الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

قيل : إنّ يدهم اليمنى تغلّ إلى أعناقهم ، ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء ظهورهم إيغالا في إذلالهم وإخجالهم.

وقيل : إنّ كلتي يديهم تربط من خلفهم ـ كما يفعل بالأسير ـ ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء الظهر.

وقيل أيضا : ستكون وجوه المجرمين من الخلف ، بدلالة الآية (٤٧) من سورة النساء : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) ، فيعطون كتبهم من وراء ظهورهم وبيدهم اليسرى ، كي يقرءوها بأنفسهم.

والأنسب أن نقول : سيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى ، وكلّ منهم يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١) ، ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلا وذلا ، ولكي لا يطّلع على ما فيها أحد ، ولكن ، هيهات ... فكلّ شيء حينئذ بارز ، كيف لا وهو «يوم البروز»! ...

(يَدْعُوا ثُبُوراً) : يصرخ بالويل والثبور ، كما هو متعارف عليه عند نزول بلاء ، أو وقوع حادث شديد الخطورة.

و «الثبور» : الهلاك.

ولكنّ صراخه سوف لا يدر عليه نفعا أبدا أبدا ، ولا بدّ من نيله جزاء ما اقترف : (وَيَصْلى سَعِيراً) أي يدخل نار جهنم.

وتبيّن الآية التالية علّة تلك العاقبة المخزية : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً).

سرورا ممتزجا بالغرور ، وغرورا احتوشته الغفلة والجهل بربّ الأرباب سبحانه وتعالى ، فالسرور المقصود في الآية ، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة.

__________________

(١) سورة الحاقة ، الآية ١٩.

٦١

وبديهي فالسرور والارتياح ليس مذموم بذاته ، ولكنّ السرور المذموم هو الذي يغفل فيه الإنسان عن ذكر مولاه عزوجل ، ويغرق به في بحر شهواته الموصل إلى التيه والضلالة والجهل. أمّا سرور المؤمن بلطف الله ونعمائه ، وبشاشته عند مصاحبة إخوانه ، فما أحلاها وأزكاها.

ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ).

فاعتقاده الفاسد وظنّه الباطل الدائر على نفي المعاد ، مصدر سروره وغروره وهو ما سيوصله إلى الشقاء الأبدي ، لأنّه ابتعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الاستهزاء بدعوة الأنبياء عليهم‌السلام الربانية ، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأنّ يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله ، كما أشارت الآية (٣١) من سورة المطففين : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) ، وكما وردت الإشارة أيضا على لسان علماء بني إسرائيل حينما خاطبوا قارون الثري المغرور الجاهل : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). (١)

«لن يحور» : لن يرجع ، من (الحور) ـ على زنة غور ـ بمعنى : الرجوع ، التردد ، الذهاب ، والإياب (سواء كان في العمل أو الفكر) ، و «حار الماء» في الغدير : تردد فيه ، ويقال «المحور» : للعود الذي تجري عليه البكرة وتدور حوله والمحاورة و (الحوار) : المراودة في الكلام ، و (تحير في الأمر) : تردد فيه بين أن يقدم أو لا يقدم.

وقيل : أصل الكلمة (حبشي).

وروي عن ابن عباس أنّه قال : (ما كنت أدري ما معنى «حور» حتى سمعت

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٧٦.

٦٢

أعرابية تقول لابنتها : «حوري» أي ارجعي) (١).

وربّما كان استعمال كلمة «الحواري» في نعت أصحاب عيسى عليه‌السلام أو أي مقرّبين لأحد ، ربّما كان لكثرة ترددهم عليه.

وقيل : حورت الشيء ، أيّ بيضته ، وسمّي أنصار عيسى عليه‌السلام الحواريين لتبييضهم قلوب النّاس بالمواعظ الهادية ، و «الحور العين» إشارة إلى بياضهنّ ، أو لشفّافية بياض عيونهنّ.

وقيل أيضا : إنّ سبب تسميتهنّ ب «الحور العين» يعود إلى تحير العين في جمالهنّ الخارق.

وعلى أيّة حال ، فيقصد من الكلمة في الآية المبحوثة ، الرجوع والمعاد ، لإيضاح أنّ عدم الإيمان بالمعاد يؤدي إلى الوقوع في اتون الغفلة والغرور وارتكاب المعاصي.

