الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

سبب النّزول

ذكر المفسّرون سببين لنزول هذه الآيات :

الأوّل : إنّها نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك .. إنّه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا ، وتغامزوا ... فنزلت الآية قبل أن يصل علي عليه‌السلام وأصحابه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتابه (شواهد التنزيل) عن ابن عباس قال : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) منافقو قريش ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) علي بن أبي طالب عليه‌السلام

٤١

وأصحابه. (١)

الثّاني : إنّها نزلت في مشركي قريش ، أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم ، كانوا يستهزءون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم (٢).

التّفسير

بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين .. أمّا!!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة ، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم ...

وأنّ ما سيناله الأبرار من ثواب جزيل ليس اعتباطيا.

فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة ، وقد صنّفتها في أربعة أساليب :

الأسلوب الأوّل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)

فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زرع في نفوسهم ، يدفعهم للضحك على المؤمنين والاستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار!

وهذا هو شأن كلّ من غرّته أحابيل الشيطان في مواجهة من آمن واتقى ، وعلى مرّ الأيّام.

وجاء وصفهم ب «أجرموا» بدلا من «كفروا» ، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية ، فالكفر دائما مصدرا للجرائم والعصيان.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٧ ـ كما وذكر كثير من المفسّرين مسألة نزولها في علي بن أبي طالب ، ومشركي مكّة ، كما في تفسير القرطبي ، وروح البيان ، والكشّاف ، وتفسير الفخر الرازي ... إلخ.

(٢) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٧٦.

٤٢

والأسلوب الثّاني : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول :

انظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين .. إنّهم أصبحوا مقرّبين عند الله!

انظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة .. إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم!

انظروا إليهم .. فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اخرى!! وما شابه ذلك ، من الكلمات الرخيصة والموهنة ..

ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون ، في حين يمارسون الأسلوب الثّاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم هم أمام جمع من المؤمنين ، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين. (١)

«يتغامزون» : من (الغمز) ، وهو الإشارة بالجفن أو اليد طلبا إلى ما فيه معاب ، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعا في ذلك الفعل.

ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز ، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضا ، حيث تنقل لنا الآية التالية ، الأسلوب الثّالث بقولها : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ).

وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحا كبيرا! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح ، ويبقون على حالة السخرية والاستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم! ...

«فكهين» : جمع (فكه) ، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك ، مأخوذة من (الفاكهة) ، وكأن لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذة أكل الفاكهة ، كما ويطلق على حديث ذوي الأنس اسم (فكاهة).

__________________

(١) ذكر المفسّرون احتمالين في ضمير «مرّوا» و «بهم» ، فارجع بعضهم الأوّل الى المشركين والثّاني إلى المؤمنين ، وقال البعض الآخر عكس ذلك ، ويبدو أن الاحتمال الأول أقرب بلحاظ ما ذكر أعلاه.

٤٣

«الأهل» : هم العائلة والأقرباء ، وقد تشمل الأصدقاء المقرّبين أيضا.

والأسلوب الرّابع : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ).

لما ذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعا من عبادة الأصنام ، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان بالله والتوحيد الخالص.

ولأنّهم باعوا لذة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة! ...

ويمكن أن تكون هذه المواجهة قد حدثت بعد انتهاء مرحلة الاستهزاء ، بعد أن غلّف الأمر بطابع الجديّة ورأوا ضرورة المواجهة الشديدة ، لأنّ حال المشركين والكافرين على مرّ التاريخ في مواجهتهم لدعوة ورسالات الأنبياء عليهم‌السلام تبدأ بالسخرية وعدم المبالاة ، وكأنّهم لم يشاهدوا بعد من الدين الجديد ما يوجب الوقوف أمامه بجدّ وحزم ، ولكن بمجرّد إحساسهم بأنّ الدين الإلهي راح ينفذ إلى قلوب النّاس ، ورؤيتهم لازدياد أتباعه ، سيزداد إحساسهم بالخطر ، فيدخلون مرحلة المواجهة العنيفة مع الدين الجديد.

فتشير الآية إلى أوّل خطوة جادة من قبل المجرمين في قبال المؤمنين ، التي تتبعها خطوات وخطوات حتى تصل الحال إلى المواجهة الدموية الحادّة.

وغالبا ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم ، ولذلك ينظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم ، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر.

