الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

تكون دليلا على نصب علي بن أبي طالب. ثمّ ينقل عن الزمخشري في الكشّاف قوله : لو أمكن للشيعة مثل هذا التّفسير ، فالنواصب (أعداء علي) يمكنهم أن يفسّروا الآية على أنّها أمر بالنصب (ببغض علي) (١).

ترى هل أنّ الشيعة بحاجة إلى تغيير قراءة الآية كي يستدلوا بها على ولاية علي؟! لا طبعا ، بل هذه القراءة المعروفة تكفي للتفسير المذكور. لأنّها تقول : إذا فرغت من مهمّة مثل مهمّة الرسالة فابدأ بمهمّة أخرى كمهمّة الولاية ، وهذا مقبول باعتباره أحد مصاديق. ونعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب حديث الغدير المعروف وأحاديث أخرى منتشرة في الصحاح والمسانيد ـ كان في سعي مستمر هي هذا المجال.

ولكن المؤسف جدّا أنّ يدفع التعصب برجل عالم مثل «الزمخشري» لأنّ يجيز لنفسه القول أنّ النواصب يمكنهم أن يفسّروا الآية أيضا على أنّها أمر ببغض علي!! أي تعبير ركيك هذا في حق شخص يؤمن به الزمخشري على أنّه الخليفة الرابع للمسلمين!

حقّا إنّ مزالق التعصب سيئة!

٢ ـ العالم المعتزلي المعروف «ابن أبي الحديد» يروي في «شرح نهج البلاغة» عن «الزبير بن بكار» وهو رجل ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ غير شيعي وغير خصم لمعاوية ، بل فارق عليّا والتحق بمعارضيه ـ والزبير هنا يروي عن ابن «المغيرة بن شعبة» يقول : دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه ، فيتحدث معه ، ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة ، فأمسك عن العشاء ، ورأيته مغتمّا فانتظر ساعة ، وظننت أنّه لأمر حدث فينا ، فقلت : ما لي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ فقال : يا بني ، جئت من عند أكفر النّاس

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١٧٢ ؛ تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٧٧٢.

٣٠١

وأخبثهم ، قلت : وما ذاك؟ قال : قلت له (لمعاوية) وقد خلوت به : إنّك قد بلغت سنايا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه ، فقال : هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ؛ إلّا أنّ يقول قائل : أبو بكر ؛ ثمّ ملك أخو عديّ ، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ؛ إلّا أن يقول قائل : عمر ؛ وإنّ ابن أبي كبشة (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليصاح به كلّ يوم خمس مرات : «أشهد أنّ محمّدا رسول الله» ، فأيّ عمل يبقى ؛ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله دفنا دفنا» (١).

لو أمعنا النظر في هذه الرّواية لعلمنا مدى المأساة التي حلّت بالمسلمين حتى تولى أمرهم البيت الأموي ... وإنّا لله وأنّا اليه راجعون.

إلهي! خلصنا من حبّ الذات ، واغمر قلوبنا بحبّك.

با ربّ! لقد وعدت باليسر حين يشتد العسر ... فيسّر على المسلمين وهم يعانون مؤامرات الأعداء ودسائس الطامعين يا الله! زد نعمك علينا ووفقنا لأن نكون من الشاكرين.

أمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة ألم نشرح

* * *

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج ٥ ، ص ١٢٩.

٣٠٢
٣٠٣

سورة

التّين

مكيّة

وعدد آياتها ثماني آيات

٣٠٤

«سورة التّين»

محتوى السّورة وفضيلتها :

هذه السّورة تدور آياتها حول حسن خلقة الإنسان ومراحل تكامله ونموّه وانحطاطه. وتبدأ بقسم عميق المعنى ، تذكر عوامل انتصار الإنسان ونجاته وتنتهي بالتأكيد على مسألة المعاد وحاكمية الله المطلقة.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السّورة صيام يوم» (١).

هذه السّورة نزلت مكّة ، والآية : (وهذا البلد الأمين) قسم بمكّة ودليل على مكّية السّورة لاستعمال اسم الإشارة للقريب.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥١٠.

٣٠٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

التّفسير

تبدأ السّورة بالقسم أربع مرّات لبيان أمر مهم :

(وَالتِّينِ ، وَالزَّيْتُونِ).

