قبلَ الحرائق كأن الورد يُشبههُ

وبَعدَهُ لرماد الريح صار سِبا

قبلَ الفجيعة من لون الفرات لهُ

شكلٌ ، ومن طينهِ وجهٌ يفيض صبا

وبعدها سقطتْ في النار خضرته

وحال عن بهجة مسحورة ، حطبا

وما تألقَ من جمرٍ فبسمتهُ

غارتْ ، وتحت رمادٍ باردٍ شحبا !

* * *

وأنتَ ، دون عزيف الموت ، صرختُنا

وأنتَ .. تنفخ فيها صوتها .. نسبا

وأنتَ عندكَ مجدُ الله ... آيتهُ

بيارقاً نسَلَتْ ... جرّارةً حقبا

وأنت تلوي عنان الأرض ثمّ إلى

أقدارها تُطلقُ الأقدار والشُهبا

وعند جرحكَ ماتَ الموتُ وانبجست

من الصهيل خيولٌ تنهَبُ الصخَبا

فاحملْ دمَ الكوكب الغضّ الذبيح وسر

إلى الخلود فقد أرهقتَه نصَبا

وقفْ ... فحيثُ مدار الكون صرتَ له

مشيئةً تكتب التاريخ ، أو قُطُبا

فرات الأسدي

٨ / ذو القعدة / ١٤١٦ ه‍

٣١٠

الأستاذ فرات الاسدي

مشيئة الدم

قصيدةٌ عمودية في ظاهرها فقط ، أما جّوها وبناؤها ولغتها وصورها وتراكيب جملها فهي برزخية الإنتماء تتقاطع مع التراث والمعاصرة في مفترقات وملتقيات عدّة لتبرز هويّتها غير المنحازة وغير المتعيّنة على وجه الدقة ، وهي قصيدة خروجٍ على السائد في كل محاورها وخصوصاً على الثوابت النحوية ـ التي لفرات الأسدي رسوخ طويل بها ـ فهي تقفز منذ صدر البيت الاول فوق المعايير لتُلجئ المتلقّي إلى التأويل والتمحّل لما هو بين شارحتين ـ حلمه العجبا ـ ويتأكد هذا القفز فوق الثوابت النحوية في مشاكساتٍ ومحاولاتٍ للخروج الواعي أو هي على الأقل إشعار بذلك ، مما يُنبئ أن الشاعر يضيق ذرعاً بالمعيارية التي تمتدّ ضاغطةً على الرؤى غير المتشكّلة بعد ، وعلى القواعد التي تحاصر فضاءه وهو ( فضاء قصّي اللمح ) فهو يفرض الحيرة على المتلقي مثلاً في

مَن ينحرِ الماء مَنْ يَخنُقْ شواطئه ؟

والنهر مدّ يديه نحوه .. وأبى

فهل ( من ) إستفهامية أم شرطية وكيف جزمت الفعلين ؟ إن التعمّد والقصديّة واضحان في التجاوز ونُضيف إلى ذلك ما يمكن أن نسميّه ب‍ ( إزدحام الأفعال ) كظاهرةٍ بارزةٍ في القصيدة حتى وصل عدد الأفعال المستخدمة في بيتٍ واحد إلى خمسة أفعال :

رأيتُ فيما رأيت الدهشة إنكسرتْ

وخضّبت جسداً للمستحيل كبا

٣١١

ولأن الفعل في العربية ـ غالباً ـ ما يشكّل بدايات الجمل فهذا البيت يطالب ذهن المتلقي أن يقف خمس وقفات ليبتدأ من إنطلاقات الجمل فيحتاج إلى تأمّلٍ أكثر ووقتٍ أطول فتتعدّد المفاتيح الباحثة عن أبواب النص وهناك لدى فرات الأسدي ظاهرة نحوية اخرى يتعمّدها في نصّه وهي حشد الضمائر المتصلة فعلى إمتداد (٢٢) بيتاً هناك (٥٣) ضميراً متّصلاً على الأقل بحيث تعسر الإحالة ويصعب الإرجاع وسنرى هذا المثال :

