ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

الشيخ عبد الله الحسن

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

تمهيد

إن لهذه الليلة العظيمة أبعاداً مختلفةً ، وجوانبَ متعددةً ، وعِبَراً نافعةً ، في ميادين العقيدة والشريعة الإسلامية يجدُرُ الوقوفُ عليها ، واستكناه ما في سويعاتها العصيبة التي نزلت بساحة أهل بيت الوحي والتنزيل عليهم‌السلام ، وما أعقبها من أحداث مُنيَ بها الإسلام والمسلمون بأفدح ما عرفهُ تاريخ البشرية أجمع ، وكيف لا وقد اتفقت الكلمةُ علىٰ إبادة أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة ومهبط التنزيل.

إن ليلة عاشوراءَ الأليمة من سنة ( ٦١ ه‍ ) وإن كانت في حساب الليالي ليلةً واحدةً ذات سُويعات محدودة ، إلا أنها في حساب التاريخ شكلت مُنعطفاً حاداً في تاريخ الإسلام ، لم تشهده ليلةٌ من لياليه مُنذ فجره وإلىٰ يومنا هذا ، سوىٰ ليالٍ معدودة شاءَ اللهُ أن يجعلها شموساً في تاريخ الإسلام ، والتي منها ليلةُ مبيتِ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام علىٰ فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليلةٌ سَمعت فيها فاطمة الزهراء عليها‌السلام صوتَ بلال يُردّد : أشهد أن محمداً رسول الله ، وأبوها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ملبٍّ نداء الله ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (١).

وليلةٌ سمعت فيها عقيلةُ الهاشميين عليها‌السلام إخاها الحسين عليه‌السلام ينشد ويردد : يا دهر اُفٍ لك من خليل ...

__________________

(١) سورة الفجر : الآية ٢٧ و ٢٨.

١٠١

إنها ليلةُ عاشوراء التي أعاد صبحُهَا أحداثَ بدرٍ الكُبرىٰ ، مجسمةً حيّةً على رمال كربلاءَ ، حيثُ تصارعَ الكفرُ والإيمانُ ، وانهزم فيها السيف الجبان ، وانتصر الحقُّ بحدِّ اللسان وَكانت كلمةُ الله هي العليا ، وكلمة الكُفر هي السُفلىٰ.

صحيح أن أحداثَ ليلة عاشوراءَ قد غشيها الظلامُ ، إلا أن الحسين عليه‌السلام جعل من ذلك الليلِ المظُلم شُموساً وأقماراً تُضيءُ التِلال والآكام ، وتدلُ على الحق وتُعرّف أهله ، وتشخّصُ الباطلَ وتلعنُ اهله في كل عصر وجيل.

وإذا ما نظرنا بعين الاعتبار في هذه الليلة العظيمة أدركنا أهمية هذه الليلة وضرورةَ الإطلاع عليها وعلىٰ أبعادها العقائدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها ، ودراستها وفَهم ما أرادَه سيدُ الشهداء عليه‌السلام منها.

ولا ندعي استيعابَ جميع ما فيها من أبعاد ، فهي أوسع من أن تُحصر أو تُعدّ لأنها الحد الفاصلُ بين محض الإيمان ولبابه ، وبين مَكر الشيطان وأوليائه ، إلا أن ما لم يُدرك كُلّه لا يُترك جلّه ، وفي إدراك اليسير النافع من أبعاد هذه الليلة ومحاولة الاستفادة منها وتجسيدها علىٰ أرض الواقع هو ما نرجوه ومن الله التوفيق والعون.

١٠٢

١٠٣
١٠٤

أ ـ البعد الديني في موقف الحسين عليه‌السلام

إن ليلة عاشوراءَ وما ترتب عليها من آثار ومواقف جاءت نتيجة لموقف الحسين عليه‌السلام الشرعي ، وانطلاقاً من مبدئه السامي القائم علىٰ طلب الإصلاح في أُمة جده صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أوضح هذا قبل خروجه قائلاً :

وأني لم أخرُج أَشِراً ولا بَطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً ، وإِنما خَرجتُ لطِلبِ الإصلاح في اُمّة جَدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اُريدُ أَن آمرَ بالمعروف وأَنهىٰ عن المُنكر ، وأَسيرَ بسيرةِ جَدّي وَأبي علي بن أبي طالب ، فمن قَبلني بقَبول الحق فاللهُ أولى بالحق َ ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتىٰ يقضي اللهُ بيني وبين القوم وهو خيرُ الحاكمين (١).

