الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

سبب النّزول

ورد عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : كان أبو طالب يضرب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفه إلى أن قال : فقال أبو طالب : يا بن أخ إلى النّاس كافة أرسلت أم إلى قومك خاصّة؟ قال : لا بل إلى النّاس أرسلت كافة الأبيض والأسود والعربي والعجمي والذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار ، ولأدعون السنة فارس والروم فحيرت قريش واستكبرت وقالت : أما تسمع إلى ابن أخيك وما يقول والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) إلى آخر الآية وأنزل في قولهم لقلعت الكعبة حجرا

٤٦١

حجرا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) إلى آخر الآية (١).

قصّة أصحاب الفيل :

ذكر المفسّرون والمؤرخون هذه القصّة بأساليب مختلفة واختلفوا في سنة وقوعها. لكن أصل القصّة متوافرة ، ونحن نذكرها استنادا إلى الرّوايات المعروفة في «سيرة ابن هشام» و «بلوغ الأرب» و «بحار الأنوار» و «مجمع البيان» بتلخيص : «ذو نواس» ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصّة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج ، وبيّناها بالتفصيل هناك).

بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح ، وشرح له ما جرى.

ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة ، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران ، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهّز النجاشي جيشا عظيما يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن. وكان (أبرهة) أيضا من قواد ذلك الجيش.

اندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكما على اليمن ، وبعد مدّة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه.

بلغ ذلك النجاشي ، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.

و (أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه ، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال ، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك ، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٦٩ ، الحديث ٨.

٤٦٢

يحجّوا إليها بدل (الكعبة) ، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن.

أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز ، يدعونهم إلى حجّ كنيسة اليمن ، فأحسّ العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكّة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنّها من آثار إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

تذكر بعض الرّوايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النّار في الكنيسة. وقيل إنّهم لوثوها بالقاذورات ، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدما كاملا ، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد ، فجهّز جيشا عظيما كان بعض أفراده يمتطي الفيل ، واتجه نحو مكّة.

عند اقترابه من مكّة بعث من ينهب أموال أهل مكّة ، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.

بعث (أبرهة) قاصدا إلى مكّة وقال له : ابحث عن كبير القوم وقل له إنّ أبرهة ملك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب ، بل جئت لأهدم هذا البيت ، فلو استسلمتم ، حقنت دماؤكم.

جاء رسول أبرهة إلى مكّة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب ، فحدثه بحديث أبرهة ، فقال عبد المطلب ، نحن لا طاقة لنا بحربكم ، وللبيت ربّ يحميه.

ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي ، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته ، حتى قام من مكانه احتراما وجلس على الأرض واجلس عبد المطلب إلى جواره لأنّه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكه ثمّ قال لمترجمه اسأله ما حاجتك؟ قال عبد المطلب : نهبت إبلي فمرهم بردّها عليّ.

٤٦٣

فاندهش أبرهة وقال لمترجمه : قل له إنّه احتل مكانا في قلبي حين رأيته ، والآن قد سقط من عيني. أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر الكعبة وهي شرفك وشرف أجدادك ، وأنا قدمت لهدمها؟!

قال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وللبيت ربّ يحميه؟!

عاد عبد المطلب إلى مكّة ، وأخبر أهلها أن يلجأوا إلى الجبال المحيطة بها ، وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وانشد أبياته المعروفة :

لا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك

جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك

ولا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع عيالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

ثمّ لاذ عبد المطلب وجمع من قريش بإحدى شعاب مكّة وأمر أحد ولده أن يصعد على جبل (أبو قبيس) ليرى ما يجري.

عاد الابن مسرعا إلى أبيه وأخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر (البحر الأحمر) إلى أرض مكّة. استبشر عبد المطلب وصاح : «يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده».

من جانب آخر ، توجه أبرهة راكبا فيله المسمى «محمودا» مع جيشه الجرار مخترقا الجبال ومنحدرا إلى مكّة ، لكن الفيل أبى أن يتقدم ، أمّا حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول ، تعجب أبرهة من هذا وتحيّر.

