الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

كما إنّ جهل الإنسان بضعفه ومسكنته ... ببدايته ونهايته ... من العوامل الاخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر. ولهذا فإنّ القرآن الكريم بهدف كسر روح التفاخر والتكاثر في الأفراد ، يقصّ علينا في مواضع كثيرة مصير الأقوام السالفة ، وكيف إنّها كانت تمتلك كلّ وسائل القوّة والمنعة ، لكنّها أبيدت بوسائل بسيطة ... بالريح ... بالصاعقة ... بالزلزال ... بالسيل ... بعبارة اخرى بالماء والهواء والتراب .. وأحيانا بالسجّيل وبطير أبابيل!!

فلم ـ والحال هذه ـ كلّ هذا التفاخر والغرور؟! ثمّ عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل. والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «ما من رجل تكبر أو تجبّر إلّا لذلة وجدها في نفسه» (١).

وعن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام قال :

«ثلاثة من عمل الجاهلية : الفخر بالأنساب ، والطعن بالأحساب والاستسقاء بالأنواء (طلب الماء بواسطة النجوم)» (٢).

وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «أهلك النّاس اثنان : خوف الفقر ، وطلب الفخر» (٣).

والحق أنّ أهم عوامل الحرص والبخل والخلود إلى الدنيا والمنافسات المخربة ، وكثير من المفاسد الاجتماعية هو هذا الخوف الوهمي من الفقر والتفاخر والتعالي بين الأفراد والأمم والقبائل.

ولذا ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦ : باب الكبر ، الحديث ١٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٢٩١.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٢٩٠ ، الحديث ١٢.

٤٢١

عليكم التكاثر» (١).

«التكاثر» كما أشرنا يعني في الأصل التفاخر ، ولكنّه يعني أحيانا حبّ الاستزادة من المال وجمعه ، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«التكاثر في الأموال : جمعها من غير حقّها ، ومنعها من حقها ، وشدّها في الأوعية» (٢).

هذا البحث الموسّع نختمه بحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال :

«يقول ابن آدم : مالي مالي ؛ وما لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت» (٣).

نعم ، حقّا لا يعود على الإنسان شيء من ماله الذي جمعه وعدده ، وتساهل ـ أحيانا ـ في حلاله وحرامه ، إلّا ما يأكل ويشرب ويلبس ، أو ما ينفقه في سبيل الله وما ينفقه على الاحتياجات الشخصية قليل ، فما أفضل أن يزيد حظه من ماله بالإنفاق!

٢ ـ اليقين ومراحله

«اليقين» يقابل «الشك» ، كما إنّ «العلم» يقابل «الجهل» ، واليقين يعني وضوح الشيء وثبوته. ويستفاد من الرّوايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان.

الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام يجعل الإيمان أعلى من الإسلام درجة ، والتقوى أعلى من الإيمان درجة ، واليقين أعلى من التقوى درجة ثمّ يقول : «ولم يقسم بين النّاس شيء أقل من اليقين».

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٨٧.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٦٢ ، الحديث ٨.

(٣) صحيح مسلم ، نقلا عن مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٣٤.

٤٢٢

ويسأل الراوي : ما هو اليقين؟ يقول : «التوكل على الله ، والتسليم لله ، والرضا بقضاء الله ، والتفويض إلى الله!» (١).

علوّ مقام اليقين على مقام التقوى والإيمان والإسلام أكدت عليه روايات أخرى (٢).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي النّاس بسخط الله ، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله ... إنّ الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».

ومن هذه النصوص وأمثالها نفهم جيدا أنّ الإنسان ـ حين يصل إلى مقام اليقين ـ تغمر قلبه وروحه طمأنينة خاصّة.

ومع هذا ، فلليقين مراتب ، أشارت إليها الآية أعلاه والآية (٩٥) من سورة الواقعة : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) ، وهي ثلاثة :

١ ـ علم اليقين : وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة ، كأن يشاهد دخانا فيعلم علم اليقين أن هناك نارا.

٢ ـ عين اليقين : وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلا النّار.