فيقول القرآن الكريم في الآية التالية : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ)

فبأي حقّ إذن يهزأون بهم ، ويقفون أمامهم؟!

تنقل لنا الآية (٢٧) من سورة هود ما قاله المستكبرين من أثرياء قوم نوح عليه‌السلام : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) ، وتنقل لنا الآية (٣١) من نفس السّورة جواب نوح عليه‌السلام : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ).

٤٤

فجواب نوح عليه‌السلام عام يشمل حتى أولئك المغرورون في صدر الإسلام .. فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين ، وإلى النّبي الذي جاء بهذا الدين ، ولا تنظروا إلى من آمن به واتبعه! ...

وتبقى أساليب الذين يعادون الحقّ محدودة في إطار الحياة الدنيا ، ولكن إذا كان يوم القيامة ، فستختلف الحال تماما : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ).

فيوم القيامة ، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية ، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحقّ ، والاستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر أولئك المغرورون والمستكبرون.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنّة ، فيقال له : هلم ، فيجيء بكربه وغمّه ، فإذا أتاه أغلق دونه ، ثمّ يفتح له باب آخر ، فيقال : هلم هلم ، فيجيء بكربه وغمّه ، فإذا أتاه أغلق دونه ، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقال : هلم هلم ، فلا يأتيه من اياسه» (١) ..

(وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنتهم).

وتقول الآية التالية : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ).

ماذا ينظرون؟

إنّهم ينظرون إلى : نعم الله التي لا توصف ولا تنفد في الجنّة ، وإلى كلّ ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة ، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين ...

وفي آخر آيات السّورة ، يقول القرآن مستفهما : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا

__________________

(١) تفسير الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٢٨.

٤٥

يَفْعَلُونَ) (١).

فهذا القول سواء صدر من الله ، أو من الملائكة ، أو من المؤمنين ، فهو في كلّ الحالات يمثل طعنا واستهزاء بأفكار وادعاءات أولئك المغرورون ، الذين كانوا يتصورون أنّ الله سيثيبهم على أعمالهم القبيحة ، ويأتيهم النداء ردّا على خطل تفكيرهم : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

واعتبر كثير من المفسّرين أنّ الآية (جملة مستقلة) ، في حين اعتبرها آخرون تابعة للآية التي قبلها ، أي : إنّ المؤمنين سيجلسون على الأرائك ينظرون هل أن الكفار نالوا جزاءهم العادل؟

فإن كانوا يرجون ثوابا فليأخذوه من الشيطان! ... ولكن هل بإمكان هذا اللعين المطرود من رحمة الله أن يثيبهم على ما عملوا له؟!

«ثوّب» : من (الثوب) على وزن (جوف) وهو رجوع الشيء إلى حالته الاولى التي كان عليها ، و «الثواب» : ما يرجع إلى الإنسان جزاء أعماله ، ويستعمل للخير والشرّ أيضا ، ولكن استعماله للخير هو الغالب (٢).

وعليه ، فالآية تشير إلى الطعن بالكفار كنتيجة طبيعية لاستهزاءهم بالمؤمنين وبآيات الله في الحياة الدنيا ، وما عليهم إلّا أن يتقبلوا جزاء ما كسبت أيديهم.

* * *

بحث

الاستهزاء ... سلاح بائس :

من الحراب التي طالما شهرت في وجوه الأنبياء عليهم‌السلام عبر التاريخ .. حربة الاستهزاء والسخرية ، وعكست لنا الآيات القرآنية مرارا تلك الصور التي تحكي

__________________

(١) الاستفهام في الآية .. استفهام تقريري.

(٢) مفردات الراغب : مادة (ثوب).

٤٦

هذا الموضوع ، ولا عجب في ذلك حين صدور الاستهزاء من الناس ابتلوا بالظلم والكفر ، لأنّ مصدر كفرهم وظلمهم هو عقدة الغرور والتكبر التي تدفعهم للنظر إلى الآخرين بعين التحقير والتصغير.

ولم ينفلت زماننا المعاش من مدار تلك الأساليب القديمة ، فما زال الإعلام الكافر وعبر وسائله التقنية ، ما زال يبذل كلّ ما في جهده في استعمال ذات الحربة القديمة ، عسى أن يخرج الحقّ وأتباعه من الميدان ، وبواجهات عدّة ، ومنها تلك التي يسمّونها برامج الترفيه والفكاهة.

