الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

وما نستفيده من الآيات المذكورة وآيات اخرى : إنّ أعمال جميع المسيئين تجمع في كتاب يسمّى «سجّين» ، وأعمال جميع الصالحين والأبرار تجمع في كتاب آخر ، اسمه «علّيين».

و «سجّين» : من (السجن) ، وهو (الحبس) ، وله استعمالات متعددة ، فهو : السجن الشديد ، الصلب الشديد من كلّ شيء ، اسم لوادي مهول في قعر جهنم ، موضع فيه كتاب الفجّار ، ونار جهنم أيضا.

وقال : «الطريحي» في «مجمع البحرين» في «سجّين» : وفي التّفسير هو كتاب جامع ديوان الشرّ ، دوّن الله فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس ... (١) أمّا القرائن التي تؤيد هذا التّفسير ، فهي :

١ ـ غالبا ما وردت كلمة «كتاب» في القرآن الكريم بمعنى (صحيفة الأعمال).

٢ ـ ظاهر الآية التالية : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) يشير إلى أنّها تفسير ل «سجّين».

٣ ـ قيل : إنّ «سجّين» و «سجّيل» بمعنى واحد ، وكما هو معلوم أنّ «سجّيل» بمعنى (كتاب كبير). (٢)

٤ ـ وتشير آيات قرآنية اخرى إلى أنّ أعمال الإنسان تضبط في عدّة كتب ، حتى لا يبقى عذر للإنسان في حال حسابه.

وأولى تلك الكتب ، صحيفة الأعمال المعدّة لكلّ شخص ، فالصالح سيعطى كتابه في يمينه ، والمسيء سيعطى كتابه في شماله.

وهذا المعنى كثير ما تكرر ذكره في القرآن الكريم.

والكتاب الثّاني ، هو ما تسجّل فيه أعمال الأمم ، ويمكن أن نسميه ب (صحيفة أعمال الأمم) والآية (٢٨) من سورة الجاثية تشير إلى هذا بقولها : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى

__________________

(١) ولم يوضح الطريحي أن هذا التفسير لمعصوم كان أم لغيره.

(٢) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٧٠ ، ومجمع البحرين ، مادة (سجل).

٢١

إِلى كِتابِهَا).

وثالث الكتب ، هو صحيفة أعمال جميع الأبرار والفجّار ، التي وردت الإشارة إليهما في الآيات المبحوثة وما سيأتي من الآيات ، باسم «سجّين» و «علّيين».

وخلاصة القول : إنّ «سجّين» عبارة عن ديوان جامع لكافة صحائف الفجّار والفسقة ، وأطلق عليه هذا الاسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدي إلى حبس أصحابه في جهنم ، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين ... في الجنّة.

الثّانية : إنّ «سجّين» ، هي «جهنم» ... وهي سجن كبير لجميع المذنبين ، أو هي محل شديد من جهنم.

و «كتاب» الفجّار ، أي : ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير : إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين ، وقد استعمل القرآن كلمة «كتاب» بهذا المعنى في مواضع عدّة ، ومن ذلك ما تناولته الآية (٢٤) من سورة النساء حين بيّنت حرمة الزواج من المتزوجات : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي ، إنّ هذا الحكم (وما سبقه من أحكام) ، هي أحكام قررها الله عليكم ، وكذلك ما جاء في الآية (٧٥) من سورة الأنفال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، أي فيما قرره الله وجعله من أحكام.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما جاء في الرّوايات من أنّ «سجّين» هي «جهنم» ...

ففي تفسير علي بن إبراهيم ، قال في تفسير : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجّين.

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : «السجّين الأرض السابعة ، وعلّيون السماء السابعة» ، (إشارة إلى أخفض وأعلى مكان) (١).

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٣ ، ص ٤١٠ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٠ ، الحديث ١٥.

٢٢

وروي في روايات عديدة ، إنّ الأعمال التي لا تليق بالقرب منه جلّ شأنه تسقط في سجّين : كما نقل الأثر عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا فإذا صعد بحسناته يقول الله عزوجل اجعلوها في سجّين ، إنّه ليس إيّاي أراد فيها!» (١)

ومن كلّ ما تقدم ، نصل إلى أنّ «سجّين» : مكان شديد جدّا في جهنم ، توضع فيه أعمال المسيئين أو صحيفة أعمالهم ، أو يكون مصيرهم الحبس في ذلك المكان (السجّن).

