الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (١).

قيل : إنّ «اقرأ» في هذه الآية تأكيد لإقرأ في الآية السابقة ، وقيل : إنّها تختلف عن الآية الاولى ، فالاولى قراءة النبيّ لنفسه ، وفي الثّانية القراءة للناس غير أنّ الرأي الأوّل أنسب ، إذ لا يوجد دليل على اختلاف الإثنين.

وهذه الآية في الواقع جواب على قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبرائيل : ما أنا بقارئ ، وهذه الآية تقول : إنّك قادر على القراءة بكرم الرّب وفضله ومنّه.

ثمّ تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم :

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

وهاتان الآيتان أيضا تتجهان إلى الجواب على قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بقارئ ، أي إنّ الله الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل ، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة.

جملة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) تحتمل معنيين.

الأوّل : أنّ الله علم الإنسان الكتابة ، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر ، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات.

والثّاني : المقصود أنّ الله علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة.

وبإيجاز إمّا أن يكون التعليم ، تعليم الكتابة ، أو تعليم العلوم عن طريق الكتابة.

وهو ـ على أي حال ـ تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من

__________________

(١) جملة «وربّك الأكرم» جملة استئنافية مكونة من مبتدأ وخبر.

٣٢١

بداية نزول الوحي

* * *

بحثان

١ ـ بداية نزول الوحي مقرون ببداية حركة علمية

هذه الآيات كما ذكرنا هي أوّل ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما ذهب إليه أغلب المفسّرين أو جميعهم ، وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ البشرية ، وأضحت الإنسانية مشمولة بأعظم الألطاف الإلهية وبأكمل الأديان وخاتمها. واستمرّ نزول الوحي حتى اكتمل التشريع الإلهي بمصداق قوله سبحانه :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) ، وبذلك أتمّ الله نعمته على الأجيال البشرية المتعاقبة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والمهمّ في الأمر أنّ هذه الآيات نزلت على نبيّ امي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الامية والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق!

هذه الآيات تتحدث في الواقع أوّلا عن تكامل «جسم» الإنسان من موجود تافه هو «العلقة» ، ثمّ عن تكامل «روحه» بواسطة التعليم والتعلّم خاصّة عن طريق القلم.

حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضا لا يعير أهمية تذكر للقلم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٣.

٣٢٢

أمّا اليوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور كل الحضارات والعلوم ، وكلّ تقدم في أي مجال من المجالات ، ونعلم تفوق أهمية «مداد العلماء» على «دماء الشهداء» ، لأنّ هذا المداد هو الذي يكون الأساس القويم لدماء الشهداء والسند المتين له.

ولا نكون مغالين إذا قلنا أنّ مصير المجتمعات البشرية مرتبط بما تفرزه الأقلام.

إصلاح المجتمعات البشرية يبدأ من الأقلام الملتزمة المؤمنة ، وفساد المجتمعات أيضا ينطلق من الأقلام المسمومة.

ولأهمية القلم يقسم القرآن به وبما يفرزه ، أي بآلة الكتابة وبمحصولها : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (١).

نعلم أنّ حياة البشرية تقسم على مرحلتين :

عصر التاريخ.

وعصر ما قبل التاريخ.

وعصر التاريخ يبدأ من استعمال القلم والكتابة والقراءة ... من زمن اقتدار الإنسان على أن يكتب بالقلم ، وأن يخلف تراثا للأجيال ، من هنا فتاريخ البشرية مقرون بتاريخ ظهور القلم والخط.

وحول دور القلم في حياة البشرية كان لنا وقفة طويلة في بداية تفسير سورة القلم.

من هنا فإنّ أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم ... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهّلوا ـ باعتراف الأعداء والأصدقاء ـ لتصدير علومهم إلى العالم! إن علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزّق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما

__________________

(١) القلم ، الآية ١.

٣٢٣

يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام.

وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق أمّة كتلك تمتلك بين ظهرانيها دينا كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم!!

٢ ـ باسم الله في كلّ حال

بدأت دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم الله وذكره : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ).