ولكنّ المؤمنين أقوى من أن تزلزلهم تلك الألاعيب الماكرة الواهية ، وهم مطمئنون تماما بالوعد الإلهي الحق ، كما ورد في الآيات أعلاه.

وما استعمال أساليب السخرية والغمز والضحك في قبال دعوة تدعو إلى الحق إلّا كاشف عن جهالة وغرور أولئك المساكين.

فحتى على فرض عدم الإيمان بالدين الحق ، أو ليس المنطق السليم والحجّة القاطعة هي سلاح الإنسان العاقل؟ فأين هم من إنسانيتهم أمام ما يمارسونه؟! ..

اللهمّ! قنا من الغرور والتكبر.

اللهمّ! ارزقنا طلب الحق وزيّنا بالتواضع.

اللهمّ! اجعل صحيفة أعمالنا في «عليين» وجنبها من الوقوع في «سجّين» ...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة المطفّفين

* * *

٤٧
٤٨

سورة

الإنشقاق

مكيّة

وعدد آياتها خمس وعشرون آية

٤٩
٥٠

سورة الإنشقاق

محتوى السّورة

لا تخرج السّورة عن الإطار العام لسور الجزء الأخير من القرآن الكريم ، فتبدأ بوصف علامات أشراط القيامة وما سيحدث من أحداث مروعة في نهاية العالم وبداية يوم القيامة ، ثمّ تتحدث ثانيا عن القيامة والحساب وما ستؤول إليه عاقبة كلّ من الصالحين والمجرمين ، ثمّ تعطف السّورة في المرحلة الثّالثة لتوضيح ماهية الأعمال والعقائد التي تجر الإنسان إلى سخط الله وخلوده بالعذاب مهانا ، وفي الرّابعة تنتقل السّورة لعرض مراحل سير الإنسان في حياتية (الدنيا والآخرة) وفي آخر مطاف السّورة يدور الحديث خامسا عن جزاء الأعمال الحسنة والسيئة

فضيلة السّورة :

روي عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأ سورة «انشقت» أعاذه الله أن يؤتيه كتابه وراء ظهره» (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «من قرأ هاتين السّورتين وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة لم يحجبه الله من حاجة ، ولم يحجزه من الله حاجز ، ولم يزل ينظر إليه حتى يفرغ من حساب النّاس» (٢).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٦.

٥١

الآيات

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩))

التّفسير

نحو الكمال المطلق :

تبدأ السّورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها) ، كإشارة الآيتين (١ و ٢) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ).

وتحكي الآية التالية حال السماء : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ).

فلا يتوهم أن السماء بتلك العظمة بإمكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر الله .. بل ستستجيب لأمر الله خاضعة طائعة ، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة ، ولا

__________________

(١) «إذا» أداة شرط ، حذف جزاؤها ، والتقدير : (إذا السماء انشقت ... لاقى الإنسان ربّه فحاسبه وجازاه).

٥٢

يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جلّ وعلا.

«أذنت» : من (الاذن) على وزن (أفق) ، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه ، وفي الآية : كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له.

«حقّت» : من (الحق) ، أي : وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها.

وكيف لها لا تسلّم لأمره عزوجل ، وكلّ وجودها وفي كلّ لحظة من فيض لطفه ، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت.

نعم ، فالسماء والأرض مطيعتان لأمر ربّهما منذ أوّل خلقهما حتى نهاية أجلهما ، كما تشير الآية (١١) من سورة فصّلت عن قولهما في ذلك : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

وقيل : يراد ب «حقّت» : إنّ الخوف من القيامة سيجعل السماء تنشق .. ولكنّ التّفسير الأول أنسب.

وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضا : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ).

فالجيال ـ كما تقول آيات قرآنية اخرى ـ ستندك وتتلاشى ، وستستوي الأرض في كافة بقاعها ، لتلمّ جميع العباد في عرصتها ، كما أشارت الآيات (١٠٥ ـ ١٠٧) من سورة طه إلى ذلك : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)!

فمحكمة ذلك اليوم من العظمة بحيث تجمع في عرصتها جميع الخلق من الأولين والآخرين ، ولا بدّ للأرض من هذا الانبساط الواسع.

وقيل في معنى الآية : إنّ الله عزوجل سيمدّ الأرض يوم القيامة أكثر ممّا هي عليه الآن لتسع حشر الخلائق جميعا (١).

__________________

(١) الفخر الرازي ، في تفسيره للآية المذكورة.

