الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

والعظمة وعن وجود من يأتمر بأمرهم.

الآية الكريمة مؤكّدة بحرف (إنّ) تأكيدا آخر ، وعبارة «أعطيناك» تعني هبة الله سبحانه لنبيّه هذا الكوثر ، ولم يقل آتيناك. وهذه بشارة كبيرة للنّبي تسلي قلبه أمام تخرصات الأعداء ، وتثبت قدمه وتبعد الوهن عن عزيمته ؛ وليعلم أن سنده هو الله مصدر كلّ خير وواهب ما عنده من خير كثير.

ربّنا! لا تحرمنا ممّا أنعمت به على نبيّك من خير كثير.

ربّنا! إنّك تعلم مدى حبّنا لرسولك ولذريته الطاهرة ، فاحشرنا في زمرتهم.

ربّنا! عظمة رسولك وعظمة رسالته لا تبلغها عظمة ، اللهمّ فزدها عزّة ومنعة وشوكة.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الكوثر

* * *

٥٠١
٥٠٢

سورة

الكافرون

مكيّة

وعدد آياتها ستّ آيات

٥٠٣
٥٠٤

«سورة الكافرون»

محتوى السّورة :

هذه السّورة نزلت في مكّة لحنها ومحتواها يؤيدان ذلك. وسبب نزولها الذي سنبيّنه بإذن الله دليل آخر على مكّيتها ، ونستبعد ما ذهب إليه بعضهم من أنّها مدنية.

من لحن السّورة نفهم أنّها نزلت في زمان كان المسلمون في أقلية والكفار في أكثرية ، والنّبي يعاني من الضغوط التي تطلب منه أن يهادن المشركين. وأمام هذه الضغوط كان النّبي يعلن صموده وإصراره على المبدأ ، دون أن يصطدم بهم.

وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يساوموا أعداء الإسلام في مبادئ الدين مهما كانت الظروف. وأن يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا الى هذه المساومة. وفي هذه السّورة تكرر مرّتين نفي عبادة الإنسان المسلم لما يعبده الكافرون ، وهو تأكيد يستهدف بّث اليأس في قلوب الكافرين. كما تكرر مرّتين نفي عبادة الكافر لما يعبده المسلمون من إله واحد أحد. وهذا دليل على تعنتهم ولجاجهم. ونتيجة ذلك هو الفصل العقائدي الحاسم بين منهج التوحيد ومتاهات الشرك : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ قل يا أيّها الكافرون فكأنّما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرأ من الشرك ،

٥٠٥

ويعافى من الفزع الأكبر» (١).

وعبارة (ربع القرآن) قد تعني أن مسألة مواجهة الشرك والكفر تحتل ربع القرآن وجاءت عصارتها في هذه السّورة المباركة. وإنّما كانت هذه السّورة عاملا على تباعد مردة الشياطين عن قارئها ، لأنّها رفض حاسم للشرك والمشركين ، والشرك أهم حبائل الشيطان.

والنجاة في يوم القيامة (أو المعافاة من الفزع الأكبر على حدّ تعبير الرّواية) تتوقف بالدرجة الأولى على التوحيد ورفض الشرك. وهو ما دارت حوله مضامين هذه السّورة.

وفي رواية أخرى أن رجلا أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال : «إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيّها الكافرون ، ثمّ نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك» (٢).

وعن جبير بن مطعم قال : قال لي رسول الله : «أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا»؟

قلت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

قال : «فاقرأ هذه السور الخمس : قل يا أيّها الكافرون ، وإذا جاء نصر الله والفتح ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب النّاس. وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم».

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : قل يا أيّها الكافرون ربع القرآن. وكان إذا فرغ منها قال : أعبد الله وحده ، أعبد الله وحده» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٥١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٥٠٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

سبب النّزول

جاء في الرّواية أن السّورة نزلت في نفر من قريش منهم «الحارث بن قيس السهمي» و «العاص بن أبي وائل» و «الوليد بن المغيرة» ، و «أمية بن خلف» وغيرهم من القرشيين قالوا : هلم يا محمّد فاتبع ديننا نتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة. فإن كان الذي جئت به خيرا ممّا بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «معاذ الله أن أشرك به غيره».

قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهتك.

فقال : «حتى انظر ما يأتي من عند ربّي».

فنزل قل يا أيّها الكافرون ـ السّورة. فعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد

٥٠٧

الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ، ثمّ قرأ عليهم حتى فرغ من السّورة فأيسوا عند ذلك ، فآذوه وآذوا أصحابه» (١).

التّفسير

لا أهادن الكافرين :

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسّرين ، والألف واللام للعهد. وإنّما ذهب المفسّرون إلى ذلك لأن الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو الله سبحانه في الماضي والحال والمستقبل. والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها. بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكّة في دين الله أفواجا.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لآبائكم ، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام.

ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين ، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه :

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فعلى هذا لا معنى

__________________

(١) ذكر سبب النزول هذا كثير من المفسّرين على اختلاف يسير بينهم في العبارات منهم الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره ، والسيوطي في الدر المنثور.

٥٠٨

لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

* * *

أسئلة :

١ ـ لما ذا بدأت السّورة بفعل الأمر «قل»

«قل» فعل أمر موجه من الله سبحانه لنبيه كي يبلّغ الكافرين ويقول لهم :

(... يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ...) إلى آخر السّورة ، فلما ذا بدأ النّبي تلاوة السّورة بكلمة «قل» ، وهي موجهة إليه لا إلى الكافرين؟ أما كان من الأفضل أن تبدأ السّورة بيا أيّها الكافرون ...؟

الجواب يتضح لو التفتنا إلى محتوى السّورة. مشركو العرب كانوا قد دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهادنهم بشأن الأوثان وعليه أن يرّد عليهم ويرفض الاستسلام لهم. وإذا لم يبدأ الكلام ب «قل» يصبح الأسلوب أسلوب خطاب طاب الله لهم.

وهذا لا ينسجم مع قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وما شابهه.

أضف إلى ذلك أن كلمة «قل» كانت موجودة في النص الذي جاء به جبرائيل من الله تعالى. والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلف بالمحافظة على النص القرآني بحذافيره. وهذا يدل على أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبرائيل عليه‌السلام ليس لهما أي دور في صياغة النص القرآني وليس لهما حق أي تغيير فيه : بل يأتمران بما أمرهما الله. وهذا المعنى تؤكده الآية الكريمة : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (١).

__________________

(١) يونس ـ ١٥

٥٠٩

٢ ـ أكان عبدة الأصنام منكرين لله؟

نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا منكرين لله سبحانه ، والقرآن يؤيد ذلك في قوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١).

كيف إذن تقول الآية الكريمة : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).

الجواب : أن الكلام في هذه السّورة يدور حول العبادة لا الخلقة ، ويتّضح أن عبدة الأصنام كانوا يعتقدون أن «الله» خالق الكون ، لكنّهم كانوا يرون ضرورة «عبادة» الأصنام كي تكون واسطة بينهم وبين الله ، أو لاعتقادهم بأنّهم ليسوا أهلا لعبادة الله ، بل لا بدّ من عبادة أصنام جسمية ، والقرآن الكريم يرد على هذه الأوهام ويقول : إنّ العبادة لله وحده لا للأصنام ولا لكليهما!

٣ ـ لم هذا التكرار؟

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ... وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) الآيتان تكرران معنى واحدا ، وهكذا (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ... وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) تكررت أيضا ، لماذا؟ للمفسّرين في جواب هذا السؤال آراء مختلفة.

ذهب بعضهم إلى أن الهدف من التكرار التأكيد وبثّ اليأس في قلوب المشركين ، وفصل المسيرة الإسلامية بشكل كامل عن مسيرتهم ، وتثبيت فكرة عدم إمكان المهادنة بين التوحيد والشرك. بعبارة أخرى القرآن الكريم قابل دعوة المشركين إلى المساومة والمهادنة وإصرارهم على ذلك وتكرارهم لدعوتهم ، بتكرار في الردّ عليهم.

ورد أن «أبا شاكر الديصاني» وهو من زنادق عصر الإمام الصادق عليه‌السلام سأل

__________________

(١) لقمان ـ ٢٥

٥١٠

أحد أصحاب الصادق عليه‌السلام وهو «أبو جعفر الأحول» (محمّد بن علي النعماني المعروف بمؤمن الطاق) عن سبب هذا التكرار ، وهل الشخص الحكيم يرد في كلامه مثل هذا التكرار؟

أبو جعفر الأحول أعياه الجواب ، فتوجه إلى المدينة ، ودخل على الإمام الصادق عليه‌السلام وسأله عن ذلك ، أجابه الإمام : كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشا قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأصابهم بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وفيما قالوا نعبد إلهك سنة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وفيما قالوا نعبد إلهك سنة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

ذهب أبو جعفر الأحول بالجواب إلى أبي شاكر ، فلما سمعه قال : «هذا ما حمله الإبل من الحجاز» (١)! (يشير بذلك إلى أن هذا ليس كلامك بل كلام الصادق).

وقيل إن هذا التكرار يعود إلى أن الجملة الأولى تركز على الحال ، والجملة الثّانية تركز على المستقبل ، ويكون معنى الجملتين لا أعبد ما تعبدون في الحال والمستقبل. ولا يوجد شاهد في الآية على هذا التّفسير.