ولنفي العقائد الضالة ، تقول الآية : (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً).

فكل أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه ، لتعرض يوم الحساب في صحيفته.

والآية تشارك الآية السابقة : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) في كونها دليلا على المعاد أيضا. فتأكيد الآيتين على كلمة «ربّ» يدل على أن الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربّه لا ينتهي بالموت ، وأنّ الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفا وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي ...

وكذلك كون الله «بصيرا» بأعمال الإنسان وتسجيلها لا بدّ من اعتباره مقدمة للحساب والجزاء وإلّا لكان عبثا ، وهذا ما لا يكون.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، وتفسير الفخر الرازي ، وغيرهما.

٦٣

الآيات

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

التّفسير

سنّة التغيّر!

لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى ... تأتي الآيات لتقول : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ).

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ، أي : وما جمع.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) ، أي : إذا اكتمل.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ).

٦٤

«لا» في «لا اقسم» : زائدة ، وجاءت للتأكيد.

وثمّة من اعتبرها (نافية) ، أي : لا اقسم ، لأنّ الأمر من الوضوح ما لا يحتاج فيه إلى قسم ، أو أنّ القسم بهذا الموضوع لا يليق وأهميته ، أو أنّ ما اقسم به من الأهمية بحيث يليق أنّ لا يقسم به.

إلّا أنّ الأوّل (كونها زائدة جاءت للتأكيد) أقرب من البقية.

«الشفق» : اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، و (الإشفاق) : عناية مختلطة بخوف ، لأنّ (المشفق) يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه (١).

ويقول الفخر الرازي : تركيب لفظ «الشفق» في أصل اللغة لرقّة الشيء ، ومنه يقال : ثوب شفق ، كأنّه لا تماسك له لرقته ، و (الشفقة) : رقة القلب.

(والظاهر أنّ قول الراغب أقرب للصواب).

وعلى أيّة حال ، ف «الشفق» هو وقت الغروب ، وقد اختلف في تعيين وقته ما بين الحمرة التي تظهر في الأفق الغربي عند بداية الليل ، وبين ما يظهر بعد الحمرة من بياض ، والمشهور بين العلماء والمفسّرين هو التعيين الأوّل ، وهو المستعمل على لسان الأدباء أيضا حيث يشبهون دماء الشهداء بالشفق.

إلّا أنّ البعض اختار التعيين الثّاني ، على ما يبدو عليه من ضعف ، وخصوصا إذا ما اعتبرنا (الرّقة) هي الأصل اللغوي للكلمة ، حيث أنّها ستتناسب مع الحمرة الخفيفة الرقيقة دون الثّاني.

وعلى أية حال ، فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان ، فمنه تعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل ، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال ، وكونه وقت صلاة المغرب.

وأمّا القسم بالليل ، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك

__________________

(١) مفردات الراغب.

٦٥

مفصلا) (١).

«ما وسق» (٢) : إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق) (٣) ، فيكون عندها سكنا عاما للكائنات الحيّة ، وهو من أسرار وآثار الليل المهمّة ، كما أشارت الآية (٦١) من سورة غافر إلى ذلك : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ).

(إِذَا اتَّسَقَ) : من (الاتساق) ، وهو الاجتماع والإطراد ، وتريد الآية به ، اكتمال نور القمر في الليلة الرابعة عشر من الشهر القمري ، حيث يكون بدرا.

ولا يخفى ما لروعة البدر في تمامه ، فنوره الهاديء الرقيق يكسو سطح الأرض ، وهو من الرقّة واللطافة بحيث لا يكسر ظلمة الليل وسكونه ، ولكنّه ينير درب سالكيه! فهو آية كبرى من آيات الله ، ولذا جاء القسم به.

وينبغي الالتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن : (الشفق ، الليل ، ما اجتمع فيه ، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر ، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة ، وتحرّك عند الإنسان التأمل والتفكير في عظمة ودقّة وقدرة الخالق في خلقه ، ويمكن للإنسان العاقل بتأمل هذه التحولات السريعة من التوجه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيّرات في عالم الوجود.

