الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

التّفسير

ليلة القدر ليلة نزول القرآن :

يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (١) ، وظاهر الآية يدل على أن كل القرآن نزل في هذا الشهر.

والآية الاولى من سورة القدر تقول :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

اسم القرآن لم يذكر صريحا في هذه الآية ، ولكن الضمير في «أنزلناه» يعود إلى القرآن قطعا. والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنّما هو لبيان عظمته

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٨٥.

٣٤١

وأهميته.

عبارة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فيها إشارة اخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي. فقد نسب الله نزوله إليه ، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضا ، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

نزول القرآن في ليلة «القدر» وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم ، دليل آخر على الأهمية المصيرية لهذا الكتاب السماوي.

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ «ليلة القدر» هي إحدى ليالي شهر رمضان ، ولكنّها أية ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك ، ولكن الرّوايات تتناول هذا الموضوع بإسهاب. وسنتناولها في نهاية تفسير هذه السّورة إن شاء الله.

وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نزول القرآن. من المؤكّد أنّ القرآن الكريم نزل تدريجيا خلال (٢٣) عاما. فكيف نوفق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر؟

الجواب على هذا السؤال كما ذكره المحققون يتلخص في أنّ للقرآن نزولين : النزول الدفعي ، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على البيت المعمور ، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

والنزول التدريجي ، وهو ما تمّ خلال (٢٣) سنة من عصر النبوّة (ذكرنا شرح ذلك في تفسير الآية ٣ من سورة الدخان).

وقال بعضهم إن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر لا كلّه ، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

ويذكر أنّ تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرّة بكلمة «إنزال» ومرّة أخرى بكلمة «تنزيل». ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي ،

٣٤٢

والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضا (١). وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين.

في الآيتين التاليتين يبيّن الله تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه :

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ).

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا قبل نزول هذه الآيات ، مع ما له من علم واسع.

و «ألف شهر» تعني أكثر من ثمانين عاما ، حقّا ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عمرا طويلا مباركا.

وجاء في بعض التفاسير أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر (٢).

وروي أنّ أربعة أشخاص من بني إسرائيل عبدو الله تعالى ثمانين سنة من دون ذنب ، فتمنى الصحابة ذلك التوفيق لهم ، فنزلت الآية المذكورة.

وهل العدد (ألف) في الآية للعدّ أو التكثير؟ : ، قيل إنّه للتكثير ، وقيمة ليلة القدر خير من آلاف الأشهر أيضا ، ولكن الرّوايات أعلاه تبيّن أنّ العدد المذكور للعدّ ، والعدد عادة للعد إلّا إذا توفرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير.

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية :

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).

و «تنزل» فعل مضارع يدل على الاستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة نزل.

(٢) الدر المنثور ، ج ٨ ، ص ٥٦٨.

٣٤٣

ليلة القدر لم تكن خاصّة بزمن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنزول القرآن ، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

وما المقصود ب «الروح»؟ قيل : إنّه جبرائيل الأمين ، ويسمىّ أيضا الروح الأمين. وقيل : إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١).

وللروح تفسير آخر يبدو أنّه أقرب ، هو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وروي أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام سئل عن الروح وهل هو جبرائيل ، قال : «جبرائيل من الملائكة ، والروح أعظم من الملائكة ، أليس أنّ الله عزوجل يقول : تنزل الملائكة والروح»؟ (٢)

فالإثنان متفاوتان بقرينة المقابلة. وذكرت تفاسير اخرى للروح هنا نعرض عنها لافتقادها الدليل.

(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي لكل تقدير وتعيين للمصائر ، ولكل خير وبركة. فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الأمور.

أو بمعنى بكل خير وتقدير ، فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كل هذه الأمور (٣).

وقيل : المقصود أنّ الملائكة تنزل بأمر الله ، لكن المعنى الأوّل أنسب.

عبارة «ربّهم» تركز على معنى الربوبية وتدبير العالم ، وتتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الأمور وتقديرها ، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبية الخالق.

__________________

(١) الشورى ، الآية ٥٢.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٨١.

(٣) حسب التّفسير الأوّل (من) هنا بمعنى لام التعليل أي لأجل كلّ أمر. وبناء على التّفسير الثّاني (من) تعني باء المصاحبة.

٣٤٤

بإيجاز الآية الكريمة تقول : الملائكة والروح تتنزل في هذه الليلة بأمر ربّهم لتقدير كلّ أمر من الأمور.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح.

القرآن نزل فيها ، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر ، وفيها تنزل الخيرات والبركات ، وبها يحظى العباد برحمة خاصّة ، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها ... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والرّوايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

وإطلاق كلمة «سلام» على هذه الليلة بمعنى «سلامة» (بدلا من سالمة) هو نوع من التأكيد كأن نقول فلان عدل ، للتأكيد على أنّه عادل.