وقد أكد علىٰ ذلك أيضاً في خطبته التي خطبها في ذي حُسْم (٢) قائلاً :

إنَّهُ قد نَزل بنا مِن الأمر ما قد تَرون ، وإِنَّ الدُّنيا قَدْ تَغيَّرت وتَنكّرَت وأَدبر معرُوفُها ، واستمرَّت جِدّاً ، فلم يَبقَ مِنْها إلا صُبابَةٌ كصُبابةِ الإناءِ ، وخَسيسُ عَيشٍ كالمرعى الوبيلِ ، أَلا تَرَونَ أن الحَقَّ لا يُعملُ بهِ ، وأن الباطل لا يُتناهىٰ عنهُ ، ليرغَبِ المؤْمنُ في لقاءِ اللهِ مُحقّاً ، فإنّي لا أَرى المَوتَ إلا سعادةً ، ولا الحياةَ مع الظالِمين إلا بَرماً (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٢٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ١٨٨ـ ١٨٩ ، مقتل الحسين للمقرم : ص ١٣٩.

(٢) قيل : إنه موضع بالكوفة أو جبل في طريق البر ، وفيه استقبل الحر الرياحي في ألف فارس.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٠٥ ، تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ) : ص ٢١٤ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٨١.

١٠٥

فقد أوضح عليه‌السلام في خُطبته أن الدنيا تغيرت عمّا هو المرجو من جريانها ، وأنكرت وأدبر معروفها ، بحيث صار المُنكر مَعروفاً والمعروف مُنكراً ، ولا بدَ من إصلاح ما فسد وتقويم ما اعوج ، وإن أدىٰ ذلك إلى الشهادة ، وهو ما عَبّر عنه بقوله عليه‌السلام : ليرغب المؤمنُ في لقاءِ الله مُحقاً.

ومما أشار إليه عليه‌السلام في خطبته هو أنه يرى الحياةَ مع الظالمين برماً ، ولِذا وَقف موقفاً صارماً وحازماً من بيعة يزيد بن معاوية.

وحيث أن الإمام الحسين عليه‌السلام إمامٌ معصومٌ مفترضُ الطاعة فيجب على الأمة الانقياد إليه والائتمار بأمره ، فما رآه عليه‌السلام ودعا إليه فهو الحق وما رفضه ونهىٰ عنه فهو الباطل ، فلما رأىٰ عليه‌السلام بأن وظيفته وتكليفه يحتمان عليه السير في إصلاح ما فسد في الأمة ، ليحق الحق ويبطل الباطل سار علىٰ ذلك وإن انتهى به الأمر إلى الشهادة ، وله بهذا أسوةٌ بالأنبياء عليهم‌السلام الذين واجهوا الصعاب في سبيل الله تعالىٰ ، حتى أُوذوا وشُرِّدوا ونُفوا عن أوطانهم ، ومنهُم من تَعرَّض للقتل ونُشر بالمنشار ، ومنهم من قُطع رأسُه في سبيله تعالىٰ كيحيىٰ بن زكريا عليه‌السلام وأُهدي رأسُه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

واختار يحيىٰ أن يُطاف برأسه

وله التأسي بالحسين يكونُ

ومنهم من أرادوا إحراقه بالنار لولا أن نجاه اللهُ كإبراهيم الخليل عليه‌السلام الذيِ سار علىٰ ضَوءِ ما يُمليِه عليه الواجب الديني ، فَكسّرَ أصنام المشركين فكانت النتيجة تعرضه للقتل ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) (١) وغيرهما من

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٦٨.

١٠٦

الأنبياء عليهم‌السلام وَلم يَمنعهم كلُ ذلك من السعي قُدماً تجاه وظائفهم الشرعية من أجل إصلاح الأمة ، ودعوتهم إلى الله تعالىٰ وإن أدىٰ ذلك إلى الشهادة.

