ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

تُراعي بأشباح الظلام عُيونُهم

حريماً وأطفالاً مُرَوَّعَةً سغبى

حريماً وأطفالاً براهُنَّ غائلٌ

من الوجَل المحتوم مُنقَدحاً كربا

على وجلٍ يخفقنَ من كلِّ همسةٍ

يُنمنْمُ هولُ الخطبِ في عينِها عَضبا

خيامٌ عليها خيَّم الوجدُ ناحِلاً

وَجَلّى عَليهَا الغمُّ بالهم مُنصَبَّا

بنفسِيَ آلُ المصطفى أَحدَقتْ بهم

ضُروبُ الرزايا حَزَّبتْ حَولهمُ حِزبا

تدور عليهم بالشجى فكأنّهم

بفطرتهم كانوا لجمرتها قُطبا

ألا ليتني حيث التمني عبادةٌ

لمن ليس في عينيه غير المنى دربا

خباءٌ به النيران كفٌ تقطّعت

وصدرٌ غدا للخيل مضمارها نهبا

وقلبٌ تفرّى بالظَّما وجوارحٌ

تُوزَّعُ بالأسياف مَحمرّةً إربا

بنفسي أبو الأحرار ما ذاق جُرعةً

ليجرع كأس العزِّ مُترعةً نخبا

ألا ليت لي لثم الضريح ورشفهُ

من العبق الفواح ألثمُه عبّا

وأهتف يا مولايَ جئتك دمعةً

نشيداً ، جراحاً ، دامياً ، ولِهاً ، صَبَّا

ألا ليتني بين السيوفِ فريسةً

لإيقاعها غنَّت جوارحيَ التعبى

أقي قلبك الصادي بقلبٍ أذابَهُ

نوى هجرك الممتدِّ يا سيدي حقبا

اُفدِّيك إجلالاً وأنشدُك الحُبّا

أتُحرمُ عذبَ الوِرد يا مورداً عذبا

ويا عنصر الألطاف من روح أحمدٍ

بأوردة الدنيا يُكلّلها الخصبا

ويا عبقاً من رحمة الوحي فاتحاً

تَنشَّقَ منه الماحلُ النسمَ الرطبا

ويا قبساً في العين يُثقلها رؤى

تفرَّسُ بالايمان تخترقُ الحُجبا

ويُكحلها التقوى حياءً وعفّةً

ويسكبُ فيها من هواه المدى سكبا

فأنت الذي في العين يُذكي سناءَها

فتحلو إذا ترنو أو اثّاقلت هدبا

٢٨١

لأنّ مراسيها هواكم ونورُكم

وإكسيرُها فيضُ المودة في القربى

أفدِّيك يا من الهبَ الشمس والسما

نجيعاً فذابا في قداستهِ ذوبا

على أنّ مُحمرّ السماءِ تألَّقٌ

لتُزجي به من فيضك الشرق والغربا

أفدّيك يا فرع الرسالة يا هوى

لأحمد في الآفاق يملؤها حُبّا

ويا مبسماً يحكي شفاهَ مُحمّدٍ

وريّاه ما قلّت ولا عطرُها أكبى

عليه ولا أدري أتقبيل عودةٍ

بها شغفٌ أم رام يوسعه ضربا

ويا كبداً حرّى تفرَّت من الظما

وفيها الفراتُ انساب سائغهُ شُربا

ويا صارماً لولا الحنانُ أعاقَهُ

لَقَدَّ الدنى قَدّاً وقَطَّعهَا إربا

بمهجته الغيرى وان نزَّ جُرحُها

يرصُّ معاني المجد مملوءةً لبا

ويا صامداً ما زعزعتْ من كيانهِ

صنوفُ الردى بل لم تحرك له هدبا

ويا مقلةً ما زال يعصرها الأسى

لترويْ بقايا الآهِ والدمَ والجدبا

بكت قاتليها والذين تَجمَّعُوا

لثاراتِ بدرً ضدَّه اجتمعوا إلبا

رأت روحُك الإسلام جرحاً فلم تطقْ

هواناً وصبراً فاعتلتْ تُعلنُ الحربا

وتلثمُ صابَ الدهرِ جذلى ولا ترى

جراحاً تنزُّ الآه قد ذربت ذربا

وسالت على جرح الهدى اعتصمتْ به

وصبَّت حياة القدس في فمه صبّا

اُفدِّيك يا من قبَّل السيفُ نَحرَه

ففاض وأضفى وانثنى يكرَهُ النصبا

ويا واحدا لا نِدَّ شاركَهُ المدى

وَوهْجَ الجهادِ الحرِّ والدمَ والدربا

اُنبِّيكَ ما زال الزمانُ مردّداً