وقيل : إنّ إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أنّ الملائكة تسلّم باستمرار على بعضها أو على المؤمنين ، أو أنّها تأتي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليفته المعصوم ، تسلّم عليه.

ومن الممكن أيضا الجمع بين هذه التفاسير.

إنّها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كلّ الجهات.

وسئل الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام عمّا إذا كان يعرف ليلة القدر ، قال : «كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها».

وجاء في قصّة إبراهيم عليه‌السلام أنّ عددا من الملائكة جاءت إليه وبشرته بالولد وسلمت عليه (هود ـ ٦٩) وفي الرّواية أنّ إبراهيم أحسّ بلذة من سلام الملائكة لا تعدلها لذّة ، إذن ، فأية لذّة وبركة ولطف في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزل في ليلة القدر!!

وحين القي إبراهيم عليه‌السلام في نار نمرود ، جاءت إليه الملائكة وسلمت عليه

٣٤٥

فتحولت النّار إلى جنينة. ألا تتحول نار جهنم ببركة سلام الملائكة على المؤمنين في ليلة القدر إلى برد وسلام.

نعم هذه كرامة لامّة محمّد وتعظيم لها حيث تنزل الملائكة هناك على الخليل عليه‌السلام وتنزل هنا على امّة الإسلام (١)

* * *

بحوث

١ ـ ما هي الأمور التي تقدّر في ليلة القدر؟

في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك :

١ ـ لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدرات العباد لسنة كاملة ، يشهد على ذلك قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٢)

هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الرّوايات تقول : في هذه الليلة تعيّن مقدرات النّاس لسنة كاملة ، وهكذا أرزاقهم ، ونهاية أعمارهم ، وأمور أخرى تفرق وتبيّن في تلك الليلة المباركة.

هذه المسألة طبعا لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار ، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم.

أي يقدر كلّ فرد ما يليق له ؛ وبعبارة اخرى ، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه ، وهذا لا يتنافى مع الإختيار بل يؤكّده.

٢ ـ وقال بعض إنّها سمّيت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير (في

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٢ ، ص ٣٦.

(٢) الدخان ، الآية ٣ ـ ٤.

٣٤٦

القرآن جاء قوله سبحانه : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١).

٣ ـ وقيل لأنّ القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على رسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة الملك العظيم في هذه الليلة.

٤ ـ إنّها الليلة التي قدّر فيها نزول القرآن.

٥ ـ إنّها الليلة التي من أحياها نال قدرا ومنزلة.

٦ ـ وقيل أيضا لأنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم. لأنّ القدر جاء بمعنى الضيق أيضا كقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٢).

كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأشهر.

٢ ـ أية ليلة هي ليلة القدر؟

لا شك أنّ ليلة القدر من ليالي شهر رمضان ، لأنّ الجمع بين آيات القرآن يقتضي ذلك. فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (البقرة ـ ١٨٥) ، ومن جهة اخرى تقول آيات السّورة التي نحن بصددها أنّه نزل في ليلة القدر.

ولكن ، آية ليلة من شهر رمضان؟ قيل في ذلك كثير ، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك : أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك ، الليلة السابعة عشرة ، الليلة التاسعة عشرة ، الليلة الحادية والعشرون ، الليلة الثّالثة والعشرون ، الليلة السابعة والعشرون ، والليلة التاسعة والعشرون.

والمشهور في الرّوايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان ، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين. لذلك ورد في الرّوايات أنّ

__________________

(١) الحج ، الآية ٧٤.

(٢) الطلاق ، الآية ٧.

٣٤٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة.

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّها الليلة الحادية والعشرون أو الثّالثة والعشرون. وعند ما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول : «ما أيسر ليلتين فيما تطلب!!» (١).

ثمّة روايات متعددة عن أهل البيت عليهم‌السلام تركز على الليلة الثّالثة والعشرين.

بينما روايات أهل السنة تركز على الليلة السابعة والعشرين.

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «التقدير في ليلة القدر تسعة عشر ، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين ، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين» (٢).

ليلة القدر إذن محاطة بهالة من الإبهام سنذكر سببه فيما يلي.

٣ ـ لماذا خفيت ليلة القدر؟

الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة ، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الاهتمام بجميع هذه الليالي ؛ مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه النّاس إلى جميع الطاعات ، وأخفى غضبه بين المعاصي ، كي يتجنب العباد جميعها ، وأخفى أحباءه بين النّاس كي يحترم كلّ النّاس ، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية ، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظم كل أسمائه ، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائما على استعداد.

ويبدو أن هذا دليل مقبول :

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٢٥ ، الحديث ٥٨.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٦٢٦.