(وَطُورِ سِينِينَ) (١).

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).

__________________

(١) قيل إنّ «سينين» جمع «سينه» وهي شجرة : ولما كان «طور» اسم جبل ، فيكون القسم بالجبل المغطى بالأشجار ، وقيل إن سينين اسم الأرض التي يرسو عليها ذلك الجبل. وقيل إنّه يعني كثير الخير والبركة ، وجميل ، بلسان أهل الحبشة (روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١٧٣).

٣٠٦

(التِّينِ) و (الزَّيْتُونِ) ثمرتان معروفتان ، واختلف المفسّرون في المقصود بالتين وبالزيتون ، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شيء آخر.

بعضهم ذهب إلى أنّهما الفاكهتان بما لهما من خواص غذائية وعلاجية كبيرة.

وبعض آخر قال : المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي «دمشق» و «بيت المقدس» لأنّ المكانين منبثق كثير من الرسل والأنبياء ... وبذلك ينسجم هذان القسمان مع ما يليهما من قسمين بأراض مقدّسة.

وقال آخرون : إنّ تسمية الجبلين بالتين والزيتون يعود إلى وجود أشجار التين على أحدهما والزيتون على الآخر.

وقال بعضهم : إنّ التين إشارة إلى عهد آدم ، إذ أنّ آدم وحواء طفقا يضعان على عوراتهما من ورق التين في الجنّة ، والزيتون إشارة إلى عهد نوح لأنّه اطلق في آخر مراحل الطوفان حمامة فعادت وهي تحمل غصن الزيتون ، ففهم نوح عليه‌السلام أن الأرض بدأت تبتلع ماءها وظهرت اليابسة. (لذلك اتخذ غصن الزيتون رمزا للسلام).

وقيل : إنّ التين إشارة إلى مسجد نوح الذي بني فوق جبل الجودي. والزيتون إشارة إلى بيت المقدّس.

ظاهر الآية يدلّ على أنّ المقصود هو الفاكهتان المعروفتان ، ولكن القسمين التاليين يجعلان تفسير التين والزيتون بالجبلين أو المركزين المقدسين أنسب.

(طُورِ سِينِينَ) قيل هو : طور سيناء ، وهو الجبل المعروف في صحراء سيناء حيث أشجار الزيتون المثمرة ، وحيث ذهب موسى لمناجاة ربّه ، و «سيناء» تعني المبارك ، أو كثير الأشجار ، أو الجميل.

وقيل : إنّه جبل قرب الكوفة في أرض النجف.

وقيل : إنّ سينين وسيناء بمعنى واحد وهو كثير البركة.

٣٠٧

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (١) ، والبلد الأمين مكّة ، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضا بلدا آمنا وحرما إليها ، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد ، المجرمون والقتلة كانوا في أمان إن وصلوا إليها أيضا.

هذه الأرض لها في الإسلام أهمية عظمى ، الحيوانات والنباتات والطيور فيها آمنة فما بالك بالإنسان.

ويذكر أنّ كلمة «التين» وردت في هذا الموضع من القرآن فقط ، بينما كلمة الزيتون تكررت في ستة مواضع باللفظ وفي موضع بالإشارة حيث يقول سبحانه : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢) وهي شجرة الزيتون.

إذا حملنا كلمتي «التين» و «الزيتون» على معناهما الظاهر الابتدائي ، فالقسم بها ذو دلالة عميقة أيضا.

«التين» فاكهة ذات مواد غذائية ثرّة ، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار ، وخالية من القشر والنواة والزوائد.

علماء الأغذية يقولون :

يمكن الاستفادة من التين كسكّر طبيعي للأطفال ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف الشيخوخة أن يستفيدوا من التين للتغذية.

يقال إنّ أفلاطون كان يحبّ التين إلى درجة اطلق بعضهم على هذه الفاكهة اسم محبوب الفلاسفة ، وسقراط كان يرى في التين عاملا على جذب المواد النافعة ورفع المواد الضارة.

جالينوس كان قد وضع نظام تعذية خاص للأبطال من التين ، وكان الرومان واليونان القدماء يغذون أبطالهم بالتين.

__________________

(١) «الأمين» على وزن فعيل بمعنى فاعل أي «ذو الأمانة» أو بمعنى مفعول أي الأرض المأمونة لسكنتها.

