الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠
٤٨١

سورة

الماعون

مكيّة

وعدد آياتها سبع آيات

٤٨٢

«سورة الماعون»

محتوى السّورة :

هذه السّورة ـ على رأي أكثر المفسّرين ـ مكّية ، ولحنها الذي يتحدث عن القيامة وأعمال منكري القيامة بمقاطع قصيرة وقارعة يؤيد ذلك.

السّورة بشكل عام تذكر صفات وأعمال منكري القيامة في خمس مراحل.

فهؤلاء نتيجة لتكذيبهم بذلك اليوم ، لا ينفقون في سبيل الله وعلى طريق مساعدة اليتامى والمساكين. ثمّ هم يتساهلون في الصلاة ، ويعرضون عن مساعدة المحتاجين.

وفي سبب نزول السّورة قيل إنّها نزلت في «أبي سفيان» الذي كان ينحر في اليوم اثنين من الإبل ويطعم أصحابه ، ولكن يتيما جاءه يوما يطلب منه شيئا فضربه بعصاه وطرده.

وقيل : إنّها نزلت في «الوليد بن المغيرة» ، وقيل : في «العاص بن وائل».

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة

عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام قال :

«من قرأ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) في فرائضه ونوافله قبل الله صلاته وصيامه ، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٦.

٤٨٣

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

التّفسير

إنكار المعاد وآثاره المشؤومة :

هذه السّورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ).

وتجيب عن السؤال :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)

«الدين» هنا «الجزاء» أو يوم الجزاء ، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان. وفي هذه السّورة ذكرت خمسة آثار لهذا

٤٨٤

الإنكار منها : «طرد اليتيم ، وعدم الحثّ على إطعام المسكين». أي إنّ الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين ، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم.

واحتمل بعض أن يكون المقصود من الدين هنا القرآن أو الإسلام.

والمعنى الأوّل أنسب. ونظيره ورد في قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (١) وقوله سبحانه : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٢). وفي هذه الآيات ورد «الدين» بمعنى يوم الجزاء أيضا بقرينة الآيات الأخرى.

«يدع» أي يدفع دفعا شديدا ، ويطرد بخشونة.

و «يحضّ» أي يحرضّ ويرغب الآخرين على شيء ، والحضّ مثل الحثّ ، إلّا أن الحث ـ كما يقول الراغب ـ يكون بسوق وسير ، والحضّ لا يكون بذلك.

وصيغة المضارع في الفعلين (يدع) و (يحضّ) تدل على استمرارهم على مثل هذا العمل في حق الأيتام والمساكين.

ويلاحظ هنا بشأن الأيتام ، أنّ العواطف الإنسانية تجاه هؤلاء أكثر أهمية من إطعامهم وإشباعهم. لأنّ آلام اليتيم تأتي من فقدانه مصدر العاطفة والغذاء الروحي والتغذية الجسمية تأتي في المرحلة التالية.

ومرّة اخرى نرى القرآن يتحدث عن إطعام المساكين ، وهو من أهم أعمال البرّ ، وفي الآية إشارة إلى أنّك إذا لم تستطع إطعام المساكين ، فشجّع الآخرين على ذلك.

الفاء في «فذلك» لها معنى السببية ، وتعني أنّ التكذيب بالمعاد هو الذي يسبب هذه الانحرافات. والحقّ أنّ المؤمن بالمعاد وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى وبالحساب والجزاء يوم القيامة ، إيمانا راسخا تظهر عليه الآثار الإيجابية لهذا الإيمان في كلّ أعماله. ولكن فاقد الإيمان والمكذب بيوم الدين تظهر آثار

__________________

(١) الإنفطار ، الآية ٩.

(٢) التين ، الآية ٧.

٤٨٥

التكذيب عليه متمثلة في الجرأة على ارتكاب الذنوب والجرائم بشكل محسوس.

ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ).

لا يقيمون للصلاة وزنا ، ولا يهتمون بأوقاتها ، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها.

«ساهون» من السهو ، وهو في الأصل الخطأ الذي يصدر من الإنسان عن غفلة ، سواء كان مقصرا في المقدمات أم لم يكن. في الحالة الاولى لا يكون الساهي معذورا ، وفي الحالة الثّانية معذور. والمقصود في الآية السهو المقرون بالتقصير.

ويلاحظ أنّ الآية لم تقل «في صلاتهم ساهون» ، لأنّ السهو في الصلاة يعرض لكلّ فرد ، ولكنّها قالت : «عن صلاتهم ساهون». فهم يسهون عن الصلاة بأجمعها.