واستمرت حياة الرّسول مقرونة في كلّ حال بذكر الله ... اقترن الذكر بأنفاسه ... بقيامه ... بجلوسه ... بنومه ... بمشيه ... بركوبه ... بترجله ... بتوقفه ... كان كلّه باسم الله.

عند ما كان يستيقظ يقول : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».

يقول ابن عباس : بتّ ليلة مع النّبي ، وعند ما استيقظ رفع رأسه إلى السماء ، وتلا الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ... ثمّ قال : «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهنّ ... اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت ...».

حين كان يخرج من البيت يقول : «بسم الله ، توكلت على الله ، اللهم إنّي أعوذ بك أن أضلّ ، أو أضل ، أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل ، أو يجهل عليّ».

وحين يرد المسجد يقول : «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم».

وحين يرتدي لباسا جديدا يقول : «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه ، أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له».

٣٢٤

وحين يعود إلى المنزل يقول : «الحمد لله الذي كفاني وأواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني».

وبذلك فإنّ حياة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل مرافقها كانت مقرونة بذكر الله واسمه الكريم. (١)

* * *

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٦١٩ وما يليها بتلخيص.

٣٢٥

الآيات

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤))

التّفسير

سبب الطغيان :

استتباعا للآيات السابقة التي تحدثت عن النعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان ... والنعم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام الله ، هذه الآيات تبدأ بالقول : ليست نعم الله تحيي روح الشكر في الإنسان دائما ، بل إنّه يطغى :

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (١) ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنيا وغير محتاج.

__________________

(١) حسب المعنى الذي ذكرناه للآية (كلا) هنا للردع بالنسبة لما يستلزمه مضمون الآيات السابقة وقيل أيضا أنّها بمعنى «حقّا» للتأكيد.

٣٢٦

(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١).

هذه طبيعة أغلب أفراد البشر ... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي ، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان ، وينسلخون من عبودية الله ، ويرفضون الاعتراف بأحكامه ، ويصمّون أذانهم عن ندائه ، ولا يراعون حقّا ولا عدلا.

لا الإنسان ولا أي مخلوق آخر قادر على أن يستغني ، بل كلّ الموجودات الممكنة بحاجة إلى لطف الله ونعمه ، وإذا انقطع فيضه سبحانه عنها لحظة واحدة ، ففي هذه اللحظة بالذات تفنى بأجمعها ، غير أنّ الإنسان يحسّ خطأ أحيانا أنّه مستغن غير محتاج. والقرآن يشير إلى هذا الإحساس بعبارة دقيقة يقول : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) لم يقل أن استغنى.

قيل : إنّ المقصود بالإنسان في الآية أبو جهل الذي كان يطغى أمام الدعوة لكن مفهوم الإنسان هنا عام ، وأمثال أبي جهل مصاديق له.

يبدو أنّ الهدف من الآية الفات نظر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولا سريعا من النّاس لدعوته ، وليعدّ نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين ، وليعلم أنّ الطريق أمامه وعر مليء بالمصاعب.

ثمّ يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية :

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه ، وكما إنّ رجوع كلّ شيء إليه ، وميراث السماوات والأرض له سبحانه : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) فكل شيء في البداية منه ، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالاستغناء ويطغى.

__________________

(١) جملة «أن رآه استغنى» مفعول لأجله ، والتقدير : لأنّ ... والرؤية هنا بمعنى العلم ولذا نصبت مفعولين ، ويحتمل أيضا أن تكون الرؤية هنا حسّية. و «استغنى» تكون عندئذ بمثابة الحال.

(٢) آل عمران ، الآية ١٨٠.

٣٢٧

ثمّ تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين ، مثل صدّهم عباد الله عن السير في طريق الحقّ.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى).

(عَبْداً إِذا صَلَّى)؟! ألا يستحق مثل هؤلاء عذابا سحيقا؟!