والأمر المثير هو أنّ القرآن الكريم يشير هنا إلى امور متتابعة الوقوع ، فعند ما تغيب الشمس يظهر الشفق معلنا عن بداية حلول الليل ، الذي تتجه الكائنات الحية فيه إلى بيوتها ، ثمّ يخرج القمر بدرا تامّا (علما بأنّ البدر في ليلة تمامه يخرج مع

__________________

(١) راجع تفسير الآيات (٧١ ـ ٧٣) من سورة القصص.

(٢) «ما» : موصولة ، واحتمال كونها (مصدرية) ضعيف ، ضميرها محذوف ، والتقدير : (وما وسقه).

(٣) وجاء «الوسق» ، أيضا بمعنى حمل بعير ، أو ستين صاعا (وكل صاع يقرب من ثلاثة كيلوات) ، وهو مأخوذ من الاجتماع أيضا.

٦٦

بداية الليل!).

ثمّ يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) ، إشارة إلى المراحل والتحولات التي يمرّ بها الإنسان في حياته.

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لهذه الآية المباركة ، منها :

١ ـ يقصد بها تلك الحالات المختلفة التي يمرّ بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو الله جلّ وعلا ، فيبدأ بحالة الدنيا ، ثمّ ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة (مع ملاحظة أنّ «طبق» من (المطابقة) ، وهي جعل الشيء فوق شيء آخر بقدرة ، وجاءت أيضا بمعنى ، المنازل التي يطويها الإنسان في عملية صعوده).

٢ ـ يقصد بها تلك الحالات التي يمرّ بها الإنسان منذ كونه نطفة حتى يموت ، (وقد عدّها البعض (٣٧) حالة).

٣ ـ يقصد بها تلك الحالات التي يعيشها الإنسان في حياته من : سلامة ومرض ، سرور وغم ، اليسر والعسر ، السلم والحرب ... إلخ.

٤ ـ يقصد بها تلك الحالات الصعبة التي ستواجه الإنسان يوم القيامة حتى يفرغ من حسابه ، ويتجه إلى مصيره (الجنّة أو النّار).

٥ ـ يقصد بها تلك الحالات التي مرّت بها الأقوام السالفة بحلاوتها ومرّها ، وكذلك الإشارة إلى ألوان التكذيب والإنكار الذي يقع في هذه الأمّة ، وهذا المعنى قد ورد في حديث ما روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

ولا يمنع من اعتبار كلّ ما جاء في التفاسير أعلاه مصاديق لمعنى الآية.

وقيل : إنّ شخص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المخاطب في الآية ، والآية تشير إلى طبقات السماء التي طواهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معراجه.

ولكن ، بلحاظ وجود الضم على «الباء» في «لتركبنّ» ، يتّضح لنا أنّ المخاطب جمع وليس فرد هذا من جهة ، ولو رجعنا إلى الآيات السابقة لرأينا النداء موجه

٦٧

إلى النّاس كافة من جهة اخرى ، وعليه ، فهذا التّفسير بعيد عن مرام الآية.

وعلى آية حال ، فعدم استقرار الإنسان على حال ثابتة يدلل على فقر الإنسان واحتياجه ، لأنّ كلّ متغيّر حادث ، وكلّ حادث له محدث ، كما وإنّ عدم استقرار هذا العالم علامة على حركة الإنسان المستمرة نحو الله والمعاد ، وكما قالت الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

ومن كلّ ما سبق ... يخرج القرآن الكريم بنتيجة : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

فمع وضوح أدلة الحق ، مثل أدلة : التوحيد ، معرفة الله ، المعاد ، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات مثل : خلق ... الليل والنهار ، الشمس والقمر ، النور والظلمة ، شروق الشمس وغروبها ، الشفق ، ظلمة الليل ، اكتمال القمر بدرا ، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان منذ أن يكون نطفة في رحم امّه ، وما يطويه من مراحل حتى يكتمل جنينا ، مرورا بما يمرّ به من حالات في حياته الدنيا ، حتى يدركه الموت ...

فمع وجود كل هذه الأدلة والآيات لم لا يؤمنون؟! ..

وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين) ، فيقول : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ).

القرآن كالشمس يحمل دليل صدقه بنفسه ، وتتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته ، ويشهد محتواه على أنّه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيدا لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا يمكن أن يصدر من انسان مهما كان عالما ، فكيف بإنسان لم يتلق تعليما قط وقد نشأ في بيئة جاهلية موبوءة بالخرافات! ...