وفي هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف وهي تحمل حجرا في منقارها وحجرين في رجلها ، بحجم الحمّصة ، وألقوها على جيش أبرهة ، فأهلكتهم. وقيل : إنّ الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه

٤٦٤

ويخرج من الجانب الآخر.

ساد الجيش ذعر عجيب ، فهلك منه من هلك ، وفرّ من استطاع الفرار ، صوب اليمن ، وكانوا يتساقطون في الطريق.

(أبرهة) أصيب بحجر ، وجرح ، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه ، وهناك فارق الحياة.

وقيل : إنّ مرض الحصبة والجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة.

وقيل : إنّ أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه واسمه محمود. وقيل : بل ثمانية أفيال ، وقيل : عشرة ، وقيل : اثني عشر.

وفي هذا العام ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب الرّواية المشهورة ، وقيل إنّ بين الحادثتين ارتباطا.

على أي حال ، فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل ، وأصبح مبدأ تاريخ العرب (١).

* * *

التّفسير

كيد ابرهة :

يخاطب الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الاولى من السّورة ويقول له : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)؟

لقد جاؤوا بجيش جرار مجهّز بالعدّة والعدد ليهدموا الكعبة. والله سبحانه دحرهم بجيش في ظاهره صغير بسيط. وأباد الفيلة بطير صغير ، وهدم الآلة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٨ ـ ٦٢ ؛ وبلوغ الإرب ، ج ١ ، ص ٢٥٠ ـ ٢٦٣ ؛ وبحار الأنوار ، ج ١٥ ، ص ١٣٠ وما بعدها ؛ ومجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٢.

٤٦٥

الحربية المتطورة في ذلك الزمان بحجارة من سجيل. ليتّضح ضعف هذا الإنسان المغرور المتكبر أمام قدرة الله.

التعبير بجملة (أَلَمْ تَرَ) في الآية ، مع أنّ الحادثة وقعت قبل ولادة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مقترنة بولادته ، يعود إلى أنّ الحادثة المذكورة قريبة العهد من عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما إنّها بلغت من الشهرة والتواتر وكأن النّبي رآها بعينه المباركة. هذا إلى أن جمعا من معاصري الرسول كانوا قد رأوها بأعينهم.

عبارة (بِأَصْحابِ الْفِيلِ) إشارة إلى ما كان مع الجيش المهاجم من فيلة جاؤوا بها من اليمن ليرعبوا العرب وخيولهم (١).

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)؟!

لقد استهدفوا الكعبة ليهدموها وليقيموا بدلها كعبة اليمن ، وليدعوا قبائل العرب إلى حج هذا المعبد الجديد. لكنّه سبحانه حال دون تحقق هدفهم ، بل زاد الكعبة شهرة وعظمة بعد أن ذاع نبأ أصحاب الفيل في جزيرة العرب ، وأصبحت قلوب المشتاقين تهوى إليها أكثر من ذي قبل ، وأسبغ على هذه الديار مزيدا من الأمن.

كيدهم إذن صار في تضليل ، أي في ضلال حيث لم يصلوا إلى هدفهم.

ثمّ تشرح الآيات التالية بعض جوانب الواقعة.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ).

«أبابيل» لم تكن في لهجات العرب المعروفة اسما لطائر ، بل إنّها صفة ، قيل إنّ معناها جماعات متفرقة. أي إنّ هذه الطير كانت تأتي على شكل مجموعات والكلمة لها معنى الجمع. وقيل : إنّ مفرده (أبابلة) وهي المجموعة من الطير أو الخيل أو الإبل ، وقيل إنّ الكلمة جمع لا مفرد له من لفظه.

على أي حال عبارة «طيرا أبابيل» تعني طيرا على شكل مجموعات.

__________________

(١) الفيل ، لفظه مفرد ، وله هنا معنى الجنس والجمع.