(٢) المؤمنون ، الآية ٢٠.

٣٠٨

علماء التغذية يقولون : التين مليء بالفيتامينات المختلفة والسكر ، ويمكن الاستفادة منه لعلاج كثير من الأمراض ، وحين تخلط نسب متساوية من التين والعسل يكون الخليط مفيدا لقرحة المعدة ، وتناول التين اليابس يقوي الفكر ، وبإيجاز التين ، لما فيه من عناصر معدنية تؤدي إلى تعادل قوى البدن والدم ، يعتبر غذاء لمختلف الأعمار والظروف.

وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «التين يذهب بالبخر ويشدّ الفم والعظم ، وينبت الشعر ، ويذهب بالداء ، ولا يحتاج معه إلى دواء».

وقال عليه‌السلام : «التين أشبه شيء بنبات الجنّة» (١).

وحول الزيتون ، فإنّ العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أنّ الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلا بدّ له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي.

زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان ، وله تأثير فعّال في معالجة عوارض الكلى ، وحصى الصفراء ، والتشنجات الكليوية والكبدية ، وإزالة الإمساك.

ولذلك ورد ذكر شجرة الزيتون في القرآن الكريم بعبارة : (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ).

وزيت الزيتون مفعم أيضا بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز.

الضمادات التي تحضّر من زيت الزيتون والثوم مفيدة لأنواع الآلام الروماتيسمية ، وحصى كيس الصفراء تزول بتناول زيت الزيتون (٢).

وروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «ما أفقر بيت يأتدمون بالخل والزيت

__________________

(١) الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٥٨. وأورده العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٨٤ روايات متعددة في حقل خواص التين ، والمعلومات العلمية عن هذه الفاكهة منقولة عن كتاب «أوّل جامعة وآخر رسول» (فارسي) ، ج ٩ ، ص ٩٠ وما بعدها.

(٢) أول جامعة وآخر رسول ، ج ٩ ، ص ١٣٠ وما بعدها.

٣٠٩

وذلك أدام الأنبياء» (١) ، والزيت هو زيت الزيتون.

وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «نعم الطعام الزيت ، يطيب النكهة ، ويذهب بالبلغم ، ويصفي اللون ، ويشدّ العصب ، ويذهب بالوصب (المرض والألم والضعف) ويطفئ الغضب». (٢)

ومسك الختام حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال قال : «كلوا الزيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» (٣).

ثمّ يأتي جواب القسم.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

«تقويم» يعني تسوية الشيء بصورة مناسبة ، ونظام معتدل وكيفية لائقة ، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أنّ الله سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كلّ الجهات ، الجسمية والروحية والعقلية ، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات ، وأعدّه لتسلق سلّم السموّ ، وهو ـ وإن كان جرما صغيرا ـ وضع فيه العالم الأكبر ، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقا لوسام : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٤) ، وهذا الإنسان هو الذي يقول فيه الله سبحانه بعد ذكر انتهاء خلقته : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات ، يهبط حين ينحرف عن مسيرة الله إلى «أسفل سافلين».

لذلك تقول الآية التالية :

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ).

يقال إن قمم الجبال الشماء إلى جانبها دائما وديان عميقة. وإزاء منحنيات

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ١٨٠ ، حديث ٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٨٣ ، حديث ٢٢.

(٣) المصدر السابق ، ج ١٨٢ ، حديث ١٦.

(٤) الإسراء ، الآية ٧٠.

٣١٠

الصعود في التكامل الإنساني توجد منحنيات نزول فظيعة ، ولم لا يكون كذلك وهو الموجود المليء بالكفاءات الثرّة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة ، وينزلق طبعا إلى «أسفل سافلين».

ولكن الآية التالية تقول :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

«ممنون» : من «المن» وتعني هنا القطع أو النقص ، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص ، وقيل : إنّه خال من المنّة ، لكن المعنى الأوّل أنسب.

قيل : إنّ قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) تعني ضعف الجسم والذاكرة في شيخوخة الإنسان ، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع الاستثناء المذكور في الآية التالية ، ولذلك نختار التّفسير الأوّل.

الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربّه والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ).