وفي الحديث أن أبا جهل قال : «هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم (أي هل يسجد محمّد بينكم) قالوا : نعم ، قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذاك يصلّي ، فانطلق ليطأ على رقبته ، فما فاجأهم إلّا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه. فقالوا : مالك يا أبا الحكم؟! قال : إنّ بيني وبينه خندقا من نار ، وهؤلاء ، وأجنحة. وقال نبيّ الله : والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. فأنزل الله سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) إلى آخر السّورة» (١)

حسب هذه الرّواية : الآيات التي نحن بصددها لم تنزل في بداية البعثة ، بل نزلت حين أعلنت الدعوة ، ولذلك قيل إنّ الآيات الخمس الاولى هي التي كانت أوّل ما نزل من الوحي والباقي بعد ذلك بمدّة.

على أي حال ، سبب نزول الآيات لا يمنع من سعة مفهومها.

الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى)

(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى).

أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلّي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النّار؟

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥١٥.

٣٢٨

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ولو كذّب هذا الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فما ذا سيكون مصيره؟

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويثبت كلّ شيء ليوم الجزاء والحساب.

والتعبير بالقضية الشرطية في الآيتين إشارة إلى أن هذا الطاغي المغرور ينبغي أن يحتمل ـ على الأقل ـ أنّ النّبي على طريق الهداية ودعوته تتجه إلى التقوى ... وهذا الاحتمال وحده كاف لصده عن الطغيان.

من هنا فمفهوم الآيات ليس فيه ترديد في هداية النّبي ودعوته إلى التقوى ، بل ينطوي على إشارة دقيقة إلى المعنى المذكور.

بعض المفسّرين أرجع الضمير في «كان» و «أمر» إلى الشخص الطاغي الناهي ، مثل أبي جهل ، ويكون المعنى عندئذ : أرأيت إن قبل هذا هداية الإسلام ، وأمر بالتقوى بدلا من نهيه عن الصلاة ، فما أنفع ذلك له!

لكن التّفسير الأوّل أنسب!

* * *

ملاحظة

عالم الوجود محضر الله :

حين يؤمن الإنسان بأنّه في كلّ حركاته وسكناته بين يدي الله ، وأنّ عالم الوجود محضر الله سبحانه وتعالى ، لا يخفى عليه شيء من عمل الفرد بل من نواياه ، فإنّ ذلك سيؤثر على منهج هذا الإنسان في الحياة تأثيرا بالغا ، ويصدّه عن الانحراف ، إذا كان إيمانه ـ طبعا ـ متوغلا في قلبه ، وكان اعتقاده قطعي لا تردد فيه.

جاء في الحديث : «اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

٣٢٩

يقال أنّ عارفا تاب بعد ذنب ، وكان بعد ذلك يبكي كثيرا قيل له : لم هذا البكاء؟ ألا تعلم أنّ الله تعالى غفور؟ قال : بلى ، قد يعفو سبحانه. ولكن كيف أبعد عن نفسي الإحساس بالخجل ، وقد رآني أذنب؟!

* * *

٣٣٠

الآيات

(كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

التّفسير

السجود والتقرب :

بعد الحديث في الآيات السابقة عن الطغاة الكافرين الصادين عن سبيل الله ، توجّه هذه الآيات أشدّ التهديد لهم وتقول : (كَلَّا) لا يكون ما يتصور (لأنّه تصور أن يصدّ عن عبادة الله بوضعه قدمه على رقبة النّبي).

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) نعم ، إذا لم ينته من إثمه وطغيانه سنجرّه بالقوّة من شعر مقدمة رأسه (وهي الناصية) ، وثمّ وصف الناصية هذه بأنّها كاذبة خاطئة وهو وصف لصاحبها (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ).

«لنسفعا» : من السفع ، وذكر له المفسّرون معاني متعددة : الجرّ بالشدّة ، الصفع على الوجه ، تسويد الوجه (الأثافي الثلاثة التي يوضع عليها القدر تسمى «سفع»

٣٣١

لأنّها تسوّد بالدخان) ، ووضع العلامة والإذلال (١).

والأنسب المعنى الأوّل ، وإن كانت الآية تحتمل معاني اخرى أيضا.