فكذلك الحسين عليه‌السلام الذي لا يثنيه عن عزيمته أمرٌ ولا يلويه أحدٌ عن موقفه الديني ، سار حسبما أملاه عليه الواجب الشرعي والديني وإن تعرض هو مع أهل بيته للتشريد والقتل والإبادة ما دام ذلك بنظر الله وأمره تعالى.

وقد ذكر الحجة الشيخ التُستري أعلى الله مقامه : أن للحسين عليه‌السلام تكليفين : واقعي وظاهري :

أ ـ أما الواقعي الذي دعاه للإقدام على الموت ، وتعريض عيالهِ للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك ، فالوجه فيه : أن عتاة بني اُمية قد اعتقدوا أنهم على الحق ، وأن علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل ، حتىٰ جعلوا سبَّه من أجزاء صلاة الجمعة ، وبلغ الحالُ ببعضهم أنه نَسي اللعن في خُطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه ! وبنوا مسجداً سَمُوه « مسجدَ الذكر » فلو بايع الحسينُ يزيدَ وسَّلَّم الأمر إليه لم يبق من الحقِ أثرٌ ، فإن كثيراً من الناس يعتقدُ بأن المحالفة لبني أُمية دليلُ استصواب رأيهم وحسن سيرتهم.

وأما بعد محاربة الحسين لهُم ، وتعريض نفسه المقدسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم ، فقد بيَّن لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقيتهُ بالأمرِ وضَلال من بغى عليه.

ب ـ وأما التكليف الظاهري فلأَنه عليه‌السلام سعى في حِفظ نفسهِ وعياله بكل وجه ، فلم يتيسّر له وقد ضَيّقوا عليه الأقطار ، حتى كتب يزيد إلىٰ عامله على المدينة أن يقتله فيها ، فخرَج منها خائفاً يترقب ، فلاذَ بحرم الله الذي هو اَمْنُ الخائف وكهف

١٠٧

المستجير ، فجَدُّوا في إلقاءِ القبض عليه ، أو قتله غيلةً ولو وُجدَ مُتعلقاً بأستارِ الكعبة ، فالتزم بأن يجعل إحرامَهُ عُمرةً مُفردةً وترك التمتعَ بالحج ، فتوجه إلى الكوفة لأنهم كاتبوه وبايعوه وأكدوا المصيرَ إليهم لإنقاذهم من شرور الأمويين ، فألزمَهُ التكليف بحسب ظاهر الحال إلىٰ موافقتهم إتماماً للحجة عليهم ، لئلا يعتذروا يوم الحساب بأنهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين ، فاتهمهم بالشقاق ولم يغثهم مع أنه لو لم يرجع إليهم فإلى أين يتوجه ، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحُبت ، وهو معنى قوله لابن الحنفية : لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتىٰ يقتلوني (١) !

وقال لأبي هرّة ـ الأزدي ـ : إنَّ بني أُميةَ أخذُوا مالي فَصبرْت ، وَشتموا عِرضي فَصبرت ، وَطلبُوا دَمي فهرَبت (٢) (٣).

ولهذا كان عليه‌السلام يُؤكدُ للناس أنها وظيفةٌ شرعيةٌ لا محيص عنها ، وخصوصاً مع أُولئك الذين حاولوا صرفَهُ عن طريقه ، وتغيير وجهَة نظره ، فكان ينسبُ الأمر إلى الله تعالى وبأمرٍ من جده صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أوضح هذا إلىٰ أخيه محمد بن الحنفية حينما عزم على الخروج من مكة المكرمة ، وقد قال له أخوه ابن الحنفية : ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلىٰ ، ولكن بعدما فارقتك أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا حسين اخرج فان الله تعالىٰ شاءَ أن يراك قتيلاً.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٢٨٨ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ٢١٨ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٩٩.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٢٦ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٦٨ ، اللهوف : ص ٣٠.

(٣) مقتل الحسين للمقرم : ص ١٧٠ عن الخصائص الحسينية ص ٨٥.

١٠٨

فاسترجع محمد ، وحينما لم يعرف الوجه في حمل العيال معه وهو علىٰ مثل هذا الحال ، قال له الحسين عليه‌السلام : قد شاء الله تعالىٰ أن يراهنّ سبايا (١).