وعلى ضوء هذا التّفسير ، تكون الآية : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) تأكيدا للآية : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) ، وليس تفسيرا لها ، لأن العقاب قد قرر لهم ، وهو قطعي وحتمي.

«مرقوم» : من (رقم) على وزن (زخم) ، وهو الخطّ الغليظ ، ولكون هكذا خطّ من الوضوح بحيث لا إبهام فيه ، فقد استعملته الآية للإشارة إلى قطعية ما قرر لهم من مصير من غير أيّ إبهام أو إغفال.

وعلى أيّة حال ، فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين لأنّ «سجّين» حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكلّ أعمال المسيئين ، وحسب التّفسير الثّاني بمعنى : «جهنم» أو قعرها ، فالأمران على صورة علّة ومعلول ، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع ، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

التكذيب الذي يوقع في ألوان من الذنوب ، ومنها التطفيف والظلم.

وبملاحظة كلمة «ويل» الواردة في أوّل أية وآخر آية ، تبيّن شدّة العلاقة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٠ ، الحديث ١٩.

٢٣

الموجودة ما بين تلك الأعمال السيئة وإنكار المعاد ، حيث بدأ الحديث بالويل للمطفّفين ، ومرورا بالفجّار ومن ثمّ الويل للمكذبين بيوم الدين.

وسيتوضح هذا الترابط بشكل أدق في الآيات التالية.

* * *

٢٤

الآيات

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

التّفسير

صدأ الذنوب :

بعد ما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين ، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم ، فتقول : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) ، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضا : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والاستدلال العقلي ، بل هو نابع من حبّ الاعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

٢٥

فهم يريدون الاستمرار بالذنوب والإيغال بالاعتداءات وبكامل اختيارهم ، ومن دون أيّ رادع يردعهم من ضمير أو قانون ، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (٥) من سورة القيامة : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ، وعليه ، فهو يكذّب بيوم الدين.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان ، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان ، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة.

وتشير الآية التالية للصفة الثّالثة لمنكري المعاد ، فتقول : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتد وأثيم ، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات الله ، ويصفها بالخرافات البالية (١) ، وما ذلك إلّا مبرر واه لتغطية تهربه من مسئولية آيات الله عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لأولئك الضالّين المجرمين فرارا من الاستجابة لنداء الدعوة الربانية ، بل ثمّة آيات أخرى تناولت ذلك ، منها الآية (٥) من سورة الفرقان : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، والآية (١٧) من سورة الأحقاف ، حكاية عن قول شاب طاغ وقف أمام والديه المؤمنين مستهزءا بنصائحهما قائلا : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وقيل في شأن نزول الآية : إنّها نزلت بشأن (النضر بن حارث بن كلدة) ، ابن خالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من رؤوس الكفر والضلال.

ولا يمنع نزول الآية في شخص معين ، من تعميم ما جاء فيها لكلّ من يشارك

__________________

(١) «أساطير» : جمع (اسطورة) من (السطر) ، وغالبا ما تستعمل في وصف الشخصيات الموهومة والأحاديث الملفقة والقصص الكاذبة.

٢٦

ذلك الشخص في الصفة والحال.

فالطغاة ، كثيرا ما يتذرعون بأعذار واهية ، عسى أن يتخلصوا من لوم وتأنيب الضمير من جهة .. ومن اعتراضات النّاس ورجال الحق من جهة اخرى ، والعجيب أنّ الطغاة من الحماقة والتحجّر بحيث أنّ أسلوب مواجهتهم للأنبياء عليهم‌السلام وعلى مرّ التاريخ قد جاء على وتيرة واحدة ، وكأنّهم قد وضعوا لأنفسهم مخططا لا ينبغي الحيد عنه ، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبياء عليهم‌السلام بتعاليم السماء ، ليس عندهم سوى أن يقولوا : سحر ، كهانة ، جنون ، أساطير!

ويعري القرآن مرّة اخرى جذر طغيانهم وعنادهم ، بالقول : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم ، فأزيل عنها ما جعل الله فيها من نور الفطرة الاولى وذهب صفائها ، ولذا .. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في أفق قلوبهم ، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

«ران» : من (الرين) على وزن (عين) ، وهو : الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته) ، ويقول عنه بعض أهل اللغة : إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء ، وهي علامة لتلفه ، وضياع بريقه وحسن ظاهره.

وقيل : ران عليه : غلب عليه ، ورين به : وقع في ما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به (١) وكل هذه المعاني هي من لوازم المعنى الأوّل.