ويراد ب «السجود» هنا : الخضوع والتسليم والطاعة (١) ، أمّا السجود المتبادر

__________________

(١) ومن الشواهد على هذا المعنى ، بالإضافة إلى شهادة الآيات السابقة واللاحقة ، إنّ السجود بمعنى وضع الجبين على الأرض عند تلاوة القرآن إنّما يجب في مواضع محدودة جدّا ويستحب في مواضع اخرى ، وفي مواضع اخرى لا هو بالواجب ولا

٦٨

إلى الذهن بوضع الجبين على الأرض ، فهو أحد مصاديق مفهوم السجود ، ولعل هذا هو ما ورد في الرّوايات من سجود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قراءته لهذه الآية.

والسجود في هذه الآية مستحب عند فتاوى فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ، فيما يوجب ذلك فقهاء المذاهب الأربع ، إلّا (مالك) ، فإنّه يقول بالسجود عند الانتهاء من تلاوة السّورة (١).

وتأتي الآية التالية لتقول : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ).

والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر ، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر وإصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق ، بل من أجل روح التعصب الأعمى للأسلاف والدنيا والمصالح المادية والحاكمة على قلوبهم المريضة ، وأهوائهم الشيطانية.

وببيان جدّي وتهديد جدّي ، تقول الآية التالية : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ).

فالله تعالى أعلم بدافع ونيّة وهدف ذلك التكذيب ، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلّا بما كسبت أيديهم.

«يوعون» : من (الوعاء) وهو الظرف ، كما هو مستقى من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : «إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها».

ثمّ (... فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

عادة ما تستعمل «البشارة» للأخبار السارة ، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ.

والحال ، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم ، وما للكاذبين إلّا الغرق في بحر من الحسرة والندم ، وما هم إلّا في عذاب جهنم

__________________

بالمستحب ـ وحينما تقول الآية : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) فقد أطلقت القول ، والإطلاق والحال هذه يراد به التسليم للقرآن.

(١) روح البيان ، ج ١ ، ص ١٣٨٢.

٦٩

يخلدون.

ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

«ممنون» : من (المنّ) ، وهو القطع والنقصان ، (ومنه «المنون» بمعنى الموت).

وإذا ما جمعنا كلّ هذه المعاني ، فستكون النعم الاخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاك ، حيث أنّها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منّة.

أمّا الاستثناء الذي ورد في الآية السابقة ، ففيه بحث : هل أنّه «متصل» أو «منقطع».

قال بعض المفسّرين : إنّه منقطع ، أي : إنّ القرآن الكريم انتقل بالآية من الحديث حول الكفار الذي عرض في الآيات السابقة ، إلى الحديث عن المؤمنين وما ينتظرهم من أجر وثواب.

والأقرب لسياق الآيات أن يكون الاستثناء متصلا ، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك ، لأنّ الآية تقول : إنّ العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب من يؤمن منهم ويعمل صالحا وعلاوة على ذلك ، سيكون له أجر غير ممنون.

* * *

بحث

وقد استنبط العلّامة الطبرسي ، في كتابه مجمع البيان ، من الآيات الأخيرة للسورة ما يلي :

أوّلا : حرية إرادة الإنسان واختياره.

فقال : قوله سبحانه : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) و (لا يَسْجُدُونَ) دلالة على أنّ

٧٠

السجود فعلهم ، لأنّ الحكيم لا يقول : مالك لا تؤمن ولا تسجد ، لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان والسجود.

ثانيا : إنّ الذمّ على ترك السجود دليل على أنّ الكفار كما أنّهم مكلفون بأصول الدين كذلك بفروعه أيضا. (هذا القول مبنيّ على اعتبار كلمة السجود الواردة في الآية يراد منها (سجود الصلاة) ، أو حتى إذا اعتبرنا الكلمة بمفهومها العام ، فهي تتضمّن سجود الصلاة كذلك).

اللهمّ! يسّر علينا الحساب يوم حشر الخلق في ساحة عدلك ...

اللهمّ! الكلّ إليك راجعون ، فاهدنا الصراط المستقيم فيمن هديت ..