الأمر الذي يدل علىٰ أن هناك أمراً وتكليفاً شرعياً كما يُستفاد هذا أيضاً من كلمة « شاء الله » حيث قيل أنها المشيئة التشريعية التي يتعلق بها الأمر ، فاللهُ تعالىٰ يُريد أن يرى الحسين عليه‌السلام المُدافع والمُحامي عن الدين ، والمصلح لما فسد منه ، ولو أدىٰ ذلك إلى الشهادة والقتل في سبيله.

وقد أكَّد هذا أيضاً وذلك حينما اعترضه أحدهم يريد أن يثنيه عن عزمه ، قائلاً له : إني أُذكركَ اللهَ في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ !!

فقال له الحسين عليه‌السلام أفبالموت تخوفني ، وهل يَعدو بكمُ الخطبُ أن تَقتلوني ، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرةَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتىٰ

إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مُجرماً

فإن عشت لم أندم وإن متُ لم اُلَمْ

كفىٰ بك ذُلاً أن تعيش وتُرغما (٢)

وفي رواية أنه لما أكثروا عليه في ذلك قرأ عليه‌السلام بعد الأبيات المذكورة هذه الآية الشريفة : ( وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ) (٣) (٤).

__________________

(١) اللهوف : ص ٢٨ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٦٤ ، مقتل الحسين للمقرم : ص ١٦٧.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣٠٥ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج ١ ، ص ٢٣٢ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٢٥.

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٣٨.

(٤) تذكرة الخواص لابن الجوزي : ص ٢١٧ ، نفس المهموم : ص ١٧٠.

١٠٩

وفي رواية قال عليه‌السلام بعد الشعر : لَيسَ شَأني شأَنَ مَنْ يَخافُ الموتَ ، ما أهوَنَ الموت علىٰ سبيل نَيْلِ العزِّ وإحياءِ الحقِّ ، ليسَ الموتُ علىٰ سبيلِ العزِّ إلا حياةً خالدةً ، وليستِ الحياةُ مَعَ الذُّلِّ إلاَّ المَوتَ الَّذي لا حَياةَ مَعَهُ ، أفَبالمَوتِ تُخوّفُني ، هيهاتَ طاشَ سهْمُكَ وَخاب ظَنّك لستُ أخافُ الموتَ ، إنَّ نَفْسي لا بْكرٍ وَهِمَّتي لأَعلىٰ مِنْ أن أحمِل الضَّيم خَوفاً مِنَ الموتِ ، وهل تقدرُون علىٰ أكثر من قتلي ؟! مرحباً بالقتل في سبيلِ اللهِ ، ولكنَّكُم لا تقدرُون علىٰ هَدم مَجدي ومَحو عزّي وَشرَفي فإذاً لا اُبالي بالقتل (١).

يقول السيد حيدر ـ عليه الرحمة ـ :

كيف يَلوي على الدنيَّة جيداً

لسوى الله مالواهُ الخضوعُ

ولديه جأشٌ أردُّ من الدُرع

لظمأى القنا وَهُنَّ شُروعُ

وبه يَرجعُ الحفاظُ لصدرٍ

ضاقتِ الأرضُ وهي فيه تَضيعُ

فأبىَ أن يعيش إلا عزيزاً

أو تجلى الكفاحُ وهو صَريعُ (٤)

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ١١ ، ص ٦٠١ ، أعيان الشيعة : ج ١ ، ص ٥٨١ ، موسوعة كلمات الإمام الحسين : ص ٣٦٠.

(٤) ديوان السيد حيدر الحلي : ج ١ ص ٨٧.

١١٠

ب ـ البعد الديني في موقف أصحابه عليه‌السلام

وإذا ما تتبّعنا الدوافع التي دفعت بأنصار الحسين عليه‌السلام للوقوف إلىٰ جانبه ونصرته إلىٰ آخر رمق في حياتهم ، وجدناها دوافع انبثقت من الشعور بالمسؤولية الشرعية ، والتي تأخذ بأعناقهم جميعاً وتلزمهم بالتضحية معه مهما كلفهم الأمر.

وقد أفصحت مواقفهم في هذه الليلة عن نواياهم الصادقة النبيلة ، وعلىٰ طهارة نفوسهم فارتقوا بذلك إلىٰ أرقى الكمالات النفسية ، إذ لم يمازح أهدافهم تلك أيُ نوعٍ من الأهداف الشخصيةِ ، أو المنافع المادية ، أو المطامع الدنيوية ، أو حُبُ الجاه والشهرة.