٣٤٨

٤ ـ هل كانت ليلة القدر معروفة بين الأمم السابقة؟

من ظاهر آيات هذه السّورة نفهم أنّ ليلة القدر ليست خاصّة بزمان نزول القرآن وعصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تتكرر كلّ سنة حين يرث الله الأرض ومن عليها.

التعبير بالفعل المضارع «تنزل» الدال على الاستمرار ، وهكذا التعبير بالجملة الاسمية (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) الدالة أيضا على الدوام يؤيد ذلك.

مضافا إلى ذلك الرّوايات التي ربّما بلغت حدّ التواتر في تأييد هذه المسألة.

ولكن هل كانت هذه الليلة في الأمم السابقة؟

روايات متعددة تصرّح أنّ هذه الليلة من المواهب الإلهية على هذه الامّة ،

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله وهب لامّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم».

وفي تفسير الآيات التي نحن بصددها روايات تؤيد ذلك أيضا.

٥ ـ ليلة القدر خير من ألف شهر

لماذا كانت خيرا من ألف شهر ... الظاهر لأهمية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنة كثير ، ويؤيد هذا المعنى.

أضف إلى ذلك ، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة ، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيرا من ألف شهر.

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : لعلي بن أبي حمزة الثمالي : «فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور ، واغتسل فيهما»

قال : قلت : فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟

قال : فصلّ وأنت جالس.

قال : قلت : فإن لم أستطع؟

٣٤٩

قال : فعلى فراشك ، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيّد) الشياطين ، وتقبل أعمال المؤمنين .. نعم الشهر رمضان!» (١).

٦ ـ لما ذا انزل القرآن في ليلة القدر؟

ليلة القدر ـ كما علمنا ـ ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكلّ فرد. فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظا وفي حالة تقرب إلى الله وتكامل على طريق بناء الشخصية الإسلامية ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة الله.

نعم ، في اللحظات التي يتقرر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين ، وإلّا فسيواجهنا المصير المؤلم.

والقرآن ... باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها ومصيرها ويهديها إلى طريق سعادتها وهدايتها ، يجب أن ينزل في ليلة القدر ... ليلة تعيين المصير ... وما أجمل هذه العلاقة بين «القرآن» و «ليلة القدر» ، وما أعمق معنى الارتباط بين الإثنين!!

٧ ـ هل ليلة القدر واحدة في المعمورة؟

نعم أن بدء الشهر القمري ليس واحدا في جميع البلدان. وقد يكون يومنا هذا أوّل الشهر في بلد ويكون الثّاني في بلد آخر. من هنا لا يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة معينة في السنة. على سبيل المثال قد تكون ليلة الثّالث والعشرين في الحجاز هي ليلة الثّاني والعشرين في ايران والعراق. وبهذا يكون لكل بلد ليلة قدر! وهل هذا ينسجم مع ما جاء في الرّوايات المؤكّدة على أنّ ليلة القدر ليلة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٢٦ ، مقطع من الحديث ٥٨.

٣٥٠

معينة؟

الجواب يتّضح بالالتفات إلى ما يلي :

الليل هو ظل نصف الكرة الأرضية على النصف الآخر من هذه الكرة ، ونعلم أن هذا الظل يتحرك بتحرك الكرة الأرضية ، ويدور دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة من هنا يمكن أن تكون ليلة القدر دورة كاملة لليل حول الأرض ، أي تكون هذه الليلة مدّة أربع وعشرين ساعة من دوران الظلام حول الكرة الأرضية بأجمعها ، تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة اخرى. (تأمل بدقّة).

اللهم! منّ علينا بيقظة ووعي كي نتزوّد من فضيلة ليلة القدر.

ربّنا! آمالنا منشدّة إلى لطفك وكرمك ، فقدّر لنا وفق ما نأمله فيك.

يا ربّ العالمين! لا تجعلنا من محرومي هذا الشهر فما بعد هذا الحرمان حرمان.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة القدر

* * *

٣٥١
٣٥٢

سورة

البيّنة

مدنيّة

وعدد آياتها ثماني آيات

٣٥٣
٣٥٤

«سورة البيّنة»

محتوى السّورة :

المشهور أنّ هذه السّورة نزلت في المدينة ، ومحتواها يؤيد ذلك ، إذ تحدثت في مواضع متعددة عن أهل الكتاب ، والمسلمون واجهوا أهل الكتاب في المدينة غالبا.

أضف إلى ذلك أنّ السّورة تحدثت عن الصلاة والزكاة ، والزكاة ـ وإن شرعت في مكّة ـ اتخذت طابعها الرسمي الواسع في المدينة.

هذه السّورة تناولت رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فيها من دلائل بيّنة ، هذه الرسالة التي كان أهل الكتاب ينتظرونها ، حين ظهرت أعرض عنها فريق منهم لما وجدوا فيها من خطر على مصالحهم الشخصية.