وسنتناول موضوع تأثير الرين على صفاء القلب ونورانيته في البحوث

__________________

(١) راجع : المنجد ، وتفسير الفخر الرازي في الآية المبحوثة.

٢٧

القادمة.

ويستمر البيان القرآني : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

وهو أشدّ ما سيعاقبون به ، مثلما منزلة اللقاء بالله ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذة واستئناسا.

«كلّا» : عادة ما تستعمل لنفي ما قيل سابقا ، وللمفسرين أقوال في تفسيرها : القول الأوّل : إنّها تأكيد ل «كلّا» المتقدمة في الآية السابقة ، أي : يوم القيامة ليس بأسطورة كما يزعمون.

والقول الثّاني : «كلّا» بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم ، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضا.

القول الثّالث : إنّ الآية تجيب زعم أولئك من أنّ القيامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سينعمون بها كما (يتصورون) بأنّهم منعمين في الدنيا ، (وقد تناولت الآيات الأخرى ما جاء في زعمهم) (١).

ولكنّ أحلامهم ستتلاشى أمام حقيقة وقوع القيامة ، وما سينالونه من شديد العذاب.

نعم ، فأعمال الإنسان في دنياه ستتجسم له في آخرته شاء أم أبى ، ولما كان أولئك قد أغلقوا عيونهم عن رؤية الحق ، ورانت أعمالهم على قلوبهم ، فسيحجبون عن ربّهم في ذلك اليوم العظيم ، وعندها فسوف لن يتمتعوا برؤية جمال الحق أبدا ، وسيحرمون من نعمة اللقاء بالحبيب الحقيقي ، الذي لا حبيب سواه.

و: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن الله تعالى وأثر لازم له ، وممّا لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء الله أشدّ إيلاما وإحراقا من نار جهنم!

__________________

(١) كما في الآية (٣٢) من سورة الكهف : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) ، كما وجاء نظير ذلك في الآية (٥٠) من سورة فصلت.

٢٨

وتقول الآية التالية : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

يقال لهم ذلك توبيخا ولوما لزيادة تعذيبهم روحيا ، وهو ما ينتظر كلّ من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال.

* * *

ملاحظتان

١ ـ لم كانت الذنوب صدأ القلب؟!

تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه ، فقد جاء في الآية (٣٥) من سورة المؤمن : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).

وقال في موضع آخر : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١).

وجاء في الآية (٤٦) من سورة الحج : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

نعم .. فأسوأ ما للاستمرار في الذنوب من آثار : اسوداد القلب ، فقدان نور العلم ، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.

فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن ، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه ، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الانحطاط ، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده ، ولا يجني حينها إلّا الخيبة والخسران.

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «كثرة الذنوب مفسدة للقلب». (٢)

__________________

(١) البقرة ، الآية ٧.

(٢) تفسير الدر المنثور : ج ٦ ، ص ٣٢٦.

٢٩

وفي حديث آخر : «إنّ العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الرين الذي ذكر الله في القرآن : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر عليه‌السلام (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب ، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف ، وجلائه الحديث». (٣)

ومن الثابت في علم النفس ، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان ، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجيا على ضوء تلك الآثار ، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.

وينبغي التنويه إلى : أنّ روح الإنسان تتعامل طرديا مع الذنوب ، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة ، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات ، وربّما يتفاخر بها! وعندها .. ستغلق أمامه أبواب العودة : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات.

٢ ـ حجاب الروح!

حاول كثير من المفسّرين أن يجعل للآية : كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون تقديرا ، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة الله) ، أم الحجاب عن إحسانه ، أم كرامته ، أم ثوابه ...

ولكنّ ظاهر الآية لا يبدو فيه الاحتياج لتقدير ، فإنّهم سيحجبون عن ربّهم

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٣٢٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣١ ، الحديث ٢٢.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٢٣.

٣٠

على الحقيقة ، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب الله وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب ، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل ، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شيء.

وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا ، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان ...

فهؤلاء في حضور دائم ، وأولئك في ظلام وابتعاد!

فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف ، وأمّا من اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء ، (أعاذنا الله من ذلك).

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعاء كميل : «... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك».

* * *

٣١

الآيات

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

التّفسير

عليّون في انتظار الأبرار :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم ، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء ، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيالون إليه من حسن مآب ، ويبدأ الحديث بالقول : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ).