بل كانت غايتهم رضى الله تعالىٰ ونصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمفي شَخص الحسين عليه‌السلام فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالىٰ : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) (١).

وإذا أمعنا النظر في أفعالهم وأقوالهم في هذه الليلة ، وجدناها تُفصحُ عن دوافعهم الإيمانية وشعورهم بالمسؤولية الشرعية التي لا مناص من الالتزام بها ، وهذا ما كان واضحاً جلياً في كلماتهم التي عاهدوا فيها الحسين عليه‌السلام على الشهادة حينما أذن لهم بالانصراف ، فمن تلك الكلمات ما يلي :

__________________

(١) سورة الكهف : الآية ١٣ و ١٤.

١١١

١ ـ كلمةُ مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها : أنحن نخلّي عنكَ ولمَّا نَعذرُ إلى الله في أداء حقكِ.

وهذا صريح في أن هذا الأمر واجب وفرض لا مناص منه ولِذا ابتدأ كلمته هذه بالاستفهام الإنكاري قائلاً : أنحن نخلي عنك ؟! موضحاً أن الإعذار إلى الله تعالى لا يتُم إلا بنصر الحسين عليه‌السلام والوقوف معه وأنه ملزم بالإعذار تجاه الله تعالىٰ وإنها مسؤولية شرعية ، معنى هذا أنه لو تخلىٰ عنها هو وأصحابه فلا يكونون معذورين عند الله تعالىٰ ، وجاءَ في رواية الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ بدل قوله : « ولمَّا نعذَر إلى الله » وبمَ نعتذر إلى الله في أداء حقك ، فبعدَ الاعتراف والإقرار بأن للحسين عليه‌السلام حقاً عليهم معنىٰ هذا أنهم إذا لم يَنصرُوه ولم يؤُدوا حقَه كانُوا مسؤولين أمام الله تعالىٰ وليس لهم حينئذٍ حجةٌ أمامَه يعتذرونَ بها.

٢ ـ كلمةُ سعد بن عبد الله والتي يقول فيها : والله لا نُخليك حتى يعلمَ اللهُ أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك (١).

وهذه صريحة أيضاً كسابقتها في الدلالة في أن الأمر لا يَعدو كونَه تكليفاً شرعياً يتضمن الالتزام بحفظ غيبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والتي لا يختلف فيها اثنان ـ والمتمثلة في شخص الحسين عليه‌السلام الذي هو امتدادٌ لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا ما أشار إليه أيضاً زهير بن القين في كلمته التي يقول فيها : فلما رأيتُه ذَكرتُ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه (٢).

٣ ـ كلمة جماعة من أصحابه والتي يقولون فيها :فإذا نحن قُتلنا كُنا وَفينا

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٨ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٣١.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٦ ، وقعة الطف لأبي مخنف : ص ١٩٤.

١١٢

وقضينا ما علينا (١).

وهذه الكلمة تفصح أيضاً عن إيمانهم العميق بلزوم مؤازرته ، وشعورهم بالمسؤولية الشرعية التي تلزمهم بالدفاع عنه الذي هو حقّ للحسين عليه‌السلام عليهم كالدين الشرعي والذي لا يتحقق قضاؤه إلا بالقتل معه فإذا تم ذلك قضوا ما عليهم من الالتزام ووفوا بما عاهدوه عليه.

إلى غير ذلك من كلماتهم والتي أفصحوا فيها عن إحساسهم وشعورهم بالمسؤولية الشرعية الدينية ، والجري نحوها مهما كلف الأمر ، ولذا عاهدوه على الشهادة معه في سبيل الله تعالىٰ.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٨.

١١٣

ج ـ الرضا والتسليم لله تعالىٰ.

وهو : ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً ، وَقولاً وَفعلاً ، وهو : من ثمراتِ المحبة ولوازمها ، إذ المُحب يَستحسنُ كُلمَا يصدر عن محبوبه ، وصاحبُ الرضا يستوي عندَهُ الفقرُ والغنىٰ ، والراحةُ والعناء ، والعزُ والذل ، والصحةُ والمرض ، والموتُ والحياة ، ولا يُرجحُ بعضَها على بعض ، ولا يثقلُ شيءُ منها علىٰ طَبعه ، إذ يرىٰ صُدورَ الكل من الله سبحانه ، وقد رسخ حُبه في قلبه ، بحيث يُحب افعالَه ، ويَرجُح علىٰ مُراده مُرادُه تعالىٰ ، فيرضىٰ لكل ما يكون ويرد.