صداكَ ملأتَ البحرَ والأُفقَ والرحبا

وأنَّ سياجاً من دماك وجمرِها

وأحمرِها ما زالَ متقَّداً شهبا

يحيطُ الطواغيتَ اللئام بلفحِهِ

فيصبُغُهمْ ذعراً ويملؤهم رعبا

٢٨٢

إلى الآن وقعُ اسم الحسين بسمعِهمْ

وأحرفِهِ ما زالَ مستصعباً صعبا

تصارعُ أحقابُ الدهورِ ونفسها

على أن ترى ندّاً يجدّده وثبا

يعيد لميدان الجهاد وميضَه

ويُذكى أواراً من سوى فيك ما شَبّا

ويوقظُ افكاراً عليها من الونى

تراكمُ أحقابٍ مخثّرةٍ حجبا

ويروي بسلسالِ النجيعِ عقيدةً

بغيرِ دماكَ الطهرِ لم تعرفِ الخصبا

ويصنعُ يا مولاي ما كنتَ صانعاً

ويهمي علينا من بسالتِه صوبا

ولكنه الدهرُ الذي عَقمتْ به

لياليهِ أن تأتي بمثلكَ أو تُحبى

ولو رام نِدّاً لاستشاركَ عنوةً

لأنَّك أولى مَنْ يخطّطُه لحبا

وأدرى به علما وأجلى به رؤىً

ولكنّه يأبى وإنّك لا تأبى

لقد خسر الدهرُ الرهانَ فلم يطق

محالٌ عليه اليوم ان كرّر الذنبا

وقد صدَقَ الحُسادُ أنَّ يزيدَهم

تكرّر في الأزمان ممتلئاً عُجبا

ونحن نقولُ السبطُ ما زال باقياً

هو السبطُ لا قولَ افتراءٍ ولا كذبا

عبد الكريم آل زرع

٢٨ / ١٠ / ١٤١٦ ه‍

تاروت ـ القطيف

٢٨٣

الشيخ عبد الكريم آل زرع

الشاعر آل زرع يختبر طاقاته التعبيريه والتوصيلية إختباراً مطوّلاً مع بحرٍ عصيّ وقافيةٍ غير مطواعة عاصت جهده ودأبه في أكثر من موضع ، فتراكيبه وأبنيته تُظهره لنا صائغاً يحاول أن يتفرّد في استخدامه للألفاظ والعبارات ، فيرفع عن كفيه أصابع الآخرين حين الكتابة ، وهذه المحاولة جادّةٌ وظاهرة عنده فقصيدته لها شخصيةٌ متميّزه لعلها لا تُحاكي أحداً ولا تُصغي لقول الآخرين الشعري بحيث تبدو بصمات الغير على قماش القصيدة أو إطارها ، وأمام آل زرع مهمة شاقّة لأن قصيدته طرقٌ متأنٍّ على حجرٍ صلد يحاول الشاعر أن يقنعنا أنه قد شكّل أو كوّن ما يمكن معرفته ، لكنّي أقول إنه متعجّلٌ في التعامل مع مادّته الشعرية ، فهو يطهو على نار هادئة لكنّه يُنزل قدره قبل النضج بفترة وجيزة ـ إن صحّ التشبيه ـ وهذا واضح عند تأمّل أبياته فهو صاحب بيتٍ شعري متماسك الصدر دائماً لكنه يتعب في عجز البيت غالباً فيصل القافية منهكاً ، فنلاحظ هذا الصدر المتجاوز للمألوف بصياغته المتفرّدة

يقضّي بها صحبُ الحسينِ دُجاهمُ ... دوياً ...

فما أجمل هذه المحاذاة الناقلة لحالة ( دويّ النحل ) لكن آل زرع تعجّل بإلصاق عبارة تشبيهية تُضرّ بجمال ما تقدّم وهي عبارة ( كمن يحصي بجارحة تعبى ) فما علاقة الإحصاء بالجارحة التعبى بحالة العبادة والخشوع التي يؤدّيها الأصحاب في اُفق الإنتظار ، ونلاحظ أيضاً هذا البيت :

٢٨٤

وقد قايضوا الارواح بالخلد والظما برشف فِرَنْدٍ ...

فينتقل من الرشف وهو شرب على رقّةٍ للسوائل من المشروبات إلى الاحتساء الذي هو شرب أيضا ولكنّه للأغذية الصلبة التي اُسيلت فتُشرب حارة عادةً ، فدخل البيت إلى منطقة القلق في المعاني بعبارة ( يحتسون بها الصهبا ) فكان الجمال في التصوّر والتأمل لكنّ الألفاظ خانت التعبير.