«عليّين» : جمع (علّي) على وزن (ملّي) ، وهو المكان المرتفع ، أو الشخص

٣٢

الجالس في مكان مرتفع ، ويطلق أيضا على ساكني قمم الجبال.

وقد فسّر في الآية ب (أشرف الجنان) أو (أعلى مكان في السماء).

وقيل : إنّما استعمل اللفظ بصيغة الجمع للتّأكيد على معنى (العلو في علو).

وعلى أيّة حال ، فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضا ، بقوليه :

الأوّل : أنّ المقصود من «كتاب الأبرار» هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين ، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام ، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.

الثّاني : أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان ، أو في أعلى مكان في الجنّة ، وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند الله عزوجل.

وجاء في الحديث النّبوي الشريف : «عليّون في السماء السابعة تحت العرش» (١).

وهذا بالضبط هو المحل المضاد تماما لمحل صحيفة أعمال «الفجار» ، حيث وضعت في أسفل طبقات جهنم.

وذهب قسم من المفسّرين إلى أنّ ال «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير) ، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنّة العلى.

ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين ، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام ، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء ، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيّ على كونهم في أعلى درجات الجنّة.

ولأهمية وعظمة شأن «عليّين» .. تأتي الآية التالية لتقول : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ، إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠٥٣ ، ومجمع البحرين : مادة (علو).

٣٣

والظن ، بل وحتى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ماله من علو شأن ومرتبة مرموقة ، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.

ويبدأ البيان القرآني بتقريب ال «عليّين» إلى الأذهان : «كتاب مرقوم»

وهذا على ضوء تفسير «عليّين» بالديوان العام لأعمال الأبرار ، أمّا على ضوء التّفسير الآخر فسيكون معنى الآية : إنّه المصير الحتمي الذي قرره الله وسجّله لهم ، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنّة ، (بناء على هذا التّفسير فستكون الآية «كتاب مرقوم» مفسّرة لكتاب الأبرار وليس لعليّين).

وكذلك : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي يشاهدونه ، أو عليه يشهدون عليه.

ثمّة من ذهب إلى أنّ «المقربون» في الآية ، هم ملائكة مقرّبون عند الله عزوجل ، ينظرون إلى ديوان أعمال الصالحين ، أو ينظرون إلى مصيرهم المحتوم.

ولكنّ الآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقرّبين ، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق ، وبإمكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.

ويمكن أن نستفيد هذا المعنى من الآيتين (١٠ و ١١) من سورة الواقعة : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ... ومن الآية (٨٩) من سورة النحل : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ).

«النعيم» : هو النعمة الكثيرة ـ على قول الراغب في مفرداته ـ وجاءت بصيغة نكرة لتعظيم شأنها ، أي إنّهم في نعيم مادي ومعنوي لا حدّ لوصفه.

وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (١).

__________________

(١) المبتدأ محذوف في الآية ، التقدير : (هم على الأرائك ينظرون) «ينظرون» ، حال ، أو أن جملة «على الأرائك» : خبر ثان ، نسبة إلى «إنّ» الواردة في الآية السابقة.

٣٤

«الأرائك» : جمع (أريكة) ، وهي سرير منجّد مزّين خاص بالملوك ، أو سرير في حجلة ، وجاءت في الآية بمعنى ، الأسرة المزينة التي يتكئ عليها أهل الجنّة.

وثمّة من يذهب إلى أنّها معربة من «أرك» بمعنى قصر الملك في الفارسية ، أو القلعة في وسط المدينة ، وبما أنّ القلعة في وسط المدينة تكون للملوك عادة اطلق عليها هذه الكلمة ، أو بمعنى عرش السلطان الذي يقال عنه بالفارسية «أراك» ، ثمّ سمّيت العاصمة به (أراك) و «عراق» معرب «أراك» بمعنى مقر السلطان.

فيما يقول آخرون أنّها من (الأراك) وهو شجر معروف تصنع من الأسرة ، وقيل أيضا ، إنّما سمّيت بذلك لكونها مكانا للإقامة من (الأروك) وهو الإقامة. (١)

وجاءت «ينظرون» مطلقة ، لإعطاء مفهوم السعة والشمول ، فمسموح لهم النظر إلى لطف الباري وجماله ، وإلى نعم الجنّة الباهرة ، وإلى ما أودع فيها من رونق وبهاء ... وذلك لأنّ لذة النظر من اللذائذ الإنسانية التي تدخل الغبطة والسرور في الإنسان بشكل كبير وملموس.