تركيب وجودك من جهة ، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة اخرى يؤكّدان أن هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير.

هذه كلّها مقدمات لعالم أوسع وأكمل ، وبالتعبير القرآني ، هذه «النشأة» الاولى» تنبئ عن «النشأة الاخرى» ، فلم لا يتذكر الإنسان؟! (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ). (١)

عالم النبات كلّ عام يجسّد مشهد الموت والبعث أمام عين الإنسان ، وتطور الجنين خلقا بعد خلق ، إنّما هو في كلّ خلق معاد وحياة جديدة ، فكيف ـ مع كلّ

__________________

(١) راجع أدلة المعاد في تفسير سورة الواقعة.

٣١١

هذا ـ ينكر يوم الجزاء؟!

ممّا تقدم يتّضح أنّ المخاطب في الآية هذا النوع من الأفراد.

وقيل : إنّ المخاطب شخص النّبي ، والمقصود من الآية هو : مع وجود أدلة المعاد ، أي شخص أو أي شيء يستطيع تكذيبك ، وهذا التّفسير يبدو بعيدا.

واتضح أيضا أنّ المقصود من «الدين» ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء ، الآية التالية تؤيد ذلك.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

هذا سؤال يستهدف حثّ الإنسان على الاعتراف بأنّه سبحانه أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله ، فكيف يترك هذه الخلائق فلا يجازيهم.

وروي عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه حين كان يقرأ سورة التين ، ويتلو قوله سبحانه : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) يقول : «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» (١).

يا ربّ! نشهد نحن أيضا أنّك أحكم الحاكمين.

ربّنا! لقد خلقتنا في أحسن تقويم ، فوفقنا لأن تكون أعمالنا وأخلاقنا في أحسن وجه.

إلهنا! يسّر لنا طريق الإيمان والصالح بلطفك ورحمتك.

أمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التين

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥١٢.

٣١٢
٣١٣

سورة

العلق

مكيّة

وعدد آياتها تسع عشرة آية

٣١٤

«سورة العلق»

محتوى السّورة :

المشهور بين المفسّرين أنّها أوّل ما نزل من القرآن ، ومحتواها يؤيد ذلك أيضا ، وقال آخرون إنّ أوّل ما نزل سورة «الحمّد» وقيل سورة «المدثر» وهو خلاف المشهور.

هذه السّورة تبدأ بأن تأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقراءة. ثمّ تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة.

وفي المرحلة التالية تتحدث السّورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف الله وكرمه ، وعن تعليمه وتمكينه من القلم.

ثمّ تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كلّ ما توفرت له من هبات إلهية وإكرام ربّاني.

وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر أولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب.

وفي ختام السّورة أمر بالسجود والاقتراب من ربّ العالمين.

فضيلة السّورة :

روي في فضيلة هذه السّورة عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «من

٣١٥

قرأ في يومه أو ليلته اقرأ باسم ربّك ثمّ مات في يومه أو ليلته مات شهيدا وبعثه الله شهيدا ، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله».

هذه السّورة المباركة سمّيت سورة «العلق» و «اقرأ» و «القلم» لمناسبة هذه الكلمات فيها (١).

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٧٨.

٣١٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

سبب النّزول

ذكرنا أنّ أكثر المفسّرين يذهبون إلى أنّ هذه السّورة أوّل ما نزل من القرآن ، وقيل إنّ المفسّرين يجمعون على نزول الآيات الخمس الأوائل في بداية نزول الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومضمون الآيات يؤيد ذلك.

وجاء في الرّوايات أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له : اقرأ يا محمّد. قال : ما أنا بقارئ ، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له : اقرأ يا محمّد وتكرر الجواب. ثمّ أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرّة الثّالثة قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ... إلى آخر الآيات الخمس الأوّل من السّورة.

قال ذلك واختفى عن أنظار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رسول الله أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى

٣١٧

خديجة وقال : «زملوني ودثروني» (١).