وكذلك الحال في أكثر من موضع حيث تنقلب الأعجاز على الصدور الجميلة فتخنقها فمثلاً :

على وجلٍ يخفقن من كلِ همسةٍ ...

فأنت الذي في العين يُذكي سناءها ...

ويا مبسماً يحكي شفاه محمد ...

من أين تأتّى لهذا الغرّيد الفذّ أن يكبو هذه الكبوة ؟

في نظري أن آل زرع إختار أن يتحدّى قالباً شعرياً من أعسر القوالب في إختياره بحر الطويل التام وفي إختياره لحرف الباء المفتوح كرويٍّ لقصيدته ، فبحر الطويل التام أطول بحور الشعر العربي قاطبة وخصوصاً في الأعجاز التي يستمرّ الشاعر في النظم عليها إلى نهاية القصيدة ، فعلى الشاعر أن يحشو فيه بكثرة لكي يصل إلى آخره ، فلم يستطع الأفذاذ من شعراء العربية أن يكتبوا به نتاجهم الأفضل منذ إمرئ القيس في :

ألا أنعم صباحاً أيّها الطلل البالي

وهل ينعمنْ من كان في العصر الخالي ؟

وهذا الحكم سائرٌ على القصيدة العربية المنظومة به كقاعدةٍ قابلة للإستثناء.

وإذا أضفنا أن آل زرع إختار حرف الباء المفتوح كرويّ لقافيته فستزداد

٢٨٥

الصعوبة ويتعسّر الطلب ، وللشاهد سنذكر قصيدتين كانتا على بحر الطويل التام وزناً وعلى حرف الباء المفتوح رويّاً لنثبت ـ على سبيل المثال ـ ما قدّمنا.

القصيدة الاولى للسيد حيدر الحلي ومطلعها :

لحى الله دهراً لو يميل إلى العتبى

لأوسعت بعد اليوم مسمعه عتبا

والقصيدة الثانية للسيد مصطفى جمال الدين بعنوان ( معلّم الأمة ) والتي مطلعها :

جذورُكَ في بغداد ضامئةٌ سغبى

وظلُّك في طهران يحتضن العربا

فالمتتبع لنتاج الشاعرَيْن يرى بوضوح أن هاتين القصيدتين ليستا من جيّد شعرهما مما يؤكّد ما ذهبنا اليه في أن الشاعر عبد الكريم آل زرع ركب المركب الصعب.

وعلى قسوة هذه الملاحظات فإنها تشد على يد الشاعر بإخلاص للتأني وعدم العجلة فإن في قصيدته المزيد من الموفقية ولعلي أختم بإبداء إعجابي بأكثر أبيات القصيدة توفيقاً وهو :

لأنَّ مراسيها هواكم ونوركم

واكسيرها فيض المودّة في القربى

٢٨٦

١٨ ـ للشيخ عبد المنعم الفرطوسي (١)

من الملحمة الحسينية

خطبة الإمام الحسين عليه‌السلام في أصحابه مساء يوم التاسع

ولقد قام خاطباً سبطُ طه

بعَد جمعِ الأصحابِ في كربلاءِ

قال أُثني علىٰ إله البرايا

شاكراً فضلَه بخيرِ ثَناءِ

وله في البلاء حَمدي وشُكري

مثل حَمدي له علىٰ السرَّاءِ

وله الحمدُ حين مَنّ علينا

كرماً في نبوّة الأنبياءِ

وحبانا التفقيه في الدينِ رشداً

بعدَ تعليمِنا كتابَ السَّماءِ

لم نكن مشركينَ حين اصطفانا

وهدىٰ للتوحيد خير اهتداءِ

بعد خَلق الأبصارِ والسمعِ منا

وبناء القلوب خير بناءِ

أُشهد اللهَ ما رأيتُ كصحبي

أبداً في الولا وصدقِ الوفاءِ

أهل بيتي ولا أبرّ واتقىٰ

منهمُ ما رأتهُ مقلةُ رائي

__________________

(١) هو : شاعر أهل البيت عليهم‌السلام العلامة الحجة الشيخ عبد المنعم بن الشيخ حسين الفرطوسي ، وفاضل محقق ، ولد في النجف الأشرف عام ١٣٣٥ ه‍ ، قرأ المقدمات على يد فريق من أرباب الفضيلة وأخذ الفقه والأصول على يد السيد محمد باقر الشخص الأحسائي ، ولازم أخيراً بحث آية الله العظمى المرحوم السيد الخوئي قدس‌سره ، ومن آثاره العلمية ١ ـ شرح كفاية الأصول ( الجزء الاول ) ٢ ـ شرح المكاسب ٣ ـ ديوان شعر ٤ ـ ملحمة أهل البيت ( وقد تناول فيها سيرة أهل البيت عليهم‌السلام ) توفي سنة ١٤٠٤ ه‍ ودفن في جوار أمير المؤمنين عليه‌السلام في النجف الأشرف راجع شُعراء الغري للخاقاني : ج ٦ ، ص ٣ ـ ٧.