ثمّ يضيف : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة ، إنّ هو إلّا انعكاس لسعادتهم الحقّة ، بعكس أهل جهنّم الذين لا يبدو على وجوههم إلّا علائم الغم والحسرة والندم والشقاء.

«نضرة» : إشارة إلى النشاط والأريحية التي تظهر على وجوههم. (كما أسلفنا القول).

وبعد ذكر نعم : «الأرائك» ، «النظر» ، «الاطمينان والسعادة» .. تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنّة ، فتقول : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ).

إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني ، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح .. راجع مفردات الراغب ، ولسان العرب (مادة : أرك).

٣٥

والجنون ، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه.

و «الرحيق» ـ كما اعتبره المفسّرين ـ : هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيّ غش أو تلوث.

و «مختوم» : إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كلّ صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.

والختم بالصورة المذكورة يظهر مدى الاحترام الخاص لأهل الجنّة ، حيث أنّ ذلك الإحكام وتلك الأختام مختصة لهم ، ولا يفتحها أحد سواهم (١).

وتقول الآية التالية : (خِتامُهُ مِسْكٌ).

فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي ، وأقل ما فيها أنّها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ ، بل هو شراب طاهر مختوم ، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه!

وقيل : «ختامه» يعني (نهايته) ، فعند ما ينتهي من شراب الرحيق ، ستفوح من فمه رائحة المسك ، على خلاف أشربة أهل الدنيا ، التي لا تترك في الفم إلّا المرارة والرائحة الكريهة ، ولكنّه بعيد بملاحظة الآية السابقة.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : «التنافس» : تمنّي كلّ واحد من النفسين مثل الشيء النفسي الذي للنفس الاخرى أن يكون له.

وفي (مجمع البحرين) : نافست في الشيء : إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم ، (سباق سالم ونزيه).

__________________

(١) عملية ختم الأشياء (كانت ولا زالت) ، تستعمل للاطمينان على سلامة تلك الأشياء من التلاعب بها ، فمثلا .. لكي يطمأن على سلامة وصول شيء معين إلى صاحبه المراد ، فإنّه يوضع في ظرف خاص مغلق ، وإذا ما كان الشيء بدرجة عالية من الأهمية ، فلا يكتفي بالغلق ، بل يربط بسلك أو ما شابه ومن ثمّ يوضع على عقدته شيء من الشمع أو الطين ويختم بختم معين ، كل ذلك للتأكيد من وصوله إلى المراد بدون أن تمتد إليه يد التلاعب.

٣٦

وفي (مفردات الراغب) : «المنافسة» : مجاهدة النفس للتشبّه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره.

وجاء مضمون الآية في الآية (٢١) من سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، وما جاء في الآية (١٣٣) من سورة آل عمران : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

وعلى آية حال ، فدقّة تعبير الآية وشفافيته ، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد ، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع ، والآية قطعة بلاغية رائعة (١) (٢)

ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنّة : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي أنّه ممزوج بالتسنيم ، (عينا يشرب بها المقرّبون) (٣).

ومن خلال الآيتين أعلاه ، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنّة ، و «المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص ، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجا بالرحيق المختوم.

أمّا وجه تسمية ذلك الشراب أو العين ب «تسنيم» ، (علما بأنّ التسنيم في اللغة هو عين ماء يجري من علو إلى أسفل) ، فقد قال البعض فيه : إنّه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنّة .. وقال آخرون : إنّه نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنّة.

والحقيقة ، فللجنّة ألوان من الأشربة ، منها ما يجري على صورة أنهار ، كما

__________________

(١) يتّضح من تفسير الآية ، أنّ اسم الإشارة «ذلك» يعود على جميع نعم الجنّة ، وشرابها بالذات لما وصف فيه في الآية.

(٢) «الواو» و «الفاء» في (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ، كلاهما حرف عطف ، وإذا ما سئل عن علة وجودهما معا ، فالجواب هو : يوجد شرط محذوف ، والتقدير : «وإن أريد تنافس في شيء فليتنافس في ذلك المتنافسون» ، فحذفت أداة الشرط والجملة الشرطية وقدمت «في ذلك».

(٣) قيل في سبب نصب «عينا» عدّة وجوه .. منها : لأنّها حال التسنيم ، تمييز ، مدح واختصاص .. والتقدير : (أعني). و «الباء» في «بها» : زائدة ، أو بمعنى (من) وهو الأنسب.