وهل حدوث هذا السفع بالناصية في يوم القيامة ، حيث يسحب أبو جهل وأمثاله من مقدمة شعر الرأس إلى جهنم ، أم في الدنيا ، أم في كليهما؟ لا يستبعد أن يكون في كليهما ، والشاهد على ذلك الرّواية التالية :

«لمّا نزلت سورة الرحمن ، علم القرآن ... قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : من يقرؤها منكم على رؤوساء قريش؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه عليه‌السلام ، ثمّ قال : من يقرأها عليهم؟ فلم يقم إلّا ابن مسعود ، ثمّ ثالثا كذلك إلى أن أذن له ، وكان عليه‌السلام يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته. ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السّورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ أذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع. فلمّا رآه النّبي عليه‌السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فإذا جبريل عليه‌السلام يجيء ضاحكا مستبشرا ، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال : ستعلم.

فلمّا ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى : فإذا أبو جهل مصروع يخور ... فصعد على صدره ، فلمّا رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا. فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حياتي ، ولا أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي.

روى أنّه عليه‌السلام لما سمع ذلك قال : «فرعوني أشدّ من فرعون موسى

__________________

(١) التّفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ٢٣.

٣٣٢

فإنّه قال آمنت وهو قد زاد عتوا».

ثمّ قال أبو جهل لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا ، لأنّه أحدّ وأقطع. فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله ، فراح يجرّه على ناصيته إلى رسول الله ، (وبذلك تحقق قوله سبحانه : (لنسفعن بالناصية) في هذه الدنيا أيضا» (١).

«الناصية» : شعر مقدم الرأس ، و (السفع بالناصية) يراد به الإذلال والإرغام ، لأنّ أخذ الشخص بناصيته يفقده كلّ حركة ويجبره على الاستسلام.

«الناصية» تستعمل لمقدمة رأس الأفراد ، وللجزء النفيس من الشيء كأن نقول «ناصية البيت».

ووصف الناصية بأنّها «كاذبة خاطئة» يعني أنّ صاحبها كاذب في أقواله وخاطئ في أعماله ، كما كان أبو جهل.

ولقد وردت بعض الرّوايات الصحيحة بأنّ السّورة ـ عدا المقطع الأوّل منها ـ قد نزلت في أبي جهل إذ مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلي عند المقام فقال (يا محمّد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله وانتهره ...) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله بخناقه وقال له : (أولى لك ثمّ أولى) فقال : يا محمّد بأي شيء تهددني؟ أما والله وإنّي لأكثر هذا الوادي ناديا) (٢).

وهنا نزلت الآية التالية تقول لأبي جهل : فليدع هذا الجاهل المغرور كل قومه وعشيرته وليستنجد بهم.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ).

ونحن سندع أيضا زبانية جهنم :

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ليعلم هذا الجاهل الغافل أنّه عاجز عن فعل أي شيء وإنّه

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ٣٢ ، ص ٢٣.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٣٩٤٢ ذيل الآية.

٣٣٣

في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهبّ الريح.

«النادية» من مادة (ندا) وهو المكان الذي يجتمع فيه القوم ، وتارة يطلق على مركز التفريح ، لأنّ القوم فيه ينادي بعضهم بعضا ، أو من «النّدا» بمعنى الكرم ، لأنّ الأفراد يكرم فيه بعضهم بعضا. ومنه أيضا «الندوة» وهي مكان يتشاور فيه الجماعة. و «دار الندوة» مقر معروف لتشاور قريش.

و «النادي» في الآية يقصد به القوم الذين يجتمعون في النادي. وأرادت منه الآية أولئك الذين يستند إليهم أمثال أبي جهل من أهل وعشير وأصحاب.

و «الزبانية» جمع «زبنية» وهو في الأصل بمعنى الشرطة من مادة «زبن» ـ على زنة متن ـ وهو الدفع والردع والإبعاد. وهنا بمعنى ملائكة العذاب وخزنة جهنم.

وفي آخر آية من السّورة وهي آية السجدة يقول سبحانه : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يتصور بأنّه قادر على أن يمنع سجودك : (لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك ، فتوكل على الله وأعبده واسجد له ، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر.

ويستفاد ضمنيا من هذه الآية أن «السجود» عامل اقتراب من الله ، ولذا ورد في الحديث : «أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا».