٤٦٦

والمشهور أنّ هذه الطير كانت تشبه الخطاطيف قدمت من صوب البحر الأحمر في اتجاه أصحاب الفيل.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (١).

وكما ذكرنا في قصّة أصحاب الفيل ، فإنّ كلّ واحدة من هذه الطير كانت تحمل ثلاث حجارات أصغر من الحمصة ، واحدة في منقارها واثنين في ارجلها.

وما أن تسقط هذه الحجارة على أحد حتى تهلكه.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

و «العصف» هو النبات الجاف المتهشّم ، أي هو (التبن) بعبارة اخرى. وقيل إنّه قشر القمح حين يكون في سنبله. والمناسب هنا هو المعنى الأوّل.

وقال «مأكول» إشارة إلى أنّ هذا التبن قد سحق مرّة أخرى بأسنان الحيوان ، ثمّ هشّم ثالثة في معدته ، وهذا يعني أنّ أصحاب الفيل ، قد تلاشوا بشكل كامل عند سقوط الحجارة عليهم.

وهذا التعبير إضافة إلى ما له من معنى الإبادة التامة ، يحمل معنى التفاهة والضعف ممّا صار إليه هؤلاء المهاجمون الطغاة المستكبرون والمتظاهرون بالقوّة.

* * *

بحوث

١ ـ المعجزة (للبيت ربّ يحميه)

القرآن الكريم يذكر هذه القصّة الطويلة في عبارات قليلة قصيرة قارعة ، وفي غاية الفصاحة والبلاغة ، ويركز على نقاط تساعد على تحقيق الأهداف القرآنية المتمثلة في إيقاظ المتعنتين المغرورين وبيان ضعف الإنسان أمام قدرة الجبار

__________________

(١) سجيّل كلمة فارسية مأخوذة من دمج كلمتين هما «سنگ» و «گل». وتعني الطين المتحجّر.

٤٦٧

المتعال.

هذه الحادثة تبيّن أنّ المعجزات والخوارق لا تستلزم ـ كما ظنّ بعض ـ وجود النّبي والإمام ، بل تظهر في كلّ ظرف يشاء الله فيه أن تظهر. والهدف منها إظهار عظمة الله سبحانه وحقانية دينه.

هذا العقاب العجيب الأعجازي ، يختلف عمّا نزل من عقاب على امم اخرى مثل طوفان قوم نوح ، وزلزال قوم لوط وإمطارهم بالحجارة ، وصاعقة قوم ثمود ؛ فهذه سلسلة حوادث طبيعية يتمثل إعجازها في حدوثها في تلك الظروف الخاصّة.

أمّا قصّة إبادة جيش أبرهة بحجارة من سجّيل ، ترميها طير أبابيل ، وليست كالحوادث الطبيعية.

تحليق هذه الطيور الصغيرة ، واتجاهها نحو ذلك الجيش الخاص ، ورميه بالحجارة التي تستطيع أن تهشّم أجساد جيش ضخم ... كلّ تلك امور خارقة للعادة. ولكنّها ـ كما نعلم ـ ضئيلة جدّا أمام قدرة الله تعالى.

الله الذي خلق داخل هذه الحجارة قدرة ذرية لو تحررت لولدت انفجارا هائلا ، لقادر على أن يجعل في هذه الحجارة خاصية تستطيع أن تحوّل جيش أبرهة إلى (عصف مأكول).

لسنا في حاجة لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المعاصرين في تفسير هلاك جيش أبرهة بمكروبات وباء الحصبة والجدري (١) أو أن نقول إنّ هذه الحجارة كانت ذرات متكافئة أزيلت الفراغات بينها فأصبحت ثقيلة للغاية ، وقادرة على أن تخترق الأجساد.

كلّ هذه تبريرات تستهدف إعطاء صفة طبيعية لهذه الحادثة. ولسنا بحاجة

__________________

(١) تفسير جزء عم ، محمّد عبده ، ص ١٥٨. وذكر المؤرخون طبعا انتشار وباء الحصبة والجدري في بلاد العرب لأوّل مرّة في نفس ذلك العام ، لكن هذا لا ينهض دليلا على أن هلاك جيش أبرهة بتلك الأوبئة.