وكان يلقى سيوف الليل منصلتاً

ويستفزّ مُدىً مجنونة وظُبى

وكان يعبر في أشفارها فزعاً

مرّاً وترتدّ عن أوداجه رعُبا

تمتدّ لهفتها حيرى فيسلمها

الى ضلوع تشظّت تحتها نهَبا

فاذا أردنا معرفة عائدية الضمير ( ها ) المتصل بالفعل ( يسلم ) فلن يسهل ذلك ، لانه قابل للإحالة إلى ( اللهفة ، الأشفار ، الظُبى ، المُدى ، سيوف الليل ) وإذا أضفنا إلى ذلك العُسر صعوبة تمييز فاعل الفعل ( يسلم ) هل هو فاعل ( كان يعبر ) أي الفاعل الأساس أم هو الفزع المرّ أم الرعب ؟ تشابكت القراءات وتنافرت على المحور الدلالي العام مما يصوّب رأينا القائل أن قصيدة فرات مكتوبة لكي يقرأها المتلقي لا لكي يسمعها فهي نخبوية متوغّلة في موقف جمالي عميق لا يشف وهي درامية البناء قائمةٌ على النفور من العواطف والإنفعالات البسيطة لذا نراها تجاهلت المدخليّات المألوفة إلى ليلة عاشوراء ودارت محاورها على لغة حلميةٍ عميقةٍ تعتمد الإيحاء والإيماء والغموض البرّاق في التعامل مع الأحداث بصدق فني لا يتطابق مع الصدق الواقعي بل يتضمنه ويلازمه في تجربة غنية حافلة بالاجتراح وشاعريةٍ جامحةٍ متمرّسة طالما أغنت ساحتها تجارب كثيرة مميّزة.

٣١٢

(٢)

الليلة الآخِرة

عكفتْ تشحذُ للموتِ النصالا

أو تهزُّ الليلَ ذكراً وابتهالا

فتيةٌ ناداهمُ ربُّهُم

أقدِموا ، فاستسهلوا الاُخرىٰ منالا

ومضوا عن هذه الدنيا عُجالىٰ

وسرَوا للخُلدِ يبغونَ الوِصالا

بسَمَ المجدُ لهم فابتسموا

وإلىٰ أسيافهمْ مالوُا فَمالا

وارتدَوا من عدَّةِ الحربِ هُدىً

ووفاءً ومُروءاتٍ ثِقالا

جَنَّهُمْ في الطفِّ ليلٌ وهُمُ

بالحسينِ الطُهرِ قد جَنُّوا خَبالا

فاشهدي يا ليلة الضوء هوىً

نضراً يبتكر الرؤيا جمالا

* * *

يا مساءً لم يلُحْ في أفْقهِ

غيرُ وجهِ اللهِ ، والسبطِ ـ تعالىٰ ـ !

ترقبُ الفجرَ به أمنيةٌ

حُرَّةٌ لم تُلقِ للرَّهبةِ بالا

رغبتْ أن تشهد الفتحَ غداً

بدمٍ ما سالَ بل صالَ وجالا !

فأعدَّتْ للِقاهُ صَبرَها

ونفوساً أنِفَتْ تهوىٰ الضلالا

وتمدّ اليدَ للطاغي وقد

عاثَ بالدين حراماً وحلالا

ترِبَتْ كفُّ أبيهِ .. ليتَهُ

نَصبَ القردَ أميراً .. واستقالا !

٣١٣

أيُّ ليلٍ ضمَّ للحقّ رجالا

يُرخِصون الروحَ أصحاباً وآلا

ونساءً حُجِبتْ في خدرِها

واطمأنَّتْ في حِمىٰ الصِيد عيالا

وصغاراً هَوَّمَتْ أعينُها

وعن الأقدار لم تُحفِ السؤالا

لو أطلّتْ لرأتْ خيل العدىٰ

ترمَحُ الأرضَ جنوباً وشمالا

عاهدتْ شيطانَها لن تنثني

يومَها أو تطأ القومَ مجالا

وبناتُ الوحي تُسبىٰ ذُعَّراً

وخيامُ الوحيِ تنهدُّ اشتعالا

وبأطراف القنا رأسُ الهدىٰ

وعلىٰ العُجْف السبايا تتوالىٰ

وعليٌ يقدِمُ الركبَ وفي

عُنْقه من رجلهِ القيدُ استطالا

وله زينبُ تشكو ذُلَّها

وهُموماً عاينتْ منها المَحالا

صبرتْ واحتسبتْ ما نالَها

في سبيل الله تلقاه نوالا

حسبُها من أهل بيتٍ شمسُهُمْ

في مَدىٰ التاريخ لم تغربْ زوالا

كتبَ الله لهم أجرَهُمُ

ان يكونوا للكراماتِ مثالا

ويشيدوا بالتقىٰ دولتهمْ

آخرَ الدهر انتصافاً وسجالا

وإمامُ الحقِّ في أشياعهِ

يطلبُ الثاراثِ زحفاً واقتتالا

فرات الاسدي

٦ / شعبان / ١٤١٦ ه‍

٣١٤

الليلة الآخرة

على الرغم من حرصه أن تكون قصيدته منبرية التوجّه لكنّها أفلتت من القالب والنمط المنبري في مواضع عدة ، ولو تسنّى لخطباء المنبر الحسيني أن يضخّوا دماً جديداً في شرايين إختياراتهم الشعرية لما عَدَوا هذه القصيدة أو ما نُسج على منوالها من قصائد الولاء للشعراء المعاصرين.

