الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

الملائكة ، بالإضافة إلى شهادة : أعضاء بدن الإنسان ، الليل والنهار .. إلخ .. و «المشهود» : النّاس أو أعمالهم.

وبهذا ، يدغم الكثير من التّفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوما واسعا للآية المباركة.

ويخرج عن هذا الإدغام تلك التّفاسير التي تشير إلى : يوم الجمعة ، يوم عرفة ويوم الأضحى.

وإن كانت الأيّام المذكورة ستشهد على أعمال الإنسان يوم الحشر ، بل وكلّ يوم يجتمع فيه المسلمون يكاد يكون صورة مصغرة للحشر على رقعة الحياة الدنيا.

ومع كلّ ما ذكر تتّضح صلة التآلف ما بين التّفاسير المذكورة أعلاه ، حيث من الممكن جمعها تحت مظلة شمول مفهوم الآية ، وهذا بحد ذاته يعكس لنا عظمة القرآن الكريم باحتوائه على هكذا مفاهيم واصطلاحات .. ف «الشاهد» ينطبق على كلّ من وما يشهد ، وكذا «المشهود» ينطبق على كلّ من وما يشهد عليه ، وما ورودهما بصيغة النكرة إلّا لتعظيمهما ، وهو ما ينعكس على كلّ التّفاسير.

وثمّة علاقة خاصة بين الأقسام الأربع وبين ما اقسم به .. فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق ، و «اليوم الموعود» يوم حساب وكتاب دقيق أيضا ، و «شاهد ومشهود» أيضا وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان ، وكلّ ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين ، عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة ، ولإعلامهم بأن كلّ ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّا وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي ، فسيشهد على أعمال النّاس الملائكة الموكلون لهذا الأمر وأعضاء بدن ذات الإنسان وكذا الليل والنهار و.. و.. و.. ، وستكون الشهادة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنين إلّا من أتّى

٨١

الله بقلب سليم! (١).

وبعد هذه الأقسام الأربع ، تقول الآية التالية : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ).

والمقصود هم الظالمين لا من القى في النّار ، فالجملة انشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم.

والأخدود مليء بالنّار الملتهبة : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ).

وكان الظالمون جالسون على حافة الأخدود يشاهدون المعذبين فيها : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ).

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ).

«الأخدود» : ـ على قول الراغب في مفرداته ـ : شقّ في الأرض مستطيل غائص ، والجمع أخاديد ، وأصل ذلك من «خدّ» الإنسان ، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثمّ اطلق مجازا على الخنادق والحفر في الأرض ، ثمّ صار معنى حقيقيا لها.

أمّا من هم الذين عذّبوا المؤمنين؟ ومتى؟ فللمفسّرين وأرباب التواريخ آراء مختلفة ، سنستعرضها إنشاء الله في بحوث قادمة.

ولكنّ القدر المسلم به ، إنّهم حفروا خندقا عظيما ووجّروه بالنيران ، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحدا واحدا بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر ، ومن رفض القي بين ألسنة النيران حيا ليذهب إلى ربّه صابرا محتسبا!

«الوقود» : ما يجعل للاشتعال ، و «ذات الوقود» : إشارة الى كثرة ما فيها من الوقود ، وشدّة اشتعالها ، فالنّار لا تخلو من وقود ، ولعل ما قيل من أن «ذات الوقود» بمعنى ذات اللهب الشديد ، يعود للسبب المذكور ، وليس كما ذهب به البعض من كون «الوقود» يطلق على معنيين : «الحطب» وعلى «شعلة النّار» أيضا

__________________

(١) وعليه ، فجواب القسم محذوف ويدل عليه قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أو : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). والتقدير : (اقسم بهذه الأمور إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات معذبون ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود).

٨٢

وتأسفوا لعدم التفات المفسّرين لهذه النكتة!

والآيتان : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) ، تشيران إلى ذلك الجمع من النّاس الذين حضروا الواقعة ، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (سادية)!

وقيل : الإشارة إلى المأمورين بتنفيذ التهديد ، وإجبار المؤمنين على ترك إيمانهم.

وقيل أيضا : إنّهم كانوا فريقين ، فريق يباشر التعذيب ، وآخر حضر للمشاهدة ، وقد أشرك الجميع في هذا العمل لرضايتهم به.