والسّورة تقرر حقيقة وجود الإيمان والتوحيد والصلاة والصيام في كل الأديان ودعوات الأنبياء باعتبارها أصولا ثابتة خالدة.

وفي مقطع آخر من السّورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام ... بعضهم آمن وعمل صالحا فهو خير المخلوقات ، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البريّة.

هذه السّورة أطلق عليها لمناسبة ألفاظها اسماء متعددة أشهرها : «البينة» و «لم يكن» و «القيمة».

٣٥٥

فضيلة السّورة :

روي في فضيلة تلاوة هذه السّورة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لو يعلم النّاس ما في (لم يكن) لعطلوا الأهل والمال وتعلموها».

فقال رجل من خزاعة : ما فيها من الأجر يا رسول الله؟

فقال : «لا يقرأها منافق أبدا ولا عبد في قلبه شكّ في الله عزوجل ، والله إنّ الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض لا يفترون عن قراءتها ، وما من عبد يقرؤها بليل إلّا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ويدعون له بالمغفرة والرحمة ، فإن قرأها نهارا اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢١.

٣٥٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

التّفسير

ذلك دين القيّمة :

في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام ، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلّا بدليل واضح قاطع.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).

و «البيّنة» التي أرادوها : رسول من الله يتلو عليهم كتابا مطهّرا من ربّ

٣٥٧

العالمين :

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً).

وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).

كان هذا ادعاؤهم قبل ظهور الإسلام ، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء ، واختلفوا وتفرقوا. وما تفرقوا إلّا بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحق.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ).

ممّا تقدم ، الآيات الاولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة.

لكنّهم أعرضوا حين ظهر ، وجابهوه ، إلّا فريق منهم آمن واهتدى.

وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور ، ولا بدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة ، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا بأعداء الدعوة.

جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية ، يقولون : مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقة ـ لا ادعاء ـ حتى تأتيهم البيّنة.

__________________

(١) البقرة ، الآية ٨٩.

٣٥٨

وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعد ما جاءتهم البيّنة ، لكن الآيات التالية تدل على غير ذلك ، اللهم إلّا إذا قيل أنّ المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق «موجبة جزئية».

ولكن على أي حال نستبعد هذا التّفسير ، ويبدو أنّ الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الاولى من هذه السّورة بأنّها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية ، ولحل هذا التعارض ذكر طرقا متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه.

ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ الله لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ويرسل إليهم البيّنة ويبيّن لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم.

بناء على هذا التّفسير ، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن الله يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم (١).

على أي حال ، «البيّنة» في الآية هي الدليل الواضح ، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص «رسول الله» وهو يتلو عليهم القرآن.

«صحف» جمع «صحيفة» ، وتعني ما يكتب عليه من الورق ، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق ، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يتلو شيئا عليهم من الأوراق.

و «مطهرّة» أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل. ومن تلاعب شياطين الجن والإنس. كما جاء أيضا في قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٢)

جملة (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من

__________________

(١) يجب ملاحظة أن «منفكين» جمع (منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول ، فعلى التّفسيرين الأوّل والثّاني تعطي معنى اسم الفاعل ، وعلى التّفسير الثّالث معنى اسم المفعول ، فلاحظ.

(٢) فصلت ، الآية ٤٢.

٣٥٩

الانحراف والاعوجاج. من هنا فإنّ هذه «الكتب» تعني المكتوبات ، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من الله ، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضا ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١).

وبهذا يكون معنى «قيمة» السويّة والمستقيمة ، أو الثابتة والمستحكمة ، أو ذات قيمة ، أو كل هذه المعاني مجتمعة.

ويحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة.

ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الاولى ، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين ، بينما الآية تريد الإثنين.

وهذا يعود ظاهرا إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف ، وكان المشركون تابعين لهم. أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلا لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين ، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين. معارضتهم ـ إذن ـ أفظع وأبشع وتستحق مزيدا من التقريع.

ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب ، ومن بعدهم للمشركين ، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد ، منهم مؤمن ومنهم كافر ، بينما : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) (٢).

ثمّ تضيف الآية القول :

(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٨٣.

(٢) جملة «وما أمروا» قد تكون حالية أو استئنافية. واللام في «ليعبدوا» لام الغرض ، والمقصود هنا الغرض الذي يعود على العباد ، لا الغرض الذي يعود على الله كما تصور بعض المفسّرين وأدى بهم هذا التصور إلى إنكار «لام الغرض» في مثل هذه المواضع. كل أفعال الله معللة بالأغراض ، لكنّها أغراض تعود على العباد. بعضهم اعتبر اللام هنا بمعنى «أن» كما في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) النساء ، الآية ٢٦.

٣٦٠