وروي : أن واحداً من أرباب الرضا عمَّر سبعين سنةً ، ولم يَقل في هذه المُدة لشيءٍ كان : ليتَهُ لم يكن ، ولا لشيء لم يكن : ليته كان.

وقيل لبعضهم : ما وجَدتَ من آثار الرضا في نفسك ؟

فقال : ما فيَّ رائحةٌ من الرضا ! ومع ذلك لو جعلني اللهُ جسراً علىٰ جهنَّم ، وعبرَ عليه الأولون والآخرون من الخلائق ودخلوا الجنة ، ثم يلقوني في النار ، وملأ بي جهنَّم ، لأحببت ذلك من حُكمه ، ورضيتُ به من قسمه ، ولم يختلج ببالي أنه لِمَ كان كذا ، وليت لم يكن كذا ، ولِمَ هذا حظي وذاك حظهم.

وصاحبُ الرضا أبداً في رَوحٍ وراحةٍ ، وسُرورٍ وبهجةٍ ، لأنهُ يشاهدُ كلَ شيءٍ بعين الرضا ، وينظرُ في كلِ شيء إلىٰ نور الرحمة الإلهية ، وسر الحكمة الأزلية ، فكأن كلَ شيء حصل علىٰ وفق مُراده وهواه.

وفائدةُ الرضا ، عاجلاً ، فراغُ القلبِ للعبادة والراحة من الهموم ، وآجلاً ،

١١٤

رضوان الله والنجاة من غضبه تعالىٰ.

والرضا بالقضاء أفضل مقاماتِ الدين ، وأشرف منازل المقربين ، وهو بابُ الله الأعظم ، ومن دخلهُ دخلَ الجنة ، قال الله سبحانه : ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه سأل طائفةً من أصحابه : ما أنتم ؟ فقالوا : مؤمنون. فقال : ما علامةُ إيمانكم ؟ فقالوا : نَصبرُ على البلاءِ ، ونشكُر عند الرخاء ، ونرضىٰ بمواقع القضاء. فقال : مؤمنون ورب الكعبة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أحب الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه (٢).

ذلك هو الرضا والتسليم لله تعالىٰ في قضاءه وقدره من خير أو شر ، والذي هو من سمات وصفات الأولياء وأهل الإيمان والذين ينظرون إليه تعالىٰ ـ بعين الرضا وكأنه حصل وفق مرادهم.

وهذا الجانب الإيماني العظيم ظهر وبشكل بارز وواضح في سلوك أهل البيت عليهم‌السلام كما نراه واضحاً في سلوك سيد الشهداء الحسين عليه‌السلام والذي ما انَفك عنه في كُل أحواله وأفعاله وأقواله ، ولم يظهر عليه أيُ أثرٍ خلاف ذلك.

بل كان في أعلىٰ درجات الرضا والتسليم للخالق تعالىٰ ، فكانت حكمتهُ في الحياة : رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبرُ علىٰ بلائه ، ويوفّينا أجور الصابرين (٣).

وقد روي انهعليه‌السلام فَقدَ له ولداً في حياته فلم يُرَ عليه أثراً للكآبة فقيل له في

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١٢٢.

(٢) جامع السعادات للنراقي : ج ٣ ، ص ٢٠٢.

(٣) اللهوف : ص ٢٦ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٦٧.

١١٥

ذلك ؟!

فقال عليه‌السلام : إنّا أهل بيتٍ نسأل الله فيعطينا ، فإذا أراد ما نكره فيما نحب رضينا (١).

وتشهدُ له بهذا أيضاً المواقف المريرة ، ـ يوم العاشر ـ والتي يقول فيها : وقوله أيضاً عند اشتداد المصائب عليه وذلك لما قُتل رضيعه : هَوّنَ عليِّ ما نَزَل بي أنَّهُ بعين الله (٢).

وقوله عليه‌السلام لمّا اُصيب بسهم : اللهم إنّ هذا فيك قليل (٣).