وهذه صورة طبيعية الوقوع ، حيث هناك من يأمر (الرؤساء) ، ومن ينفذ (المرؤسون) ، وثمّة المشاهدون من غير الآمر والمأمور.

وقيل أيضا : ثمّة فريق منهم كان مكلفا بمراقبة عملية التنفيذ لرفع تقاريرهم إلى السلطان عن كيفية أداء المأمورين لواجباتهم السلطانية.

ولا يبعد وجود كلّ ما ذكر من أصناف في ذلك المشهد المروع ، كما وبالإمكان الجمع بين كلّ الآراء المطروحة.

ومجيء فعل جملة «يفعلون» بصيغة المضارع ، للإشارة إلى أنّ ذلك العمل قد استغرق وقتا طويلا ، وما كان بالحدث السريع العابر.

وتقول الآية التالية : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

نعم ، فجرمهم الوحيد إنّهم آمنوا بالله الواحد الأحد دون تلك الأصنام الفاقدة للعقل والإحساس.

«نقموا» : من (النقم) ـ على زنة قلم ـ وهو الإنكار باللسان أو بالعقوبة ، ومنه (الانتقام).

هكذا عقوبة لا تجري إلّا على ذنب عظيم ، وأين الإيمان بالله العزيز الحميد من الذنب؟! إنّه الانحطاط الكبير الذي وصل إليه أولئك القوم ، قد صوّر لهم أعزّ

٨٣

وأفضل ما ينبغي للإنسان أن يفتخر به (الإيمان بالله) على أنّه جرم كبير وذنب لا يغتفر! ...

وينقل لنا القرآن في الآية (٥٩) من سورة المائدة شبيه هذه الحادثة ، حينما قال السحرة الذين آمنوا بموسى عليه‌السلام لفرعون عند ما توعدهم بالعقاب المؤلم ، فقالوا له : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا).

وذكر «العزيز الحميد» جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة ، واحتجاج على أولئك الكفرة ، إذ كيف يكون الإيمان بالله جرم وذنب؟! وهو أيضا ، تهديد لهم ، بأن يأخذهم الله العزيز الحميد جراء ما فعلوا ، أخذ عزيز مقتدر.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن صفتين أخريين للعزيز الحميد : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

فالصفات الأربعة المذكورة ، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا ، فالعزيز والحميد .. ذو الكمال المطلق ، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كلّ شيء .. أحقّ أن يعبد وحده دون غيره ، لا شريك له.

إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين ، بحضور الله سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان ، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوّة.

ومن جهة اخرى تهديد للكفار ، وإفهامهم بأن عدم منع ارتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة ، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه ، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم ، امتحانا لهم ، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا ، وما للظالمين إلّا العذاب المهين.

* * *

٨٤

بحثان

١ ـ من هم أصحاب الأخدود؟

قلنا إنّ «الأخدود» هو الشق العظيم في الأرض ، أو الخندق .. وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار نارا ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال.

ولكن .. متى حدث ذلك؟ في أيّ قوم؟ وهل حدث مرّة واحدة أم لمرّات؟ في منطقة أم مناطق؟

جرى بين المفسّرين والمؤرخين مخاض طويل بخصوص الإجابة عن هذه الأسئلة.

والمشهور : إنّ الآية قد اشارت إلى قصة (ذو نواس) ، وهو آخر ملوك «حمير» (١) في أرض «اليمن».

وكان «ذو نواس» قد تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه (يوسف) ، وأقام على ذلك حينا من الدهر ، ثمّ أخبر أنّ «بنجران» (شمال اليمن) بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى عليه‌السلام وحكم الإنجيل ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها ، فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وحرص الحرص كلّه ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل ، فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النّار ، فمنهم من احرق بالنّار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة ، فبلغ عدد من قتل واحرق بالنّار عشرين ألفا. (٢)

وأضاف بعض آخر : إنّ رجلا من بني نصارى نجران تمكّن من الهرب ،

__________________

(١) حمير : إحدى قبائل اليمن المعروفة.

(٢) تفسير علي بن ابراهيم القمي ، ج ٢ ، ص ٤١٤.

٨٥

فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر.

فقال قيصر : إن أرضكم بعيدة ، ولكنّي سأكتب كتابا إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم.