٣ ـ حقّ اليقين : وهو كأن يدخل الإنسان النّار بنفسه ويحسّ بحرقتها ، ويتصف بصفاتها. وهذه أعلى مراحل اليقين.

يقول المحقق الطوسي : اليقين اعتقاد جازم مطابق ثابت ، لا يمكن زواله ، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين ، العلم بالمعلوم والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال ،

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٤٣.

(٢) الميزان ، ج ٦ ، ص ١٨٧.

٤٢٣

وله مراتب : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحقّ اليقين (١).

إنّه ذكر عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بعض أصحاب عيسى عليه‌السلام كان يمشي على الماء فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء»

فالحديث ـ كما ترى ـ يومئ إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه ومحو الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير ، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره (٢).

٣ ـ الجميع يرى جهنم

الآية الكريمة : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) لها تفسيران :

الأوّل : إنّها تتحدث عن مشاهدة الجحيم في الآخرة ، وهو خاص بالكفّار ، أو لعامة الجن والإنس ، إذ تنص بعض الآيات على أنّه ما من أحد إلّا وارد جهنّم.

الثّاني : إنّها تتحدث عن الشهود القلبي في عالم الدنيا. وفي هذه الحالة تكون الآية جوابا لقضية شرطية هي : لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم (في هذه الدنيا بعين بصيرتكم). لأنّ الجنّة وجهنّم مخلوقان ، ولهما الآن وجود خارجي.

ولكن ـ كما ذكرنا ـ التّفسير الأوّل أنسب مع الآيات التالية التي تتحدث عن يوم القيامة. من هنا ، فالقضية قطعية وليست شرطية.

٤ ـ أيّ نعيم يسأل عنه يوم القيامة؟

الآية الأخيرة من السّورة تقول : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). قيل إنّ النعيم المسؤول عنه هو نعمة السلامة ، وفراغ البال ، وقيل : إنّه الصحة والسلامة والأمن ،

__________________

(١) على ما في بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٤٣.

(٢) الميزان ، ج ٦ ، ص ٢٠٠ «ذيل الآية ١٠٥ من سورة المائدة».

٤٢٤

وقيل : الآية تشمل كل هذه النعم.

وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «النعيم : الرّطب ، والماء البارد».

وروي أنّ أبا حنيفة سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن تفسير هذه الآية قال الإمام : «ما النعيم عندك يا نعمان» قال : القوت من الطعام والماء البارد ، فقال عليه‌السلام «لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه». قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال الامام : «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم الله للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النّبي وعترته» (١).

من كلّ هذه الرّوايات ـ التي يبدو أنّها مختلفة في ظاهرها ـ نفهم أنّ النعيم له معنى واسع جدّا يشمل كلّ المواهب الإلهية المعنوية منها مثل : الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية ، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أن النعم التي لها أهميّة أكبر مثل : نعمة «الإيمان والولاية» يسأل عنها أكثر. هل أدّى الإنسان حقّها أم لا؟ والرّوايات التي تنفي شمول الآية للنعم المادية يظهر أنّها تريد أن تقول : لا ينبغي أن نترك المصاديق الأهم للآية ونتمسك بالمصاديق الأصغر. إنّه تحذير ـ في الواقع ـ إلى النّاس بشأن سلسلة مراتب المواهب والنعم الإلهية ، وبأنّهم يتحملون إزاءها مسئولية ثقيلة.

وكيف يمكن أن لا يسأل عن هذه النعم؟ وهي ثروة كبيرة وهبت للبشرية يجب أن تقدر كل واحدة منها حقّ قدرها وأن يؤدّى شكرها ، وأن يستثمر كل منها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٣٥.

٤٢٥

في موضعها.

اللهمّ! أدم علينا نعمك التي لا تحصى ، خاصّة نعمة الإيمان والولاية.

ربّنا! وفقنا لأداء حق كل هذه النعم.