٢٨٧

ولقد قال مُخبِراً لي بقتلي

سيّدُ الرُسلِ خَاتمُ السُفرَاءِ

سوف تمضي لكربلاءَ فَتغدو

بعدَ سَوق لها من الشُهداءِ

وأظنُّ اليومَ الذي فيه نلقىٰ

هؤلاءِ الخصومَ ليس بنائيِ

فَجُزيتم عنّي بخير جزاءٍ

في مواساتكم وأسنىٰ حباءِ

لكم قد أذِنتُ طُرّاً فسيروا

بافتراقٍ عنّي وطولِ تنائي

أبداً ما عليكم من ذمامٍ

وحقوقٍ تُقضىٰ بوقتِ الأداءِ

جَنَّ هذا الظلامُ فاتّخذوه

جملاً للنجا وأضفىٰ غشاءِ

وليصاحب مِنْ أهلِ بيتي منكم

كلُّ شخصٍ شخصاً بخيرِ إخاءِ

جواب بني هاشم له عليه‌السلام

فأجابَ الحسينَ بَعدَ قيامٍ

مِنْ بني هاشم أُسودُ الإباء

وأخوه العباسُ يقدمُ فيهم

وهُمُ خلفَه بخيرِ اقتداء

لمَ يا ابنَ الرسول نفعلُ هذا

ألنَبْقىٰ وأنتَ رَهنُ الفناء

لا أرانا الإلهُ بَعدكَ هذا

يا سليلَ النبيّ طولَ البقاء

ورنا قائلاً لآلِ عقيل

فاذهبوا أنتم بغيرِ جَفاء

قد كُفيتم في قَتل مُسلمَ عمّا

أنتم فيه أحسنَ الاكتفاء

فأجابوه كيف نذَهبُ عنكم

بسلامٍ في ساعةِ الابتلاء

أيُّ شيءٍ يقولُه الناسُ عنّا

ولهم ما نقولُ عندَ اللقاء

إن خذلنا أعمامَنا وتركنا

شيخَنا وهو خيرةُ الأصفياء

٢٨٨

دون ضربٍ ودونَ طعنٍ ورميٍ

معهم عندَ ساعةِ الالتقاء

أَمَا واللهِ إنّنا سوف نلقىٰ

ما تلاقونه بحدٍّ سَواء

ونواسيك بالنفوسِ ونغدو

لك عندَ الطعانِ خيرَ فداء

جواب الأنصار له عليه‌السلام

ولقد قال مُسلمٌ ليس نمضي

أبداً عنكم بيومِ البلاء (١)

وبأي الامورِ نُبدي اعتذاراً

حينَ نمضي عنكم لربِّ السماء

بعد تركِ الحقِّ العظيمِ علينا

لك من ربِّنا بدونِ قَضاء

ليس نمضي بدونِ طعنٍ وضربٍ

في صدور العِدا بأقوىٰ مضاء

ولو انّي فقدتُ كلَّ سلاحٍ

حينما ألتقي بأهلِ العداء

لقذفتُ العِدا لألقىٰ حِمامي

دونَكُم بالحجارةِ الصَمَّاء

وسعيدٌ أهابَ كالليث فيهم

صارخاً في بسالة وضراء (٢)

لا نُخلّي عنكم ونذهب حتىٰ

يعلمَ اللهُ بَعدَ حُسن البلاء

أنّنا كلّنا حفظنا غياباً

فيكم حقَّ خاتمِ الأنبياء

ولو انّي أُحْرِقْتُ بالنارِ حرقاً

أنا سبعينَ مرّة باقتفاء

بعد قتلٍ للسيف يتلوه قتلٌ

وأُذرّىٰ في إثرِها بالهواء

ليس أمضي عنكم وَما هي إلاّ

قتلةٌ عندَ ساعةِ الالتقاء

__________________

(١) هو مسلم بن عوسجة.

(٢) هوَ سعيد بن عبد الله الحنفي.