واضح أنّ هذه الحالة لو اتفق وقوعها مرّة أو مرات لأمكن أن يكون ذلك عن قصور. لكن الذي يسهو عن صلاته دائما فهو المهمل لصلاته ، لعدم إيمانه بها وإذا صلى أحيانا فلخوف من ألسن النّاس وأمثال ذلك.

إضافة لما ذكرناه من معاني لكلمة «ساهون» ذكر المفسّرون معاني اخرى من ذلك تأخير الصلاة عن وقت فضيلتها. أو إشارة إلى المنافقين الذين ما كانوا يؤمنون بثواب الصلاة ولا بعقاب تركها. أو المقصود الذين يراؤون في صلاتهم (بينما جاء ذكر هذا المعنى في الآية التالية).

الجمع بين هذه التفاسير ممكن طبعا ، وإنّ كان التّفسير الأوّل أنسب.

على أي حال ، حين يكون الساهون عن الصلاة مستحقين للويل ، فما بالك بتاركي الصلاة؟!

الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان.

٤٨٦

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

من المؤكّد أنّ أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة ، وعدم الانشداد بطلب الثواب الإلهي. وإلّا كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة الله ويتجه إلى النّاس ليتزلف إليهم؟!

«الماعون» من «المعن» وهو الشيء القليل. وكثير من المفسّرين قالوا إنّ المقصود من «الماعون» الأشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها النّاس وخاصّة الجيران من بعضهم ، مثل حفنة الملح ، والماء ، والنّار (الثقاب) ، والأواني وأمثالها.

واضح أنّ الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الأشياء إلى غيره إنسان دنيء عديم الإيمان. أي إنّه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء. بينما يمكن لهذه الأشياء البسيطة أن تسدّ الاحتياجات الكبيرة. ومنعها يؤدي إلى بروز مشاكل كثيرة في حياة الأفراد.

وقيل : إنّ الماعون يعني الزكاة. لأنّ الزكاة تشكل نسبة قليلة من أصل المال قد تبلغ عشرة بالمائة وأحيانا خمسة بالمائة وأحيانا اثنين ونصف بالمائة.

منع الزكاة طبعا من أفظع السيئات ، لأنّ الزكاة تحل كثيرا من مشاكل المجتمع الاقتصادية.

عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في تفسير الماعون قال : «هو القرض يقرضه ، والمتاع يعيره ، والمعروف يصنعه» (١).

وفي رواية اخرى عن الصادق عليه‌السلام فسّر الماعون بنفس المعنى السابق. فسأله سائل قال : لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه فعلينا جناح أن نمنعهم؟

فقال : «لا ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك» (٢).

__________________

(١) الكافي ، نقلا عن نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٧٩ ، الحديث ١٨.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١٩.

٤٨٧

وفي معنى الماعون ذكرت احتمالات اخرى ذكر القرطبي منها اثني عشر رأيا يرجع كثير منها إلى معنى مشترك والمهم ما ذكرناه أعلاه.

ذكر هاتين الصفتين بشكل متوال (الرياء ومنع الماعون) كأنه إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين بالدين يؤدون ما لله بنية النّاس ، وما للناس يمنعونه عنهم ، ومن هنا لا يصيب أي ذي حقّ حقّه.

مسك الختام حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من منع الماعون جاره منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكّله إلى نفسه ، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله»؟! (١)

* * *

تعقيب

١ ـ تلخيص موضوعات سورة الماعون

في هذه السّورة القصيرة ، ذكر الله سبحانه مجموعة من الصفات الرذيلة التي إن اتصف بها شخص فهي دليل عدم إيمانه ودنائته وحقارته. ويلاحظ أنّها جميعا فروع لظاهرة التكذيب بيوم الدين أي بيوم الجزاء.

إهانة اليتامى ، وترك إطعام المساكين ، والتهاون في الصلاة ، والرياء ، وعدم التعاون مع النّاس حتى في إعارة الأشياء الصغيرة ... تشكل بمجموعها طبيعة حياة هؤلاء المكذبين.

من هنا فهؤلاء أناس بخلاء ذاتيون أنانيون متظاهرون لا ارتباط لهم بالخالق ولا بخلقه ... أناس خلت نفوسهم من نور الإيمان والشعور بالمسؤولية ، لا بثواب الله يفكرون ، ولا من عذابه يخشون.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٧٩ ، الحديث ٢٠.