٤٦٨

إليها. كلّ ما نعلمه هو أنّ هذه الحجارة كانت لها خاصية غريبة في تهشيم الأجسام. ولم يخبرنا القرآن بأكثر من ذلك ، وليس الأمر بمتعذر أمام قدرة الله سبحانه.

٢ ـ أشد الجزاء بأبسط وسيلة

يلاحظ أنّ هذه القصّة تتضمّن بيان قدرة الله أمام المستكبرين والطغاة على أفضل وجه ... ولعل العقاب الذي حلّ بأبرهة وجيشه لا يبلغه عقاب ، إذ على أثره تهشّم جيش وتحول إلى (عصف مأكول).

ثمّ إنّ إبادة هذا الجيش الجرار بكلّ ما كان يمتلكه من قدرة وشوكة كانت بواسطة أحجار صغيرة ، وبواسطة طيور صغيرة كالخطاطيف. وفي هذا تحذير وإنذار لكلّ الطغاة والمستكبرين في العالم ، ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه.

وقد يوكل الله سبحانه أداء هذه المهام الكبرى لموجودات أصغر ، مثل المكروبات التي لا ترى بالعين المجردة ، لتتكاثر وتتناسل في مدّة وجيزة وتصيب أمما قوية بالأوبئة المختلفة كالطاعون ، وتبيدهم خلال مدّة قصيرة.

«سد مأرب» العظيم في اليمن ـ كما جاء ذكره في تفسير سورة سبأ ـ كان وسيلة لعمران كبير ومدنية عظيمة وقوية لقوم سبأ ، وحين طغى هؤلاء القوم ، جاء أمر إبادتهم عن طريق فأر صحراوي أو عدد من الفئران ـ كما تذكر بعض الرّوايات ـ فثقبت السد ، واتسع الثقب تدريجيا بالماء ، وتحطم السد العظيم ، واكتسح الماء كلّ ما بناه القوم وأغرق الأفراد أو شردهم إلى كلّ حدب وصوب متفرقين حيارى ، وهذه من مظاهر قدرة الله سبحانه.

٣ ـ أهداف قصّة الفيل

من السّورة التالية (سورة لإيلاف) نفهم أنّ أحد أهداف سورة الفيل التذكير

٤٦٩

بنعمة إلهية كبرى منّ الله سبحانه بها على قريش ، وتفهيمهم أنّه لو لا لطف الله سبحانه وفضله لما بقي أثر لمكّة ولا للكعبة ولا لقريش ... لعل ذلك يكون عاملا على كبح جماح هؤلاء المغرورين ، وعلى قبول دعوة الدين المبين.

من جهة اخرى هذه الحادثة اقترنت بولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت ممهّدة للبعثة المباركة ، وإرهاصا (١) من إرهاصات بزوغ فجر الإسلام.

والقصة من ناحية ثالثة تهديد لكل طغاة العالم ، من قريش وغير قريش ؛ ليعلموا أنّهم لا يستطيعون أبدا أن يقاوموا أمام قدرة الله تعالى ، فما أجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم ، ويخضعوا لأمر الله ، ويستسلموا للحق والعدل.

ثمّ هي من جانب رابع تبيّن أهمية هذا البيت الكبير. الأعداء الذين استهدفوا هدم الكعبة ، ونقل مركزية هذا الحرم الإبراهيمي إلى مكان آخر ، قد واجهوا من العذاب ما أصبح عبرة للأجيال ، وما زاد من أهمية هذا المركز المقدس.

ومن جهة خامسة ، هذه الحادثة تؤكّد مشيئة الله سبحانه في جعل هذا الحرم آمنا استجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

٤ ـ حادثة تاريخية قطعية

حادثة «أصحاب الفيل» كانت من الأهمية والشهرة بين العرب بحيث جعلوها مبدأ للتاريخ. والقرآن الكريم بدأ الحديث عن القصّة بعبارة (أَلَمْ تَرَ) مخاطبا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم ير هذه الحادثة. وهي دلالة اخرى على قطعية وقوع الحادثة.