وفي روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ القرآن يتضمّن أربعة مواضع فيها سجود واجب وهي في «ألم السجدة» و «فصلت» و «النجم» وفي هذه السّورة «العلق» وبقية المواضع السجدة فيها مستحبة.

* * *

٣٣٤

ملاحظة

الطغيان والإحساس بالاستغناء :

أغلب مفاسد العالم مصدرها الفئات المرفهة والمستكبرة في المجتمع. وهذه الفئات كانت دائما في مقدمة أعداء دعوة الأنبياء. وهؤلاء يطلق عليهم القرآن أحيانا : (الْمَلَأُ) (١) وأحيانا المترفين (٢) وأحيانا (الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٣).

المجموعة الاولى : هم الأشراف المنتفشون في الظاهر ، الفارغون في الداخل.

والثّانية : هم الغارفون في الرخاء ويعيشون في سكرة وغرور بمعزل عن الآم الآخرين.

والثّالثة : هم الراكبون رؤوسهم كبرا وغرورا والغافلون عن الله وعن الخلق.

ودافع كلّ أولئك إحساسهم بالاستغناء ، وهذه طبيعة أفراد أفق تفكيرهم ضيق ، تسكرهم النعمة ، ويزلزل توازنهم المال والمقام ، فيغطون في شعور بالاستغناء ينسيهم ذكر الله ، بينما نعلم أنّ نسمة من الهواء قادرة على أن تطوي سجل أيّامهم ، وأنّ حادثة كسيل أو زلزال أو صاعقة قادرة على أن تبيد أموالهم ... وأنّ شرقة بالماء قادرة على أن تخطف أرواحهم.

أية غفلة هذه تصيب جماعة تجعلهم يشعرون بالاستغناء ، وتدفعهم إلى امتطاء مركب الغرور ليصولوا ويجولوا في الساحة الاجتماعية!!

نستجير بالله من هذا الجهل ومن هذه الغفلة والطغيان! وللتغلب على هذه الحالة يكفي أن يلتفت الإنسان قليلا إلى ضعفه الشديد وإلى قدرة الله المطلقة ، وأن يتصفح تاريخ السابقين ليرى مصير أقوام أكثر منه قوّة ومكنة.

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٦٠.

(٢) سبأ ، الآية ٣٤.

(٣) المؤمنون ، الآية ٦٧.

٣٣٥

اللهم احفظنا من الكبر والغرور فهما أساس الابتعاد عنك.

ربّنا! لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين في الدنيا والآخرة يا ربّ العالمين! وفقنا لأن نمرّغ في التراب انوف هؤلاء المستكبرين المغرورين الذين يصدون عن سبيلك ، وأن نحبط مخططاتهم ومؤامراتهم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة العلق

* * *

٣٣٦
٣٣٧

سورة

القدر

مكيّة

وعدد آياتها خمس آيات

٣٣٨

«سورة القدر»

محتوى السّورة :

محتوى السّورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر ، وبيان أهمية هذه الليلة وبركاتها.

وحول مكان نزولها في مكّة أو المدينة ، المشهور بين المفسّرين أنّها مكيّة ، واحتمل بعضهم أنّها مدنية ، لما روى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في منامه «بني امية» يتسلقون منبره ، فصعب ذلك على النّبي وآله ، فنزلت سورة القدر تسلّيه (لذلك قيل إن ألف شهر في السّورة هي مدّة حكم بني امية). ونعلم أنّ منبر النّبي أقيم في مسجد المدينة لا في مكّة (١).

لكن المشهور ـ كما قلنا ـ أنّها مكيّة ، وقد تكون الرّواية من قبيل التطبيق لا سببا للنزول.

فضيلة السّورة :

ويكفي في فضيلة السّورة تلاوتها ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» (٢).

وعن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : «من قرأ إنّا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل الله ، ومن قرأها سرّا كان كالمتشحط بدمه في سبيل

__________________

(١) روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ١٨٨ ، والدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٧١.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥١٦.

٣٣٩

الله» (١).

وواضح إنّ كل هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها ، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها ... من يقدر القرآن حقّ قدره ويطبق آياته في حياته.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٤٠