ثمّ كتب رسالته إلى ملك الحبشة ، وطلب منه الانتقام لدماء المسيحيين التي أريقت في نجران ، فلمّا قرأ الرسالة تأثّر جدّا ، وعقد العزم على الانتقام لدماء شهداء نجران.

فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس) ، فهزمته بعد معركة طاحنة ، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة. (١)

وذكر بعض المفسّرين : إنّ طول ذلك الخندق كان أربعين ذراعا ، وعرضه اثني عشر ذراع ، (وكلّ ذراع يقرب من نصف متر ، وأحيانا يقصد به ما يقرب من متر كامل).

وقيل : إنّها كانت سبعة أخاديد ، وكلّ منها بالحجم الذي ذكرناه. (٢)

وذكرت القصّة في كتب تاريخية وتفسيرية كثيرة ، بتفاصيل متفاوتة ، منها : ما ذكره المفسّر الكبير الطبرسي في (مجمع البيان) ، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره ، والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) ، والآلوسي في (روح البيان) ، والقرطبي في تفسيره ، وكذلك ابن هشام في الجزء الأوّل من كتاب (السيرة) ص ٣٥ .. وغيرهم كذلك.

وقد تبيّن ممّا ذكرناه بأن العذاب الإلهي قد أصاب أولئك الذين قاموا بتعذيب المؤمنين ، وانتقم منهم في دنياهم جراء ما هدروا من دماء زكية بريئة ، وأنّ عذاب نار الآخرة لفي انتظارهم.

وأوّل من أوجد المحارق البشرية في التاريخ هم اليهود ، وسرت هذه

__________________

(١) قصص القرآن ، للبلاغي ، ص ٢٨٨.

(٢) تفسير روح المعاني ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، عند تفسير الآيات المذكورة.

٨٦

الممارسة الخبيثة على أيدي الطواغيت المجرمين ، حتى شملت اليهود أنفسهم ، كما حدث في ألمانيا النّازية حينما احرق جمع كبير من اليهود في محارق هتلر كما هو المشهور ، فذاقوا «عذاب الحريق» في دنياهم قبل آخرتهم.

كما أصاب الخزي والعذاب (ذو نواس اليهودي) وهو مؤسس هذا الأسلوب القذر من الجريمة.

ذكرنا ما اشتهر بين أرباب التاريخ والتّفسير من قصّة أصحاب الأخدود ، وثمّة روايات تذكر بأنّ هذه الجريمة البشعة ما اقتصرت على أهل اليمن فقط ولم تقف عند عصر (ذو نواس) ، حتى قيل عشرة أقوال في ذلك.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّهم كانوا مجوس ، أهل كتاب ، وكانوا متمسكين بكتابهم ، فتناول ملكهم الخمرة فوقع على أخته ، وبعد أن أفاق ندم ، فأعلن حلية زواج الاخت ، فلم يقبل النّاس ، فهددهم فلم يقبلوا ، فخدّ لهم الأخدود ، وأوقد فيه النيران ، وعرض أهل مملكته على ذلك ، فمن أبى قذفه في النّار ، ومن أجاب خلّى سبيله» (١).

هذا في أصحاب فارس .. أمّا أصحاب أخدود الشام ، فهم قوم مؤمنون أحرقهم (أنطياخوس) (٢).

وقيل أيضا : إنّ هذه الواقعة تعود لأصحاب نبيّ الله دانيال من بني إسرائيل ، وقد أشير إلى ذلك في كتاب دانيال من التوراة.

واعتبر الثعلبي : إنّهم هم الذين احرقوا في أخدود فارس (٣) ولا يبعد انطباق قصة «أصحاب الأخدود» على كلّ ما ذكر ، وإنّ كان المشهور منها قصّة (ذو نواس) في أرض اليمن.

__________________

(١) مجمع البيان ، وعنه الميزان في تفسير الآية.

(٢) تفسير الثعلبي ، ص ٢٧٥.

(٣) المصدر السابق.

٨٧

٢ ـ الإيمان الثابت

في قصص الأولين وما يجري عند الآخرين ، ثمّة وقائع رائعة في الثبات على الإيمان فقد تحمل البعض الحرق في النّار وأشدّ من ذلك على أن يترك طريق الحقّ أو العدول عن دينه.