٥٣

وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ).

والمعروف بين المفسّرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض ، مرتدين لباس الحياة من جديد.

وقد تناولت آيات اخرى هذا الموضوع ، كالآية (٢) من سورة الزلزال : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ، والآيتين (١٣ و ١٤) من سورة النازعات : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

وقال بعض المفسّرين : إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضا.

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية ، يقول : إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج ، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض ، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد.

والجمع بين المعاني التي وردت في تفسير الآية ، ممكن.

و... : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ).

فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة امور ، فمن جهة : إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكلّ شيء آخر ، ومن جهة اخرى : فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة ، ومقدّمة للدخول في مرحلة وجود جديدة ، ومن جهة ثالثة ، فكلّ ما سيجري سينبأ بعظمة قدرة الخالق المطلقة ، وخصوصا في مسألة المعاد.

نعم ، فسيرضخ الإنسان ، بعد أن يرى بأمّ عينيه وقوع تلك الحوادث العظام ، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة.

وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

٥٤

«الكدح» : ـ على وزن مدح ـ السعي والعناء الذي يخلق أثرا على الجسم والروح ، ويقال : ثور فيه كدوح ، أي آثار من شدّة السعي.

وجاء في (تفسير الكشّاف) و (روح المعاني) و (تفسير الفخر الرازي) : الكدح : جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده : إذا خدشه.

والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية ، فالحياة دوما ممزوجة بالتعب والعناء ، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا ، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان الله ونيل حسن مآب الآخرة؟!

فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم ، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي.

وما ذكر «لقاء الله» في الآية إلّا لتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود ، ولا يتوقف إلّا بانتهاء عجلة حياة الدنيا ، ولا فرق في توجيه معنى «اللقاء» سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية الله المطلقة ، أو بمعنى لقاء جزاء الله من عقاب أو ثواب ، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني.

نعم ، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب ، والراحة الحقة .. هناك ، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد.

وكان نداء الآية مخاطبا عموم «الإنسان» ، ليشير إلينا بأن الله عزوجل قد وضع القدرة والقوّة اللازمة لهذه الحركة الإلهية المستمرة في وجود وتكوين هذا المخلوق ، والذي جعل من أشرف المخلوقات قاطبة.

واستعمال كلمة «ربّ» فيه إشارة إلى ثمّة ارتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اخرى.

٥٥

نعم ، فمشوار حركة الوجود قد بدأ من العدم ، والأقدام سائرة في خطوها صوب لقاء الله ، شاء ذلك الموجود أمّ أبى.

وقد تحدثت لنا آيات قرآنية اخرى عن السير التكاملى المستمر للمخلوقات نحو خالقها سبحانه وتعالى ، ومنها.

الآية (٤٢) من سورة النجم : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).

والآية (١٨) من سورة فاطر : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ...) بالإضافة إلى آيات مباركات أخر.

وإلى ذلك المطاف ، ستنفصل البشرية إلى فريقين : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً).

فالذين ساروا على هدي المخطط الربّاني لحركة الإنسان على الأرض ، وكان كلّ عملهم وسعيهم لله دائما ، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه ، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم ، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب ، وهو مدعاة للتفاخر والاعتزاز أمام أهل المحشر.

وحينما توضع أعمال هؤلاء في الميزان الإلهي الذي لا يفوته شيء مهما قلّ وصغر ، فإنّه سبحانه وتعالى : سييسّر حسابهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، بل ويبدل لهم سيئاتهم حسنات.

أمّا ما المراد من «الحساب اليسير»؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المداقة في كتاب الأعمال.

وحتى جاء في الحديث الشريف : «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا ، وأدخله الجنّة برحمته.

قالوا : وما هي يا رسول الله؟!

٥٦

قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك» (١).

وجاء في بعض الرّوايات ، أنّ الدقّة والتشديد في الحساب يوم القيامة تتناسب ودرجة عقل وإدراك الإنسان.

فعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على ما آتاهم من العقول في الدنيا» (٢).

ووردت أقوال متفاوتة في تفسير كلمة «الأهل» الواردة في الآية (إِلى أَهْلِهِ).

فمنهم من قال : هم الزوجة والأولاد المؤمنين ، لأنّه سيلتحق بهم في الجنّة ، وهي بحدّ ذاتها نعمة كبيرة ، لأنّ الإنسان يأنس بلقاء من يحب ، فكيف وسيكون معهم أبدا في الجنّة!