ثمة تفسير ثالث لهذا التكرار هو إن الأولى تشير إلى الاختلاف في المعبود والثّانية إلى الاختلاف في العبادة. أي لا أعبد الذي تعبدون ، ولا أعبد عبادتكم لأن عبادتي خالصة من الشرك ولأنها عبادة عن وعي وعن أداء للشكر لا عن تقليد أعمى (٢).

والظاهر أن هذا التكرار للتأكيد كما ذكرنا أعلاه ، وجاءت الإشارة إليه أيضا

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٤٤٥.

(٢) بناء على هذا التّفسير «ما» في الآيتين الثّانية والثّالثة موصولة ، وفي الرابعة والخامسة مصدرية (ذكر هذا التّفسير أبو الفتوح الرازي ضمن ذكره لاحتمالات تفسير الآية ج ١٢ ، ص ١٩٢ ، وأشار إليه الطبرسي أيضا).

٥١١

في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام.

وهناك تفسير رابع للتكرار هو إن الآية الثّانية تقول : لا أعبد ما تعبدون الآن.

والآية الرابعة تقول : ما أنا عابد (في الماضي) معبودكم ، فما بالكم اليوم. هذا التّفسير يستند إلى التفاوت بين فعلي الآيتين ، في الثّانية الفعل مضارع «تعبدون» ، وفي الآية الرابعة «عبدتم» بصيغة الماضي ونحن لا نستبعده (١).

وإن كان هذا يحل مسألة تكرار الآيتين الثّانية والرابعة ، وتبقى مسألة

تكرار الآيتين الثّالثة والخامسة على حالها. (٢)

٤ ـ هل الآية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) تعني جواز عبادة الأصنام؟!

قد يتصور أنّ هذه الآية لها مفهوم «السلام العام» وتجيز حتى لعبدة الأصنام أن يظلوا عليها عاكفين ، لأنّها لا تصرّ على قبول دين الإسلام.

لكن هذا التصور فارغ لا يقوم على أساس ، لحن الآيات يوضح بجلاء أنّها نوع من التحقير والتهديد ، أي دعكم ودينكم فسترون قريبا وبال أمركم ، تماما مثل ما ورد في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٣).

والشاهد الواضح على ذلك مئات الآيات الكريمة التي ترفض الشرك بكل ألوانه ، وتعتبره عملا لا شيء أبغض منه ، وذنبا لا يغفر.

وهناك إجابات اخرى على هذا السؤال مثل تقدير محذوف وتكون العبارة : لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.

__________________

(١) بناء على هذا (عابد) وهو اسم فاعل يكون في الآية بمعنى الماضي أيضا.

(٢) يجب الالتفات إلى أن «ما الموصولة» وإن استعملت غالبا في غير ذوي العقول ، تستعمل أيضا في العاقل. وفي القرآن شواهد.

(٣) سورة القصص ، الآية ٥٥.

٥١٢

وقيل أيضا : «الدين» هنا بمعنى الجزاء ، ولا محذوف فيها ومفهومها لكم جزاؤكم ولي جزائي (١).

والتّفسير الأوّل أنسب.

٥ ـ هل هادن الشرك يوما؟

السّورة تطرح حقيقة التضاد والانفصال التام بين منهج التوحيد ، ومنهج الشرك ، وعدم وجود أي تشابه بينهما ، التوحيد يشدّ الإنسان بالله بينما الشرك يجعل الإنسان غريبا عن الله.

التوحيد رمز الوحدة والانسجام في جميع المجالات ، والشرك مبعث التفرقة والتمزق في كلّ الشؤون.

التوحيد يسمو بالإنسان على عالم المادة والطبيعة ، ويربطه بما وراء الطبيعة بالوجود اللامتناهي لربّ العالمين ، بينما الشرك يجعل الإنسان يرسف في أغلال الطبيعة ، ويربطه بموجودات ضعيفة فانية.

من هنا فالنّبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء الكرام لم يهادنوا الشرك لحظة واحدة ، بل جعلوا مقارعته في رأس قائمة أعمالهم.

السائرون على طريق الله من الدعاة والعلماء الإسلاميين يتحملون مسئولية مواصلة هذه المسيرة ، وعليهم أن يعلنوا براءتهم من الشرك والمشركين في كلّ مكان.

هذا هو طريق الإسلام الأصيل.

اللهم! جنبنا كلّ شرك في أفكارنا وأعمالنا.

ربّنا! وساوس المشركين في عصرنا خطرة أيضا ، فاحفظنا من الوقوع في

__________________

(١) ويلاحظ أن كلمة (دين) في الآية (وَلِيَ دِينِ) مكسورة ، وكسرتها تدل على ياء محذوفة أي : ولي ديني.

٥١٣

حبائلهم.