أضف إلى ذلك أنّ النّبي ـ حين تلا هذه الآيات على المشركين ـ لم ينكر عليه أحد ، ولو كان أمرا مشكوكا لاعترضوا عليه ، ولسجل المؤرخون هذا الاعتراض كما سجلوا سائر الاعتراضات ؛ خاصّة وأنّ القرآن بدأ الموضوع بجملة (أَلَمْ تَرَ).

__________________

(١) «الإرهاص» ، هو المعجزة الّتي ، تسبق ظهور النّبي ، لتمهّد لدعوته. والكلمة في الأصل تعني الأساس والحجر الأوّل الذي يقام عليه البناء ، وكذلك بمعنى الاستعداد.

٤٧٠

كما إنّ عظمة هذا البيت الكريم تتبيّن ضمنيا بهذا الإعجاز التاريخي القطعي.

اللهمّ! وفقنا لصيانة هذا المركز التوحيدي العظيم.

اللهم! طهّر هذا البيت من أولئك الذين يكتفون بحفظ ظواهره ويصادرون رسالته التوحيدية الحقيقية.

ربّنا! ارزقنا زيارة البيت بوعي وعرفان.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الفيل

* * *

٤٧١
٤٧٢

سورة

قريش

مكيّة

وعدد آياتها أربع آيات

٤٧٣
٤٧٤

«سورة قريش»

محتوى السّورة :

هذه السّورة في الحقيقة مكملة لسورة الفيل ، وآياتها تدل على ذلك.

تتضمّن هذه السّورة بيان نعمة الله على قريش ولطفه لهم ومحبّته له ، كي يحرك فيهم دافع الشكر ويحثهم على عبادة ربّ هذا البيت العظيم الذي يستمدون منه كلّ مفاخرهم وشرفهم.

وكما إنّ سورة «والضحى» وسورة «ألم نشرح» تعتبران سورة واحدة ـ كما ذكرنا ـ كذلك سورة «الفيل» وسورة «قريش» هما سورة واحدة ، وارتباط موضوعهما يدل على ذلك أيضا.

ولذلك وجب قراءتهما معا في الصلاة لمن يرى وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

لمزيد من التوضيح تراجع كتب الفقه في أبواب الصلاة. (١)

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» (٢).

__________________

(١) أورد الحر العاملي ، في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٤ ، ص ٧٤٣ ، باب ١٠ من أبواب قراءة الصلاة ، روايات عدّة في هذا المضمار.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٣.

٤٧٥

هذه الفضيلة دون شك لمن عبد ربّ البيت حقّ عبادته ، وصان حرمة البيت كما يجب ، وتشربت نفسه برسالة هذا المركز التوحيدي.

* * *

٤٧٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

التّفسير

ربّ هذا البيت يجب أن يعبد :

في سورة «الفيل» جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السّورة التي تعتبر امتدادا للسورة السابقة تقول : نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) ، أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«إيلاف» مصدر آلف ، و «آلفه» أي جعله يألف ، أي جعله يجتمع اجتماعا مقرونا بالانسجام والأنس والالتيام. وقال بعضهم : «الإيلاف» من المؤالفة ، وهي

__________________

(١) «اللام» في «لإيلاف» بمعنى العلة ، وجار ومجرور متعلق ب «جعل» في السّورة السابقة في آية (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أو أحد الأفعال التي كانت في السّورة ، بينما يرى البعض أن الجار والمجرور يتعلقان بجملة «فليعبدوا» القادمة ، لكن هذا الاحتمال لا يتفق مع مضمون الآيات ، والمعنى الأوّل أحسن.

٤٧٧

العهد والميثاق ، ولا تناسب بين هذا المعنى وبين الكلمة وهي مصدر باب الأفعال ، وبين محتوى السّورة.

على كلّ حال ، المقصود إيجاد الألفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكّة والبيت العتيق ، لأنهم وكلّ أهل مكّة اختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها. كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كلّ سنة ، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين.