ومنهم من قال : الأهل : الحور العين اللاتي ينتظرنّهم في الجنّة.

وآخرين قالوا : هم الاخوة المؤمنين الذين كانوا معه في الدنيا.

ولا مانع من قبول كلّ هذه الأقوال في معنى الآية وما رمزت له.

* * *

بحثان

١ ـ خذ العلم من عليّ عليه‌السلام

في تفسير الآية المباركة : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّها تنشق من المجرّة» (٣).

والحديث يعتبر من الإعجاز العلمي لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث أنّه قد كشف

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٧.

(٣) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٨٧ ؛ وفي الدر المنثور ، ج ٦ ، ٣٢٩.

٥٧

الستار عن حقيقة علمية قائمة لم يكن قد سبقها من علماء تلك الأزمان أحد قبله عليه‌السلام ، وبقيت هذه الحقيقة خافية عن أنظار النّاس (سوى الراسخين في العلم) ، إلى أن تمّ صنع التلسكوبات الكبيرة ، فتوصل علماء الفلك المعاصرين إليها.

فعالم الوجود ، يتكون من مجموعة مجرات ، والمجرة عبارة عن مجموعة عظيمة من النجوم والمنظومات الشمسية ، ولذا فقد اطلق على المجرات اسم (مدن النجوم).

ومن هذه المجرات ، مجرة (درب التبانة) المعروفة والتي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة ، والمتكونة من مجموعة من النجوم والشموس على شكل دائرة ، ويبدو لنا طرفها البعيد عنّا بصورة سحاب أبيض ، وما هو في حقيقته إلّا مجموعة من النجوم ، تبدو لنا بهذه الصورة نتيجة لبعدها وعجز عيوننا عن تشخيصها.

وما نراه ليلا على سطح السماء هو طرفها القريب.

ومنظومتنا الشمسية جزء من هذه المجرة العظيمة.

وكما يقول حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّ النجوم التي نراها في السماء اليوم ، ستنفصل عن المجرة ، وبها تنشق السماء.

فمن كان يعلم في زمانه عليه‌السلام إنّ النجوم المتناثرة على القبة السماوية هي جزء من مجرّة عظيمة؟!

نعم ، لا يعلم بذلك ، إلّا من كان قلبه متصلا بعالم الغيب ، ومن يستقي من علم الله تعالى استقاء.

٢ ـ الدنيا دار بلاء

التعبير ب «كادح» للإشارة إلى أن طريق الحياة شاق وصعب ، وخوضه يستلزم العناء والألم والمشاكل ، في كافة خطوات المسير ولا يستثنى من ذلك الروح أو البدن ، بل كليهما وبكلّ ما يحملان من جوارح وجوانح لا يخلوان من التأثر بهذه

٥٨

الطبيعة الحاكمة على الحياة الدنيا.

ويحدثنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، فيما روي عنه أنّه قال : «الراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا ، إنّما خلقت الراحة في الجنّة ولأهل الجنّة ، والتعب والنصب خلقا في الدنيا ، ولأهل الدنيا ، وما اعطي أحد منها جفنة إلّا أعطى من الحرص مثليها ، ومن أصاب من الدنيا أكثر ، كان فيها أشد فقرا لأنّه يفتقر إلى النّاس في حفظ أمواله ، ويفتقر إلى كلّ آلة من آلات الدنيا ، فليس في غنى الدنيا راحة ...».

وجاء في آخر حديثه عليه‌السلام : «كلّا ما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا ، بل تعبوا في الدنيا للآخرة». (١)

* * *

__________________

(١) الخصال ، للشيخ الصدوق رحمه‌الله : الجزء الأول ، باب : الدنيا والآخرة ككفتي الميزان ، الحديث ٩٥.

٥٩

الآيات

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

التّفسير

الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم :

بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين ، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر ، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كلّ منهم مشرعة لتقديم المشاهد الاخرى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) .. فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً).

(وَيَصْلى سَعِيراً)

ذكرت الآية بأن المجرمين سيؤتون كتبهم من وراء ظهورهم ، في حين أنّ آيات اخرى تقول بأنّ المذنبين سيعطى كتاب كلّ منهم بيده الشمال.

فهل من تأليف فيما بين العرضين؟

للمفسّرين جملة آراء في ذلك ، منها :

٦٠