«الطبرسي» في مجمع البيان يروي عن الحاكم النيسابوري قصّة أوّل نزول الوحي ما ينبئ أنّ سورة الحمد كانت أوّل ما نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ رسول الله قال لخديجة إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت : ما يفعل الله بك إلّا خيرا ، فو الله إنّك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث ، قالت خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رأى ، فقال له ورقة : إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ثمّ ايتني فأخبرني ، فلمّا خلا ناداه يا محمّد : قل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ... حتى بلغ ولا الضّالين ، قل لا إله إلّا الله ، فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له : أبشر ثمّ أبشر ، فأنا أشهد أنّك الذي بشر به ابن مريم ، وإنّك على مثل ناموس موسى ، وإنّك نبيّ مرسل ، وإنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك ، فلمّا توفي ورقة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد رأيت القس في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي وصدّقني» (٢).

جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التّفسير والتاريخ كلاما حول حياة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبدا مع شخصية النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتستند حتما إلى أحاديث مختلفة أو إلى إسرائيليات ، من ذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اغتم كثيرا لدى نزول الوحي عليه أوّل مرّة ، وخشي أن يكون إلقاءات شيطانية! ومن ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ مرّات أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل! وأمثال هذه الخزعبلات التي لا تنسجم إطلاقا مع ما ذكرته كتب السيرة حول ما يتمتع به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رجاحة في العقل ، وضبط كبير في النفس ، وصبر وسعة صدر ، وثقة بالدور الكبير

__________________

(١) التّفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ٩٦ (بتلخيص قليل) ، وهذا المعنى أورده كثير من المفسّرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥١٤.

٣١٨

الذي ينتظره.

ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الرّوايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

التّفسير

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) الآية الاولى فيها خطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقول له :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) ، قيل إنّ مفعول اقرأ محذوف وتقديره : اقرأ القرآن باسم ربّك ، واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ البسملة جزء من سور القرآن (٢).

وقيل : إنّ الباء هنا زائدة ، أي اقرأ اسم ربّك ، وهذا بعيد لأنّ المناسب وهذه الحالة أن يقال اذكر اسم ربّك لا اقرأ ...

ويلاحظ هنا قبل كلّ شيء التركيز على مسألة الربوبية ، ونعلم أنّ «الربّ» يعني «المالك المصلح» ، أي الشخص الذي يملك شيئا ، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضا.

ولإثبات ربوبية الله جاء ذكر الخلقة ... خلقة الكون ، إذ إن أفضل دليل على ربوبيته خالقيته ، فالذي يدبّر العالم هو خالقه.

وهذا في الحقيقة ردّ على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية الله ، وأو كلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان ، ثمّ إنّ ربوبية الله وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.

__________________

(١) الراغب في المفردات يقول : إنّ القراءة تعني ضم الحروف والكلمات إلى بعضها. ولذلك لا يقال لنطق الحرف قراءة.

(٢) الباء في هذه الحالة للملابسة.

٣١٩

ثمّ اختارت الآية التالية «الإنسان» باعتباره أهم مظاهر الخليقة وقالت :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ).

«العلق» في الأصل الالتصاق بشيء ، ولذلك سمّي الدم المنعقد المتلاصق ، وهكذا الحيوان الذي يلتصق بالجسم لمصّ الدم ، ب «العلق» والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الاولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق ، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان ، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبيّن قدرة الرّب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة.

وقيل : إنّ العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم ، وهو أيضا مادة متلاصقة ، وبديهي أنّ الرّب الذي خلق آدم من طين لازب يستحق كلّ تمجيد وثناء.

وقيل أيضا : أنّ العلق يعني «صاحب العلاقة» ، وفيه إشارة إلى الروح الاجتماعية للإنسان ، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي في الواقع أساس تكامل البشر وتطور الحضارات.

وقال آخرون : إنّ العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن) ، وهي تشبه دودة العلق إلى حدّ كبير ، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة ، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم ، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان.

والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية اخرى من معاجزه ، إذ لم تكن هذه الأمور معروفة أبدا في عصر نزوله.

ومن بين التفاسير الأربعة ، يبدو أنّ التّفسير الأوّل أوضح ، وإن كان الجمع بين التّفاسير الأربعة ممكن أيضا.

ممّا تقدم نفهم أنّ «الإنسان» في الآية هو آدم حسب أحد التّفاسير وهو مطلق الإنسان حسب التفاسير الثلاثة الاخرى.

وللتأكيد ، تقول الآية مرّة اخرى :

٣٢٠