فالخطاب المنبري الموجّه إلى الأجيال الشابة المتطلعة إلى المستقبل يجب أن يفحص أدواته ويوظّف الوسائل الفاعلة في الأوساط التي يخاطبها وعلى سبيل المثال ليته يُعيد إختياراته لقصائد العزاء والمصيبة منحازاً إلى المنبريات الجديدة من القصائد والأشعار التي تمثّل هذه القصيدة مثالاً لها.

٣١٥

(٣)

موت النهار

(١)

ليركضَ كالبحر مرّ المساءْ

ومرّتْ وراء خطاه النجومُ التي أزهر الضوء في نسغها ،

والسماواتُ مبتلّةٌ بالبريقْ

لينهضَ كالبحر مدّ المساءُ مداه الغريقْ

والغى حرائقه السودَ في الطرقاتِ

وفاجأَ غلغلةَ الومض بالأسئلهْ

ومرَّ إلى الدهشة المقبلهْ !

(٢)

ليوغلَ كالليل دارَ الغبارْ !

وطوّقَ نبضَ التراب بأقدامه المثقَلهْ

وأقصى الغيومَ عن النوءِ والنهرَ عن مائهِ المستعارْ !

ودارَ الغبارْ.

٣١٦

(٣)

ـ وكانت هوادجهمْ تذرعُ الريحَ ، كان الحداءُ

يُخامرُ عشبَ الكلامِ النديّ ويُشعلُ فيه الحنينْ

وكانوا يُلمّون أرواحهم حفنةً حفنةً في ضياع السنينْ

يموتونَ .. يحيونَ .. ينطفئونَ

وها هو طقس الحكايا

يُخامِرُهم بالفرات وبالأخضر القادم ـ الآن ـ من دمهِ ،

الذاهبِ ـ الآنَ ـ من دمهِ والظمأْ

الى كوكبٍ آخرٍ ما انطفأْ

وما حرثَتْهُ مرايا الصدأْ !! ـ.

(٤)

ليركضَ كالبحر مرَّ بسحنته العاريهْ

مساءً من اللّهفة المشتهاة إلى وهَجٍ مترَفٍ ،

أو ينابيعَ مغسولةٍ برماد الفجيعهْ

ـ رمادِ المياه المضاجعِ جمرتَها الذاويهْ !

(٥)

ليوغلَ كاللّيلِ دارَ على الأرضِ

واشتبكتْ بالنخيل ملامحُه وتوارىٰ

٣١٧

بقايا من الحزنِ

سرباً من الأغنيات الحيارىٰ

ومرَّ إلى النهر في خلسةٍ واستدارْ

.. إستدارا

ليشهدَ موتَ النهارْ !!.

فرات الأسدي

٣ / ١١ / ١٤١٧ ه‍

موت النهار

أشعر أن فرات الأسدي قد وجد تعبيريّته المناسبة في هذه القصيدة الرؤيوية المركّبة بإدهاشٍ متقَن فهو في معظم شعره لا يقترب من البساطة المجردة ولا يتعامل معها أبداً ، فالأشياء في شعره أشياء ضمن علاقات بل هو يُقارب بين الأشياء التي لا علاقة بينها في تراكيب لفظيةٍ ليُنشئ حداثته بتأمّلٍ شعريٍّ متفلسف ، فقصيدته لها منطقٌ خاص بها ولو تجرّأنا فاستخدمنا شيئاً من المنطق العام أو بعض معطياته لتوصّلنا إلى كشف منطق قصيدته أو شيء مشابه لذلك ، فموت النهار قائمٌ على تقابل الموت مع الحياة التي جاء النهار هنا معادلاً لها لكن وفقاً للمشيئة التركيبية التي يعمل بها الشاعر.