كلّ ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن. ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد ألفة بهذه الأرض.

كلمة «قريش» في الأصل نوع من الأحياء البحرية الضخمة التي تبتلع كلّ ما يصادفها ، كما يقول المفسّرون واللغويون ، وعن ابن عباس في معنى قريش قال :

«لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه ، يقال لها القريش ، لا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلّا أكلته»! واستشهد لذلك بأبيات ممّا قالته العرب.

من هنا فإنّ انتخاب هذا الاسم لهذه القبيلة يعود إلى اقتدار هذه القبيلة وقوتها ، وإلى استغلال هذه القوّة في الانقضاض على الآخرين.

وقيل إنّ قريش من القرش ، وهو الاكتساب ، لأنّ قريشا كانت مشغولة دوما بالتجارة والكسب.

وقيل : إنّ معنى «القرش» التفتيش والمراجعة ، وسمّيت قريش بذلك لتفقدها أحوال الحجاج والمسارعة لمساعدتهم.

و «القرش» في اللغة ورد بمعنى الاجتماع أيضا ، وإذا كان هذا المعنى مقصودا في التسمية فذلك يعود إلى ما كانت تتصف به هذه القبيلة من اجتماع وانسجام.

على أي حال اسم قريش لم يقترن بسمعة طيبة. فهم وإن كانوا عشيرة الرسول ـ إلّا أنّهم ناصبوا الإسلام أشدّ العداء ، ولم يألوا جهدا في وضع العراقيل أمام الدعوة والوقوف بوجهها وتعذيب الدعاة ، وبعد انتصار الإسلام عليهم ،

٤٧٨

عمدوا إلى التآمر الخفي على المسلمين ، ثمّ بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقوا أحداثا مؤلمة لا ينساها لهم تاريخ الإسلام أبدا. ونعلم أنّ بني امية وبني العباس الذين أقاموا حكومة الجبابرة والطواغيت كانوا من قريش.

القرائن التاريخية تشير إلى أنّ هذه القبيلة كانت في الجاهلية أيضا تستثمر النّاس وتستغلهم. ولذلك وجدت في الإسلام خطرا على مصالحها لدعوته إلى تحرير الإنسان ، وشنت عليه حربا لا هوادة فيها ، إلى أن اندحرت أمام قدرة الإسلام.

(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) (١).

مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالبا من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف. والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما.

هذه هي رحلة الشتاء ... ورحلة الصيف.

والمقصود ب «إيلافهم» في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من آمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة.

وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ، لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية

__________________

(١) «إيلافهم» بدل من في الآية السابقة ، و (هم) مفعول أوّل ، و (رحلة الشتاء) مفعول ثان ، وقيل أنّه ظرف ، وقيل منصوب بنزع الخافض ، أي إيلافهم من رحلة الشتاء والصيف (يبدو أن المعنى الثّاني والثّالث أنسب). «رحلة» في الأصل من «رحل» ـ على زنة شهر ـ بمعنى الغطاء الذي يغطي به ظهر الدابة لركوبها ، ثمّ أطلقت على الإبل أو السفر بواسطته أو بوسائط اخرى.

٤٧٩

خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة.

قريش لم تكن طبعا مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن الله لطف بهم لما كان مقدّرا للإسلام والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة.

الآية الاخيرة تقول : إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ).

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ...) الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة ، ودفع عنهم الخوف والضرر ، كلّ ذلك باندحار جيش أبرهة.

وبفضل دعاء إبراهيم الخليل عليه‌السلام مؤسس الكعبة. لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة ، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان ، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم.

اللهمّ! هب لنا توفيق العبادة والطاعة وشكر النعم وحراسة هذا البيت العظيم.

ربّنا! زد في عظمة هذا المركز الإسلامي الكبير واجعله حلقة اتصال بين المسلمين.

إلهنا! اقطع دابر الأعداء الظالمين القتلة المتلاعبين بمقدرات هذا المركز الإسلامي الكبير.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة قريش

* * *

٤٨٠