إلهنا! زد علينا من نعمك الكبرى ، ولا تسلبها منا أبدا.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التكاثر

* * *

٤٢٦
٤٢٧

سورة

العصر

مكيّة

وعدد آياتها ثلاث آيات

٤٢٨

«سورة والعصر»

محتوى السّورة :

المعروف أنّ هذه السّورة مكّية ، واحتمل بعضهم أنّها مدنية. ويشهد على مكّيتها لحنها ومقاطعها القصيرة.

شمولية هذه السّورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسّرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه. بعبارة اخرى : هذه السّورة ـ رغم قصرها ـ تقدم المنهج الجامع والكامل لسعادة الإنسان.

تبدأ السّورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. وسيأتي تفسيره. ثمّ تتحدث عن خسران كلّ أبناء البشر خسرانا قائما في طبيعة حياتهم التدريجية. ثمّ تستثنى مجموعة واحدة من هذا الأصل العام ، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد :

الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وهذه الأصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والاجتماعي للإسلام.

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ «والعصر» في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه ، ضاحكا سنّة ، قريرة عينه ، حتى

٤٢٩

يدخل الجنّة» (١).

وواضح أنّ كل هذه الفضيلة وهذه البشرى نصيب من طبق الأصول الأربعة المذكورة في حياته ، لا أن يقنع فقط بقراءتها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٤٥.

٤٣٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

التّفسير

طريق النجاة الوحيد :

في بداية هذه السّورة نواجه قسما قرآنيا جديدا ، يقول سبحانه :

(وَالْعَصْرِ).

كلمة (العصر) في الأصل الضغط ، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية ، أو مقطع زماني معين ، كأن نقول عصر صدر الإسلام. ولذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة :

١ ـ قيل : إنّه وقت العصر من النهار ، بقرينة وجود مواضع اخرى أقسم الله فيها بأوّل النهار كقوله تعالى : (وَالضُّحى) (١) أو (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٢).

__________________

(١) والضحى ، الآية ١.

(٢) المدثر ، الآية ٣٤.

٤٣١

وإنّما أقسم بالعصر لأهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر ، الأعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وقرص الشمس يميل إلى الغروب ، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلما بالتدريج.

هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة الله المطلقة في نظام الكون ، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد ، وأية من آيات الله تستحق أن يقسم بها.

٢ ـ قيل : إنّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة ، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.

٣ ـ بعضهم قال : إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة ، أو عصر قيام المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر. والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة (١).

٤ ـ بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة ، وقال إنّ القسم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته ، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده ، وتذكره بالله سبحانه ، وتربّي فيه روح الاستقامة.

٥ ـ قيل : إنّها إشارة إلى «الإنسان الكامل» الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.

٦ ـ وأخيرا قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر ، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات ، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر الله أن يحافظ عليها خاصّة.

مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة ، ويمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية ، ويكون القسم بكل هذه الأمور الهامّة ، ولكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية. لأنّ القسم القرآني ـ كما ذكرنا مرارا ـ يتناسب مع الموضوع الذي أقسم الله من أجله ومن المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن

__________________

(١) عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال في تفسير آية : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) : العصر عصر خروج القائم (أي خروج الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه). نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٦٦ ، الحديث ٥.

٤٣٢

تصرّم عمرهم ، أو أنّه عصر بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر.

تتّضح ممّا سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها. فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة.

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القسم من أجله ، يقول سبحانه :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)

الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى ،. تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة ، تضعف قواه المادية والمعنوية ، تتناقص قدرته باستمرار.

نعم ، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة ، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته ، هذه طبيعة الحياة الدنيوية ... طبيعة الخسران المستمر!

القلب له قدرة معينة على الضربان ، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائيا دون علّة من عيب أو مرض. هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض.

وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان ، وثروات قدراته المختلفة.

«خسر» وخسران ، كما يقول الراغب ، انتقاص رأس المال ، وينسب ذلك إلى الإنسان ، فيقال خسر فلان ، وإلى الفعل فيقال : خسرت تجارته. قال تعالى : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ). ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر ، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين ، وقال : «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين» (١).

الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنّه

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة خسر.

٤٣٣

تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله (١)

على أي حال ، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة. كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي عليه‌السلام : «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون» (٢)

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول : كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلّا مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.

نعم ، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري ، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)

بعبارة اخرى : ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير ، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال ، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن ، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود ، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات ، بل مئات ، بل آلاف المرات.

كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت ، أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يقول : «نفس المرء خطاء إلى أجله» (٣).

وهكذا كلّ ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لا بدّ من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي.

هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير ، على بيت صغير أو فخم.

هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٢ ، ص ٨٥.

(٢) تحف العقول ، ص ٣٦١ ، كلمات الإمام الهادي عليه‌السلام.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٧٤.

٤٣٤

وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته.

ليس أي واحد من هذه الأمور ـ دون شك ـ يمكن أن يكون ثمنا لتلك الثروة العظيمة ... ثروة العمر ... ثمنها الوحيد رضا الله سبحانه ومقام قربه لا غير. قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها» (١).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في دعاء شهر رجب : «خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلّا لك».

ومن هنا كان أحد أسماء يوم القيامة «يوم التغابن» كما جاء في قوله سبحانه : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٢). أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر.

إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه. فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) (٣).

ومن جهة أخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٤).

ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمنا عظيما يبلغ أحيانا عشرة أضعاف وأحيانا سبعمائة ضعف ، وأحيانا أكثر : (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٥).

وكما ورد في الدعاء : «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير».

ومن جهة رابعة ، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها الله إيّاه ... والله بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان!

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الكلمة ٤٥٦.

(٢) التغابن ، الآية ٩.

(٣) التوبة ، الآية ١١١.

(٤) الزلزال ، الآية ٧.

(٥) البقرة الآية ٢٦١.

٤٣٥

بحث

منهج السعادة ذو المواد الأربع :

من المهم أن نقف ولو قليلا عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران ... إنّه منهج يتكون من أربعة أصول هي :

الأصل الأوّل : «الإيمان» وهو البناء التحتي لكلّ نشاطات الإنسان ، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من أسس فكره واعتقاده ، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.

بعبارة اخرى ، أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره ، ومن هنا فإن جميع الأنبياء بدأوا قبل كلّ شيء بإصلاح الاسس الاعتقادية للأمم والشعوب. وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الاجتماعي.

والآية الكريمة قالت : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فذكرت الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكلّ المقدسات ، ابتداء من الإيمان بالله وصفاته ، حتى الإيمان بالقيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية وأنبياء الله وأوصيائهم.

الأصل الثّاني : «العمل الصالح» ، وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية :

(... وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لا العبادات فحسب ، ولا الإنفاق في سبيل الله وحده ، ولا الجهاد في سبيل الله فقط ، ولا الاكتفاء بطلب العلم ... بل كلّ الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من الله ، وتقدم المجتمع الإنساني.

هذا التعبير يشمل الأعمال الصغيرة ، كرفع الحجر من طريق النّاس والأعمال الجسام مثل إنقاذ ملايين النّاس من الضلالة والانحراف ونشر الرسالة الحقة والعدالة في أرجاء العالم.

وما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في تفسير (وَعَمِلُوا

٤٣٦

الصَّالِحاتِ) بأنّه المواساة والمساواة للأخوة في الله ، إنّما هو من قبيل بيان المصداق الواضح للآية.

قد تصدر الأعمال الصالحة من أفراد غير مؤمنين ، لكنّها غير متجذرة وغير ثابتة وغير واسعة. لأنّها لا تنطلق من دافع إلهي عميق ، ولا تحمل صفة الشمولية.

القرآن ذكر «الصالحات» هنا بصيغة الجمع مقرونة بالألف واللام لتدل على معنى العموم والشمول. ولتبيّن أن طريق تفادي الخسران الطبيعي الحتمي بعد الإيمان ، هو أداء الأعمال الصالحة جميعا ، وعدم الاكتفاء بعمل واحد أو بضع أعمال صالحات حقّا ، لو رسخ الإيمان في النفس ، لظهرت على الفرد مثل هذه الآثار.

الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن ، وليس اعتقادا خاليا من التأثير. الإيمان يصوغ كلّ وجود الإنسان وفق منهج معين.

الإيمان مثل مصباح منير مضيء في غرفة. فهو لا يضيء الغرفة فحسب ، بل إن أشعته تسطع من كلّ نوافذ الغرفة إلى الخارج بحيث يرى كل مار نوره بوضوح.

وهكذا ، حين يسطع مصباح الإيمان في قلب إنسان ، فإنّ نوره ينعكس من لسان الإنسان وعينه وأذنه ويديه ورجليه. حركات كلّ واحدة من هذه الجوارح تشهد على وجود نور في القلب تسطع أشعته إلى الخارج.

ومن هنا اقترن ذكر الصالح في أغلب مواضع القرآن بذكر الإيمان باعتبارها لازما وملزوما. فقال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (١). ويقول تعالى عن أولئك الذين تركوا الدنيا دون عمل صالح ، إنّهم يصرون على العودة إلى الدنيا ويقولون : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٢).

__________________

(١) النحل ، الآية ٩٧.

(٢) المؤمنون ، الآية ١٠٠.

٤٣٧

ويقول سبحانه لرسله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) (١).

ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلّا في ظلّ حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة ، والدعوة إلى الصبر والاستقامة على طريق النهوض بأعباء الرسالة ، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلي «الإيمان» و «العمل الصالح».

الأصل الثّالث : «التواصي بالحق» ، أي الدعوة العامّة إلى الحق ، ليميز كلّ أفراد المجتمع الحق من الباطل ، ويضعوه نصب أعينهم ، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.

«تواصوا» كما يقول الراغب تعني أن يوصي بعضهم إلى بعض.

و «الحق» في الأصل الموافقة والمطابقة للواقع. وذكر للكلمة معاني قرآنية متعددة من ذلك ، والقرآن ، والإسلام ، والتوحيد ، والعدل ، والصدق ، والوضوح ، والوجوب وأمثالها من المعاني التي ترجع إلى نفس المعنى الأصلي الذي ذكرناه.

عبارة (تَواصَوْا بِالْحَقِ) تحمل على أي حال معنى واسعا يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل أيضا تعليم الجاهل وإرشاده ، وتنبيه الغافل ، والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح.

واضح أن المتواصين بالحق يجب أن يكونوا بدورهم من العاملين به ، والمدافعين عنه.

الأصل الرّابع : «التواصي بالصبر» ، والاستقامة ، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الاستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحقّ والعمل الصالح والثبات على الإيمان.

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٥١.

٤٣٨

نعم ، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامّة وعزم اجتماعي ، ومن دون الاستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات.

«الصبر» هنا يحمل مفهوما واسعا يشمل الصبر على الطاعة ، والصبر على دوافع المعصية ، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة ، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات (١).

ممّا تقدم نفهم أنّ الأصول الأربعة التي ذكرتها هذه السّورة المباركة تشكل المنهج الجامع لحياة الإنسان وسعادته. ولذلك ورد في الرّوايات أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا إذا اجتمعوا لا يفترقون إلّا بعد تلاوة سورة «والعصر» ويتذاكروا في مضامينها (٢).

والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الأصول الأربعة في حياتهم الفردية والاجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف ، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصارا ، ولاقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض.

ربّنا! تفضّل علينا بالصبر والاستقامة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

إلهنا! كلّنا في خسران ، ولا يمكن أن نجبر هذا الخسر إلّا بلطفك.

اللهمّ! إنا نسألك توفيق العمل بالمواد الأربع التي ذكرتها في هذه السّورة من كتابك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة العصر

* * *

__________________

(١) حول حقيقة الصبر ومراحله وشعبه ، فصلنا الحديث في تفسير الآية (١٥٣) من سورة البقرة.

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٩٢.

٤٣٩
٤٤٠