وها هي «آسية» زوجة فرعون شاخصة بما تحملت من عذاب بسبب تصديقها بنبيّ الله موسى عليه‌السلام وإيمانها برسالته ، حتى انتهى بها المطاف للارتواء من كأس الشهادة.

وفي حديث عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله بعث رجلا حبشيا نبيّا ، وهم حبشية ، فكذّبوه فقاتلهم ، فقتلوا أصحابه ، فأسروه وأسروا أصحابه ، ثمّ بنوا له حيرا ، ثمّ ملأوه نارا ، ثمّ جمعوا النّاس فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار ، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار ، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر ، فلمّا هجمت هابت ورقت على ابنها ، فنادى الصبي : لا تهابي ، وارميني ونفسك في النّار ، فإنّ هذا والله في الله قليل فرمت بنفسها في النّار وصبيها ، وكان ممن تكلم في المهد» (١).

ويفهم من هذه الرّواية ، إنّ في الحبشة قسم رابع قد انطبقت عليهم قصّة «أصحاب الأخدود».

ومن تاريخنا .. هناك قصّة عمار بن ياسر وأبويه وأمثالهم ، وأهم من كلّ ذلك ما جرى للحسين عليه‌السلام وأصحابه في ميدان التضحية والفداء (كربلاء) ، وكيف أنّهم قد تسابقوا على شرف نيل وسام الشهادة ، كما هو معروف في التاريخ.

وها هو عصرنا يرينا الكثير من صور التضحية والفداء في سبيل إعلاء كلمة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧٧ ، عن تفسير العياشي.

٨٨

الحقّ وحفظ الدين القويم.

وينبغي القول هنا : إنّ بقاء الدين الإلهي (على مرّ العصور) مرتهن على ما تقدّم في سبيله من تضحيات مقدسة.

* * *

٨٩

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

التّفسير

العذاب الالهي للمجرمين :

بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الأخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء ، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر أولئك الجناة من عذاب إلهي شديد ، ويشير أيضا إلى ما اعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم بالله.

فتقول الآية الاولى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ

٩٠

عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ).

«فتنوا» : من مادة (فتن) ، ـ على زنة متن ـ وهو إدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته ، وقد استعملت (الفتنة) بمعنى (الاختبار) ، وبمعنى (العذاب والبلاء) ، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضا.

وهي في الآية بمعنى (العذاب) ، على غرار ما جاء في الآيتين (١٣ و ١٤) من سورة الذاريات : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).

(ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) : تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لأولئك الجناة المجرمين ، وتدلّ أيضا على مدى لطف الباري جلّ وعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنبا ، وفي الجملة تنبيه لأهل مكّة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى الله توبة نصوح.

فباب التوبة لا يغلق بوجه أحد ، وذكر العقاب الإلهي الشديد الأليم إنّما جاء لتخويف الفاسدين والمنحرفين عسى أن يرعووا ويعودوا إلى الحق مولاهم.

وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي ، (عَذابُ جَهَنَّمَ) و (عَذابُ الْحَرِيقِ) ، للإشارة إلى أن لعذاب جهنم ألوان عديدة ، منها (عذاب النّار) ، وتعيين «عَذابُ الْحَرِيقِ» للإشارة أيضا إلى أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنّار ، سوف يجازون بذات أساليبهم ، ولكن ، أين هذه النّار من تلك؟! فنار جهنم قد سجّرت بغضب الله ، وهي نار خالدة ويصاحب داخليها الذلّ والهوان ، أمّا نار الدنيا ، فقد أوقدها الإنسان الضعيف ، ودخلها المؤمنون بعزّة وإباء وشرف ملتحقين بصفوف شهداء رسالة السماء الحقة.

وقيل : إنّ (عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء كفرهم ، و (عَذابُ الْحَرِيقِ) جزاء ما اقترفوا بحق المؤمنين الأخيار من جريمة بشعة.

وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

٩١

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).

وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار الله ، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم ، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح) ، وما عداه فروع لهذا الأصل.

(عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : إشارة إلى أنّ العمل الصالح لا يختص بشيء محدد ، بل ينبغي أن يكون محور حياة الإنسان هو : «العمل الصالح».