٢٨٩

بعدها نحنُ بالكرامة نَحظىٰ

وهي تبقىٰ لنا بدونِ انقضاء

ولقد قال لو قُتلتُ زهيرٌ

ثم اُحييتُ يا أبا الأزكياء (١)

هكذا ألفُ مرّة بي يجري

وأنا مُذعِنٌ بِحُكم القضاء

هان هذا عليَّ واللهُ يُنجي

مِنكُمُ فتيةً كشُهبِ السماء

وجميعُ الأصحابِ أَدْلَوا بقولٍ

يُشبهُ البعضُ بعضَهُ بجلاء

فجزاهم خَيراً وأثنىٰ عليهم

بعدَ صدْقِ الولا بخيرِ ثنَاء

موقف الحضرمي الصادق

وتراءىٰ الإخلاص بابن بشيرٍ

وهو في مثلِ حالهِ المترائي (٢)

حين أوحىٰ وكانَ بعضُ بنيه

أخبروه عن أسره وهو نائي

قائلاً ما وددتُ أنّيَ أبقىٰ

وهو يُمسي فِيهم من الأسراء

وأجابَ الحسينُ أنت بحلٍّ

من ذمامي فاذهب لبذلِ الفداء

قال واللهِ لَستُ أذهبُ عنكُم

حين يَغدو في شدّةٍ أو رخاء

قال هذي الثيابُ خُذها وارسل

عنك للريّ صنوَهُ في الإخاء

ساعياً بالفكاكِ وهي تُساوي

ألفُ دينار ساعةَ الإفتداء

وهو أوحىٰ لصحبه حين أبدىٰ

غامضَ السرِّ مِنْ ضميرِ الخَفاء

إنّكم تُقتلونَ حتىٰ رَضيعي

وأنا في غدٍ بغيرِ امتراء

__________________

(١) هو : زهير بن القين.

(٢) هو : محمد بن بشير الحضرمي.