يقول الشيخ الوائلي :

ومشت في شفاهك الغر نجوى

نمَّ عنها التحميد والتهليلُ

لك عتبي يا رب ان كان يرضيك

فهذا إلى رضاك قليلُ

وقال آخر على لسان حال الحسين عليه‌السلام :

تركت الخلق طراً في هواكا

وأيتمت العيال كي اراكا

فلو قطّعتني بالحب إرباً

لما مال الفؤاد إلىٰ سواكا

فكان ـ صلوات الله عليه ـ في أعلى درجات الإيمان والذي من إشعاعه الرضا والتسليم لأمر الله تعالىٰ وقضائه.

وأما ظهور هذا الأمر في هذه الليلة العظيمة ، فأمرٌ واضح في سلوكه عليه‌السلام ، مع ما هو فيه من البلاء العظيم الذي يحدق به وبأهله وأصحابه ، فكان كلما اشتد عليه

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام للقرشي : ج ١ ، ص ١٢٣.

(٢) اللهوف لابن طاووس : ص ٥٠ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٤٦.

(٣) حياة الإمام الحسين للقرشي : ج ٣ ، ص ٢٨٤.

١١٦

الأمرُ يكثر وقاره ، ويزيد اطمئنانه ، ويشرقُ لونه ، وتهدأُ جوارحه ، وتسكن نفسه (١) لأنه ـ صلوات الله عليه ـ يشاهد كل ما يجري عليه وعلى أهل بيته بعين الرضا والتسليم.

وكيف لا تطمئن نفسه وهو ينظرُ إلى في كل شيء بنور الرحمة الإلهية ، ولذا اختص بنداءٍ خاص (٢) بقوله تعالىٰ : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ) واختص برضاه عن ربّه ورضاه عنه بقوله : ( رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) ، واختص بعبودية خاصة وجنة خاصة منسوبة إلى الله بقوله : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي

__________________

(١) جاء في معاني الأخبار للصدوق ـ عليه الرحمة ـ ص ٢٨٨ باب معنىٰ الموت ( ونقله في بحار الأنوار أيضاً : ج ٤٤ ، ص ٢٩٧ ) : عن أبي جعفر الثاني ، عن أبائه عليهم‌السلام قال : قال علي بن الحسين عليه‌السلام : لمَّا اشتدَّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لأنهم كلما اشتدُ الأمر تغيرت ألوانُهم ، وارتعدت فرائصُهم ووجلت قلوبُهم ، وكان الحسين عليه‌السلام وبعضُ مَنْ معه من خصائصه تشرقُ ألوانُهم ، وتهدأُ جوارحُهم ، وتسكن نفوسُهم.

فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يُبالي بالموت !! فقال لهم الحسين عليه‌السلام : صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلىٰ سجن وعذاب ، إنَّ أبي حدثني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. والموت جسر هؤلاء إلىٰ جنانهم ، وجسر هؤلاء إلىٰ جحيمهم ، ما كذبت ولا كُذبت.

(٢) روي عن دارم بن فرقد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إقرءوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فإنها سورة الحسين بن علي عليهما‌السلام وارغبوا فيها رحمكم الله تعالى ، فقال له أبو اُسامة وكان حاضرَ المجلس : وكيف صارت هذه السورة للحسين عليه‌السلام خاصّة ؟ فقال : ألا تسمع إلى قوله تعالى ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ) الآية ، إنّما يعني الحسين بن علي عليهما‌السلام فهو ذو النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة ، وأصحابه من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هم الراضون عن الله يوم القيامة ، وهو راض عنهم. بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٢١٨.

١١٧

وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) (٢).

ومن كلمات الرضا التي ظهرت في كلماته الشريفة في هذه الليلة قوله عليه‌السلام في ضمن أبيات أنشدها مراراً :

وإنما الأمر إلى الجليل

وكلُ حيٍّ سالكٌ سبيلي

قالها بكل ثقة واطمئنان مذكّراً بأنّ هذا سبيل كلّ إنسان ، وأن الأمر ينتهي إليه تعالى فلا رادَّ لقضائه ولا دافعَ لحكمته ـ عزّوجّل ـ.