ربّنا! نحن مسلّمون ومطأطئون برؤوسنا إجلالا لقرآنك فوفقنا للعمل بتعليماته وارشاداته .. وارزقنا العمل بكتابك الكريم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنشقاق

* * *

٧١
٧٢

سورة

البروج

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية

٧٣
٧٤

«سورة البروج»

محتوى السّورة :

كان المؤمنون في بداية الدعوة المحمّدية ـ خصوصا في مكّة ـ يعانون من شدّة التضييق وأقسى ألوان التعذيب الجسدي والنفسي ، الذي انهال به عدوّهم من الكفّار على أن يتركوا إيمانهم بترك عقيدة الحق والارتداد عن الدين القويم!

وبملاحظة كون السّورة مكيّة ، فيظهر إنّها نزلت لتقوية معنويات المؤمنين لمواجهة تلك الظروف الصعبة ، ولترغيبهم على الصمود أمام الصعاب والثبات على الإيمان وترسيخه في القلوب.

وتناولت السّورة قصّة «أصحاب الأخدود» ، الذين حفروا خندقا وسجّروه بالنيران ، وهددوا المؤمنين بإلقائهم في تلك النّار إن لم يعودوا إلى كفرهم! وأحرقوا مجموعة منهم بالنّار وهم أحياء ، ومع ذلك لم يرجعوا عن دينهم ..

وتعد السّورة في بعض آياتها بعذاب جهنم الأليم لأولئك الذين يؤذون المؤمنين ويعذبونهم على إيمانهم ، وتذمهم ذما شديدا ، في حين تبشر المؤمنين الصابرين بالجنّة والفوز بنعيمها.

وفي جانب آخر من السّورة ، تعرض لنا مقتطفات من قصّتي فرعون وثمود وقوميهما الجناة الطغاة ، وما آلوا إليه من ذلّ وهلاك ، كلّ ذلك تذكيرا لكفّار مكّة الذين هم أضعف قوّة وأقل جندا من أولئك ، فعسى أن يرعووا عمّا هم فيه من جهة ، وتسلية لقلب الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن كان معه من المؤمنين من جهة

٧٥

اخرى.

وتختم السّورة في آخر مقاطعها بالإشارة إلى عظمة القرآن الكريم ، وإلى الأهمية البالغة لهذا الوحي الإلهي.

وعموما ، فالسّورة من سور المقاومة والثبات والصبر أمام ضغوط الظالمين والمستكبرين ، وآياتها تتضمّن الوعد الإلهي بنصر المؤمنين.

وسمّيت بسورة «البروج» بلحاظ ذكر الكلمة في أول آية من السّورة بعد ذكر البسملة.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السّورة أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ من اجتمع في جمعة وكلّ من اجتمع يوم عرفة عشر حسنات ، وقراءتها تنجي من المخاوف والشدائد». (١)

وبملاحظة أنّ أحد تفاسير (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) ـ من آيات السّورة ـ هو يومي الجمعة وعرفة من جهة ، وأنّ السّورة حكاية مقاومة وبسالة المؤمنين السابقين أمام الشدائد والضغوط من جهة اخرى ، وبملاحظة ذلك سيتّضح لنا التناسب الموجود ما بين هذا الثواب الجزيل لمن يقرءها وبين محتوى السّورة ، وأنّ الأجر والثواب إنّما يحصل لمن قرأها بتأمل معانيها ، وعمل على ضوء هديها.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٤٥.

٧٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

التّفسير

الإيمان الراسخ أقوى من حفر النيران!

كما نعلم جميعا ، بأنّ المسلمين في صدر الإسلام الأوّل ، كانوا يعيشون في مكّة تحت ظروف قاسية ، بعد أن كشّر أعدائهم بقباحة تلك الأنياب القذرة ، فانهالوا على المؤمنين بأصناف العذاب وألوانه ..

ولمّا كان الهدف من نزول السّورة ، وبما عرضته من صور الأولين هو إنذار

٧٧

هؤلاء الظالمين المغرورين بأنّ مصيرهم سيكون مثل مصير الأقوام السالفة من جهة ، ومن جهة اخرى لتثبيت المؤمنين ، وتقوية عزائمهم في صراعهم أمام أذى واضطهاد أهل مكّة.

ابتدأت السّورة ب : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ).

«البروج» : جمع (برج) وهو القصر ، وقيل : هو الشيء الظاهر ، وتسمية القصور والأبنية العالية بالبروج لظهورها ووضوحها ، وقيل للمحلات الخاصة من السور المحيط بالبلد والتي يجتمع فيها الحراس والجنود (البروج) لظهورها الخاص ، ويقال للمرأة التي تظهر زينتها (تبرجت).