سيكون الصراع بين الموت والحياة ظاهراً بعلاقاته التي لها أطرافها

٣١٨

المتشابكة ، فالنهار سيقابل المساء وهو غير المقابل المنطقي للنهار أي الليل ومن هنا تبدو خصوصيّة منطق القصيدة الذي يجعل هذا المساء يركض كالبحر وفق العلاقة التي ذكرناها ( العلاقة بين الأشياء التي لا علاقة بينها ) لتتولّد معان جديدة ويحتدم الجدل المتفلسف فيعرو التأمل الفلسفي شيءٌ من منطق الشعر بأسئلة لها ملامح الطفولة التي تُرجع الفلسفة إلى بداياتها ، فتبدأ جدلية العناصر الأربعة ( الماء ، التراب ، النار ، الهواء ) فعندما يمرّ المساء تمرّ خلف خطاه النجوم التي يشكّلها الشاعر كشجرة لها نسغ يُزهر فيه الضوء فتبتلّ السماوات بالبريق في علاقة بين الماء والنار عبر البلل وهو من خصائص فعل الماء ، وبين البريق وهو من خصائص فعل النار ، وبعد ذلك أراد المساء أن ينهض لكن كالبحر أيضاً فمدّ مداه الغريق ، والمدى من خصائص الأرض فعندما إبتلّت السماوات بالبريق كان نصيب الأرض الغرق في شكل مدى المساء ، هذا على مستوى المعاني ، أما المباني فسيكون هناك تقابل بين ( ليركض كالبحر مرّ المساء ) مع ( لينهض كالبحر مدّ المساء ) هناك نظام تقفية داخلي مغاير لنظام التقفية التقليدي مع النظر إلى العلاقة في الجناس الناقص بين الفعلين ( مرّ ) و ( مدّ ) بنفس الفاعل ( المساء ) مع إستخدام نظام تقفية خارجي في ( البريق ـ الغريق ) في شكل من اللزوميات التي لو تواصلت لأورد الشاعر مثلاً لفظتي ( الحريق ـ الطريق ) اللتين جاء بهما الشاعر في صيغة الجمع ليكسر نظام التقفية لكنهما عَلقا في اللاشعور فتداعتا تداعاً حرّاً في المقطع اللاحق ( وألغى حرائقه السود فى الطرقات ) طرائق جهنمية سوداء تجعل المساء يتساءل أسئلة مصيرية مندهشة اثر الإلغاء وما تبعه من غلغلة الومض ومفاجأته ... وينتهي المقطع.

المقطع الثاني حركةٌ دورانية للغبار وهو من جهةٍ معادلٌ للمساء ومن جهةٍ

٣١٩

اخرى جدل عنصرين من العناصر الأربعة ( الهواء ـ التراب ) وهنا جرى تشبيهه بالليل في إيغاله ( ليوغل كالليل دار الغبار ) يطوّق نبض التراب ويقصي الغيوم من جهة والنهر عن مائه من جهة اخرى ، وهذه الحركة أو الدوران الغباري تمنع التراب من اللقاء بالماء لكيلا تنتهي العلاقة بولادة الطين الذي هو أصل الإنسان ، وتُقصي النهر عن الماء حتى وأن كان ماءً مستعاراً لتمنع حركة الحياة ويتم للغبار ذلك.

في المقطع الثالث كانت الهوادج تقابل الريح والهوادج عادة تحمل النساء وهنّ حاضنات الإمتداد الإنساني بنوعه في ولادتهنّ ، ليعلن الشاعر جدلية الإنتصار ويكون الحداء مفعماً ونابضاً بالحياة فهو ينطق بكلامٍ له نداوة العشب المشتعل بالحنين للنمو والولادة في تقابل آخر مع الريح ، وتكتمل صورة القافلة التي تواجه الريح في تشكّل الموقف أمام ضياع السنين في لملمة شتات الأرواح لمواجهة الأسئلة المصيرية ( يموتون يحيون ) والسؤال الأخير ( ينطفئون ) والإنطفاء يعني موت النور أو موت النهار أمام الريح في جدل آخر بين ( النار والهواء ) لكن الحكايا تؤكّد طقوسها وانكشاف وعودها بالنَمَاء المتشكّل من الفرات والإخضرار الحسيني المتحرك حركتين : حركة قدوم إلى الحياة المنطلقة إلى الشهادة ، وحركة ذهاب بالدم والظمأ إلى الخلود الأبدي التي لا تستطيع المرايا الصدئة أن تعكسه ، وهي لو عكسته ـ جدلاً ـ فذلك مساوٍ لفعل الحرث السلبي المشوِّه لا الايجابي المساوق لفكرة النماء ، كل ذلك في تعبيريّة حديثة مكّثفة مثل ( حرثته مرايا الصدا ) !

في المقطع الرابع ستكون هناك حركة مرورية للمساء الذي يتلهّف إلى مصرع الوهج والينابيع أي مصرع النور والماة فيرى الماء وهو أصل الخلق ( وجعلنا من

٣٢٠