٤٨٨

٢ ـ التظاهر والرياء بلاء اجتماعي كبير

قيمة كلّ عمل تتوقف على دافعه ، وبالتعبير الإسلامي ، أساس كلّ عمل نية عامله.

الإسلام يركز على النية في تقويم الأعمال. لذلك ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى».

وجاء في ذيل هذا الحديث : «فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزوجل ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلّا ما نوى» (١).

وهذا يعود إلى أنّ النية هي التي تصوغ شكل العمل دائما. من كان يعمل لله جعل أساس عمله مستحكما ، وسعى بكل جهده إلى أن يستفيد منه النّاس أكثر الاستفادة. لكن المتظاهر المرائي يكتفي بزخرفة الظاهر وتنميقه من دون أن يهتم بعمق العمل وباطنه وبحاجة المحتاجين إليه.

المجتمع الذي يتعود على الرياء لا يبتعد عن الله وعن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة فحسب ، بل تصبح كلّ برامجه الاجتماعية فارغة خالية المحتوى ، لا تتعدى مجموعة من المظاهر ، وإنّها لمأساة أن يكون مصير الفرد ومصير المجتمع بهذا الشكل.

الرّوايات في ذم الرياء كثيرة ، بعضها وصفته بأنّه نوع من الشرك. وهنا نذكر ثلاثا منها :

١ ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سيأتي على النّاس زمان تخبث فيه سرائرهم ، وتحسن فيه علانيتهم ، طمعا في الدنيا ، لا يريدون به ما عند ربّهم ، يكون دينهم رياء ، لا يخالطهم خوف ، يعمهم الله بعقاب ، فيدعونه دعاء الغريق ، فلا يستجيب لهم!» (٢)

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٥ ، ح ١٠.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب الرياء ، الحديث ١٤.

٤٨٩

٢ – وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا قال : «إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا خاسر! حبط عملك ، وبطل أجرك ، فلا خلاص لك فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له» (١).

٣ – وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال مخاطبا زرارة (أحد أصحابه): «من عمل للناس كان ثوابه على النّاس يا زرارة! كلّ رياء شرك» (٢).

اللهمّ! إخلاص النيّة أمر عسير فأعنا عليه بفضلك.

ربّنا! هب لنا إيمانا يجعل معيار تفكيرنا ثوابك وعقابك ، ويساوي في أنظارنا بين سخط المخلوقين ورضاهم في السلوك إليك.

إلهنا! اغفر برحمتك زلاتنا.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الماعون

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٥١ (ذيل الحديث ١٦).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٩ (ذيل الحديث ١١).

٤٩٠
٤٩١

سورة

الكوثر

مكيّة

وعدد آياتها ثلاث آيات

٤٩٢

«سورة الكوثر»

محتوى السّورة :

المشهور أنّ هذه السّورة نزلت في مكّة ، وقيل : في المدينة ، وقيل : من المحتمل أنّها نزلت مرّتين في مكّة والمدينة ، لكن الرّوايات في سبب نزول السّورة تؤيد أنّها مكّية.

ذكر في سبب نزول السّورة : أنّ «العاص بن وائل» رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من المسجد ، فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدثا ، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل «العاص» قيل له من الذي كنت تتحدث معه؟ قال : ذلك الأبتر. وكان قد توفي عبد الله بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من خديجة ، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر. قسمته قريش عند موت ابنه أبتر. (فنزلت السّورة تبشر النّبي بالنعم الوافرة والكوثر وتصف عدوّه بالأبتر) (١).

ولمزيد من التوضيح نذكر أنّ النّبي كان له ولدان من ام المؤمنين خديجة عليها‌السلام أحدهما «القاسم» والآخر «الطاهر» ويسمى أيضا عبد الله. وتوفي كلاهما في مكّة. وأصبح النّبي من دون ولد. هذه المسألة وفرت للأعداء فرصة الطعن بالنّبي فسمّوه الأبتر (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٩.

(٢) كان للرّسول ابن آخر من «مارية القبطية» اسمه إبراهيم. ولد في الثامنة للهجرة بالمدينة ، ولكنّه توفي أيضا قبل بلوغ الثّانية من عمره ، وحزن عليه الرسول كثيرا.

٤٩٣

والعرب حسب تقاليدها كانت تعير أهمّية بالغة للولد ، وتعتبره امتدادا لمهام الأب. بعد وفاة عبد الله خال الأعداء أنّ الرسالة سوف تنتهي بوفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

السّورة نزلت لتردّ على هؤلاء الأعداء بشكل إعجازي ولتقول لهم : إنّ عدوّ الرسول هو الأبتر ، وأن الرسالة سوف تستمر وتتواصل وهذه البشرى بددت من جهة آمال الأعداء وطيبت خاطر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن اغتم من لمز الأعداء وتآمرهم.