٣٧

تشير إلى ذلك آيات قرآنية كثيرة (١) ، ومنها يقدّم في كؤوس مختومة ، كما في الآيات أعلاه ، ويأتي ال «تسنيم» في قمّة أشربة الجنّة ، وله من العطاء على روح شاربه ما لا يوصف بوصف أبدا.

ونعود لنكرر القول مرّة أخرى : إنّ حقيقة النعم الإلهية في عالم الآخرة لا يمكن لأيّ كان من أن يتكلم عنها بلسان أو يوصفها بقلم أو يتصورها في ذهن ، وكلّ ما يقال عنها لا يتعدى عن كونه صورا تقريبية على ضوء ما يناسب محدودية الإنسان.

والآية (١٧) من سورة السجدة : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) خير دليل على ذلك.

* * *

بحثان

١ ـ من هم «الأبرار» و «المقرّبين»؟

ورد ذكر «الأبرار» و «المقربين» كثيرا في القرآن الكريم ، وما أعدّ لهم من درجة رفيعة وثواب عظيم ، حتى أنّ أولي الألباب تمنوا أن تكون وفاتهم مع الأبرار ، كما تقول الآية (١٩٣) من سورة آل عمران : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ).

وتناولت الآيات (٥ ـ ٢٢) من سورة الدهر ما أعدّ لهم من ثواب جزيل ، كما وتناولت الآية (١٣) من سورة الإنفطار ، والآيات المبحوثة بعض ما ينتظرهم من ألطاف إلهية.

فمن هم يا ترى؟

«الأبرار» : هم أصحاب النفوس الزكية الأبية الطاهرة ، ومعتنقي العقائد

__________________

(١) كالآية (١٥) من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٨

الصائبة ، والذين لا يعملون إلّا ما فيه الخير والصلاح.

و «المقربون» : هم الذين لهم مقام القربة عند الله عزوجل.

فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق ، حيث كلّ المقرّبين أبرار ، وليس كلّ الأبرار مقرّبين.

وروي عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، أنه قال : «كلما في كتاب الله عزوجل من قوله : «إنّ الأبرار» فو الله ما أراد به إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين» (١)

وممّا لا يشوبه شك ، أنّ الخمسة الطيبة ، تلك الأنوار القدسيّة ، وهي أفضل مصاديق الأبرار والمقربين.

وكما ذكرنا في تفسيرنا لسورة الدهر التي تحدثت بشكل رئيسي عن أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وقلنا بأنّ الآيات الثمانية عشر قد تناولت فضائلهم عليهم‌السلام ، ولكن لا يمنع من انطباق على غير الخمسة الطيبة عليهم‌السلام.

٢ ـ خمور الجنّة

تبيّن لنا مختلف الآيات في القرآن الكريم أنّ ثمة ألوان من الأشربة والخمور الطاهرة بأسماء وكيفيات مختلفة ، تباين خمور أهل الدنيا الملوثة من جميع جهاتها ، فهذه : تأخذ بلبّ الإنسان صوب التيه ، توصل شاربها لحال الجنون ، كريهة الطعم والرائحة ، وتزرع عند شاربها العداوة والبغضاء ، تؤدي إلى سفك الدماء وتبث الرذيلة والفساد ... أمّا تلك : تذكي عقل شاربها وتصفو به ، وتزيده نشاطا وحيوية ، ذات عطر لا يوصف وطهارة خالصة ، ويغوص شاربها في نشوة روحية نقية راقية.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٣ ، الحديث ٣٣.

٣٩

وذكرت السّورة المبحوثة نوعين منها : الرحيق المختوم و «التسنيم» في حين ذكرت سورة الدهر أنواعا اخرى ، وفي سور اخرى ـ وقد تعرضنا لها في محلها.

وتؤكّد الأحاديث والرّوايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.

فعن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا عليّ من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم» (١).

وفي حديث آخر أنّه عليه‌السلام سأله عن هذا الترك أنّه حتى لو كان : «لغير الله»؟ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم والله ، صيانة لنفسه فيشكره الله تعالى عن ذلك» (٢).

نعم ، فهؤلاء من أولي الألباب ، الذين تناولت ذكرهم الآية (١٩٣) من سورة آل عمران ، واولي الألباب مع الأبرار في تناول تلك الأشربة الطاهرة.

وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «من سقى مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم» (٣).

وجاء في حديث آخر : «من صام لله في يوم صائف ، سقاه الله من الظمأ من الرحيق المختوم» (٤)

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣٤ ، الحديث ٤٠.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٣٧.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٣٥.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٦.

٤٠