ولما خطب في أصحابه هذه الليلة ابتدأها بكلماتِ الرضاء والتسليم لله تعالىٰ وبالثناء عليه والشكر له تعالىٰ قائلاً : أُثني على الله تبارك وتعالىٰ أحسنَ الثناء وأحمدَهُ على السّراء والضراء ، اللهم إني أحمَدُك علىٰ أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين (٣).

إنه بِحق أعظم موقف في مقام الشكرِ والامتنان لله تعالىٰ علىٰ ما أعطاه ومنحهُ من نِعَمٍ ، كما يثني عليه ويحمده على السراء والضراء الأمر الذي يدل على تسليمه لأمر الله ـ تعالى ـ ورضاه بقضائه في جميع الأحوال.

ومنها أيضاً قوله عليه‌السلام : في موقف مع أصحابه وأهل بيته عليهم‌السلام : فإنَّ اللهَ لا يُخليني من حُسنِ نظره كعادته في أسلافنا الطيبين (٤) ، والذي يدل على ارتباطه

__________________

(١) سورة الفجر : الآية ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) الخصائص الحسينية للتستري : ص ٥٤.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٧ ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص ٢٣١.

(٤) أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٢٢٣.

١١٨

الشديد بالله ، وثقته العظيمة به وأنّ ما يجري عليه هو بنظره تعالى.

ومن كلماته عليه‌السلام في ذلك لهم : فاعلموا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفة لعباده باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خصَّني مع مَنْ مضىٰ من أهلي الذين أنا آخرُهُم بقاءً في الدنيا من الكرامات ، بما سهّل معها على احتمال الكريهات ، فإن لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدنيا حُلوها مرّ ، ومرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الآخرة ، والفائز مَنْ فازَ فيها والشقي من يشقى فيها (١).

إذ أخذ ـ صلوات الله عليه ـ يرغبهم في احتمال المكاره ، وأنه تعالىٰ يَهبُ المنازلَ باحتمالها وأنه يحتملُها كرامةً لله ـ تعالىٰ ـ ، كما أخذَ يُنَبهُهم من أمر الدنيا ، ويبين حقيقتها فالإنسان فيها إمّا أن يُسعد أو يشقى ، فسعادته هي سيرهُ وفقاً لما أراده الله عزوجل وسعياً لتحقيق الأهداف التي من أجلها خُلق ووجد ، وشقاؤه من اتباع شهوات الدنيا والتعلق بحبائلها والإنشغال بزخارفها.

وأوضح عليه‌السلام أن مرارة الدنيا وصعوباتها حين تكون في طريق الله سبحانه تتسم في نظر المؤمن بالحلاوة والجمال ، فالمؤمن مُحب لله ويستحسن كلما يجري عليه من أجل محبوبه.

__________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٢٢٣.

١١٩

د ـ الإستبشار بالشهادة

ليس من المُعتاد أن يفرح الإنسان ويبتهج وهو يعلم بدنو أجله وانقطاع حبل حياته من الدنيا ، فتراه إذا ما علم بدنو أجله ، اعتراه الخوف والوجل والاضطراب ، ولربما مات بسبب خوفه من الموت ، إذ أن كل إنسان يحب الحياة والبقاءَ ويتشاءم من الموت.

ولعلك تعجب إذا ما سمعت بأن أصحاب هذه الليلة باتوا ليلتهم وهم أشدُ الناس فرحاً ، وأبهجهم حالةً ، وأربطهم جأشاً ، مستبشرين بما أقدموا عليه وبما يصيرون إليه وقد أخذ يداعبُ بعضهم بعضاً ، مع علمهم بدنو آجالهم ، وأن أجسادهم سوف تصبح عن قريب طعمةً للسيوف ونهبةً للأسنة. ومرمىً للسهام.

ولعله لم تمر عليهم ليلةٌ بأسعد منها ، حتى بدت علىٰ وجوههم الطلاقة والإشراق والطمأنينة لا يستشعرون بخوف ولا وجل ، وذلك أنهم وجدوا أنفسهم يؤدون وظائفهم الشرعية تجاه سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ سوف يحوزون علىٰ أعظم وأقدس شهادة عرفها تاريخ البشرية ، ثم ذلك النعيمُ الدائم الذي لا اضمحلال فيه ، فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

__________________

(١) سورة الأحقاف الآية : ١٣ و ١٤.

١٢٠