«ذلك» : إشارة للبعيد ، واستعملت هنا لتبيان عظمة وأهمية المشار إليه ، أيّ : إنّ فوزهم الكبير من عظمة الشأن ، بقدر لا يخطر على بال أحد.

ويعود القرآن مرّة اخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين ، فيقول : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).

ولا تظنوا بأن القيامة أمر خيالي ، أو إنّ المعاد من الأمور التي يشك في صحة تحققها ، بل : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ).

«البطش» : تناول الشيء بصولة وقهر ، وباعتباره مقدّمة للعقاب ، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة.

«ربّك» : تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأكيد دعم الله اللامحدود له.

والجدير بالملاحظة ، إنّ الآية تضمّنت جملة تأكيدات ، لتبيان صرامة التهديد الإلهي بجديّة وقطع.

ف «البطش» يحمل معنى الشدّة المؤكّدة ، والجملة الاسمية عادة ما تأتي للتأكيد ، ووصف البطش بأنّه «شديد» ، وكذا وجود «إن» ، ووجود لام التأكيد في «لشديد» ، هذا بالإضافة إلى التأكيد المتضمّن في قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) كدليل إجمالي على المعاد (١).

__________________

(١) وهذا يشبه دليل الآية (٧٩) من سورة «يس» : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ، يقال : إنّ الفارابي تمنى لو كان أرسطو «الفيلسوف اليوناني المعروف» حيّا ليرى جمال هذا الدليل المحكم في القرآن الكريم.

٩٢

ثمّ يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف للباري جلّ شأنه : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

«الغفور» و «الودود» : كلاهما صيغة مبالغة ، ويشيران إلى منتهى الغفران والود الإلهي ، «الغفور» لعبادة المذنبين ، و «الودود» المحب لعباده الصالحين.

فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد ، يبيّن أنّ طريق العودة إلى الله سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكلّ من ولغ في الذنوب ، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضا.

وعلى هذا الضوء ف «الودود» جاء بصيغة اسم الفاعل ، وليس كما قيل من أنّه اسم مفعول ، ليكون المعنى : بأنّ الله له محبّون كثيرون ، فهذا المعنى لا ينسجم مع الصفة السابقة «الغفور» ولا يتناسب مع سياق الكلام.

وصفة : «ذو العرش» كناية عن قدرته وحاكميته ومالكيته سبحانه وتعالى ، ويتبيّن بهذا الوصف أنّ حكم عالم الوجود بيده جلّ وعلا ، فما شاء كان ، وقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من لوازم هذه الحاكمية المطلقة.

ف «ذو العرش» تشير إلى قدرته تعالى على : المعاد ، إحياء الموتى ومعاقبة الجبابرة والمجرمين والذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات.

«المجيد» : من (المجد) ، وهو السعة في الكرم والجلال ، وهي من الصفات المختصة بالله سبحانه ، وقلّما تستعمل لغيره. (١)

وبنظرة بسيطة إلى هذه الصفات المذكورة سيتراءى أمامنا ذلك الانسجام

__________________

(١) جاءت كلمة «المجيد» في الآية مرفوعة (طبق القراءة المشهورة) ، تكون صفة لله تعالى وليس صفة للعرش ، وإلّا لكانت مجرورة.

٩٣

والترابط فيما بينها فالغفور والودود لمن له القدرة وسعة الكرم كي يفعل ما يريد ، لا يمنعه شيء ولا يصد إرادته أمر ، لأنّ إرادته في مطلق القوّة والدوام ولا يصيبها تردد أو فسخ ، سبحانه وتعالى.

* * *

٩٤

الآيات

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

التّفسير

ألم تر ما حلّ بجيش فرعون وثمود؟!

فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة الله المطلقة وحاكميته ، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين .. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد ...

فتخاطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ).

تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء الله عليهم‌السلام بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة الله عزوجل.

وتشير إلى نموذجين واضحين ، أحدهما من غابر الزمان ، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الإسلام : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ).

فأحدهما ملك الشرق والغرب ، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة ، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف

٩٥

بوجههم ، ولكنّ العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء ، مع ما لهاتين المادتين من لطافة وليونة ، وما يمثلانه باعتبارهما من الوسائل المهمّة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان ، فقد أغرقت أمواج وتيارات نهر النيل ذلك الطاغي (فرعون) وجنوده ، فيما سلّط الله الهواء القارص بأعاصير مدمرة اجتاحت قوم ثمود حتى قطعت دابرهم ، فأهلكوا جميعهم.