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها سقاه الله من أنهار الجنّة ، واعطي من الأجر بعدد كلّ قربان قربه العباد في يوم عيد ، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين» (١)

اسم هذه السّورة (الكوثر) مأخوذة من أوّل آية فيها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٨.

٤٩٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

التّفسير

أعطيناك الخير العميم ،

الحديث في كلّ هذه السّورة موجّه إلى النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مثل سورة والضحى ، وسورة ألم نشرح) ، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النّبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء.

تقول له أوّلا :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

و «الكوثر» : من الكثرة ، وبمعنى الخير الكثير ، ويسمى الفرد السخي كوثرا.

وفي معنى «الكوثر» ورد أنّه لما نزلت سورة الكوثر صعد رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر فقرأها على النّاس. فلما نزل قالوا : يا رسول الله ما هذا الذي أعطاك الله؟ قال : «نهر في الجنّة أشدّ بياضا من اللبن ، وأشدّ استقامة من القدح ، حافتاه قباب

٤٩٥

الدر والياقوت ...» (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام في معنى الكوثر قال : «نهي في الجنّة أعطاه الله نبيّه عوضا من ابنه» (٢).

وقيل : هو حوض النّبي الذي يكثر النّاس عليه يوم القيامة.

وقيل : هو النّبوة والكتاب ، وقيل : هو القرآن. وقيل : كثرة الأصحاب والأشياع. وقيل : هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها‌السلام حتى لا يحصى عددهم ، واتصل إلى يوم القيامة مددهم ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنّه الشفاعة (٣)

الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأيا في تفسير الكوثر ، ولكن هذه التفاسير تبيّن غالبا المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير».

نعلم أنّ الله سبحانه أعطى رسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعما كثيرة ، منها ما ذكره المفسّرون في معنى الكوثر وغيرها كثير ، وكلّها يمكن أن تكون تفسيرا مصداقيا للآية.

على أي حال ، كلّ الهبات الإلهية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير ، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات ، بل حتى علماء أمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كلّ زمان ومكان.

ولا ننسى أنّ كلام الله سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السّورة كان قبل ظهور الخير الكثير. فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد ، إخبار إعجازي يشكل دليلا آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا الخير الكثير يستوجب شكرا عظيما ، وإنّ كان المخلوق لا يستطيع أداء

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٩٦

حقّ نعمة الخالق أبدا. إذ أنّ توفيق الشكر نعمة اخرى منه سبحانه. ولذا يقول سبحانه لنبيّه :

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).

نعم ، واهب النعم هو سبحانه. لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره.

خاصّة وإن كلمة (ربّ) تعني استمرار النعمة والتدبير والربوبية.

بعبارة اخرى ، العبادات ، سواء كانت صلاة أم نحرا ، تختص بالربّ وولي النعمة ، وهو الله سبحانه وتعالى.

والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها ، بينما كانوا يرون نعمهم من الله. وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات.

كثير من المفسّرين يعتقدون أنّ الآية تقصد صلاة عيد الأضحى والنحر فيه.

لكن مفهوم الآية عام وواسع. وصلاة عيد الأضحى والنحر فيه من مصاديق الآية البارزة.

عبارة «وانحر» من النحر ، وهو ذبح الناقة. وقد يكون ذلك لأهمية الناقة بين أنواع الأضاحي. والمسلمون الأوائل كانوا يعتزون بالإبل. ونحرها يحتاج إلى إيثار كثير.

وذكر للآية المباركة تفسيران آخران.

١ ـ المقصود من كلمة (وانحر) أن استقبل القبلة في الصلاة. لأنّ النحر أعلى الصدر ، والعرب تستعمل الكلمة لاستقبال الشيء فيقولون : منازلنا تتناحر ، أي تتقابل.

٢ ـ المقصود رفع اليد عند النحر لدى التكبير ولذا ورد في الرّواية أنّه لما

٤٩٧

نزلت هذه السّورة قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل : «ما هذه النحيرة (١) التي أمرني بها ربّي؟» قال : «ليست بنحيرة ، ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت ، فإنّه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع. فإن لكلّ شيء زينة ، وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة» (٢).

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية أنّه أشار بيده وقال : «هكذا».