الهنا! منّ علينا بشجاعة وصراحة وحزم لنكون كما كان نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رافضين لكلّ مساومة مع الكفر والكافرين والشرك والمشركين.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الكافرون

* * *

٥١٤
٥١٥

سورة

النّصر

مدنيّة

وعدد آياتها ثلاث آيات

٥١٦

«سورة النّصر»

محتوى السّورة :

هذه السّورة نزلت في المدينة بعد الهجرة ، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول النّاس في دين الله أفواجا ، وتدعو النّبي أن يسبح الله ويحمده ويستغفره شكرا على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة ، ولكن فتحا بالمواصفات المذكورة في السّورة ما كان سوى «فتح مكّة» ، خاصّة وأن العرب ـ كما جاء في الرّوايات ـ كانت تعتقد أن نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع أن يفتح مكّة إلّا إذا كان على حق ... ولو لم يكن على حقّ فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة ، ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكّة أفواجا.

قيل : إنّ هذه السّورة نزلت بعد «صلح الحديبية» في السنة السادسة للهجرة ، وقبل عامين من فتح مكّة.

وما احتمله بعضهم من نزول هذه السّورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّا ، لأنّ عبارات السّورة لا تنسجم وهذا المعنى ، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.

ومن أسماء هذه السّورة «التوديع» لأنّها تتضمّن خبر وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي الرّواية أنّ هذه السّورة لما نزلت قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا ، وسمعها العباس فبكى ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما يبكيك يا عم؟»

٥١٧

فقال : أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله ، فقال : «إنّه لكما تقول» (١).

وظاهر السّورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل عن الفتح والنصر ، فكيف فهم العباس أنّها تنعي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه؟ يبدو أنّ دلالة السّورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الذي أوحى بقرب ارتحال الرسول إلى جوار ربّه.

فضيلة السّورة :

وردت في فضيلة السّورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها فكأنّما شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكّة» (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه ، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق ، قد أخرجه الله من جوف قبره ، فيه أمان من حرّ جهنّم» (٣).

واضح أنّ هذه الفضيلة لمن قرأ هذه السّورة فسلك مسلك رسول الله وعمل بسيرته وسنته ، لا أن يكتفي بلقلقة اللسان.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٥٤ ، هذه الرّواية وردت بألفاظ مختلفة (الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٥٣٢).

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٥٣.

(٣) المصدر السابق.

٥١٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

التّفسير

عند انبلاج فجر النصر :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

هذه الآيات الثلاث القصار في ألفاظها العميقة في محتواها تتضمّن مسائل دقيقة كثيرة نسلط عليها الضوء كي تساعدنا في فهم معنى السّورة.

١ ـ «النصر» : في الآية أضيف إلى الله «نصر الله» وفي كثير من المواضع القرآنية نجد نسبة النصر إلى الله. يقول سبحانه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١) ، ويقول : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢).

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢١٤.

(٢) آل عمران ، الآية ١٢٦ ؛ الأنفال ، الآية ١٠.

٥١٩

وهذا يعني أن النصر في أي حال لا يكون إلّا بإرادة الله ، نعم ، لا بدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو ، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند الله وحده ، ولذلك لا يغتّر بالنصر ، بل يتجه إلى شكر الله وحمده.

٢ ـ في هذه السّورة دار الحديث عن نصرة الله ، ثمّ عن «الفتح» والانتصار ، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول النّاس في دين الله زرافات ووحدانا.

وبين هذه الثلاثة ارتباط علة ومعلول. فبنصر الله زرافات يتحقق الفتح ، وبا الفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل النّاس في دين الله أفواجا.

بعد هذه المراحل الثلاث ـ التي يشكل كل منها نعمة كبرى ـ تحّل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد.

من جهة أخرى نصر الله ، والفتح هدفهما النهائي دخول النّاس في دين الله وهداية البشرية.

٣ ـ «الفتح» هنا مذكور بشكل مطلق ، والقرائن تشير ـ كما ذكرنا ـ أنه فتح مكّة الذي كان له ذلك الصدى الواسع المذكور في الآية.

«فتح مكّة» فتح في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الإسلام ، لأن مركز الشرك قد تلاشى بهذا الفتح ، انهدمت الأصنام ، وتبددت آمال المشركين وأزيلت السدود والموانع من طريق إيمان النّاس بالإسلام.

من هنا ، يجب أن نعتبر فتح مكّة بداية مرحلة تثبيت أسس الإسلام واستقراره في الجزيرة العربية ثمّ في العالم أجمع. لذلك لا نرى بعد فتح مكّة مقاومة من المشركين (سوى مرّة واحدة قمعت بسرعة) وكان النّاس بعده يفدون على النّبي من كل أنحاء الجزيرة ليعلنوا إسلامهم.

٤ ـ في نهاية السّورة يأمر الله سبحانه نبيّه (بل كل المؤمنين) بثلاثة أمور ليجسّد آلاء الشكر وليتخذ الموقف الإيماني المناسب من النصر الإلهي وهي : «التسبيح» و «الحمد» و «الاستغفار».

٥٢٠