٢٩٠

دونَ زين العبّادِ يَحفظ منّي

فيه نسلَ الأئمةِ الامُناء

فأجَابوهُ نَحمدُ اللهَ شُكراً

وامتناناً علىٰ عظيمِ العَطاء

إذ حبانا فضلَ الشهادةِ فوزاً

معَكُم في كرامةٍ وعُلاء

أفلا ترتضي بأنّا سنغدو

معَكُم في منازلِ السُعداء

الإمام الحسين عليه‌السلام يُري أصحابه منازلهم

في الجنّة

وأراهم وقد رأىٰ الصدقَ منهُم

في الموالاةِ بعد كشفِ الغطاء

ما لهم من منازلٍ قد أُعدت

في جنانِ الخلودِ يومَ الجزاء

ولعمري وليس ذا بعسيرٍ

أو غريبٍ من سيّدِ الشُهداء

فلقد أطْلعَ الكليمُ عليها

منهمُ كلَّ ساحرٍ بجلاء

حينما آمنوا بما جاء فيه

عند إبطال سحرهمْ والرياء

بعد خوفٍ من آل فرعون مُردٍ

لهم منذرٍ بسوءِ البلاء

فأراهُم منازلَ الخيرِ زُلفىً

وثواباً في جنّة الأتقياء

لازديادِ اليقينِ بالحقّ فيهم

بعد دحضٍ للشكّ والإفتراء

وثَباتاً منهم علىٰ الدينِ فيما

شَاهدوه مِن عالمَ الإرتقاء

ليلة الوداع

هذه ليلةُ الوداعِ وهذا

آخرُ العهدِ منهم باللّقاء

٢٩١

عَمّرُوها من التقىٰ فأماتوا

شهواتِ النفوسِ بالإحياء

يومَ باتوا علىٰ هدىٰ صلواتٍ

بين خوفٍ من ربهِم ورجاء

كدويِّ النحلِ ابتهالاً ونجوىً

لهُمُ في غياهبِ الظلماء

وهُمُ بينَ راكعٍ بخضوعٍ

وخشوعٍ وضارعٍ في دُعاء

يتهادَون والهدايا تحايا

بُشرياتٍ بغبطةٍ وَهناء

هذه الجنّةُ التي قد أُعدّتْ

تتراءىٰ لأُعين الشُهداء

لم تكن غيرَ ساعةٍ هي فصلٌ

بين أُخرىٰ الهنا ودُنيا الشقاء

ثم تحظىٰ بخيرِ فوزٍ ونعمىٰ

بعد مأوىٰ لجنّةِ الأتقياء

وبنو هاشمٍ نطاقُ عيونٍ

مستديرٌ علىٰ خيامِ النساء

وأبو الفضلِ فارسُ الجمع ترنو

مقلتاهُ لمقُلةِ الحوراء

الاستعداد للحرب

ولقد قاربوا الخيامَ جميعاً

دونَ بُعدٍ ما بينها وتنائي

واُحيطت في خَندق ملأوهُ

حطباً حولهَا بخيرِ امتلاء

ليشبّوا يومَ الوغىٰ فيه ناراً

فيكونَ القتالَ عند اللقاء

حينما يحملونَ فيه لوجهٍ

واحدٍ دونَ سائرِ الأنحاء

كلُّ هذا قد كان منهم بأمرٍ

أخذوه عن سيّدِ الشهداء

٢٩٢

كلام الحسين عليه‌السلام مع نافع

وتهادىٰ سبطُ النبوّةِ ليلاً

لاختبار الرُبىٰ بظلِّ الخفاء

حذراً أن تكونَ دون اختبارٍ

مكمَناً للعدا وخيرِ وقاء

ورأىٰ نافعٌ إمامَ البرايا

خارجاً في غياهبِ الظلماء

فاقتفىٰ إثرَهُ احتفاظاً عليه

خيفةً من غوائلِ الأعداء

فرنا قائلاً : أنافُع هذا

ما الذي جاء فيكَ بعدَ العشاء

قلتُ يا سيّدي خروجُك ليلاً

لثنايا مُعسكرِ الخُصَماء

قال فاسُلكْ ما بينَ تلك الروابي

وانجُ بالنفس من عظيم البلاء

هي واللهِ ليلةُ الوعد صدقاً

وهو وعدٌ خلوٌ من الافتراء

قلتُ واللهِ ما أنا عنكَ ماضٍ

قطّ حتىٰ أذوقَ كأسَ الفناء

فَرسي هَذهِ بألفٍ وسيفي

مثلُها سيّدي بحدٍّ سواء

لستُ أنأىٰ حتّىٰ يَكِلاّ بفريٍ

وبجريٍ منّي بأيّ تنائي

حبيب والأصحاب أمام خيمة النساء

وسمعتُ الحوراءَ حينَ توارىٰ

وأنا واقفٌ أمامَ الخباء

تَتناجىٰ معَ الحسينِ وقالت

وهي تبكي يا سيّدَ الشُهداء

هل تبيّنتَ وابتليتَ النوايا

من جميعِ الأصحابِ خيرَ ابتلاء

٢٩٣

إنّ طعمَ الحِمام مُرٌّ وأخشىٰ

أنا أن يُسلموك دونَ عناء

عندَ وقتِ اصطكاكِ كلّ سنانٍ

بسنانٍ في وثبةٍ شعواء

قال جرّبتُهم فلم أر إلاّ

أشوساً أقعساً شديدَ المضاء

وهُمُ يأنسونَ بالموت دوني

رغباً في مسرّةٍ وهناء

مثلما في محالب الأمِّ شوقاً

يأنسُ الطفلُ عند وقت الغذاء

قلت إي والإله وانصعتُ أسعىٰ

لحبيبٍ في حَسرةٍ ورثاء

قلتُ هذا جرىٰ فهلاّ تُنادي

كلَّ أصحابنا بخير نداء

قال سمعاً وطاعةً ودعاهُم

يا ليوثَ الهيجا بخيرِ دُعاء

فأجابوا لبّيكَ حينَ تجلَّوا

كأُسودِ الشرىٰ وشُهب السماء

قال ردّوا فلا سهرتُم عُيوناً

لبني هاشمٍ عيونُ العلاء

وحكىٰ للصحاب ما قد حكاهُ

نافعٌ عندَ ساعةِ الإبتداء

فأجابوه كلُّهم لو أَتَتنا

ساعةُ الإذنِ من أبي الأزكياء

لبدأناهُمُ جميعاً عُجالاً

نَحنُ بالحرب دونَ أيّ رخاء

قال سيروا معي وكان أمامَ الصَحب

يَسري عَدْواً وهُم من ورَاء