أي استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة (رفع يديه جاعلا كفه مقابل القبلة) (٣).

والتّفسير الأوّل أنسب ، لأنّ المقصود هو الردّ على أعمال المشركين الذين كانوا يعبدون وينحرون لغير الله ، ولكن لا مانع من الجمع بين هذه المعاني ، خاصّة وقد وردت بشأن رفع اليد عند التكبير روايات كثيرة في كتب الشيعة والسنة.

وبذلك يكون للآية مفهوم جامع يشمل هذه المعاني أيضا.

وفي آخر آية يقول الله سبحانه لنبيّه ردّا على ما وصمه به المشركون : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

«الشانئ» هو المعادي من «الشنان» ـ على وزن ضربان ـ وهو العداء والحقد.

و «أبتر» في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب (٤). وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لانتهاك الحرمة والإهانة. وكلمة (شانئ) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أية حرمة ولا يلتزم بأي أدب ، أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة.

والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع : إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول

__________________

(١) «النحيرة» آخر الشهر ، لأنّ الإنسان يستقبل فيه الشهر الجديد. وسؤال النّبي لجبريل عن هذا الاستقبال للشهر الجديد ، لذلك قال له جبريل : ليست بنحيرة.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٥٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٥٤٨.

٤٩٨

الله.

من جهة اخرى ، كما ذكرنا في سبب نزول السّورة ، قريش كانت تترقب انتهاء الرسالة بوفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّهم كانوا يقولون : إنّ النّبي بلا عقب. والقرآن يقول للنّبي : «لست بلا عقب ، بل شانئك بلا عقب».

* * *

بحوث

١ ـ فاطمة عليها‌السلام والكوثر

قلنا إنّ «الكوثر» له معنى واسع يشمل كل خير وهبه الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومصاديقه كثيرة ، لكن كثيرا من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ «فاطمة الزهراء عليها‌السلام» من أوضح مصاديق الكوثر ، لأنّ رواية سبب النزول تقول : إنّ المشركين وصموا النّبي بالأبتر ، أي بالشخص المعدوم العقب ، وجاءت الآية لتقول : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

ومن هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، لأن نسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة ... وذرية الرسول من فاطمة لم يكونوا امتدادا جسميا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل كانوا امتدادا رساليا صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر ، أو الخلفاء الإثني عشر بعد النّبي كما أخبر عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث المتواترة بين السنة والشيعة ، وكان منهم أيضا الآلاف المؤلفة من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسّرين وقادة الامّة.

والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر يقول : القول الثّالث «الكوثر» أولاده. قالوا لأنّ هذه السّورة إنّما نزلت ردّا على من عابه عليه‌السلام بعدم الأولاد فالمعنى أنّه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت

٤٩٩

ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام والنفس الزكية وأمثالهم (١).

٢ ـ إعجاز السّورة

هذه السّورة تتضمّن في الواقع ثلاثة من أنباء الغيب والحديث عن المستقبل.

فهي أوّلا تتحدث عن إعطاء الخير الكثير للنّبي (أعطيناك الكوثر) وهذا الفعل وإن جاء بصيغة الماضي ، قد يعني المستقبل الحتمي الوقوع. وهذا الخير الكثير يشمل كلّ الانتصارات والنجاحات التي أحرزتها الدعوة الإسلامية فيما بعد. وهي ما كانت متوقعة عند نزول السّورة في مكّة.

من جهة اخرى ، السّورة تخبر النّبي بأنّه سوف لا يبقى بدون عقب ، بل إنّ ذريته ستنتشر في الآفاق.

ومن جهة ثالثة ، تخبر السّورة بأنّ عدوّه هو الأبتر ، وهذه النبوءة تحققت أيضا ، فلا أثر لعدوه اليوم ، بنو امية وبنو العباس الذين عادوا النّبي وأبناءه كانوا ذا نسل لا يحصى عدده ، ولم يبق اليوم منهم شيء يذكر.

٣ ـ «إنّا» بصيغة الجمع ، لما ذا؟

يلاحظ في السّورة وفي مواضع اخرى من القرآن أن الله سبحانه ذكر نفسه بصيغة الجمع (ضمير المتكلم مع الغير) : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

هذا التعبير لبيان عظمته جلّت قدرته. فالعظماء حين يتحدثون عن أنفسهم ، فلا يعنون بشخصهم فقط بل يخبرون عمن تحت إمرتهم. وهي كناية عن القدرة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٢ ، ص ١٢٤.

٥٠٠