والأبراج السماوية : إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء ، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شيء معروف في الأرض ، وتسمى ب «الصور الفلكية» ، وهي إثنا عشر برجا ، وفي كلّ شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج ، (طبيعي أن الشمس لا تتحرك تلك الحركة ، وإنّما الأرض ، تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج). (١)

والقسم بهذه البروج يشير إلى عظمة أمرها ، التي لم تكن معلومة للعرب الجاهليين وقت نزول الآية بينما أصبحت معلومة تماما في هذا الزمان والأقوى أنّ المراد منها هو النجوم المتلألئة ليلا في القبة السماوية.

ولذا نقرأ فيما روي عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه حينما سئل عن تفسير الآية قال : «الكواكب» (٢).

وتقول الآية الثّانية : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ)

__________________

(١) والأبراج الاثنا عشر هي : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو والحوت.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٣١.

٧٨

اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ، والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة ، اليوم الذي يلتقي فيه جميع الخلق من الأولين والآخرين للحساب ، إنّه يوم القيامة الحق.

وفي القسم الثّالث والرّابع يقول : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ).

وقد تعرض المفسّرون للآية بمعان متباينة ، وصلت إلى ثلاثين معنى ، وأدناه أهم ما ذكر منها :

١ ـ «الشاهد» : هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدلالة الآية (٤٥) من سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

و «المشهود» : هو يوم القيامة ، بدلالة الآية (١٠٣) من سورة هود : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

٢ ـ «الشاهد» : هو ما سيشهد على أعمال النّاس ، كأعضاء بدنه ، بدلالة الآية (٢٤) من سورة النور : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). و «المشهود» : هم النّاس وأعمالهم.

٣ ـ «الشاهد» : هو يوم «الجمعة» ، الذي يشهد اجتماع في صلاة مهمّة ، و «المشهود» : هو يوم «عرفة» ، الذي يشهده زوّار بيت الله الحرام ، وهو ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام (١).

٤ ـ «الشاهد» : عيد الأضحى.

و «المشهود» : يوم عرفة.

وروي أنّ رجلا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا رجل يحدث عن رسول الله ، قال : فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : (نعم ، الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة) ، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله ، فسألته عن ذلك

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٦٦.

٧٩

فقال : (أمّا الشاهد فيوم الجمعة ، وأمّا المشهود فيوم النحر) ، فجزتهما إلى غلام كأنه وجه الدينار ، وهو يحدّث عن رسول الله ، فقلت أخبرني عن «وشاهد ومشهود» فقال : «نعم ، أمّا الشاهد فمحمّد ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعت الله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، وقال (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .. فسألت عن الأول ، فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثّاني ، فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثّالث : فقالوا : الحسن بن علي عليهما‌السلام (١)

٥ ـ «الشاهد» : الليالي والأيّام .. و «المشهود» : بنو آدم ، حيث تشهد على اعمالهم ، بدلالة ما جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام الذي يقرأ كلّ صباح ومساء :

«هذا يوم حادث جديد ، وهو علينا شاهد عتيد ، إن أحسنّا ودعنا بحمد ، وإن أسأنا فارقنا بذنب». (٢)

٦ ـ «الشاهد» : الملائكة .. و «المشهود» : القرآن.

٧ ـ «الشاهد» : الحجر الأسود .. و «المشهود» : الحجاج الذين يأتون ويلمسونه :

٨ ـ «الشاهد» : الخلق .. و «المشهود» : الحق.

٩ ـ «الشاهد» : الامّة الإسلامية .. و «المشهود» : الأمم الاخرى ، بدلالة الآية (١٤٣) من سورة البقرة : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

١٠ ـ «الشاهد» : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. و «المشهود» : سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، بدلالة الآية (٤١) من سورة النساء : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).

١١ ـ «الشاهد» : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. و «المشهود» : أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها ، فسنصل إلى أنّ «الشاهد» هو كلّ من سيقوم بالشهادة يوم القيامة ، كشهادة : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ نبيّ على امّته ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٤٣ ، وذكر مضمونه كل من (أبو الفتوح الرازي) و (الطبرسي) في تفسيرهما.

(٢) الصحيفة السجادية : الدعاء السادس.

٨٠