وهُمُ يَهرعونَ جنباً لجنبٍ

وَجثوا قرب خيمة الحوراء

وحبيبُ نادىٰ فنادوَاوا جميعاً

يا كريماتِ خاتم الأنبياء

هذهِ هذهِ السيوفُ المواضي

من جميعِ الغُلمان والأولياء

قد أصرّوا طُرّاً بأن يُغمدُوها

في نَحور العدا بيوم اللقاء

والعوالي آلوا بأن يركزُوها

دونَكُم في صدورِ أهل العِداء

سوفَ نفديكم بكلِّ نفيسٍ

ونفوسٍ مخلوقةٍ للفداء

٢٩٤

لن تُصابوا ونحنُ تَطرفُ فينا

مقلةٌ قطّ بالأذىٰ والعَناء

لا نرى منكُمُ قتيلاً وفينا

رَمقٌ مِن نوابض الأحياء

فتعالىٰ من النساء صُراخٌ

ضجّ منه بالنوحِ كلُّ فناء

دافعوا عن بناتِ طهِ وحاموا

غيرةً عن حرائرِ الزهراء

فعراهُم من النحيبِ دوّيٌ

طَبّقَ الأفقَ مِن رحيبِ الفضاء

الإمام الحسين والحوراء زينب عليهما‌السلام

وعليُّ السجادِ أنبأ فيها

بحديثٍ عن سيّد الشُهداء

قد رأيتُ الحسينَ يُصلحُ سَيفاً

بينَ كفيّهِ تحتَ ظل الخباء

وهو يَتلو يا دهرُ كم لك غدراً

من قتيلٍ مُضرّجٍ بالدماء

لك أُفٍّ علىٰ مرور الليالي

من خليلٍ مُولّعٍ بالجفاء

فَتفهّمتُ ما أرادَ بهذا

وتيقّنتُ في وقوع البلاء

وأتت عمّتي وقد سمعتْها

من أخيها تجُرّ ذيلَ الرداء

وهيَ تدعو بالثّكل ليت حياتي

قبل هذا قد اُعدمَتْ بالفناء

يا ثمال الباقين من أهل بيتي

ولمن غاب خيرة الخلفاء

هكذا يا أُخيُّ يُصنَعُ ظُلماً

بكَ منهم يا نبعةَ الأصفياء

قال لا يذهبنّ في حلمك الشيطانُ

طيشاً أُختاه دون ارعواء

وتَعزِّ استكانةَ واصطباراً

بعزاءِ الرحمن خيرَ عزاء

ليس يبقىٰ أهلُ السماء وأهلُ

الأرض يُفنونَ مثلَ أهل السماء

٢٩٥

ولنا اسوةٌ وخيرُ عزاءٍ

بالمنايا في خاتم الأنبياء

وبكى رقّةً عليها وحزناً

حينَ أهوت من غشية الإغـماء

قال فاربط أمناً علىٰ القلبِ منها

منكَ بالصبر يا إلهَ العطاء

وهو أوصىٰ إلىٰ العقيلة جهراً

ولزين العُبّادِ تحت الخفاء

فهي تعطي الأحكامَ للناس فتوىً

بعد أخذٍ من زينة الأولياء

كلُّ هذا ستراً عليه وحفظاً

لعليٍّ من أعيُنِ الرُقَباء

الإمام الحسين عليه‌السلام يرىٰ جده في الرُؤيا

ورأى جدَّه فأوحىٰ اليه

قد تدانىٰ ميعادُ يومِ اللقاء

سيكونُ الإفطارُ منك بحقٍّ

في غدٍ عندنا بوقت المساء

بك أهلُ الجنان زادوا ابتشاراً

والصفيحُ الأعلىٰ بأصفىٰ هناء (١)

ولقد جاء من إله البرايا

مَلَكٌ من أكارم الاُمناء

ليصون الدماءَ منكَ احتفاظاً

بين جنَبيْ قارورةٍ خضراء

__________________

(١) الصفيح : السماء.

٢٩٦

برير وعبد الرحمن

قال عبد الرحمن حُبّاً ونُصحاً

لبريرٍ بدون أيِّ جفاء (١)

حينما هازلَ ابتهاجاً وبُشراً

شخصَه في تَحبُّبٍ وإخاء

ليس هذي بساعةٍ يعتريها

باطلٌ دونَ ريبةٍ وامتراء

قال واللهِ ما ودَدتُ اشتياقاً

أبداً كلَّ باطلٍ ورياء

طولَ عُمري طفلاً وكهلاً وقومي

لي بهذا من خيرةِ الشُهداء

غير أنّي مُستبشرُ النفسِ فيما

سوف نلقاهُ من نعيم البقاء

ليس إلاّ بأن يَميلوا علينا

بالمواضي في ساعة الإلتقاء

ثم إنّا نعانقُ الحورَ فوزاً

بعدَ هذا في جَنّة السُعداء

وحبيبٌ عندَ التبسُّم أوحىٰ

ليزيدٍ هذا بحدٍ سواء (٢)

لو أتاني إذنُ الحسين لعجّلتُ

عليهم مِنْ ساعتي باللقاء (٣)

__________________

(١) عبد الرحمن الأنصاري وبرير بن خضير الهمداني.

(٢) يزيد بن الحصين الهمداني.

(٣) ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام للشيخ الفرطوسي : ج ٣ ص ٢٨٨ ـ ٢٩٦.

٢٩٧

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي

ليس هناك في التأريخ البشري ـ حسب علمنا ـ قصيدة أو منظومة أو ملحمة شعريّة نظمت من بحر واحد وقافية واحدة ورويٍّ واحد واجتاز طولها آلاف الأبيات مثل ( ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ) التي نظمها الشيخ عبد المنعم الفرطوسي ولا أدري إن كان ما يسمىٰ في الغرب بكتب الارقام القياسية قد وصلته هذه المعلومة أم إنها قد طويت جهلاً أو تبخيساً مثل كلّ الإنجازات الخارقة والأعمال الباهرة التي لا يُلتفت أليها عمداً وقصداً.