القرآن الكريم يذكّر مشركي مكّة بذلك النموذجين ليعرفوا أنفسهم أمام الله تعالى ، فإنّ كان الله قد أهلك تلك الجيوش العظيمة وبما تملك من عناصر القوّة بماء وهواء ، فهل سيبقى لزمام أمورهم من شيء ، وهم أضعف من أولئك! علما بأنّ البشر أمام الله بكلّ ما يحملون من قوّة فهم سواء ، فلا فرق بين ضعيف وقوي .. فأين الخالق من المخلوق!

وإنّما اختير قوم «فرعون» و «ثمود» دون بقية الأقوام السالفة كنموذجين للعصاة والضالين ، باعتبارهما كانا يمتلكان قدرة وقوّة مميزة على بقية الأقوام ، وأهل مكّة على معرفة بتاريخهما إجمالا.

وتقول الآية التالية : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ).

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد ، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأن «بل» تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكّة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائما بتكذيب الحق وإنكاره ويستخدمون كلّ وسيلة في هذا الطريق ، (بلحاظ أن «بل» تستعمل عادة للاضراب : أي للعدول من شيء إلى شيء آخر).

وعليهم أن يعلموا بقدرة الله : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ).

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز ، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

٩٦

وما مجيء (مِنْ وَرائِهِمْ) إلّا للتعبير عن كونهم في قبضة القدرة الإلهية من جميع الجهات ، وهو محيط بهم ، وليس لهم من مخلص عن العذاب بحكم العدل الإلهي.

وثمّة من يذهب بإرادة الإحاطة العلميّة في الآية ، أي .. إنّ الله تعالى محيط بأعمالهم من كلّ جهة ، فلا يغيب عنه سبحانه أي قول أو عمل أو نيّة.

وتقول الآية التالية : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) ذو مكانة سامية ومقام عظيم.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ، لا تصل إليه يد العبث ، والشيطنة ، ولا يصيبه أيّ تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتأس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراء ، كأن يتهموك بالشعر ، السحر ، الكهانة والجنون .. فأصولك ثابتة ، وطريقك نيّر ، والقادر المتعال معك.

«مجيد» : ـ كما قلنا ـ من (المجد) ، وهو السعة في الكرم والجلال ، وهو ما يصدق على القرآن تماما ، فمحتواه واسع العظمة ، ومعانيه سامية على كافة الأصعدة العلميّة ، العقائدية ، الأخلاقية الوعظ والإرشاد ، وكذا في الأحكام والسنن.

«لوح» ـ بفتح اللام ـ : هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها ، و (اللوح) ـ بضم اللام ـ : العطش ، والهواء بين السماء والأرض.

الفعل الذي يشتق من الأوّل يأتي بمعنى الظهور والانكشاف.

ويراد باللوح هنا : الصفحة التي كتب فيها القرآن ، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا ، بل (وعلى قول ابن عباس) : إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب!

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ ، هو «علم الله» الذي يملأ الشرق والغرب ، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

نعم ، فالقرآن من علم المطلق ، وما فيه يشهد على أنّه ليس نتيجة إشراقة عقلية

٩٧

في عقل بشر ، ولا هو بنتاج الشياطين.

ويحتمل أن يكون هو المقصود به «ام الكتاب» و «كتاب مبين» الواردان في الآية (٣٩) من سورة الرعد : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، والآية (٥٩) من سورة الأنعام : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

علما بأنّ تعبير (لوح محفوظ) لم يرد في القرآن إلّا في هذا الموضع فقط.

اللهم! زدنا معرفة بكتابك العظيم ...

اللهم! ضمّنا بين جناح رحمتك يوم يفوز المؤمنون ، وقنا غضبك يوم يهلك الكافرون والمجرمون في عذاب الحريق ...

اللهم! أنت الغفور الودود الرحيم ، فعاملنا بمقتضى صفاتك ، ولا تعاملنا بمقتضى أعمالنا ...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة البروج

* * *

٩٨
٩٩

سورة

الطّارق

مكيّة

وعدد آياتها سبع عشرة آية

١٠٠