فهذه الملحمة ـ ان صحّ التعبير ـ ماراثون طويل بنفسٍ واحد وبخطوةٍ متكررة واحدة وبحركةٍ حثيثة واحدة ويكفي الشيخ الفرطوسي فخراً أنه أطالها وتجاوز في إطالتها ولو لم يكن له منها إلا هذا الطول لكفاه.

أما ما يخصّ ليلة عاشوراء فلدينا ١٥٧ بيتاً من الملحمة توثّق كلّ ما جرىٰ في هذه الليلة العظيمة علىٰ طريقة المنظومات مع حساب الفارق فالنظم هنا على بحر مركّب التفعيلات هو بحر الخفيف وليس بحر الرجز السهل النظم ـ فالعرب تسمّيه حمار الشعر وتسمّي من ينظم فيه راجزاً لا شاعراً تفريقاً ـ إضافة إلىٰ القافية الموحّدة في ملحة الفرطوسي وهي غير قوافي المزدوجات السهلة اليسيرة.

٢٩٨

١٩ ـ للشاعر الأستاذ عبود الأحمد النجفي (١)

الغد الدامي

في غدٍ يشرق الصباح مدمىً

وعلى الترب أنجمٌ مُطفآتُ

واشتعال الرمال يلهب أفقاً

أجّجته ضغائن وهناتُ

والمدى الرحب خلفه يتوارى

فيه غابت شموسه النيّراتُ

وجفون السماء تقطر دمعاً

سكبته عيونُها الباكياتُ

علّها تُطفئ اللظي بزلال

وعلىٰ الأرض أكبدٌ ظامئاتُ

أغلقت دونها الينابيع عذباً

بعدما شحّ بالرواء الفراتُ

أيبس الطفّ والقلوب جفافٌ

ونفوسٌ عن الرؤىٰ مجدباتُ

لن ترى غير مقتل الحق نصراً

فهي في صحوة الحياة سباتُ

غادرت يقظة الضمائر موتىٰ

فتعرّت أشلاؤها الصدئاتُ

رسمت لوحة الخطيئة بحراً

من جحيمٍ وعمقه الظلماتُ

أبحرت فيه والمتاه دليلٌ

مزّقتها عواصفٌ مهلكاتُ

__________________

(١) هو : الشاعر الأستاذ عبّود الأحمد النجفي ، ولد في النجف الاشرف سنة ١٣٦٧ ه‍ ، أكمل الدراسة الثانوية واتّجه بعدها للعمل الحر ، مارس كتابة الشعر الشعبي ثم الشعر العمودي والحر قبل الثمانينات ، عمل في مؤسسات تحقيقية ، وشارك في عدة ندوات أدبية وأمسيات شعرية ، أصدر مجموعة شعرية بعنوان ( اهتزاز الذاكرة ) عام ١٤١٧ ه‍.

٢٩٩

نبذت قبر عريها كلّ أرضٍ

فهي في رقدة العذاب شتاتُ

في غدٍ تملأ الشعاب صبايا

ونساءٌ فواجعٌ ثا كلاتُ

أثقلتها مصائبٌ ورزايا

غاب عنها أعزّةٌ وحماةُ

طاردتها شمس الظهيرة جوّاً

وقفارٌ تحت الخطى مسعراتُ

خلفها يُشعل الخيامَ ضرامٌ

حاط فيها توحّشٌ وقساةُ

وخيول الأعداء تطحن صدراً

وضلوعاً تهفو لها الكائناتُ

جسدٌ ضمَّ في ثناياهُ كوناً

يتسامى وفيضُهُ المكرماتُ

عانقَ الموتَ والشهادةَ شوقاً

فجنانٌ لشوقهِ عاشقاتُ

ووحيداً يُلقّن الحشدَ درساً

بثباتٍ يحارُ فيه الثباتُ

حوله من بنيه والصحب جمعٌ

جمعتهم مواقفٌ خالداتُ

وقفوا وقفةَ الإباء بحزمٍ

وسيوفٍ تهاب منها الكُماةُ

سطّروا صفحةَ الوفاء وساروا

بطريقٍ تهيم فيه الأباةُ

فإلى الخلد أنفسٌ تتعالى

وعلى الرمل أبدنٌ زاكياتُ

سال منها دمُ الحياة نديّاً

بربيع الجراح تَحيى المواتُ

* * *

في غدٍ يرحل الزمان مجّداً

وتباريُ أيامَه اللحظاتُ

وإلى الشام يستحثّ مسيراً

وإلى الشام تنتهي الخطواتُ

فعلى الرمح ثورةٌ رؤوسٌ

وعلى النوق أنفسٌ حائراتُ

٣٠٠